الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154936
تحميل: 6943


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154936 / تحميل: 6943
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الموجود الخارجيّ في هذا الحكم فإنّ المعنى كيف ما كان يجوّز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان ومفهوم الإنسان الطويل، ومفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا. وأمّا تقسيم المنطقيّين المفهوم إلى الكلّيّ والجزئيّ، وكذا تقسيمهم الجزئيّ إلى الإضافيّ والحقيقيّ فإنّما هو تقسيم بالإضافة والنسبة، إمّا نسبة أحد المفهومين إلى الآخر وإمّا نسبته إلى الخارج، وهذا الوصف الّذي في المفاهيم - وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربّما نسمّيه بالإطلاق كما نسمّي مقابلة بالشّخصيّة أو الوحدة.

ثمّ الموجود الخارجيّ (ونعني به الموجود المادّيّ خاصّة) لما كان واقعاً تحت قانون التغيّر والحركة العموميّة كان لا محالة ذا امتداد منقسماً إلى حدود وقطعات، كلّ قطعة منها تغاير القطعة الاُخرى ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغيّر والتبدّل لأنّ أحد شيئين إذا عدم من أصله، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدّل هذا من ذاك، بل التبدّل الّذي يلازم كلّ حركة إنّما يتحقّق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعاً.

ومن هنا يظهر أنّ الحركة أمر واحد بشخصه يتكثّر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعيّن بكلّ نسبة قطعة تغاير القطعه الاُخرى، وأمّا نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصيّ، ونحن ربّما سمّينا هذا الوصف في الحركة إطلاقاً في مقابل النسب الّتي لها إلى كلّ حدّ حدّ، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود. ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعيّ موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأوّل فإنّ الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهنيّ لموجود ذهنيّ، هذا.

ثمّ إنّا لا نشكّ أنّ الإنسان موجود طبيعيّ ذو أفراد وأحكام وخواصّ وأنّ الّذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنسانيّ إلّا أنّ الخلقة لما أحسّت بنقص وجوده، واحتياجه إلى استكمالات لا تتمّ له وحده، جهّزه بأدوات وقوىّ تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أوّلاً وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانياً وبالتبع.

٣٨١

وأمّا حقيقة أمر الإنسان مع هذا الاجتماع الّذي تقتضية وتتحرّك إليه الطبيعة الإنسانيّة (إن صحّ إطلاق الاقتضاء والعلّية والتّحرّك في مورد الاجتماع حقيقة) فإنّ الفرد من الإنسان موجود شخصيّ واحد بالمعنى الّذي تقدّم من شخصيّته ووحدته، وهو مع ذلك واقع في الحركة، متبدّل متحوّل إلى الكمال، ومن هنا كان كلّ قطعة من قطعات وجوده المتبدّل مغايرة لغيرها من القطعات، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيّالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيّرات واحدة شخصيّة، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد - وهي الّتي نعبّر عنها بالطبيعة النوعيّة - فإنّها محفوظة بالأفراد وإن تبدّلت وعرض لها الفساد والكون، بمثل البيان الّذي مرّ في خصوص الطبيعة الفرديّة، فالطبيعة الشخصيّة موجوده متوجّهة إلى الكمال الفرديّ، والطبيعة النوعيّة موجودة مطلقة متوجّهة إلى الكمال.

وهذا الاستكمال النوعيّ لا شكّ في وجوده وتحقّقه في نظام الطبيعة، وهو الّذي نعتمد عليه في قولنا: إنّ النوع الإنسانيّ مثلاً متوجّه إلى الكمال، وأنّ الإنسان اليوم أكمل وجوداً من الإنسان الأوّليّ، وكذا ما تحكم به فرضيّة تحوّل الأنواع، فلو لا أنّ هناك طبيعة نوعيّة خارجيّة محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلاً لم يكن هذا الكلام إلّا كلاماً شعريّاً.

والكلام في الاجتماع الشّخصيّ القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، ونوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمرّ باستمراره والمتحوّل بتحوّله (لو صحّ أنّ الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجيّ لطبيعة خارجيّة !) نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصيّة والنوعيّة في التقييد والإطلاق.

فالاجتماع متحرّك متبدّل بحركة الإنسان وتبدّله - وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجّه بوجود مطلق - وهذا الواحد المتغيّر بواسطة نسبته وإضافته إلى كلّ حدّ حدّ تصير قطعة قطعة، وكلّ قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أنّ مطلق الاجتماع بالمعنى الّذي تقدّم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانيّة، فإنّ حكم الشخص شخص الحكم

٣٨٢

وفرده، وحكم المطلق مطلق الحكم (لا كلّيّ الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهوميّ فلا تغفل) ونحن لا نشكّ أنّ الفرد من الإنسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلّا أنّه متبدّل بتبدّلات جزئيّة بتبع التبدّلات الطارئة على موضوعه الّذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعيّ أنّه يتغذّى ويفعل بالإرادة ويحسّ ويتفكّر - وهو موجود مع الإنسان وباق ببقائه - وإن تبدّل طبق تبدّله في نفسه، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

ولمّا كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانيّة وخواصّها فمطلق الاجتماع (نعني به الاجتماع المستمرّ الّذي أوجدته الطبيعة الإنسانيّة المستمرّة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذ) من خواصّ النوع الإنسانيّ المطلق موجود معه باق ببقائه، وأحكام الاجتماع الّتي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، وإن تبدّلت بتبدّلات جزئيّة مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، وحينئذ صحّ لنا أن نقول: إنّ هناك أحكاماً اجتماعيّة باقية غير متغيّرة، كوجود مطلق الحسن والقبح، كما أنّ نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أنّ الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدّل اجتماع خاصّ إلى آخر خاصّ، والحسن المطلق والخاصّ كالاجتماع المطلق والخاصّ بعينه.

ثمّ إنّا نرى أنّ الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب له أن يجتلبها ويضمّها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذّي وجهاز التناسل مثلاً، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعاً بالتفريط فإنّه يناقض دليل الوجوب الّذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللّازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتّى يموت، أو يمرض، أو يتعطّل عن سائر قواه الفعّالة، بل عليه أن يتوسّط في جلب كلّ كمال أو منفعة، وهذا التوسّط هي العفّة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسّطاً بين نواقص وأضداد ومضارّ لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب

٣٨٣

عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسّط، من غير إفراط يضادّ سائر تجهيزاته أو تفريط يضادّ الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسّط هي الشجاعة، وطرفاها التهوّر والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.

فهذه أربع ملكاتٍ وفضائل تستدعيه الطبيعة الفرديّة المجهّزة، بأدواتها: العفّة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلّها حسنة - لأنّ معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الّذي تقدّم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة. وإذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضاً على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجوديّة ؟ وهل هو إلّا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلّا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية اُمنيّتها ؟

وإذا كان الفرد من الإنسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعيّ أيضاً كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعيّة - وهي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وبلوغه حظّه الّذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكلّ هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنسانيّ بحسنها المطلق ويعدّ مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.

فقد تبيّن بهذا البيان: أنّ في الاجتماع المستمرّ الإنسانيّ حسناً وقبحاً لا يخلو عنهما قطّ وأنّ أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائماً، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائماً، والطبيعة الإنسانيّة الاجتماعيّة تقضي بذلك، وإذا كان الأمر في الاُصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربّما يقع إختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق وهاك بيانه.

٣٨٤

أمّا قولهم: إنّ الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبيّ من الحسن والقبح وهو متغيّر مختلف بإختلاف المناطق والأزمنه والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهوميّ بمعنى الكلّيّة والإطلاق الوجوديّ بمعنى إستمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكلّيّان غير موجودين في الخارج لوصف الكلّيّة والإطلاق، لكنّهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وأمّا الحسن والقبح المطلقان المستمرّان بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرّاً باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإنّ غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائماً فهناك حسن وقبح دائماً.

وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أنّ من الواجب أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه أو أنّ جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أنّ الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أنّ العلم الّذي يتميّز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفّة، والشجاعة، والحكمة الّتي ذكرنا أنّ الاجتماع الإنسانيّ كيف ما فرض لا يحكم إلّا بحسنها وكونها فضائل إنسانيّة، وكذا كيف يتيسّر لإجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، وهو الحياء من شعب العفّة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغيّر النفس في هتك المقدّسات وهضم الحقوق، وهو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعيّة، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعيّ من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحقّ، وهو التواضع ؟ وهكذا الأمر في كلّ واحد واحد من فروع الفضائل.

وأمّا ما يزعمونه من إختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئيّة فليس من جهة إختلاف النظر في الحكم الاجتماعيّ بأن يعتقد قوم بوجوب اتّباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الإختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه.

٣٨٥

مثل أنّ الاجتماعات الّتي كانت تديرها الحكومات المستبدّة كانت تري لعرش الملك الاختيار التامّ في أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس ذلك لسوء ظنّهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنّه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلماً من مقام السلطنة بل إيفاءً بحقوقه الحقّة بزعمهم.

ومثل أنّ العلم كان يعيّر به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملّة فرنسا في القرون الوسطى، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أنّ العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضادّ المشاغل السلطانيّة.

ومثل أنّ عفّة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزّوج، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهنّ، وكذا عدّة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكنّ ذلك منهم لأنّ اجتماعهم الخاصّ لا يعدّها مصاديق للعفّة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع، لا لأنّ هذه الفضائل ليست فضائل عندهم. والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفّة الحاكم في حكمه والقاضي في قضائه، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدّساتهم، ويمدحون القناعة بما عيّنه القانون من الحقوق لهم، ويمدحون التواضع لأئمّتهم وهداتهم في الاجتماع.

وأمّا قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعيّ واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإنّ المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين الّتي قرّرتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لولا الإخلال بانتظامها وجريها، ولا محالة لها أحكام: من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة. والمراد بالمرام مجموع الفرضيّات الّتي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعنى أنّ الاجتماع والمرام متغايران بالفعليّة والقوّة، والتحقّق وفرض التحقّق، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الآخر، وكيف يكون الحسن والقبح، والفضيلة والرذيله الّتى عيّنها الاجتماع العامّ باقتضاء من الطبيعة الإنسانيّة

٣٨٦

متبدّلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس إلّا فرضاً من فارض ؟

ولو قيل: أن لا حكم للاجتماع العامّ الطبيعيّ من نفسه، بل الحكم للمرام، وخاصّة إذا كانت فرضيّة متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح، والفضيلة والرذيلة، وأنّها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمرّ من الطبيعة.

على أنّ هيهنا محذوراً آخر وهو أنّ الحسن والقبح وسائر الأحكام الاجتماعيّة - وهى الّتى تعتمد عليها الحجّة الاجتماعيّة وتتألّف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، ومن الممكن بل الواقع تحقّق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدّى ذلك إلى إرتفاع الحجّة المشتركة المقبولة عند عامّة الاجتماعات، ولم يكن التقدّم والنجاح حينئذ إلّا للقدرة والتحكّم. وكيف يمكن أن يقال: إنّ الطبيعة الإنسانيّة ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعيّة لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلّا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلّا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودىّ ؟

( بحث روائي آخر)

في متفرّقات متعلّقة بما تقدّم

عن الباقرعليه‌السلام قال: أتى رجل رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) فقال: إنّى راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنّك إن تقتل كنت حيّاً عند الله مرزوقاً وإن متّ فقد وقع أجرك على الله الحديث.

أقول: وقوله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): وإن متّ إلخ إشارة إلى قوله تعالى:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) النساء - ١٠٠، وفيه دلالة على أنّ الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في إسماعيل النبيّ الّذي سمّاه الله سبحانه صادق الوعد، قالعليه‌السلام إنّما سمّي صادق الوعد، لأنّه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّوجلّ صادق الوعد، ثمّ إنّ الرّجل أتاه بعد ذلك الوقت

٣٨٧

فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك الحديث.

أقول: وهذا أمر ربّما يحكم العقل العاديّ بكونه منحرفاً عن جادّة الاعتدال مع أنّ الله سبحانه جعله منقبة لهعليه‌السلام حتّى عظّم قدره ورفع ذكره بقوله:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم - ٥٥، فليس ذلك إلّا أنّ الميزان الّذي ووزن به هذا العمل غير الميزان الّذي بيد العقل العاديّ، فللعقل العاديّ تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، وكلمة الله هي العليا، ونظائر هذه القضيّة كثيرة مرويّة منقولة عن النبيّ والأئمّة والأولياء.

فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

قلت: أمّا حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محلّه، لكنّه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، وقد عرفت فيما تقدّم أنّ أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الّذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعاً يحكم فيه وعليه، وهذا سبيل المعارف اللإلهيّة والظاهر أنّ إسماعيل النبيّعليه‌السلام كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك ههنا حتّى تعود إلىّ ثمّ التزم على إطلاق قوله صوناً لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظاً لما ألقى الله في روعه وأجراه على لسانه. وقد روي نظيره عن النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلّم): إنّه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعده النبيّ بانتظاره حتّى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع، فانتظره النبيّ ثلاثة أيّام في مكانه الّذي وعده حتّى مرّ به الرجل بعد الثلاثة، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد، الحديث.

وفي الخصائص للسيّد الرضيّ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: - وقد سمع رجلاً يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون - يا هذا إنّ قولنا: إنّا لله إقرار منّا بالملك، وإنّا إليه راجعون إقرار منّا بالهلاك.

أقول: وقد اتّضح معناه بما تقدّم ورواه في الكافي مفصّلاً.

وفي الكافي: عن إسحاق بن عمّار وعبدالله بن سنان، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله عزّوجلّ: إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً فمن أقرضني

٣٨٨

فيها قرضاً أعطيته بكلّ واحدة عشراً إلى سبعمأة ضعف، ومن لم يقرضني قرضاً وأخذت منه شيئاً قسراً أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها عنّي، ثمّ قال أبوعبدالله: قول الله: الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربّهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، ورحمة اثنتان، وأولئك هم المهتدون ثلاث، ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً.

أقول: والرواية مرويّة بطرق اُخرى متقاربة.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام : الصلاة من الله رحمة، ومن الملائكة التزكية، ومن الناس دعاء.

أقول: وفي معناه عدّة روايات اُخر، وبين هذه الرواية وما تقدّمها تناف ظاهراً حيث أنّ الرواية السابقة تعدّ الصلاة غير الرحمة، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربّهم ورحمة، وهذه الرّواية تعدّها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدّم من البيان.

٣٨٩

( سورة البقرة الآية ١٥٨)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ  فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا  وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( ١٥٨ )

( بيان)

الصفا والمروة موضعان بمكّة يأتي الحجّاج بينهما بعمل السعي، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأة وستّون ذراعاً ونصف ذراع على ما قيل، وأصل الصفا في اللّغة الحجر الصلب الأملس، وأصل المروة الحجر الصّلب، والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، ومنه المشعر، ومنه قولنا: أشعر الهدى، أي أعلمه، والحجّ هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرّر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لأنّ الديار تعمر بالزيارة، وهو في اصطلاح الشرع زيارة، البيت بالطريق المعهود، والجناح الميل عن الحقّ والعدل، ويراد به الإثم، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز، والتطوّف من الطواف، وهو الدوران حول الشئ، وهو السير الّذي ينتهي آخره إلى أوّله، ومنه يعلم أن ليس من اللّازم كونه حول شئ وإنّما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوّف في الآية فإنّ المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرّات متوالية، والتطوّع من الطوع بمعنى الطاعه، وقيل: إنّ التطوّع يفارق الإطاعة في أنّه يستعمل في المندوب خاصّة، بخلاف الإطاعة ولعلّ ذلك - لو صحّ هذا القول - بعناية أنّ العمل الواجب لكونه إلزاميّاً كأنّه ليس بمأتيّ به طوعاً، بخلاف المأتيّ من المندوب فإنّه على الطوع من غير شائبة، وهذا تلطّف عنائيّ وإلّا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الأمر الإلزاميّ. قال تعالى:( قَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) فصّلت - ١١، وأصل باب التفعّل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميّز أي أخذ، يميّز وتعلّم الشئ أي أخذ يعلمه، وتطوّع خيراً أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللّغة على اختصاص

٣٩٠

التطوّع بالامتثال الندبيّ إلّا أنّ توجبه العناية العرفيّة المذكورة.

فقوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ) إلى قوله: يطوّف بهما يشير إلى كون المكانين معلّمين بعلامة الله سبحانه، يدلّان بذلك عليه، ويذكّر أنّه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقيّة الأشياء جميعاً يدلّ على أنّ المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينيّة بل هما شعيرتان بجعله تعالى إيّاهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكّران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدلّ على أنّه تعالى قد شرع فيهما عبادة متعلّقة بهما، وتفريع قوله:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) إنّما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة، لا لإفادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوّف لا أن ينفي ذمّه، فإنّ حاصل المعنى أنّه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضرّكم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع، ولو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أنّ الصفا والمروة، لما كانا من شعائر الله فإنّ الله يحبّ السعي بينهما - وهو ظاهر - والتعبير بأمثال هذا القول الّذي لا يفيد وحده الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، وكقوله تعالى في الجهاد:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) الصفّ - ١١، وفي الصوم( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة - ١٨٤، وفي القصر( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ) النساء - ١٠١.

قوله تعالى: ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ، إن كان معطوفاً على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى:( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ) ، كان كالتعليل لتشريع التطوّف بمعنى آخر أعمّ من العلّة الخاصّة الّتي تبيّن بقوله: إنّ الصفا والمروة، وكان المراد بالتطوّع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة، وإن كان استينافاً بالعطف إلى أوّل الآية كان مسوقاً لإفادة محبوبيّة التطوّف في نفسه إن كان المراد بتطوّع الخير هو التطوّف أو مسوقاً لإفادة محبوبيّة الحجّ والعمرة إن كان هما المراد بتطوّع الخير هذا.

والشاكر والعليم اسمان من أسماء الله الحسنى، والشكر هو مقابلة من اُحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لساناً أو عملاً كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء

٣٩١

الجميل الدالّ على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، ويكشف عن إنعامه، والله سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كلّ الإحسان لا يد لأحد عنده حتّى يستوجبه الشكر إلّا أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة الّتي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان وهو إحسان على إحسان. قال تعالى:( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن - ٦٠، وقال تعالى:( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) الدهر - ٢٢، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ: عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام : سألته: عن السعي بين صفا والمروة فريضة هي أم سنّة ؟ قال: فريضة، قلت: أليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أنّ رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتّى اُعيدت الأصنام. قال: فأنزل الله، إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما، أي والأصنام عليها.

أقول: وعن الكافي ما يقرب منه.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في حديث حجّ النبيّعليه‌السلام : بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فأبدء بما بدء الله عزّوجلّ، وإنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شئٌ صنعه المشركون فأنزل الله إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما.

أقول: ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، وهو ظاهر، وقولهعليه‌السلام في الرواية فأبدء بما بدء الله ملاك التشريع، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرّات بين الصفا والمروة أنّ السنّة جرت بذلك.

٣٩٢

وفي الدرّ المنثور: عن عامر الشّعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهليّة إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلمّا قدم رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم) قالوا: يا رسول الله إنّ الصفا والمروة إنّما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إنّ الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الّذي كان عليه، وأثبت المروة من جهة الصنم الّذي كان عليه موثباً.

أقول: وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.

ومقتضى جميع هذه الروايات أنّ الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حجّ فيها المسلمون، وسورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة، ومن هنا يستنتج أنّ الآية غير متّحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فإنّها نزلت في السنة الثانية من الهجرة كما تقدّم، ومع الآيات الّتى في مفتتح السورة، فإنّها نزلت في السنة الاُولى من الهجرة فللآيات سياقات متعدّدة كثيرة، لا سياق واحد.

٣٩٣

( سورة البقرة الآيات ١٥٩ - ١٦٢)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ  أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ( ١٥٩ ) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ  وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٦٠ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ١٦١ ) خَالِدِينَ فِيهَا  لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( ١٦٢ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ ) ، الظاهر - والله أعلم - أنّ المراد بالهدى ما تضمّنه الدين الإلهيّ من المعارف والأحكام الّذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبيّنات الآيات والحجج الّتي هي بيّنات وأدلّة وشواهد على الحقّ الّذي هو الهدى، فالبيّنات في كلامه تعالى وصف خاصّ بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الإخفاء - أعمّ من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ ) ، أفاد أنّ كتمانهم إنّما هو بعد البيان والتبيّن للناس، لا لهم فقط، وذلك أنّ التبيّن لكلّ شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كلّ إعلام عموميّ وتبيين مطلق، بل إنّما يكون باتّصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل، فالعالم يعدّ من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام: فإذا بيّن الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق

٣٩٤

بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الّذي عدّه الله سبحانه سبباً لإختلاف الناس في الدين وتفرّقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلّا فالدين فطريّ تقبله الفطرة وتخضع له القوّة المميّزة بعد ما بيّن لها، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، فالدّين فطريّ على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قوليّ، ولا محالة ينتهي هذا الثّاني إلى ذلك الأوّل فافهم ذلك.

ولذلك جمع في الآية بين كون الدّين فطريّاً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: فطرة الله الّتي فطر الناس عليها، وقال: لكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالى:( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة - ٢١٣، فأفاد أنّ الإختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنّما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالإختلافات الدينيّة والانحراف عن جادّة الصواب معلول بغى العلماء بالإخفاء والتأويل والتحريف، وظلمهم، حتّى أن الله عرّف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال:( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الأعراف - ٤٤، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فقد تبيّن أنّ الآية مبتنية على الآية أعني: أنّ قوله تعالى: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمّةً واحدة فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلّا الّذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغياً بينهم الآية، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللّعن من الله، واللّعن من كلّ لاعن، وقد كرّر اللّعن

٣٩٥

لأنّ اللّعن مختلف فإنّه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللّعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدلّ على توجيه كلّ اللعن من كلّ لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإنّ الّذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلّا السعادة الحقيقيّة الدينيّة وهذه السعادة لما كانت مبيّنة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلّا بالردّ والجحود، وكلّ هذا الحرمان إنّما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبيّن له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبّثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفّوا عن بثّه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: أنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار - إلى قوله - أجمعين الآية فإنّ الظاهر أن قوله: أنّ للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ) الآية، استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبيّن أن يتبيّن أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبيّنوا ما كتموه للناس وأنّهم كانوا كاتمين وإلّا فلم يتوبوا بعد لأنّهم كاتمون بعد بكتمان أنّهم كانوا كاتمين.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ) ، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنّتهم في قبول الحقّ فإنّ من لا يدين بدين الحقّ لا لعناد واستكبار بل لعدم تبيّنه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصّة في آيات هبوط آدم المشتملة على أوّل تشريع شرّع لنوع الإنسان، قال تعالى:( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى - إلى قوله -وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، فالمراد بالّذين كفروا في الآية هم المكذّبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكمٌ من الله سبحانه أن يلحق بهم كلّ لعن لعن به ملك

٣٩٦

من الملائكة أو أحد من الناس جميعاً من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه:( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر - ٣٥، فجعل جميع اللّعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللّعن العامّ المطلق ونظراؤه فيه، فما أشدّ لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الانفال - ٣٧، ما يتعلّق بهذا المقام إنشاء الله العزيز.

قوله تعالى: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) ، أي في اللّعنة، وقوله: لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللّعنة دلالة على أنّ اللعنة تتبدّل عليهم عذاباً.

واعلم أنّ في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الاُولى من التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأنّ المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتدّ إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللّعن ليبلغ في الشدّة كلّ مبلغ، ثمّ التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلّم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرأفة، بإلقاء كلّ نعت وطرح كلّ صفة وتصدّى الأمر بنفسه تعالى وتقدّس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالّتي يستفاد من قولنا مثلاً: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربّهم عليهم، ثمّ التفت في الآية الثالثة من التكلّم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاُولى.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن بعض أصحابنا عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ: إنّ الّذين يكتمون الآية، قال: نحن نعني بها - والله المستعان - إنّ الواحد منّا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلّا أن يبيّن للناس من يكون بعده.

وعن الباقرعليه‌السلام : في الآية، قال: يعني بذلك نحن، والله المستعان.

وعن محمّد بن مسلم قالعليه‌السلام : هم أهل الكتاب.

٣٩٧

أقول: كلّ ذلك من قبيل الجري والانطباق، وإلّا فالآية مطلقة.

وفي بعض الروايات عن عليّعليه‌السلام : تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.

وفي المجمع عن النبيّ في الآية، قال: من سأل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، وهو قوله: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

أقول: والخبران يؤيّدان ما قدّمناه.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: ويلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، وقد قالوا: هوامّ الأرض.

أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى:( وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) هود - ١٨، فإنّهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، والقائلون صواباً. وقوله: وقالوا: هوامّ الأرض، هو منقول عن المفسّرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما، وربّما نسب في بعض الروايات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدي، في عليّ.

أقول: وهو من قبيل الجري والانطباق.

٣٩٨

( سورة البقرة الآيات ١٦٣ - ١٦٧)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ١٦٣ ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ١٦٤ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ  وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ  وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( ١٦٥ ) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ( ١٦٦ ) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا  كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ  وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( ١٦٧ )

( بيان)

الآيات متّحدة متّسقة ذات نظم واحد - وهي تذكر التوحيد - وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.

قوله تعالى: ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد ) ، قد مرّ معنى الإله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أوّل الكتاب، وأمّا الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهيّة الّتي لا نحتاج في تصوّرها إلى معرّف يدلّنا عليها، والشئ ربّما يتّصف بالوحدة من حيث وصفٍ من أوصافه، كرجل واحد، وعالم واحد، وشاعر واحد، فيدلّ به على أنّ الصفة الّتي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرّضها الكثرة، فإنّ الرجوليّة الّتي في زيد مثلاً - وهو رجل واحد - ليست منقسمة بينه وبين غيره، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلاً - وهما رجلان - فإنّه

٣٩٩

منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - وهي الرجوليّة - واحد لا يقبل الكثرة، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه، وقدرته، وحياته، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة. والله سبحانه واحد، من جهة أنّ الصفة الّتي لا يشاركه فيها غيره، كالاُلوهيّة فهو واحد في الاُلوهيّة، لا يشاركه فيها غيره تعالى، والعلم و القدرة والحياة، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحياة لا كقدرة غيره وحياته، وواحد من جهة أنّ الصفات الّتي له لا تتكثّر ولا تتعدّد إلّا مفهوماً فقط، فعلمه وقدرته وحياته جميعها شئٌ واحد هو ذاته، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحياته وحيّ بعلمه، لا كمثل غيره في تعدّد الصفات عيناً ومفهوماً، وربّما يتّصف الشئٌ بالوحدة من جهة ذاته، وهو عدم التكثّر والتجزّي في الذات بذاته، فلا تتجزّى إلى جزء وجزء، وإلى ذات واسم وهكذا. وهذه الوحدة هي المسمّاة بأحديّة الذات، ويدلّ على هذا المعنى بلفظ أحد، الّذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلّا إذا وقع في حيّز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحداً أو كثيراً، لأنّ الوحدة مأخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جائني واحد فإنّ هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لأنّ الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجوليّة في رجل واحد مثلاً فاحتفظ بهذا الاجمال حتّى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) الإخلاص - ١، إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فقوله: وإلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الاُلوهيّة بالله عزّاسمه، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى، وذلك أنّ لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدلّ على أزيد من مفهوم الوحدة العامّة الّتي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلّا بعضها فهناك وحدة عدديّة ووحدة نوعيّة ووحدة جنسيّة وغير ذلك، فيذهب وهم كلّ من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى. ولو كان قيل: والله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأنّ أرباب الشرك يرون أنّه تعالى إله واحد، كما أنّ كلّ واحد من آلهتهم إله واحد، ولو كان قيل:

٤٠٠