الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154850
تحميل: 6939


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154850 / تحميل: 6939
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والمقام مقام الدعاء بالبيان الّذي تقدّم - لا يراد به إلّا عدّة معدودة ممّن آمن بالنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وكذا قوله: كنتم خير اُمّة خرجت للناس وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الاُمّة، وكيف يشمل فراعنة هذه الاُمّة دجاجلتها الّذين لم يجدوا للّدين أثراً إلّا عفوه ومحوه، ولا لأوليائه عظماً إلّا كسروه وسيجئ تمام البيان في الآية إنشاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل :( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) البقرة - ٤٧، فإنّ منهم قارون ولا يشمله الآية قطعاً، كما أنّ قوله تعالى:( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان - ٣٠، لا يعمّ جميع هذه الاُمّة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.

وأمّا قوله تعالى:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) البقرة - ١٣٤، فالخطاب فيه متوجّة إلى جميع الاُمّة ممّن آمن بالنبيّ، أو من بعث إليه.

( بحث علمي)

إذا رجعنا إلى قصّة إبراهيمعليه‌السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكّة، وإسكانهما هناك، وما جرى عليهما من الأمر، حتّى آل الأمر، إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصّة دورة كاملة من السير العبودي الّذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربّه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإعراض عن زخارف الدنيا، وملاذّها، وأمانيّها من جاه، ومال، ونساء وأولاد، والانقلاع والتخلّص عن وساوس الشياطين، وتكديرهم صفو الإخلاص والإقبال والتوجّه إلى مقام الربّ ودار الكبرياء.

فها هي وقائع متفرّقة مترتّبة تسلسلت وتألّفت قصّة تاريخيّة تحكي عن سير عبوديّ من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحبّ والوله والإخلاص على ما كلّما زدت في تدبّره إمعاناً زادك استنارة ولمعانا.

٣٠١

ثمّ: إنّ الله سبحانه أمر خليله إبراهيم: أن يشرع للناس عمل الحجّ، كما قال:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) إلى آخر الآيات الحجّ - ٢٧، وما شرعهعليه‌السلام وإن لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصيّاته، لكنّه كان شعاراً دينيّاً عند العرب في الجاهليّة إلى أن بعث الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشرع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلّا بالتكميل كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) الانعام - ١٦١، وقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣.

وكيف كان فما شرعه النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) من نسك الحجّ المشتمل على الإحرام والوقوف بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمى الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلاة بالمقام تحكي قصّة إبراهيم، وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهيّة القائد إليها جذبة الربوبيّة والسائق نحوها ذلّة العبوديّة.

والعبادات المشروعة - على مشرّعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكمّلين من الأنبياء من ربّهم، وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى:( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) الاحزاب - ٢١، وهذا أصل.

وفي الأخبار المبيّنة لحكم العبادات وأسرار جعلها وتشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبّع البصير.

٣٠٢

( سورة البقرة الآيات ١٣٠ - ١٣٤)

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ  وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ١٣٠ ) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ  قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٣١ ) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ١٣٢ ) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ١٣٣ ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ  وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٣٤ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) ، الرغبة، إذا عدّيت بعن أفادت: معنى الإعراض والنفرة، وإذا عدّيت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعدّيا ولازماً، ولذلك ذكر بعضهم أنّ قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنّه تمييز لا مفعول، والمعنى على أيّ حال: أنّ الإعراض عن ملّة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها ممّا يضرّها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أنّ العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) ، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبوديّة وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيّته وعبوديّته من التسليم الصرف لربّه، وهو التحقّق بالدين في جميع الشؤون فإنّ الدين لا يشتمل إلّا على مواد العبوديّة في اُمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع اُموره كما قال

٣٠٣

الله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩، فظهر: أنّ مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآية فإنّ الظاهر أن الظرف متعلّق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أنّ إصطفائه إنّما كان حين قال له ربّه: أسلم، فأسلم لله ربّ العالمين فقوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، بمنزله التفسير لقوله: اصطفيناه.

وفي الكلام التفات من التكلّم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربّه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكيّ من قول إبراهيم: قال أسلمت لربّ العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك امّاالأوّل ، فالنكتة فيه: الإشارة إلى أنّه كان سرّا استسرّ به ربّه إذ أسرّه إليه فيما خلى به معه فإنّ للسامع المخاطب اتّصالاً بالمتكلّم فإذا غاب المتكلّم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلّم من الشأن والقصّة ستر مضروب، فأفاد: أنّ القصّة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.

وأمّاالثاني: فلأنّ قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ ) ، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارّة لكن أدب الحضور كان يقتضى من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلّة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعدّ نفسه مختصّا بكرامة القرب متشرّفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحداً من العبيد الأذلّاء المربوبين، فيسلم لربّ يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لربّ العالمين.

الإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلّم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلّم واستسلم له، قال تعالى:( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) البقرة - ١١٢، وقال تعالى:( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ) الانعام - ٧٩، ووجه الشئ ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشئ فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكوينيّ، من قدر وقضاء، أو تشريعيّ من أمر أو نهى أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتّب الواردات بمراتبها.

الاولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقّي

٣٠٤

الشهادتين لساناً، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى:( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات - ١٤، ويتّعقب الإسلام بهذا المعنى أوّل مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبّي بمضمون الشهادتين إجمالاً ويلزمه العمل في غالب الفروع.

الثانيه: مايلي الإيمان بالمرتبة الاُولى، وهو التسليم والانقياد القلبّي لجلّ الاعتقادات الحقّة التفصيليّة وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطّي في بعض الموارد. قال الله تعالى في وصف المتّقين:( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) الزخرف - ٦٩، وقال أيضاً:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) البقرة - ٢٠٨، فمن الإسلام ما يتأخّر عن الإيمان محقّقاً فهو غير المرتبة الاُولى من الإسلام ويتعقّب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان وهو الاعتقاد التفصيليّ بالحقائق الدينيّة. قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) الحجرات - ١٥، وقال أيضاً:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ) الصّف - ١١، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

الثالثه: مايلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإنّ النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلّقت بأخلاقه تمكّنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيميّة والسُبعيّة، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبدالله كأنّه يراه فإن لم يكن يراه فإنّ الله يراه، ولم يجد في باطنه وسرّه ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه:( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء - ٦٥، ويتعقّب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إلى أن قال:( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون - ٣، ومنه قوله تعالى:( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى غير ذلك، وربّما عدّت المرتبتان

٣٠٥

الثانية والثالثة مرتبة واحدة.

والأخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصّبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحبّ والبغض في الله من لوازم هذه مرتبة.

الرابعة مايلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإنّ حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربّه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائماً بوظيفة عبوديّته حقّ القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبّه ويرتضيه، والأمر في ملك ربّ العالمين لخلقة أعظم من ذلك وأعظم وإنّه حقيقة الملك الّذي لا استقلال دونه لشئ من الأشياء لا ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً على ما يليق بكبريائه جلّت كبريائه.

فالإنسان - وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربّما أخذته العناية الربّانيّة فأشهدت له أنّ الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه شيئاً إلّا به لا ربّ سواه، وهذا معنى وهبيّ، وإفاضة إلهيّة لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعلّ قوله تعالى: ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذرّيّتنا اُمّة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإنّ قوله تعالى: إذ قال له ربّه أسلم، قال أسلمت لربّ العالمين الآية ظاهره أنّه أمر تشريعي لا تكوينيّ، فإبراهيم كان مسلماً باختياره، إجابة لدعوة ربّه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجّهة إليهعليه‌السلام في مبادئ حاله: فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإرائة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام ويتعقّب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى:( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) يونس - ٦٢، فإنّ هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشئ دون الله، ولا تأثير لسبب إلّا بإذن الله حتّى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلّا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوّفهم شئ ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: ( وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ، الصلاح، وهو اللّياقة بوجه

٣٠٦

ربّما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربّما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى:( فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) الكهف - ١١٠، وقال تعالى:( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) النّور - ٣٢.

وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بيّن من كلامه تعالى غير أنّه نسب إليه من الآثار ما يتّضح به معناه.

فمنها: أنّه صالح لوجه الله. قال تعالى:( صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) الرعد - ٢٢، وقال تعالى:( وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة - ٢٧٢.

ومنها: أنّه صالح لأن يثاب عليه. قال تعالى:( ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) القصص - ٨٠.

ومنها: أنّه يرفع الكلم الطيّب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر - ١٠، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه: أنّ صلاح العمل معنى تهيّؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عوناً وممدّاً لصعود الكلام الطيّب إليه تعالى. قال تعالى:( وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) الحج - ٣٧، وقال تعالى:( كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء - ٢٠، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزله المادّة.

وأمّا صلاح النفس والذات فقد قال تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النّساء - ٦٩، وقال تعالى:( وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء - ٨٦، وقال تعالى حكاية عن سليمان:( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) النمل - ١٩، وقال تعالى:( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا - إلى قوله- وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٥، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامّة الإلهيّة الواسعة لكلّ شئ ولا الخاصّة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) الأعراف - ١٥٦، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصّة من المؤمنين المتّقين، ومن الرحمة ما يختصّ ببعض دون بعض، قال تعالى

٣٠٧

( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ) البقرة - ١٠٥، وليس المراد أيضاً مطلق كرامة الولاية، وهو تولّي الحقّ سبحانه أمر عبده، فإنّ الصالحين وإن شرّفوا بذلك وكانوا من الأولياء المكرّمين على ما بيّناه سابقاً في قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فاتحة الكتاب - ٦ وسيجئ في تفسير الآية لكنّ هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيّين، والصدّيقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدّهم طائفة خاصّة في قبالهم.

نعم الأثر الخاصّ بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، وهو الأمن العامّ من العذاب كما ورد المعنيان معاً في الجنّة، قال تعالى:( فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية - ٣٠، أي في الجنّة، وقال تعالى:( يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان - ٥٥، أي في الجنّة.

وأنت إذا تدبّرت قوله تعالى:( وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا ) الأنبياء - ٧٥، وقوله:( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٢ - حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد - ثمّ تأمّلت أنّه تعالى قصّر الأجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأنّ الصلاح الذّاتيّ كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة وربّما تبيّن به معنى قوله تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ) - وهو ما بالعمل - وقوله:( وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) - وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجئ بيانه إنشاء الله في تفسير قوله تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ) ق - ٣٥-.

ثمّ إنك إذا تأمّلت حال إبراهيم ومكانته في أنّه كان نبيّاً مرسلاً وأحد اُولي العزم من الأنبياء، وأنّه إمام، وأنّه مقتدى عدّة ممّن بعده من الأنبياء والمرسلين وأنّه من الصالحين بنصّ قوله تعالى:( وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) الأنبياء - ٧٢، الظاهر في الصلاح المعجل على أنّ من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجّل وهوعليه‌السلام مع ذلك كلّه يسأل اللّحوق بالصالحين الظاهر في أنّ هناك قوماً من الصالحين سبقوه وهو يسأل اللّحوق بهم فيما سبقوه إليه، واُجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى:( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقره - ١٣٠، وقال تعالى:( وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) العنكبوت - ٢٧، وقال تعالى:( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ

٣٠٨

الصَّالِحِينَ ) النّحل - ١٢٢، فإذا تأمّلت ذلك حقّ التأمّل قضيت بأنّ الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أنّ إبراهيمعليه‌السلام سأل اللّحوق بمحمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وآله الطاهرينعليه‌السلام فاُجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنّهعليه‌السلام يسأل اللّحوق بالصالحين ومحمّد (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدعيه لنفسه. قال تعالى:( إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف - ١٩٦ فإنّ ظاهر الآية أنّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) يدّعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المتحقّق بالصلاح الّذي يدّعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللّحوق بعدّة من الصالحين يسبقونه في الصّلاح فهو هو.

قوله تعالى: ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ) ، إي وصّى بالملّة.

قوله تعالى: ( فَلَا تَمُوتُنَّ ) ، النّهي عن الموت وهو أمر غير اختياريّ للإنسان، والتكليف إنّما يتعلّق بأمر اختياريّ إنّما هو لرجوعه إلى أمر يتعلّق بالاختيار، والتّقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا وألزموا الإسلام لئلّا يقع موتكم إلّا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أنّ الدين هو الإسلام كما قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران - ١٩.

قوله تعالى: ( وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجدّ والعمّ والوالد من غير مصحّح للتغليب، وحجّة فيما سيأتي إنشاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

قوله تعالى: ( إِلَهًا وَاحِدًا ) ، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: إلهك وإله آبائك إلخ دفع لإمكان إيهام اللّفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتّخذه الوثنيّون من الآلهة الكثيرة.

قوله تعالى: ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ، بيان للعبادة وأنّها ليست عبادة كيفما اتّفقت بل عبادة على نهج الإسلام وفي الكلام جملة أنّ دين إبراهيم هو الإسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسماعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسماعيل من آل إبراهيم جميعاً هو الإسلام لا غير، وهو الّذي أتى به إبراهيم من ربّه فلا حجّة لأحد في تركه والدّعوة إلى غيره.

٣٠٩

( بحث روائي)

في الكافي عن سماعة عن الصادقعليه‌السلام الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم ولا يكون في الكعبة ولا يكون في الكعبة حتّى يكون في الحرم.

وفيه عن سماعة أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.

أقول: وفي هذا المضمون روايات اُخر وهي تدلّ على ما مرّ بيانه من المرتبة الاُولى من الإسلام والإيمان.

وفيه عن البرقيّ عن عليّعليه‌السلام : قال الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين.

وفيه عن كاهل عن الصادق لو أنّ قوماً عبدوا الله - وحده لا شريك له - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وحجّوا البيت، وصاموا شهر رمضان ثمّ قالوا لشئ صنعه الله أو صنعه رسول الله ألّا صنع بخلاف الّذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.

أقول: والحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام والإيمان.

وفي البحار عن إرشاد الديلميّ - وذكر سندين لهذا الحديث، وهو من أحاديث المعراج - وفيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهني وأيّ حياة أبقي ؟ قال: اللّهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنئ فهو الّذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقّي، يطلب رضائي في ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية، فهي الّتى يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي، ويعظّم حقّ نعمتي، ويذكر عملي به، ويراقبني باللّيل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية، وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وأفتح عين قلبه وسمعه، حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، و

٣١٠

أضيّق عليه الدنيا، واُبغّض إليه ما فيها من اللّذات، واُحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذّر الراعى على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفرّ من الناس فرارا، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد ولاُزيّننّه بالهيبة والعظمة فهذا هو العيش الهنئ والحياة الباقية، وهذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمة ثلاث خصال أعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين، فإذا أحبّني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا اُخفى عليه خاصّة خلقي واُناجيه في ظُلَم اللّيل ونور النهار، حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين، ومجالسته معهم، واُسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي، واُلبسه الحياء، حتّى يستحيي منه الخلق كلّهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، واجعل قلبه واعياً وبصيراً ولا اُخفي عليه شيئاً من جنّة ولا نار، واُعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة وما اُحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، واُنوّمه في قبره، واُنزل عليه منكراً ونكيراً حتّى يسألاه، ولا يرى غمّ الموت، وظلمة القبر واللّحد، وهول المطّلع، ثمّ أنصب له ميزانه، وأنشر ديوانه، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً، ثمّ لا أجعل بيني وبينه وترجماناً فهذه صفات المحبّين، يا أحمد اجعل همّك همّا واحداً واجعل لسانك لساناً واحداً واجعل بدنك حيّاً لا يغفل أبداً من يغفل عنّي لم اُبال في أيّ واد هلك.

وفي البحار عن الكافي و المعاني ونوادر الرّاوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظمعليه‌السلام - و اللّفظ المنقول هيهنا للكافي - قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الانصاريّ فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعمانيّ ؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقّاً، فقال له رسول الله: لكلّ شئ حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت هواجرى، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب، وكأنّي أنظر إلى اهل الجنّة يتزاورون في الجنّة وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عبد نوّر الله قلبه أبصرت فاثبت.

أقول: والروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام والإيمان

٣١١

المذكورتين وفي خصوصيّات معناهما روايات كثيرة متفرّقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إنشاء الله تعالى والآيات تؤيّدها على ما سيجئ بيانها، واعلم أنّ لكلّ مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان معنى من الكفر والشرك يقابله. ومن المعلوم أيضاً أنّ الإسلام والإيمان كلّما دقّ معناهما ولطف مسلكهما، صعب التخلّص ممّا يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك. ومن المعلوم أيضاً أنّ كلّ مرتبة من مراتب الإسلام والإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، وظهور آثارهما فيها. وهذان أصلان.

ويتفرّع عليهما: أن للآيات القرآنيّة بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها وليكن هذا عندك على إجماله حتّى يأتيك تفصيله.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ولدينا مزيد. قالعليه‌السلام النظر إلى رحمة الله.

وفي المجمع عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أقول: والروايتان قد اتّضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، والله الهادي.

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية، عن الباقرعليه‌السلام أنّها جرت في القائم.

أقول: قال في الصافي: لعلّ مراده أنّها في قائم آل محمّد فكلّ قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، ويجيبونه بما أجابوا به.

٣١٢

( سورة البقرة الآيات ١٣٥ - ١٤١)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا  قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٣٥ ) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( ١٣٦ ) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا  وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ  فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٣٧ ) صِبْغَةَ اللهِ  وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً  وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ( ١٣٨ ) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ( ١٣٩ ) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ  قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ١٤٠ ) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ  لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ  وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) ، لما بيّن تعالى أنّ الدين الحقّ الّذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كان هو الإسلام الّذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أنّ الإختلافات والانشعابات الّتي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود والنصارى، أمور إخترعتها هوساتهم، ولعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطّعوا بذلك طوائف وأحزاباً دينيّة، وصبغوا دين الله سبحانه وهو دين التوحيد ودين الوحدة، بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع، مع أنّ الدّين

٣١٣

واحد كما أنّ الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم. وبه فليتمسّك المسلمون وليتركوا شقاق أهل الكتاب.

فإنّ من طبيعة هذه الحياة الأرضيّة الدنيويّة التغيّر والتحوّل في عين الجرى والاستمرار كنفس الطبيعة الّتي هي كالمادّة لها ويوجب ذلك أن تتغيّر الرسوم والآداب والشعائر القوميّة بين طوائف الملل وشعباتها، وربّما يوجب ذلك تغييراً وانحرافاً في المراسم الدينيّة، وربّما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه والأغراض والغايات الدنيويّة ربّما تحلّ محلّ الأغراض الدينيّة الإلهيّة (وهي بليّة الدين)، وعند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القوميّة فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصليّ ويؤدّب الناس غير أدبه الحقيقيّ، فلا يلبث حتّى يعود المنكر (وهو ما ليس من الدين) معروفاً يتعصّب له الناس لموافقته هوساتهم وشهواتهم والمعروف منكراً ليس له حامٍ يحميه ولا واقٍ يقيه ويؤل الأمر إلى ما نشاهده اليوم من...

وبالجملة فقوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) ، إجمال تفصيل معناه وقالت اليهود كونوا هوداً تهتد، وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كلّ ذلك لتشعّبهم وشقاقهم.

قوله تعالى: ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، جواب عن قولهم أي قل، بل نتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً فإنّها الملّة الواحدة الّتي كان عليها جميع أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، وما كان صاحب هذه الملّة وهو إبراهيم من المشركين ولو كان في ملّته هذه الانشعابات، وهي الضمائم الّتي ضمّها إليها المبتدعون، من الإختلافات لكان مشركاً بذلك، فإنّ ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره وهو الشرك، فهذا دين التوحيد الّذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.

قوله تعالى: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ) ، لما حكى ما يأمره به اليهود والنصارى من اتّباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحقّ (والحقّ يقول) وهو الشهادة على الإيمان بالله والإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، وهو الإسلام وخصّ

٣١٤

الإيمان بالله بالذكر وقدّمه وأخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأنّ الإيمان الله فطريّ، لا يحتاج إلى بيّنة النبوّة، ودليل الرسالة.

ثمّ ذكر سبحانه ما أنزل إلينا وهو القرآن أو المعارف القرآنيّة وما اُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثمّ ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصّهما بالذكر لأنّ المخاطبة مع اليهود والنصارى وهم يدعون إليهما فقط ثمّ ذكر ما أوتي النبيّون من ربّهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرّق بين أحد منهم.

وإختلاف التعبير في الكلام، حيث عبّر عمّا عندنا وعند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال وعمّا عند موسى وعيسى والنبيّين بالإيتاء وهو الإعطاء، لعلّ الوجه فيه أنّ الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، ومن بعده ومن قبله من الأنبياء في سورة الأنعام:( أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الانعام - ٨٩، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي والإنزال كما قال تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ) لقمان - ١٢، وقال:( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) الجاثية - ١٦، ولما كان كلّ من اليهود والنصارى يعدّون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملّتهم، فاليهود من اليهود، والنصاري من النصارى، واعتقادهم أن الملّة الحقّ من النصرانيّة، أو اليهوديّة، هي ما أوتيه موسى وعيسى، فلو كان قيل: وما اُوتي إبراهيم وإسماعيل لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال وإحتمل أن يكون ما أوتوه، هو الّذي أوتيه موسى وعيسىعليهم‌السلام نسب إليهم بحكم التبعيّة كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل، فلذلك خصّ إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال وأما النبيّون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتّى يوهم قوله: وما أوتي النبيّون شيئاً يجب دفعه.

قوله تعالى: ( وَالْأَسْبَاطِ ) ، الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل والسبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، وقد كانوا اثنتي عشرة أسباطاً اُمماً وكلّ واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر، فخلف كلّ واحد منهم اُمّة من الناس.

٣١٥

فإن كان المراد بالأسباط الاُمم والأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، وإن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي وليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، ونظير الآية قوله تعالى:( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ ) النساء - ١٦٣.

قوله تعالى: ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ) ، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام والجدال، فإنّه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنّا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما اُنزل علينا ونكفر بما ورائه، لكن لو قيل لهم، إنّا آمنّا بما لا يشتمل إلّا على الحقّ فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحقّ مثله، لم يجدوا طريقاً للمراء والمكابرة، فإنّ الّذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحقّ.

قوله تعالى: ( فِي شِقَاقٍ ) ، الشقاق النفاق والمنازعة والمشاجرة والافتراق.

قوله تعالى: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ ) ، وعدٌ لرسول الله بالنصرة عليهم، وقد أنجز وعده وسيتمّ هذه النعمة للاُمّة الإسلاميّة إذا شاء، واعلم: أنّ الآية معترضة بين الآيتين السابقة واللاحقة.

قوله تعالى: ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) ، الصبغة بناء نوع من الصبغ أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهيّة لنا، وهي أحسن الصبغ لا صبغة اليهوديّة والنصرانيّة بالتفرّق في الدين، وعدم إقامته.

قوله تعالى: ( وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) ، في موضع الحال، وهو كبيان العلّة لقوله: صبغة الله ومن أحسن.

قوله تعالى: ( قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ ) ، إنكار، لمحاجّة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه وقد بيّن وجه الإنكار، وكون محاجّتهم لغواً وباطلاً، بقوله وهو ربّنا وربّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، وبيانه: أنّ محاجّة كلّ تابعين في متبوعهما ومخاصمتهما فيه إنّما تكون لأحد أمور ثلاث: إمّا لاختصاص كلّ من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجّة كلّ تفضيل متبوعه وربّه على

٣١٦

الآخر، كالمحاجّة بين وثنيّ ومسلم، وإمّا لكون كلّ واحد منهما أو أحدهما يريد مزيد الاختصاص به، وإبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحداً، وإمّا لكون أحدهما ذا خصائص وخصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع وفعاله ذاك الفعال، وخصاله تلك الخصال لكونه موجباً، لهتكه أو سقوطه أو غير ذلك، فهذه علل المحاجّة والمخاصمة بين كلّ تابعين، والمسلمون وأهل الكتاب إنّما يعبدون إلهاً واحداً، وأعمال كلّ من الطائفتين لا تزاحم الاُخرى شيئاً والمسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبّث به أهل الكتاب في محاجّتهم، ولذلك أنكر عليهم محاجّتهم أوّلاً ثمّ نفى واحداً واحداً من أسبابها الثلاثة، ثانياً.

قوله تعالى: ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) ، وهو قولّ كل من الفريقين، إنّ إبراهيم ومن ذكر بعده منهم، ولازم ذلك كونهم هوداً أو نصارى أو قولهم صريحاً إنّهم كانوا هوداً أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) آل عمران - ٦٥.

قوله تعالى: ( قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ) ، فإنّ الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أنّ موسى وعيسى وكتابيهما بعد إبراهيم ومن ذكر معه.

قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ ) ، أي كتم ما تحمّل شهادة أنّ الله أخبر بكون تشريع اليهوديّة أو النصرانيّة بعد إبراهيم ومن ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية شهادة تحمّل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة والإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعيّن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) ، أي إنّ الغور في الأشخاص وأنّهم ممّن كانوا لا ينفع حالكم، ولا يضرّكم السكوت عن المحاجّة والمجادلة فيهم، والواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غداً عنه، وتكرار الآية مرّتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجّة الّتى لا تنفع لحالهم شيئاً، وخصوصاً مع علمهم بأنّ إبراهيم كان قبل اليهوديّة والنصرانيّة، وإلّا فالبحث عن حال الأنبياء، والرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم وفضائل نفوسهم الشريفة ممّا ندب إليه القرآن حيث يقصّ قصصهم ويأمر بالتدبّر فيها.

٣١٧

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى قل: بل ملّة إبراهيم حنيفاً الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال إنّ الحنيفيّة في الإسلام.

وعن الباقرعليه‌السلام ما أبقت الحنيفيّة شيئاً، حتّى أنّ منها قصّ الشارب وقلم الأظفار والختان.

وفي تفسير القمّيّ، أنزل الله على إبراهيم الحنيفيّة، وهي الطهارة، وهي عشرة: خمسة في الرأس وخمسة في البدن، فأمّا الّتي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطمّ الشعر والسواك والخلال، وأمّا الّتي في البدن فأخذ الشعر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة، والطهور بالماء وهي الحنيفيّة الطاهرة الّتي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

أقول: طمّ الشعر، جزّه، وتوفيره وفي معنى الرواية أو ما يقرب منه أحاديث كثيرة جدّاً روتها الفريقان في كتبهم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: قولوا آمنّا بالله الآية، قال إنّما عنى بها عليّاً وفاطمة والحسن والحسين وجرت بعدهم في الأئمّة الحديث.

أقول: ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك الآية ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامّة المسلمين وكونهم مكلّفين بذلك، فإنّ لهذه الخطابات عموماً وخصوصاً بحسب مراتب معناها على ما مرّ في الكلام على الإسلام والإيمان ومراتبهما.

وفي تفسير القمّيّ عن أحدهما، وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الإسلام.

أقول: وهو الظاهر من سياق الآيات.

وفي الكافي والمعاني عن الصادقعليه‌السلام قال صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

أقول: وهو من باطن الآية على ما سنبيّن معناه ونبيّن أيضاً معنى الولاية ومعنى الميثاق إن شاء الله العزيز.

٣١٨

( سورة البقرة الآيات ١٤٢ - ١٥١)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا  قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ١٤٢ ) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا  وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ  وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ  وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ  إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٤٣ ) قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ  فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا  فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ  وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٤٤ ) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ  وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ  وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ  إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( ١٤٥ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ  وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( ١٤٦ ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( ١٤٧ ) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا  فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ  أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ١٤٨ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ  وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ١٤٩ ) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ  وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ

٣١٩

عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٥٠) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ( ١٥١)

( بيان)

الآيات مترتّبة متّسقة منتظمةٌ في سياقها على ما يعطيه التدبّر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إنّ فيها تقدّماً وتأخّراً أو أنّ فيها ناسخاً ومنسوخاً، وربّما رووا فيها شيئاً من الروايات، ولا يعبأ بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) ، هذا تمهيد ثانياً لما سيأمر تعالى به من اتّخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عمّا سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصّباً لقبلتهم الّتي هي بيت المقدّس ومشركوا العرب الراصدون لكلّ أمرٍ جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهّد لذلك أوّلاً بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم وأنواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم أنّ تحويل القبلة من بيت المقدّس إلى الكعبة من اعظم الحوادث الدينيّة وأهمّ التشريعات الّتي قوبل به الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة وأخذ الإسلام في تحقيق اُصوله ونشر معارفه وبثّ حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لأنّهم كانوا يرون أنّه يبطل واحداً من اعظم مفاخرهم الدينيّة وهو القبلة واتّباع غيرهم لهم فيها وتقدّمهم على من دونهم في هذا الشعار الدينيّ، على أنّ ذلك تقدّم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينيّة إلى نقطة واحدة يخلّصهم من تفرّق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة أشدّ تأثيراً وأقوى من أمثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند

٣٢٠