الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154849
تحميل: 6939


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154849 / تحميل: 6939
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول: والقصّة مرويّة في روايات اُخرى وهي قصّة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.

في الدرّ المنثور أيضاً وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلمّا كان في آخر اللّيل، قال يا نافع: اُنظر هل طلعت الحمراء ؟ قلت لا، مرّتين أو ثلثاً ثمّ قلت: قد طلعت. قال: لا مرحباً بها ولا أهلاً. قلت: سبحان الله نجم مسخّر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: إنّ الملائكة. قالت: يا ربّ كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال: إنّي أبليتهم وعافيتهم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهداً أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق. قلت: وما الشبق ؟ قال: الشهوة فجائت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كلّ واحد منهما يخفى عن صاحبه ما في نفسه ثمّ قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكّنكما حتّي تعلّماني الاسم الّذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثمّ سألاها أيضاً فأبت. ففعلا فلمّا استطيرت طمسها الله كوكباً وقطع أجنحتهما ثمّ سألا التوبة من ربّهما فخيّرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذّبتكما، وإن شئتما عذّبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إنّ عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله اليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض معذّبان إلى يوم القيامة.

أقول: وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعاً عن الباقرعليه‌السلام وروي السيوطيّ فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيّفاً وعشرين حديثاً، صرّحوا بصحّة طريق بعضها. وفي منتهى أسنادها عدّة من الصحابة كابن عبّاس وابن مسعود وعليّ وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر. وهذه قصّة خرافيّة تنسب إلى الملائكة المكرّمين الّذين نصّ القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية، وهو: عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب

٢٤١

الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنّها امرأة زانية مسخت - وإنّها اُضحوكة - وهي كوكبة سماويّة طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله:( الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) التكوير - ١٦، على أنّ علم الفلك أظهر اليوم هويّتها وكشف عن عنصرها وكميّتها وكيفيّتها وسائر شئونها.

فهذه القصّة كالّتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصّة هاروت وماروت، تلك القصّة الخرافيّة الّتي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.

ومن هيهنا يظهر للباحث المتأمّل: أنّ هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء وعثراتهم لا تخلو من دسّ دستّه اليهود فيها وتكشف عن تسرّ بهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأوّل فقد لعبوا في رواياتهم بكلّ ما شاؤا من الدسّ والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون.

لكن الله عزّ إسمه جعل كتابه في محفظة إلهيّة من هوسات المتهوّسين من أعدائه كلّما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين، فقال عزّ من قائل:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، وقال و( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصّلت - ٤٢، وقال:( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) الاسراء - ٨٢، فأطلق القول ولم يقيّد، فما من خلط أو دسّ إلّا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه. فأعطى ميزاناً كلّياً يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه. وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحقّ ثمّ لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحيّة كما اُميت عن الأعيان. قال تعالى:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ) الأنبياء - ١٨، وقال تعالى:( وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الأنفال - ٧، وقال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الأنفال - ٨ ولا معنى لإحقاق الحقّ ولا لإبطال الباطل إلّا إظهار صفتهما.

٢٤٢

وبعض الناس وخاصّة من أهل عصرنا من المتوغّلين في الأبحاث المادّيّة والمرعوبين من المدنيّة الغربيّة الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوءً وأخذوا بطرح جميع ما تضمّنته سنّة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريّين وأصحاب الحديث والحروريّة وغيرهم مسلك الإفراط والأخذ بكلّ رواية منقولة كيف كانت. وكما أنّ القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميّز الحقّ من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كذلك الطرح الكلّيّ تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جلّ ثنائه:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، وقوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء - ٦٤، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حجّية أو لما ينقل من قوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجّية لما إستقرّ من الدين حجر على حجر، والركون على النقل والحديث ممّا يعتوره البشر ويقبله في حياتة الاجتماعيّة قبولاً يضطرّ إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانيّة لا غنى له عن ذلك، وأمّا وقوع الدسّ والخلط في المعارف المنقولة الدينيّة فليس ببدع يختصّ بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الأخبار الدائرة اليوميّة العامّة والخاصّة، ووجوده الكذب والدسّ والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلّيّة والجزئيّة بها ألعب ؟ ونحن على فطرتنا الإنسانيّة لا نجري على مجرّد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كلّ واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الّذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدّقه قبلناه وإن خالفه وكذّبه طرحناه وإن لم يتبيّن شئ من أمره ولم يتميّز حقّه من باطله وصدقه من كذبه توقّفنا فيه من غير قبول ولا ردّ على الاحتياط الّذي جبّلنا عليه في الشرور والمضارّ.

هذا كلّه بشرط الخبرة في نوع الخبر الّذي نقل إلينا، وأمّا ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع

٢٤٣

إلى أهل خبرته والأخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.

فهذا ما عليه بناؤنا الفطريّ في الاجتماع الإنسانيّ، والميزان الدينيّ المضروب لتمييز الحقّ من الباطل وكذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، وهو العرض على كتاب الله فإن تبيّن منه شئ أخذ به وإن لم يتبيّن لشبهة فالوقوف عند الشبهة. وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة من أهل بيته. هذا كلّه في غير المسائل الفقهيّة وأمّا هي فالمرجع في البحث عنها فنّ اُصول الفقه.

( بحث فلسفي)

من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلّما يوجد منّا من لم يشاهد شيئاً من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شئٌ من ذلك - قليل أو كثير- إلّا أنّ البحث الدقيق في كثير منها يبيّن رجوعها إلى الأسباب الطبيعيّة العاديّة، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوّى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم وحمل الأثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتّكي على أسباب طبيعيّة مخفيّة على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتاباً لا خطّ عليه ولا يقرأه إلّا صاحبه، وإنّما كتب بمايع لا يظهر إلّا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك. وكثير منها يحصل بحركات سريعة تخفي على الحسّ لسرعتها فلا يرى الحسّ إلّا أنّه وقع من غير سبب طبيعيّ كالخوارق الّتي يأتي بها أصحاب الشعبذة. فهذه كلّها مستندة إلى أسباب عاديّة مخفيّة على حسّنا أو غير مقدورة لنا، لكنّ بعض هذه الخوارق لا يحلّل إلى الأسباب الطبيعيّة الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيّبات، وخاصّة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحبّ والبغض والعقد والحلّ والتنويم والتمريض وعقد النوم والإحضار والتحريكات بالإرادة ممّا يقع من أرباب الرياضات وهي اُمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضاً منها ونقل إلينا بعض آخر نقلاً لا يطعن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وايران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمّل التامّ في طرق الرياضات المعطية

٢٤٤

لهذه الخوارق والتجارب العمليّ في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بأنّها مستندة ألى قوّة الإرادة والإيمان بالتأثير على تشتّت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم والاذعان السابق عليه، فربّما توجد على إطلاقها وربّما توجد عند وجود شرائط خاصّة ككتابه شئ خاصّ بمداد خاصّ في مكان خاصّ في بعض أعمال الحبّ والبغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاصّ عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصّة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تمّ علماً قطعاً أعطى للحواسّ مشاهدة ما قطع به. ويمكنك أن تختبر صحّة ذلك بأن تلقّن نفسك أنّ شيئاً كذا أو شخصاً كذا حاضر عندك تشاهده بحاسّتك ثمّ تتخيّله بحيث لا تشكّ فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شئ غيره فإنّك تجده أمامك على ما تريد. وربّما توجد في الآثار معالجة بعض الأطبّاء الأمراض المهلكة بتلقين الصحّة على المريض.

وإذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثّر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إمّا من غير شرط وقيد أو مع شئ من الشرائط.

ويتبيّن بما مرّ اُمور:أحدها: أنّ الملاك في هذا التأثير تحقّق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأمّا مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلّقة بالأجرام الفلكيّة، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الّذين يستخرج أصحاب الدعوات والعزائم أسمائهم ويدعون بها على طرق خاصّة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الارواح حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسّهم دون الخارج وإلّا لرآه كلّ من حضر عندهم و للكلّ حسّ طبيعيّ. وبه تنحلّ شبهة اُخرى في إحضار روح من هو حيّ في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الإنسان ليس له إلّا روح واحدة. وبه تنحلّ أيضاً شبهة اُخرى وهي: أنّ الروح جوهر مجرّد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان. وبه تنحلّ أيضاً شبهة ثالثه، وهي: أنّ الروح الواحدة ربّما تحضر عند أحد بغير الصورة الّتي تحضر بها عند آخر. وبه تنحلّ أيضاً شبهة رابعة، وهي: أنّ الأرواح ربّما تكذب عند الإحضار في أخبارها و

٢٤٥

ربّما يكذّب بعضها بعضاً. فالجواب عن الجميع: أنّ الروح إنّما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حدّ ما نحسّ بالأشياء المادّيّة الطبيعيّة.

ثانيها: أنّ صاحب هذه الإرادة المؤثّرة ربّما يعتمد في إرادته على قوّة نفسه وثبات إنيّته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوّة مقيّدة الأثر عند المريد وفي الخارج، وربّما يعتمد فيه على ربّه كالأنبياء والأولياء من أصحاب العبوديّة لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئاً إلّا لربّهم وبربّهم، وهذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس الّتي تطلع هذه الإرادة منها بوجه ولم تتلوّن بشئ من ألوان الميول النفسانيّة ولا اتّكاء لها إلّا على الحقّ فهي إرادة ربّانيّة غير محدودة ولا مقيّدة.

والقسم الثاني: إن أثّرت في مقام التحدّي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميّت آية معجزة وإن تحقّقت في غير مقام التحدّي سميّت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، والقسم الأوّل إن كان بالإستخبار والإستنصار من جنّ أو روح أو نحوه سمّي كهانة وإن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمّي سحراً.

ثالثها: أنّ الأمر حيث كان دائراً مدار الإرادة في قوّتها وهي على مراتب من القوّة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو أن لا يؤثّر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوّة وهو مشهود في أعمال التنويم والإحضار، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.

( بحث علمي)

العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلّي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدّاً، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره:منها: السيمياء، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإراديّة مع القوى الخاصّة المادّيّة للحصول على غرائب التصرّف في الأمور الطبيعيّة، ومنه التصرّف في الخيال المسمّى بسحر العيون وهذا الفنّ من أصدق مصاديق السحر،ومنها الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفيّة التأثيرات الإرادية باتّصالها بالأرواح القويّة العالية كالأرواح الموكّلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها

٢٤٦

أو باتّصالها واستمدادها من الجنّ بتسخيرهم، وهو فنّ التسخيرات،ومنها: الهيمياء: وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلويّ مع العناصر السفليّة للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات، فإنّ للكواكب العلويّة والأوضاع السّماويّة ارتباطات مع الحوادث المادّيّة كما أنّ العناصر والمركّبات وكيفيّاتها الطبيعيّة كذلك. فلو ركّبت الأشكال السماويّة المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، وحياة فلان، وبقاء فلان مثلاً مع الصورة المادّيّة المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم.ومنها: الريمياء، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادّيّة للحصول على آثارها بحيث يظهر للحسّ أنّها آثار خارقه بنحو من الأنحاء وهو الشعبذة. وهذه الفنون الأربعة مع فنّ خامس يتلوها وهو الكليميا الباحث عن كيفيّة تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمّى عندهم بالعلوم الخمسة الخفيّة. قال شيخنا البهائيّ : أحسن الكتب المصنّفة الّتي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات إسمه (كلّه سرّ) وقد ركّب إسمه من أوائل إسماء هذه العلوم، الكيميا، والليميا، والهيميا، والسيميا، و الريميا، إنتهى ملخّص كلامه.

ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهيّ والذخيرة الإسكندريّة والسرّ المكتوم للرازيّ والتسخيرات للسكّاكيّ وأعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهنديّ.

ومن العلوم الملحقة بما مرّ علم الأعداد والأوفاق وهو الباحث عن ارتباطات الأعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلّثة أو مربّعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص،ومنها: الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء واستخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكّلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلّفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العبّاس التوّنيّ والسيد حسين الأخلاطيّ وغيرهما.

ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسيّ وإحضار الأرواح وهما كما مرّ من تأثير الإرادة والتصرّف في الخيال وقد ألّف فيها كتب ورسائل كثيرة، واشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هينها، والغرض ممّا ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.

٢٤٧

( سورة البقرة الآيات ١٠٤ - ١٠٥)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا  وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١٠٤ ) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ  وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ١٠٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، أوّل مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيّها الّذين آمنوا، وهو واقع في القرآن خطاباً في نحو من خمسة وثمانين موضعاً والتعبير عن المؤمنين بلفظة الّذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب ممّا يختصّ بهذه الاُمّة، وأمّا الاُمم السابقة فيعبّر عنهم بلفظة القوم كقوله:( قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ ) وقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ) الآية و قوله:( أَصْحَابِ مَدْيَنَ ) ( وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ) ، وبني إسرائيل، ويا بني إسرائيل، فالتعبير بلفظة الّذين آمنوا ممّا يختصّ التشرّف به بهذه الاُمّة، غير أن التدبّر في كلامه تعالى يعطي أنّ التعبير بلفظة الّذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى:( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ ) النور - ٣١، بحسب المصداق. قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المؤمن - ٧ و ٨، فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش أوّلاً للّذين آمنوا ثمّ بدله ثانياً من قوله: للّذين تابوا واتّبعوا، والتوبة هي الرجوع، ثمّ علّق دعائهم بالّذين آمنوا وعطف عليهم آبائهم وذرّيّاتهم ولو كان هؤلاء المحكيّ عنهم بالّذين آمنوا هم أهل الإيمان برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، كيف ما كانوا، كان الّذين آمنوا شاملاً للجميع من الآباء والأبناء والأزواج ولم يبق للعطف والتفرقة محلّ وكان الجميع في عرض واحد ووقعوا في صفّ واحد.

٢٤٨

ويستفاد هذا المعنى أيضاً من قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور - ٢١، فلو كان ذرّيّتهم الّذين اتّبعوهم بإيمان مصداقاً للّذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للإلحاق وجه، ولو كان قوله :( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم ) قرينة على إرادة اشخاص خاصّة من الّذين آمنوا وهم كلّ جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذرّيّتهم، المؤمنين لم يبق للإلحاق أيضاً وجه، ولا لقوله، وما ألتناهم من عملهم من شئ، وجه صحيح إلّا في الطبقة الأخيرة الّتي لا ذريّة بعدهم يتّبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، وهذا وإن كان معنى معقولاً إلّا أنّ سياق الآية وهو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض وهم جميعاً في صفّ واحد من غير شرافة للبعض على البعض ولا للمتقدّم على المتأخّر فإنّ الملاك هو الإيمان وهو في الجميع واحد وهذا مخالف لسياق الآية الدالّ على نوع كرامة وتشريف للسابق بإلحاق ذرّيّته به، فقوله:( وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ ) ، قرينة على إرادة أشخاص خاصّة بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وهم السابقون الأوّلون في الإيمان برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من المهاجرين والأنصار في يوم العسرة فكلمة الّذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء. ويشعر بذلك أيضاً قوله تعالى:( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ - إلى أن قال -وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ - إلى أن قال -وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) الحشر - ١٠، فلو كان مصداق قوله: الّذين آمنوا، عين مصداق قوله: الّذين سبقونا بالإيمان، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.

ويشعر بما مرّ أيضاً قوله تعالى:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا - إلى أن قال -وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) الفتح - ٢٩.

فقد تحصّل أنّ الكلمة كلمة تشريف تختصّ بالسابقين الأوّلين من المؤمنين، ولا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الّذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول

٢٤٩

الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من مشركي مكّة وأترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) البقرة - ٦.

فإن قلت: فعلى ما مرّ يختصّ الخطاب بالّذين آمنوا بعدّة خاصّة من الحاضرين في زمان النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) مع أنّ القوم ذكروا أنّ هذه خطابات عامّة لزمان الحضور وغيره والحاضرين الموجودين في عصر النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وغيرهم وخاصّة بناءً على تقريب الخطاب بنحو القضيّة الحقيقيّة.

قلت: نعم هو خطاب تشريفيّ يختصّ بالبعض لكنّ ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمّن لها الخطاب بهم فإنّ لسعة التكليف وضيقه أسباباً غير ما يوجب سعة الخطاب وضيقه من الأسباب، كما أنّ التكاليف المجرّدة عن الخطاب عامّة وسيعة من غير خطاب، فعل هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا أيّها الّذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيّها لنبيّ، ويا أيّها الرسول مبنيّاً على التشريف، والتكليف عامّ، والمراد وسيع، ومع هذا كلّه لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفيّ عدم إطلاق لفظة الّذين آمنوا على غير هؤلاء المختصّين بالتشريف أصلاً إذا كانت هناك قرينة تدلّ على ذلك كقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) النساء - ١٣٧، وقوله تعالى: حكاية عن نوح:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) هود - ٢٩.

قوله تعالى: ( لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) ، أي بدّلوا قول (راعنا) من قول (انظرنا) ولئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفراً وللكافرين عذاب أليم ففيه نهى شديد عن قول راعنا وهذه كلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى:( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) النساء - ٤٦، ومنه يعلم أنّ اليهود كانت تريد بقولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راعنا نحواً من معنى قوله: اسمع غير مسمع ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل: أنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى

٢٥٠

نفهم ما تقول - وكانت اللّفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بذلك يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم ومعناه عندهم اسمع لا اُسمعت فنزل: من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا، الآية ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا فقال: لا تقولوا راعنا وتقولوا أنظرنا.

قوله تعالى: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يريد المتمرّدين من هذا النهى وهذا أحد الموارد الّتي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعيّة.

قوله تعالى: ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصّة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الإشارة إلى العلّة، وهو أنّهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهليّة الكتاب مع أنّ ذلك ضنّة منهم بما لا يملكونه، ومعارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته وعظم فضله، ولو كأنّ المراد عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، وهم على غيظ من الإسلام، وربّما يؤيّد هذا الوجه بعض الآيات اللاحقة كقوله تعالى:( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) البقرة - ١١١، وقوله تعالى:( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) البقرة - ١١٣.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور أخرج أبونعيم في الحلية عن إبن عبّاس قال : قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): ما أنزل الله آية فيها، يا أيّها الّذين آمنوا إلّا وعلي رأسها وأميرها.

أقول: والرواية تؤيّد ما سننقله من الروايات الواردة في عدّة من الآيات أنّها في علّى أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران - ١١٠، وقوله تعالى:( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة - ١٤٣، وقوله تعالى:( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، التوبة - ١١٩.

٢٥١

( سورة البقرة الآيات ١٠٦ - ١٠٧)

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا  أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٠٦ ) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ١٠٧ )

( بيان)

الآيتان في النسخ ومن المعلوم أنّ النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء وهو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله اصطلاح متفرّع على الآية مأخوذ منها ومن مصاديق ما يتحصّل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.

قوله تعالى: ( مَا نَنسَخْ ) ، النسخ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظلّ إذا أزالته وذهبت به. قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) الحج - ٥٢، ومنه أيضاً قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى اُخرى فكأنّ الكتاب اُذهب به واُبدل مكانه ولذلك بدّل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى:( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍبَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) النحل - ١٠١، وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحقّقها بل الحكم حيث علّق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى:( أَلَمْ تَعْلَمْ ) ، إلخ أفاد ذلك أنّ المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية، من حيث إنّها آية، أعني إذهاب كون الشئ آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله:( مَا نَنسَخْ ) ، والإنساء إفعال من النسيان وهو الإذهاب عن العلم كما أنّ النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.

ثمّ إنّ كون الشئ آية يختلف بإختلاف الأشياء والحيثيّات والجهات، فالبعض

٢٥٢

من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، والأحكام والتكاليف الإلهيّة آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى، والموجودات العينيّة آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيّات وجودها عن خصوصيّات صفاته وأسمائه سبحانه، وأنبياء الله وأولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل وهكذا، ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف. قال الله تعالى:( لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) النجم - ١٨.

ومن جهة اُخرى الآية ربّما كانت في أنّها آية ذات جهة واحدة وربّما كانت ذات جهات كثيرة، ونسخها وإزالتها كما يتصوّر بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصوّر ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعيّ وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.

وهذا الّذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الّذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى:( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، وذلك أنّ الإنكار المتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلّق به من وجهين:

أحدهما: من جهة أنّ الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقيّة لا تحفظها شئ دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن تقوم مقامها شئٌ تحفظ به تلك المصلحة، ويستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد، وليس شأنه تعالى كشأن عباده ولا علمه كعلمهم بحيث يتغيّر بتغيّر العوامل الخارجيّة فيتعلّق يوماً علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثمّ يتغيّر علمه غداً ويتعلّق بمصلحة اُخرى فاتت عنه بالأمس، فيتغيّر الحكم، ويقضي ببطلان ما حكم سابقاً، وإتيان آخر لاحقاً، فيطلع كلّ يوم حكم، ويظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء، فكانت أحكامهم وأوضاعهم تتغيّر بتغيّر العلوم بالمصالح والمفاسد زيادة ونقيصة وحدوثاً وبقاءً، ومرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة وإطلاقها.

وثانيهما: أنّ القدرة وإن كانت مطلقة إلّا أنّ تحقّق الإيجاد وفعليّة الوجود

٢٥٣

يستحيل معه التغيّر، فإنّ الشئ لا يتغيّر عمّا وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الإنسان في فعله الاختياريّ فإنّ الفعل اختياريّ للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروريّ الثبوت غير اختياريّ له، ومرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكيّة و عدم جواز بعض التصرّفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فاشار سبحانه إلى الجواب عن الأوّل بقوله: ألم تعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: ألم تعلم أنّ الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير، أي إنّ ملك السماوات والأرض لله سبحانه فله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شئ من الملك حتّى يوجب ذلك انسداد باب من ابواب تصرّفه سبحانه، أو يكون مانعاً دون تصرّف من تصرّفاته، فلا يملك شئ شيئاً، لا ابتداءً ولا بتمليكه تعالى، فإنّ التمليك الّذي يملّكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضاً شيئاً بنحو يبطل ملك الأوّل ويحصل ملك الثاني، بل هو مالك في عين ما يملّك غيره ما يملك. فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق والتصرّف المطلق له وحده، وإذا نظرنا إلى ما ملّكنا بملكه من دون استقلال كان هو الوليّ لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضّل علينا من ظاهر الاستقلال - وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، وتبعيّة في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضاً أن ندبّر اُمورنا من دون إعانته ونصره، كان هو النصير لنا.

وهذا الّذي ذكرناه هو الّذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى:( أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) فقوله تعالى:( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، مرتّب على ترتيب ما يتوهّم من الاعتراضين. ومن الشاهد على كونهما اعتراضين إثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل. وقوله تعالى:( وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) ، مشتمل على أمرين هما كالمتمّمين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوباً من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليّكم، فله أن يتصرّف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرّف، وإن لم تنظروا إلى عدم إستقلالكم في الملك بل نظرتم

٢٥٤

إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب، فإنّكم ترون أنّ ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتمّ وحدها، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بدّ من معها إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرّف من هذا الطريق فله سبحانه التصرّف في أمركم من أيّ سبيل سلكتم هذا، وقوله:( وما لكم من دون الله ) ، جئ فيه بالظاهر موضع المضمر نظراً إلى كون الجملة بمنزلة المستقلّ من الكلام لتماميّة الجواب دونه.

فقد ظهر ممّا مرّ:أوّلا، أنّ النسخ لا يختصّ بالأحكام الشرعيّة بل يعمّ التكوينيّات أيضاً.

وثانياً: أنّ النسخ لا يتحقّق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ.

وثالثاً: أنّ الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.

ورابعاً: أنّ الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنّما يرتفع التناقض بينهما من جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفّى نبيّ وبعث نبىّ آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جرياناً على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والأجل وما يقتضيه إختلاف مصالح العباد بحسب إختلاف الأعصار وتكامل الأفراد من الإنسان، وإذا نسخ حكم دينيّ بحكم دينيّ كان الجميع مشتملاً على مصلحة الدين وكلّ من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أوّل الدعوة وليس للمسلمين بعد عدّة ولا عدّة. وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام وأعدّ فيهم ما استطاعوا من قوّة وركز الرعب في قلوب الكفّار والمشركين. والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى:( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة - ١٠٩، المنسوخ بأية القتال وقوله تعالى:( فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ) النساء - ١٥، المنسوخ بأية الجلد فقوله: حتّى يأتي الله بأمره وقوله:( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ) لا يخلو عن إشعار بأنّ الحكم موقّت مؤجّل سيلحقه نسخ.

وخامساً: أنّ النسبة الّتي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة الّتي بين العامّ والخاصّ

٢٥٥

وبين المطلق والمقيّد وبين المجمل والمبيّن، فإنّ الرّافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد إستقراره بينهما بحسب الظهور اللّفظيّ هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن فإنّه قوّة الظهور اللّفظيّ الموجود في الخاصّ والمقيّد والمبيّن، المفسّر للعامّ بالتخصيص، وللمطلق بالتقييد، وللمجمل بالتبيين على ما بيّن في فنّ أصول الفقة، وكذلك في المحكم والمتشابه على ما سيجئ في قوله:( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) آل عمران - ٧.

قوله تعالى: ( أَوْ نُنسِهَا ) ، قرء بضمّ النون وكسر السّين من الإنساء بمعنى الإذهاب عن العلم والذكر وقد مرّ توضيحه، وهو كلام مطلق أو عامّ غير مختصّ برسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بل غير شامل له أصلاً لقوله تعالى:( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ) الاعلى - ٧، وهي آية مكيّة وآية النسخ مدنيّة فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى:( فَلَا تَنسَىٰ ) وأمّا اشتماله على الاستثناء بقوله: إلّا ما شاء الله فهو على حدّ الاستثناء الواقع في قوله تعالى:( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود - ١٠٨، جئ بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر، ولو كان الاستثناء مسوقاً لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله:( فَلَا تَنسَىٰ ) معنى، إذ كلّ ذي ذكر وحفظ من الإنسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى وذكره نسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيّته، وقد كان رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) كذلك قبل هذا الإقراء الامتنانيّ الموعود بقوله:( سَنُقْرِئُكَ ) يذكر بمشيّة الله وينسى بمشيّة الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلّا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى أبداً والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا. وقرء قوله:( نُنسِهَا ) بفتح النون والهمزة من نسئ نسيئاً إذا أخّر تأخيراً فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بإزالتها أو نؤخّرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها ولا يوجب التصرّف الإلهيّ بالتقديم والتأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة والدليل على أنّ المراد بيان أنّ التصرّف الإلهيّ يكون دائماً على الكمال والمصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فإنّ الخيريّة إنّما يكون في كمال شئ موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلاً لآخر في الخيريّة أو أزيد منه في ذلك فافهم.

٢٥٦

( بحث روائي)

قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) والصحابة وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّ في القرآن ناسخاً ومنسوخاً.

وفي تفسير النعمانيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : بعد ذكر عدّة آيات من الناسخ والمنسوخ قالعليه‌السلام : ونسخ قوله تعالى: وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون قوله عزّوجلّ: ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربّك ولذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.

أقول: وفيها دلالة على أخذهعليه‌السلام النسخ في الآية أعمّ من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة الّتي تثبتها الآية الاُولى، وبعبارة واضحة: الآية الاُولى تثبت للخلقة غاية وهي العبادة، والله سبحانه غير مغلوب في الغاية الّتي يريدها في فعل من أفعاله غير أنّه سبحانه خلقهم على إمكان الإختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء والضلال فلا يزالون مختلفين إلّا من أخذته العناية الإلهيّة، وشملته رحمة الهداية ولذلك خلقهم أي ولهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، وهو الرحمة المقارنة للعبادة والاهتداء ولا يكون إلّا في البعض دون الكلّ والآية الاُولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقاً لأجل البعض الآخر وهذا البعض أيضاً لآخر حتّى ينتهي إلى أهل العبادة وهم العابدون المخلوقون للعبادة فصحّ أنّ العبادة غاية للكلّ نظير بناء الحديقة وغرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها الماليّة فالآية الثانية تنسخ إطلاق الآية الاُولى. وفي تفسير النعمانيّ أيضاً عنهعليه‌السلام : قال: ونسخ قوله تعالى:( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) .

أقول: و ليست الآيتان من قبيل العامّ والخاصّ لقوله تعالى:( كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) ، والقضاء الحتم غير قابل الرفع ولا ممكن الإبطال ويظهر معنى هذا

٢٥٧

النسخ ممّا سيجئ إنشاء الله في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) الأنبياء - ١٠١.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام : إنّ من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب، ونجاة قوم يونس.

أقول: والوجه فيه واضح.

وفي بعض الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ.

أقول: وقد مرّ بيانه، والأخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية وكان نبيّ الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثمّ ترفع فينسيها الله نبيّه فقال الله: يقصّ على نبيّه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى.

أقول: وروى فيه أيضاً في معنى الإنساء روايات عديدة وجميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مرّ في بيان قوله:( أَوْ نُنسِهَا ) .

٢٥٨

( سورة البقرة الآيات ١٠٨ - ١١٥)

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ  وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( ١٠٨ ) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ  فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٠٩ ) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ  وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ  إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ١١٠ ) وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ  تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ  قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١١١ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ  كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ  فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( ١١٣ ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا  أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ  لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ١١٤ ) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ  إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ١١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ) ، سياق الآية يدلّ على أنّ بعض المسلمين - ممّن آمن بالنبيّ - سأل النبيّ اُموراً على حدّ سؤال اليهود نبيّهم موسىعليه‌السلام

٢٥٩

والله سبحانه وبّخهم على ذلك في ضمن ما يوبّخ اليهود بما فعلوا مع موسى والنبيّين من بعده، والنقل يدلّ على ذلك.

قوله تعالى: ( سَوَاءَ السَّبِيلِ ) أي مستوى الطريق.

قوله تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) ، نقل أنّه حيّ بن الأخطب وبعض من معه من متعصّبي اليهود.

قوله تعالى: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا ) ، قالوا: إنّها آية منسوخة بآية القتال!.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) ، فيه كما مرّ إيماء إلى حكم سيشرّعه الله تعالى في حقّهم، ونظيره قوله تعالى: في الآية الآتية( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ) ، مع قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) التوبة - ٢٨، وسيأتي الكلام في معنى الأمر في قوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ألاسراء - ٨٥.

قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ ) ، شروع في إلحاق النصارى باليهود تصريحاً وسوق الكلام في بيان جرائمهم معاً.

قوله تعالى: ( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، هذه كرّة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم ولا كرامة لأحد على الله إلّا بحقيقة الإيمان والعبوديّة. اُولاها قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ) البقرة - ٦٢،وثانيتها ، قوله تعالى:( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) البقرة - ٨١،وثالثتها ، هذه الآية ويستفاد من تطبيق الآيات تفسير الإيمان بإسلام الوجه إلى الله وتفسير الإحسان بالعمل الصالح.

قوله تعالى: ( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) ، أي وهم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك والكتاب يبيّن لهم الحقّ والدليل على ذلك قوله:( كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) فالمراد بالّذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفّار ومشركي العرب قالوا: إنّ المسلمين ليسوا على شئٍ أو أنّ أهل الكتاب ليسوا على شئ.

قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ ) ، ظاهر السياق أنّ هؤلاء كفّار مكّة قبل الهجرة فإنّ هذه الآيات نزلت في أوائل ورود رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) المدينة.

٢٦٠