الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154859
تحميل: 6940


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154859 / تحميل: 6940
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اليهود ومشركي العرب وخاصّة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصّة في القرآن، فقد كانوا اُمّة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحسّ وقعاً، إذا جائهم حكم من أحكام الله معنويّ قبلوه من غير تكلّم عليه وإذا جاءهم أمر من ربّهم صوريّ متعلّق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالإنكار وقاوموا عليه ودونه أشدّ المقاومة.

وبالجملة فقد أخبر الله سبحانه عمّا سيعترضون به على تحويل القبلة وعلّم رسوله ما ينبغي أن يجابوا ويقطع به قولهم.

أمّا اعتراضهم: فهو أنّ التحوّل عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتيّ ما وجهه ؟ فإن كان بأمر من الله فإنّ الله هو الّذي جعل بيت المقدّس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ مشرعه، واليهود ما كانت تعتقد النسخ (كما تقدّم في آية النسخ) وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط والخروج من الهداية إلى الضلال وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض، إلّا أنّ ما أجاب به يلوّح ذلك.

وأمّا الجواب: فهو أنّ جعل بيت من البيوت كالكعبة، أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدّس، أو الحجر الواقع فيه قبلةً ليس لاقتضاء ذاتيّ منه يستحيل التعدّي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتّى يكون البيت المقدّس في كونه قبلةً لا يتغيّر حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات الّتي يمكن أن يتوجّه إليه الإنسان في أنّها لا تقتضي حكماً ولا يستوجب تشريعاً على السواء وكلّها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء، وما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم وكمالهم الفرديّ والنوعيّ، فلا يحكم إلّا ليهدى به ولا يهدي إلّا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم وصلاحهم.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ) ، أراد بهم اليهود والمشركين من العرب ولذلك عبّر عنهم بالناس وإنّما سفّههم لعدم استقامة فطرتهم وثقوب رأيهم في أمر التشريع. والسفاهة عدم استقامة العقل وتزلزل الرأي.

٣٢١

قوله تعالى: ( مَا وَلَّاهُمْ ) ، تولية الشئ أو المكان جعله قدّام الوجه وأمامه كالاستقبال. قال تعالى فلنولّينّك قبلة ترضيها الآية، والتولية عن الشئ صرف الوجه عنه كالاستدبار ونحوه، والمعنى ما الّذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة الّتي كانوا عليها وهو بيت المقدّس الّذي كان يصلّي إليه النبيّ والمسلمون أيّام إقامته بمكّة وعدّة شهور بعد هجرته إلى المدينة وإنّما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أنّ اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجّب وأوجب للاعتراض، وإنّما قيل ما ولّيهم عن قبلتهم ولم يقل ما ولّى النبيّ والمسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولّى النبيّ والمسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجّب واقعاً موقعه وكان الجواب عنه ظاهراً لكلّ سامع بأدنى تنبّه.

قوله تعالى: ( قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) ، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيّتين لسائر الجهات الأصليّه والفرعيّة كالشمال والجنوب وما بين كلّ جهتين من الجهات الأربعة الأصليّه، والمشرق والمغرب جهتان إضافيّتان تتعيّنان بشروق الشمس أو النجوم وغروبهما، يعمّان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هُما نقطتا الشمال والجنوب الحقيقيّتان، ولعلّ هذا هو الوجه في وضع المشرق والمغرب موضع الجهات.

قوله تعالى: ( يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ، تنكير الصراط لأنّ الصراط يختلف بإختلاف الاُمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال والسعادة.

قوله تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) ، الظاهر أنّ المراد كما سنحوّل القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم اُمّة وسطاً (هو كما ترى)، وأمّا المراد بكونهم اُمّة وسطاً شهداء على الناس فالوسط هو المتخلّل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف، وهذ الاُمّة بالنسبة إلى الناس - وهم أهل الكتاب والمشركون - على هذا الوصف فإنّ بعضهم - وهم المشركون والوثنيّون - إلى تقوية جانب الجسم محضاً لا يريدون إلّا الحياة الدنيا والاستكمال بملاذّها وزخارفها وزينتها، لا يرجون بعثاً ولا نشوراً، ولا يعباؤن بشئٍ من الفضائل المعنويّة والروحيّة، وبعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون

٣٢٢

إلّا إلى الرهبانيّة ورفض الكمالات الجسميّة الّتي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادّيّة لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها واُؤلئك أصحاب الجسم أبطلوا النّتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليها، لكنّ الله سبحانه جعل هذه الاُمّة وسطاً بأن جعل لهم ديناً يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل يقوّي كلّاً من الجانبين - جانب الجسم وجانب الروح - على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين فإنّ الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضاً ولا جسم محضاً، ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادّيّة والمعنويّة، فهذه الاُمّة هي الوسط العدل الّذي به يقاس ويوزن كلّ من طرفي الإفراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف والنبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) وهو المثال الأكمل من هذه الاُمّة - هو شهيد على نفس الاُمّة فهو (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ميزان يوزن به حال الآحاد من الاُمّة، والاُمّة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط، هذا ما قرّره بعض المفسرين في معنى الآية وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقّة إلّا أنّه غير منطبق على لفظ الآية فإنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان، وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطيّة بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر، على أنّه لا وجه حينئذ للتعرّض بكون رسول الله شهيداً على الاُمّة إذ لا يترتّب شهادة الرسول على الاُمّة على جعل الاُمّة وسطاً، كما يترتّب الغاية على المغيّى والغرض على ذيه.

على أنّ هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنيّة تكرّر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) النساء - ٤١، وقال تعالى:( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) النحل - ٨٤، وقال تعالى:( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) الزمر - ٦٩، والشهادة فيها مطلقة وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على اعمال الاُمم، وعلى تبليغ الرسل أيضاً، كما

٣٢٣

يومي إليه قوله تعالى:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف - ٦، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحمّلها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسىعليه‌السلام -( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) المائدة - ١١٧، وقوله تعالى:( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء - ١٥٩. ومن الواضح أن هذه الحواسّ العاديّة الّتي فينا، والقوى المتعلّقة بها منّا لا تتحمّل إلّا صور الأفعال والأعمال فقط، وذلك التحمّل أيضاً، إنّما يكون في شئ يكون موجوداً حاضراً عند الحسّ لا معدوماً ولا غائباً عنه وأمّا حقائق الأعمال والمعاني النفسانيّة من الكفر والإيمان والفوز والخسران، وبالجملة كلّ خفيّ عن الحسّ ومستبطن عند الإنسان - وهي الّتي تكسب القلوب، وعليه يدور حساب ربّ العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى:( وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) البقرة - ٢٢٥ - فهي ممّا ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلاً عن الغائبين إلّا رجل يتولّى الله أمره ويكشف ذلك له بيده. ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف - ٨٦، فإنّ عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعاً - وقد شهد الله تعالى في حقّه بأنّه من الشهداء - كما مرّ في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحقّ وعالم بالحقيقة.

والحاصل أنّ هذه الشهادة ليست هي كون الاُمّة على دين جامع للكمال الجسمانيّ والروحانيّ فإنّ ذلك على أنّه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.

بل هي تحمّل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء، وردّ وقبول، وانقياد وتمرّد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كلّ شئ، حتّى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً.

ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست ينالها جميع الاُمّة، إذ ليست إلّا كرامة خاصّة للأولياء الطاهرين منهم، وأمّا من دونهم من المتوسّطين في السعادة، والعدول من أهل

٣٢٤

الإيمان فليس لهم ذلك، فضلاً عن الأجلاف الجافية، والفراعنة، الطاغية من الاُمّة، وستعرف في قوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٩، أنّ أقلّ ما يتّصف به الشهداء - وهم شهداء الأعمال - أنّهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مرّ إجمالاً في قوله تعالى:( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فاتحة الكتاب - ٧.

فالمراد بكون الاُمّة شهيدة أنّ هذه الشهادة فيهم، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فضلّوا على العالمين، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتّصف به كلّ واحدٍ منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكلّ لكون البعض فيه ومنه، فكون الاُمّة شهيدة هو أنّ فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

فإن قلت: قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ ) الحديد - ١٩، يدلّ على كون عامّة المؤمنين شهداء.

قلت: قوله( عِندَ رَبِّهِمْ ِمْ ِمْ ِمْ ) ، يدلّ على أنّه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الطور - ٢١، على أنّ الآية مطلقة تدلّ على كون جميع المؤمنين من جميع الاُمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الاُمّة فلا ينفع المستدلّ شيئاً(١) .

فإن قلت: جعل هذه الاُمّة اُمّة وسطاً بهذا المعنى لا يستتبع كونهم أو كون بعضهم شهداء على الأعمال ولا كون الرسول شهيداً على هؤلاء الشهداء فالإشكال وارد على هذا التقريب كما كان واردا على التقريب السابق.

قلت: معنى الشهادة غاية متفرّعة في الآية على جعل الاُمّة وسطاً فلا محالة تكون الوسطيّة معنى يستتبع الشهادة والشهداء، وقد قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا

____________________

(١) ولو كان المراد بالّذين آمنوا السابقون الأوّلون من المؤمنين لم ينفع في كون جميع الاُمة شهداء أيضاً منه

٣٢٥

بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحجّ - ٧٨، جعل تعالى كون الرسول شهيداً عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرّعة على الاجتباء ونفي الحرج عنهم في الدين ثمّ عرّف الدين بأنّه هو الملّة الّتي كانت لأبيكم إبراهيم الّذي هو سمّيكم المسلمين من قبل، وذلك حين دعا لكم ربّه وقال:( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) فاستجاب الله دعوته وجعلكم مسلمين، تسلمون له الحكم والأمر من غير عصيان واستنكاف، ولذلك ارتفع الحرج عنكم في الدين، فلا يشقّ عليكم شئ منه ولا يحرج، فأنتم المجتبون المهديّون إلى الصراط، المسلمون لربّهم الحكم والأمر، وقد جعلناكم كذلك ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس، أي تتوسّطوا بين الرسول وبين الناس فتّتصلوا من جهة إليهم، وعند ذلك يتحقّق مصداق دعائهعليه‌السلام فيكم وفي الرسول حيث قال:( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) البقرة - ١٢٩، فتكونون أمّة مسلمة أودع الرسول في قلوبكم علم الكتاب والحكمة، ومزكّين بتزكيته، والتزكية التطهير من قذرات القلوب، وتخليصها للعبوديّة، وهو معنى الإسلام كما مرّ بيانه، فتكونون مسلمين خالصين في عبوديّتكم، وللرسول في ذلك القدم الأوّل والهداية والتربية، فله التقدّم على الجميع، ولكم التوسّط باللحوق به، والناس في جانب وفي أوّل الآية وآخرها قرائن تدلّ على المعنى الّذي استفدناه منها غير خفيّة على المتدبّر فيها سنبيّنها في محلّه إنشاء الله.

فقد تبيّن بما قدّمناه:أوّلا: أنّ كون الاُمّة وسطاً مستتبع للغايتين جميعاً، وأنّ قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً الآية جميعاً لازم كونهم وسطاً.

وثانياً: أنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس، لا بتخلّلها بين طرفي الإفراط والتفريط، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس.

وثالثاً: أنّ الآية بحسب المعنى مرتبطة بآيات دعوة إبراهيمعليه‌السلام وأنّ الشهادة من شئون الاُمّة المسلمة.

واعلم: أنّ الشهادة على الأعمال على ما يفيده كلامه تعالى لا يختصّ بالشهداء

٣٢٦

من الناس، بل كلّ ما له تعلّق ما بالعمل كالملائكة والزمان والمكان والدين والكتاب والجوارح والحواسّ والقلب فله فيه شهادة.

ويستفاد منها أنّ الّذي يحضر منها يوم القيامة هو الّذي في هذه النشأة الدنيويّة وأنّ لها نحواً من الحياة الشاعرة بها، تتحمّل بها خصوصيّات الأعمال، وترتسم هي فيها، وليس من اللّازم أن تكون الحياة الّتي في كلّ شئ، سنخاً واحداً كحياة جنس الحيوان، ذات خواصّ وآثار كخواصّها وآثارها، حتّى تدفعه الضرورة فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد. هذا إجمال القول في هذا المقام وأمّا تفصيل القول في كلّ واحد واحد منها فموكول إلى محلّه اللّائق به.

قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ) ، المراد بقوله لنعلم: إمّا علم الرسل والأنبياء مثلاً، لأنّ العظماء يتكلّمون عنهم وعن أتباعهم، كقول الأمير، قتلنا فلاناً وسجنّا فلاناً، وإنّما قتله وسجنه أتباعه لانفسه، وإمّا العلم العينيّ الفعليّ منه تعالى الحاصل مع الخلقة والإيجاد، دون العلم قبل الإيجاد.

والانقلاب على العقبين كناية عن الإعراض، فإنّ الإنسان - وهو منتصب على عقبيه - إذا انقلب من جهة إلى جهة، انقلب على عقبيه، فجعل كناية عن الإعراض نظير قوله:( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ) الأنفال - ١٦، وظاهر الآية أنّه دفع لما يختلج في صدور المؤمنين: من تغيير القبلة ونسخها، ومن جهة الصلوات الّتي صلّوها إلى القبلة، ما شأنها ؟

ويظهر من ذلك أنّ المراد بالقبلة الّتي كان رسول الله عليها، هو بيت المقدّس دون الكعبة، فلا دليل على جعل بيت المقدّس قبلة مرّتين، وجعل الكعبة قبلة مرّتين، إذ لو كان المراد من القبلة في الآية الكعبة كان لازم ذلك ما ذكر.

وبالجملة كان من المترقّب أن يختلج في صدور المؤمنين:أولا: أنّه لما كان من المقدّر أن يستقرّ القبلة بالآخرة على الكعبة فما هو السبب، أوّلاً: في جعل بيت المقدّس قبلة ؟ فبيّن سبحانه أنّ هذه الأحكام والتشريعات ليست إلّا لأجل مصالح تعود إلى

٣٢٧

تربية الناس وتكميلهم، وتمحيص المؤمنين من غيرهم، وتمييز المطيعين من العاصين، والمنقادين من المتمردين، والسبب الداعي إلى جعل القبلة السابقة في حقّكم أيضاً هذا السّبب بعينه، فالمراد بقوله إلّا لنعلم من يتّبع الرسول: إلّا لنميّز من يتّبعك، والعدول من لفظ الخطاب إلى الغيبة لدخالة صفة الرّسالة في هذا التميّز، والمراد بجعل القبلة السابقة: جعلها في حقّ المسلمين، وإن كان المراد أصل جعل بيت المقدّس قبلة فالمراد مطلق الرسول، والكلام على رسله من غير التفاتٍ، غير أنّه بعيد من الكلام بعض البعد.

وثانياً: أنّ الصلوات الّتي كان المسلمون صلّوها إلى بيت المقدّس كيف حالها، وقد صلّيت إلى غير القبلة ؟ والجواب: أنّ القبلة قبله ما لم تنسخ، وأنّ الله سبحانه إذا نسخ حكماً رفعه من حين النسخ، لا من أصله، لرأفته ورحمته بالمؤمنين، وهذا ما أشار إليه بقوله: وما كان الله ليضيع اعمالكم، إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم. والفرق بين الرأفة والرحمة، بعد اشتراكهما في أصل المعنى، أنّ الرأفة يختصّ بالمبتلى المفتاق، والرحمة أعمّ.

قوله تعالى: ( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) ، الآية تدلّ على أنّ رسول الله قبل نزول آية القبلة - وهي هذه الآية - كان يقلّب وجهه في آفاق السماء، وأنّ ذلك كان انتظاراً منه، أو توقّعاً لنزول الوحي في أمر القبلة، لما كان يحبّ أن يكرمه الله تعالى بقبلة تختصّ به، لا أنّه كان لا يرتضى بيت المقدّس قبلة، وحاشاً رسول الله من ذلك، كما قال تعالى: فلنولّينّك قبلة ترضيها، فإنّ الرضا بشئ لا يوجب السخط بخلافه بل اليهود على ما في الروايات الواردة في شأن نزول الآية كانوا يعيّرون المسلمين في تبعيّة قبلتهم، ويتفاخرون بذلك عليهم، فحزن رسول الله ذلك، فخرج في سواد اللّيل يقلّب وجهه إلى السماء ينتظر الوحي من الله سبحانه، وكشف همّه فنزلت الآية، ولو نزلت على البقاء بالقبلة السابقة لكانت حجّة له (صلّي الله عليه وآله وسلّم) على اليهود، وليس ولم يكن لرسول الله ولا للمسلمين عارفي استقبال قبلتهم، إذ ليس للعبد إلّا الإطاعة والقبول، لكن نزلت بقبلة جديدة، فقطع تعييرهم وتفاخرهم، مضافاً إلى تعيين التكليف، فكانت حجّة ورضى.

٣٢٨

قوله تعالى: ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) . الشطر البعض، وشطر المسجد الحرام هو الكعبة، وفي قوله تعالى شطر المسجد الحرام دون أن يقال: فولّ وجهك الكعبة، أو يقال: فولّ وجهك البيت الحرام، محاذاة للحكم في القبلة السابقة فإنّها كانت شطر المسجد الأقصى، وهي الصخرة المعروفة هناك، فبدّلت من شطر المسجد الحرام - وهي الكعبة - على أنّ اضافة الشطر إلى المسجد وتوصيف المسجد، بالحرام يعطي مزاياً للحكم تفوت لو قيل: الكعبة أو البيت الحرام.

وتخصيص رسول الله بالحكم أوّلاً بقوله فولّ وجهك، ثمّ تعميم الحكم له ولغيره من المؤمنين بقوله وحيث ما كنتم يؤيّد أنّ القبلة حوّلت، ورسول الله قائم يصلّي في المسجد - والمسلمون معه - فاختصّ الأمر به، أوّلاً في شخص صلاته ثمّ عقب الحكم العامّ الشامل له ولغيره، ولجميع الأوقات والأمكنة.

قوله تعالى: ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) ، وذلك لاشتمال كتابهم على صدق نبوّة رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم)، أو كون قبلة هذا النبيّ الصادق هو شطر المسجد الحرام، وأيّاماً كان فقوله: اوتوا الكتاب، يدلّ على اشتمال كتابهم على حقّيّة هذا التشريع، إمّا مطابقة أو تضمّناً، وما الله بغافل عمّا يعملون من كتمان الحقّ، واحتكار ما عندهم من العلم.

قوله تعالى: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ) ، تقريع لهم بالعناد واللجاج، وأنّ إباؤهم عن القبول ليس لخفاء الحقّ عليهم، وعدم تبيّنه لهم، فإنّهم عالمون بأنّه حقّ علماً لا يخالطه شكّ، بل الباعث لهم على بثّ الاعتراض وإثارة الفتنة عنادهم في الدين وجحودهم للحقّ، فلا ينفعهم حجّة، ولا يقطع إنكارهم آية فلو أتيتهم بكلّ آية ما تبعوا قبلتك لعنادهم وجحودهم، وما أنت بتابع قبلتهم، لأنّك على بيّنة من ربّك ويمكن أن يكون قوله: وما أنت نهياً في صورة خبر، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، وهم اليهود يستقبلون صخرة بيت المقدّس أينما كانوا، والنصارى يستقبلون المشرق أينما كانوا، فلا هذا البعض يقبل قبلة ذاك البعض، ولا ذاك يقبل قبلة هذا اتّباعاً للهوى.

٣٢٩

قوله تعالى: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ) ، تهديد للنبيّ، والمعنى متوجّه إلى اُمّته، وإشارة إلى أنّهم في هذا التمرّد إنّما يتّبعون أهوائهم وأنّهم بذلك ظالمون.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) ، الضمير في قوله يعرفونه، راجع إلى رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) دون الكتاب، والدليل عليه تشبيه هذه المعرفة بمعرفة الأبناء، فإنّ ذلك إنّما يحسن في الإنسان، ولا يقال في الكتاب، إنّ فلاناً يعرفه أو يعلمه، كما يعرف ابنه، على أنّ سياق الكلام - وهو في رسول الله، وما أوحي إليه من أمر القبلة، اجنبيّ عن موضوع الكتاب الّذي اُوتيه أهل الكتاب، فالمعنى أنّ أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم، وأنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون.

وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائباً، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حاضراً، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: أنّ أمره (صلّي الله عليه وآله وسلّم) واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلّم جماعة لكنّه يخصّ واحداً منهم بالمخاطبة إظهاراً لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخصّ شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثمّ بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانياً إلى ما كان فيه أوّلاً من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.

قوله تعالى: ( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) ، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء، وهو الشكّ والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) ومعناه للاُمّة.

قوله تعالى: ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) ، الوجهة ما يتوجّه إليه كالقبلة، و هذارجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبله، والإكثار من الكلام فيه، والمعنى أنّ كلّ قوم فلهم قبلة مشرّعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكماً تكوينيّاً ذاتيّاً لا يقبل التغيير

٣٣٠

والتحويل، فلا يهمّ لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فإنّ الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إنّ الله على كلّ شئ قدير.

واعلم أنّ الآية كما أنّها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها إشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الأحكام والآداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخصّ به من المقام إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى ومن أيّ مكان خرجت، وفي أيّ بقعة حللت فولّ وجهك وذكر بعضهم أنّ المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت، مكّة، الّتي خرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) منها كما قال تعالى:( من قريتك الّتي أخرجتك ) محمّد - ١٣، ويكون المعنى أنّ استقبال البيت حكم ثابت لك في مكّة وغيرها من البلاد والبقاع وفي قوله وأنّه للحقّ من ربّك وما الله بغافل عمّا تعملون تأكيد و تشديد.

قوله تعالى: ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) ، تكرار الجملة الاُولى بلفظها لعلّه للدلالة على ثبوت حكمها على أيّ حال، فهو كقول القائل، اتّق الله إذا قمت واتّق الله إذا قعدت، واتّق الله إذا نطقت، واتّق الله إذا سكتّ، يريد: التزم التقوى عند كلّ واحدة من هذه الأحوال ولتكن معك، ولو قيل اتّق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكّت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من الّتي خرجت منها وحيث ما كنتم من الأرض فولّوا وجوهكم شطره.

قوله تعالى: ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) ، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الّذي فيه أشدّ التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذّر عن الخلاف:

أحداها: أنّ اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أنّ النبيّ الموعود تكون قبلته الكعبة

٣٣١

دون بيت المقدّس، كما قال تعالى: وإنّ الّذين اُوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجّة لليهود على المسلمين بأنّ النبيّ ليس هو النبيّ الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجّتهم إلّا الّذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكنّ الّذين ظلموا منهم باتّباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنّهم ظالمون باتّباع الأهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين و اخشوني.

وثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبيّن معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة - ٣.

وثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مرّ معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) فاتحة الكتاب - ٦.

وذكر بعض المفسّرين أن اشتمال هذه الآية - وهي آية تحويل القبلة - على قوله وليتمّ نعمته عليكم ولعلّكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكّة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) الفتح - ٢ يدلّ على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكّة.

بيان ذلك أنّ الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدّس، لكونه قبلة لليهود، الّذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثمّ لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقّع تطهيرالبيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة الّتي اختصّ به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، وتعيّنها لأن تكون قبله يعبدالله إليها، ويكون المسلمون هم المختصّون بها، وهي المختصّة بهم، فهي بشارة بفتح مكّة. ثمّ لما ذكر فتح مكّة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً الآية.

٣٣٢

وهذا الكلام وإن كان بظاهره وجيها لكنّه خال عن التدبّر، فإنّ ظاهر الآيات لا يساعد عليه، إذ الدالّ على وعد إتمام النعمة في هذه الآية: ولأتمّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون، الآية إنّما هو لام الغاية، وآية سورة الفتح الّتي أخذها أنجازً لهذا الوعد ومصداقً لهذه البشارة أعني قوله تعالى:( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ، مشتملة على هذه اللّام بعينها، فالآيتان جميعاً مشتملتان على الوعد الجميل بإتمام النعمة، على أنّ آية الحجّ مشتملة على وعد إتمام النعمة لجميع المسلمين، وآية الفتح على ذلك لرسول الله خاصّة فالسياق في الآيتين مختلف.

ولو كان هناك آية تحكي عن أنجاز الوعد الّذي تشتمل عليه الآيتان لكان هو قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة - ٣، وسيجئ الكلام في معنى النعمة و تشخيص هذه النعمة الّتي يمتنّ بها الله سبحانه في الآية.

ونظير هاتين الآيتين في الاشتمال على عدة إتمام النعمة قوله تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) النحل - ٨١، وسيجئ إنشاء الله شئ من الكلام المناسب لهذا المقام في ذيل هذه الآيات.

قوله تعالى: ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ ) ، ظاهر الآية أنّ الكاف للتشبيه وما مصدريّة، فالمعنى: أنعمنا عليكم بأن جعلنا لكم البيت الّذي بناه إبراهيم ودعا له بما دعا من الخيرات والبركات قبلة كما أرسلنا فيكم رسولً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويعلّمكم الكتاب والحكمة ويزكّيكم مستجيبين لدعوة إبراهيم، إذ قال هو وابنه إسماعيل ربّنا وابعث فيهم رسولً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، وفيهم امتنانٌ عليهم بالأرسال كالامتنان بجعل الكعبة قبلة. ومن هنا يظهر أنّ المخاطب بقوله فيكم رسولً منكم، هو الُمّة المسلمة، وهو أولياء الدين من الُمّة خاصّة بحسب الحقيقة، والمسلمون جميعاً من آل إسماعيل، - وهم عرب مضر - بحسب الظاهر، وجميع العرب بل جميع المسلمين بحسب الحكم.

٣٣٣

قوله تعالى: ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ) ، ظاهرة آيات القرآن لمكان قوله يتلوا، فإنّ العناية في التلاوة إلى اللفظ دون المعنى. والتزكية هي التطهير، وهو إزالة الأدناس والقذارات، فيشمل إزالة الاعتقادات الفاسدة كالشرك والكفر، وإزالة الملكات الرذيلة من الأخلاق كالكبر والشحّ، وإزالة الأعمال والأفعال الشنيعة كالقتل والزنا وشرب الخمر وتعليم الكتاب والحكمة وتعليم مالم يكونوا يعلمونه يشمل جميع المعارف الأصليّه والفرعيّة.

واعلم: أنّ الآيات الشّريفة تشتمل على موارد من الالتفات، فيه تعالى بالغيبة ولتكلّم وحده ومع الغير، وفي غيره تعالى أيضاً بالغيبة والخطاب والتكلّم، والنكتة فيها غير خفيّة على المتدبّر البصير.

( بحث روائي)

في المجمع عن القمّيّ في تفسيره في قوله تعالى سيقول السفهاء الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال تحوّلت القبلة إلى الكعبة، بعد ما صلّى النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) بمكّة ثلث عشرة سنة إلى بيت المقدّس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدّس سبعة أشهر، قال ثمّ وجهه الله إلى مكّة، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيرون على رسول الله يقولون أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمراً، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سالم، وقد صلّى من الظهر ركعتين فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه:( قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها ؟

أقول: والروايات الواردة من طرق العامّة والخاصّة كثيرة مودعة في جوامع الحديث قريبة المضامين، وقد اختلف في تاريخ الواقعة، وأكثرها - وهو الأصحّ - أنّها كانت في رجب السنة الثانية من الهجرة الشهر السابع عشر منها وسيجئ بعض ما يتعلّق بالمقام في بحث على حدة إنشاالله.

٣٣٤

وعن طرق أهل السنّة والجماعة في شهادة هذه الاُمّة على الناس، وشهادة النبيّ عليهم أنّ الاُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا - وهو أعلم - فيؤتي بأمّة محمّد، فيشهدون، فتقول الاُمم من أين عرفتم ؟ فيقولون عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى بمحمّد، ويسأل عن حال أمّته، فيزكّيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد.

أقول: ما يشتمل عليه هذا الخبر - وهو مؤيّد بأخبار اُخر نقلها السيوطيّ في الدرّ المنثور وغيره - من تزكية رسول الله لاُمّته، وتعديله إيّاهم، لعلّه يراد به تعديله لبعضهم دون جميعهم، وإلّا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنّة، وكيف تصحّح أو تصوّب هذه الفجائع الّتي لا تكاد توجد، ولا أنموذجة منها في واحدة من الاُمم الماضية ؟ وكيف يزكّى ويعدّل فراعنة هذه الاُمّة وطواغيتها ؟ فهل ذلك إلّا طعن في الدين الحنيف ولعب بحقائق هذه الملّة البيضاء، على أنّ الحديث مشتمل على إمضاء الشهادة النظريّة دون شهادة التحمّل.

وفي المناقب في هذا المعنى عن الباقرعليه‌السلام ولا يكون شهداء على الناس إلّا الأئمّة والرسل، وأمّا الاُمّة فغير جايز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً الآية، فإن ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمرّ يطلب الله شهادته يوم القيامة، ويقبلها منه بحضرة جميع الاُمم الماضية ؟ كلّا ! لم يعن الله مثل هذا من خلقة، يعني الاُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم كنتم: خير أمّة أخرجت للناس وهم الاُمّة الوسطى وهم خير اُمّة أخرجت للناس.

أقول: وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية بالاستفادة من الكتاب.

وفي قرب الأسناد عن الصادقعليه‌السلام عن أبيه عن النبيّ قال ممّا أعطى الله أمّتي و

٣٣٥

فضلهم على سائر الاُمم أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبيّ - إلى أن قال - وكان إذا بعث نبيّاً جعله شهيداً على قومه، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل اُمّتي شهيداً على الخلق، حيث يقول ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحديث.

أقول: والحديث لا ينافي ما مرّ، فإنّ المراد بالاُمّة الاُمّة المسلمة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في حديث يصف فيه يوم القيامة، قالعليه‌السلام يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلّم أحد إلّا من أذن له الرحمن وقال صواباً، فيقام الرسول فيسأل فذلك قوله لمحمّد فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، وهو الشهيد على الشهداء، والشهداء هم الرسل.

وفي التهذيب عن أبي بصير عن أحدهماعليهم‌السلام ، قال قلت له أمره أن يصلّي إلى بيت المقدّس ؟ قال نعم ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى يقول وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه الآية؟

أقول: مقتضى الحديث كون قوله تعالى الّتي كنت عليها وصفاً للقبلة، والمراد بها بيت المقدّس، وأنّه القبلة الّتي كان رسول الله عليها، وهو الّذي يؤيّده سياق الآيات كما تقدّم.

ومن هنا يتأيّد ما في بعض الأخبار عن العسكريّعليه‌السلام : أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة فأراد الله أن يبيّن متّبع محمّد من مخالفيه باتّباع القبلة الّتي كرهها، ومحمّد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدّس أمرهم بمخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ليبيّن من يتّبع محمّداً فيما يكرهه - فهو مصدّقه وموافقه الحديث، وبه يتّضح أيضاً فساد ما قيل: إنّ قوله تعالى الّتي كنت عليها مفعول ثانٍ لجعلنا، والمعنى: وما جعلنا القبلة، هي الكعبة الّتي كنت عليها قبل بيت المقدّس، واستدلّ عليها بقوله تعالى إلّا لنعلم من يتّبع الرسول، وهو فاسد، ظهر فساده ممّا تقدّم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الزبيريّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له ألا تخبرني عن الإيمان، أقولٌ هو وعمل أم قولٌ بلا عمل ؟ فقال الإيمان عمل كلّه والقول بعض ذلك العمل، مفروض من الله، مبيّن في كتابه، واضح نوره ثابت حجّته، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه.

٣٣٦

ولمّا أن صرف الله نبيّه إلى الكعبة عن بيت المقدّس قال المسلمون: للنبيّ أرأيت صلاتنا الّتي كنّا نصلّي إلى بيت المقدّس، ما حالنا فيها وما حال من مضى من أمواتنا، وهم كانوا يصلّون إلى بيت المقدّس ؟ فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إنّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ، فسمّى الصّلاة إيماناً، فمن اتّقى الله حافظاً لجوارحه موفياً كلّ جارحةٍ من جوارحه بما فرض الله عليه لقي الله مستكملاً لإيمانه من أهل الجنّة، ومن خان في شئ منها أو تعدّى ما أمر الله فيها لقي الله ناقص الإيمان.

أقول: ورواه الكلينيّ أيضاً، واشتماله على نزول قوله وما كان الله ليضيع إيمانكم الآية، بعد تغيير القبلة لا ينافي ما تقدّم من البيان.

وفي الفقيه أنّ النبيّ صلّى إلى بيت المقدّس ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثمّ عيّرته اليهود فقالوا إنّك تابع لقبلتنا، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء، فلمّا أصبح صلّى الغداة، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية، ثمّ أخذ بيد النبيّ فحولّ وجهه إلى الكعبة، وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال، فكان أوّل صلاتة إلى بيت المقدّس وآخرها إلى الكعبة فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبله، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدّس وآخرها إلى الكعبة فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

أقول: وروى القمّيّ نحواً من ذلك، وأن النبيّ كان في مسجد بني سالم.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية، قال استقبل القبلة، ولا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإنّ الله يقول لنبيّه في الفريضة فولّ وجّهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره.

أقول: والأخبار في نزول الآية في الفريضة واختصاصها بها كثيرة مستفيضة.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه

٣٣٧

الآية، قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى، يقول الله تبارك وتعالى: والّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه يعني يعرفون رسول الله كما يعرفون أبنائهم لأنّ الله عزّوجلّ قد أنزل عليهم في التوراة والإنجيل والزبور صفة محمّد وصفة أصحابه ومهاجرته، وهو قوله تعالى: محمّد رسول الله والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تريهم ركّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة أصحابه، فلمّا بعثه الله عزّوجلّ عرفه أهل الكتاب كما قال جلّ جلاله: فلمّا جائهم ما عرفوا كفروا به.

أقول: وروى نحوا منه في الكافي عن عليّعليه‌السلام .

وفي أخبار كثيرة من طرق الشيعة أنّ قوله تعالى: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً الآية في أصحاب القائم، وفي بعضها أنّه من التطبيق والجرى.

وفي الحديث من طرق العامّة في قوله تعالى: ولاُتمّ نعمتي عليكم، عن عليّ تمام النعمة الموت على الإسلام.

وفي الحديث من طرقهم أيضاً تمام النعمة دخول الجنّة.

( بحث علمي)

تشريع القبلة في الإسلام، واعتبار الاستقبال في الصلاة - وهى عبادة عامّة بين المسلمين - وكذا في الذبائح، وغير ذلك ممّا يبتلى به عموم الناس أحوج الناس إلى البحث عن جهة القبلة وتعيينها وقد كان ذلك منهم في أوّل الأمر بالظنّ والحسبان ونوع من التخمين، ثمّ استنهض الحاجة العموميّة الرياضيّين من علمائهم أن يقرّبوه من التحقيق، فاستفادوا من الجداول الموضوعة في الزيجات لبيان عرض البلاد وطولها، واستخرجوا انحراف مكّة عن نقطة الجنوب في البلد، أي انحراف الخطّ الموصول بين البلد ومكّة عن الخطّ الموصول بين البلد ونقطة الجنوب (خطّ نصف النهار) بحساب الجيوب والمثلّثات ثمّ عيّنوا ذلك في كلّ بلدة من بلاد الإسلام، بالدائرة الهنديّة المعروفة المعيّنة لخطّ نصف النهار، ثمّ درجات الانحراف وخطّ القبلة.

٣٣٨

ثم استعملوا لتسريع العمل وسهولته الآلة المغناطيسيّة المعروفة بالحكّ، فإنّها بعقربتها تعيّن جهة الشمال والجنوب، فتنوب عن الدائرة الهنديّة في تعيين نقطة الجنوب وبالعلم بدرجة انحراف البلد يمكن للمستعمل أن يشخّص جهة القبلة.

لكن هذا السعي منهم - شكر الله تعالى سعيهم - لم يخل من النقص والاشتباه من الجهتين جميعاً. أمّا من جهة الاُولى: فإنّ المتأخّرين من الرياضيّين عثروا على أنّ المتقدّمين اشتبه عليهم الأمر في تشخيص الطول، واختلّ بذلك حساب الانحراف فتشخيص جهة الكعبة، وذلك أنّ طريقهم إلى تشخيص عرض البلاد - وهو ضبط ارتفاع القطب الشماليّ - كان اقرب إلى التحقيق، بخلاف الطريق إلى تشخيص الطول، وهو ضبط المسافة بين النقطتين المشتركتين في حادثةٍ سماويّة مشتركة كالخسوف بمقدار سير الشّمس حسّاً عندهم، وهو التقدير بالساعة، فقد كان هذا بالوسائل القديمة عسيراً وعلى غير دقّة لكن توفّر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهّل الأمر كلّ التسهيل، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق، حتّى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير، بالسردار الكابلي، - رحمة الله عليه - في هذه الأواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبليّ بالأصول الحديثة، وعمل فيه رسالته المعروفة، بتحفة الأجلّة في معرفة القبلة، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضيّ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.

ومن ألطف ما وفّق له في سعيه - شكر الله سعيه - ما أظهر به كرامة باهرة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في محرابه المحفوظ في مسجد النبيّ بالمدينة ٢٥. ٧٥. ٢٠

وذلك: أنّ المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض ٢٥ درجة وطول ٧٥ درجة ٢٠ دقيقة، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم) في مسجده، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في أمر قبله المحراب وربّما ذكروا في انحرافه وجوهاً لا تصدّقها حقيقة الأمر لكنّه - رحمه الله - أوضح أنّ المدينة على عرض ٢٤ درجة ٥٧ دقيقة وطول ٣٩ درجة ٥٩ دقيقة وانحراف. درجة ٤٥ دقيقة تقريباً. وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبيّ في قبلته الّتي وجّه وجهه إليها وهو في الصلاة، وذكر أنّ جبرئيل أخذ بيده وحوّل وجهه إلى الكعبة، صدق الله ورسوله.

٣٣٩

ثمّ استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزّاق البغائريّ رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأة بقعة من بقاع الأرض وبذلك تمّت النعمة في تشخيص القبلة.

وأمّا الجهة الثانية: وهي الجهة المغناطيسيّة، فإنّهم وجدوا أنّ القطبين المغناطيسيّين في الكرة الأرضيّة، غير منطبقين على القطبين الجغرافيّين منها، فإنّ القطب المغناطيسيّ الشماليّ مثلاً على أنّه متغيّر بمرور الزمان، بينه وبين القطب الجغرافيائيّ الشماليّ ما يقرب من ألف ميل، وعلى هذا فالحكّ لا يشخّص القطب الجنوبيّ الجغرافيّ بعينه، بل ربّما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، وقد أنهض هذا المهندس الرياضيّ الفاضل الزعيم حسين عليّ رزم آرا في هذه الأيّام وهي سنة ١٣٣٢ هجريّة شمسيّة على حلّ هذه المعضلة، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافيّ والمغناطيسيّ بحسب النقاط المختلفة، وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسيّ فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، واختراع حكّ يتضمّن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، وها هو اليوم دائر معمول - شكّر الله سعيه -.

( بحث اجتماعي)

لمتأمّل في شئون الاجتماع الإنسانيّ، والناظر في الخواصّ والآثار الّتي يتعقّبها هذا الأمر المسمّى بالاجتماع من جهة أنّه اجتماع لا يشكّ في أنّ هذا الاجتماع إنّما كونّته ثمّ شعبّته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطّبيعة الإنسانيّة، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعيّة فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفّق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته. ثمّ استشعرت واُلهمت بعلومٍ (صور ذهنيّة) وإدراكات توقعها على المادّة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الاُصول الاجتماعيّة، من الرئاسة والمرؤسيّة والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصّة، وسائر القواعد والنواميس العموميّة والآداب والرسوم القوميّة الّتي لا تخلو عن التحوّل والإختلاف

٣٤٠