الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154864
تحميل: 6940


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154864 / تحميل: 6940
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وإلهكم واحد لم يكن فيه نصّ على التّوحيد، لإمكان أن يذهب الوهم إلى أنّه واحد في النوع، وهو الاُلوهيّة، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، والبغل واحد، مع كون كلّ منهما متعدّداً في العدد، لكن لما قيل: وإلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد - وهو في مقابل إلهين إثنين وآلهة كثيرة - على قوله: إلهكم كان نصّاً في التوحيد بقصر أصل الاُلوهيّة على واحد من الإلهيّ الّتى اعتقدوا بها.

قوله تعالى: ( لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) ، جئ به لتأكيد نصوصيّة الجملة السابقة في التوحيد ونفي كلّ توهّم أو تأويل يمكن أن يتعلّق بها، والنفي فيه نفي الجنس، والمراد بالإله ما يصدّق عليه الإله حقيقة وواقعاً، وحينئذ فيصّح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، والتقدير لا إله بالحقيقة والحقّ بموجود، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعاً لا منصوباً فلفظ إلّا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، والمعنى لا إله غير الله بموجود.

فقد تبيّن أنّ الجملة أعني قوله: لا إله إلّا هو، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيّلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه، كما توهّمه كثيرون، ويشهد بذلك أنّ المقام إنّما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتاً لوحدته في الاُلوهيّة لا الإثبات والنفي معاً، على أنّ القرآن الشريف يعدّ أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيّاً لا يتوقّف في التصديق العقليّ به، وإنّما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، والفاطريّة، والعلم، والقدرة، وغير ذلك.

وربّما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنّه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنّه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوى الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها، وربّما يجاب عنه بتقدير حقّ، والمعنى لا معبود حقّ إلّا هو.

قوله تعالى: ( الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ، قد مرّ الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة وبذكر الاسمين يتمّ معنى الربوبيّة، فإليه، تعالى ينتهي كلّ عطيّة عامّة، بمقتضى رحمانيّته: وكلّ عطيّة خاصّة واقعة في طريق الهداية والسعادة

٤٠١

الاُخرويّة بمقتضى رحيميّته.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) إلى آخر الآية، السياق كما مرّ في أوّل البيان يدلّ على أنّ الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمّنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم الآية، فإنّ الآية تنحلّ بحسب المعنى إلى أنّ لكلّ شئ من هذه الأشياء إلهاً، وأنّ إله الجميع واحد وأنّ هذا الإله الواحد هو إلهكم، وأنّه رحمن مفيض للرحمة العامّة، وأنّه رحيم يسوق إلى سعادة الغاية - وهي سعادة الآخرة - فهذه حقائق حقّة، وفي خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنّهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالّة عليها عند قوم يعقلون.

ولو كان المراد إقامة الحجّة على وجود إله الإنسان أو أنّ إله الإنسان واحد لما كان الجميع إلّا آية واحدة دالّة على ذلك من طريق اتّصال التدبير، ولكان حقّ الكلام في الآية السابقة أن يقال: وإلهكم واحد لا إله إلّا هو، فالآية مسوق للدلالة على الحجّة على وجود الإله وعلى وحدته بمعنى أنّ إله غير الإنسان من النظام الكبير واحد وأنّ ذلك بعينه إله الإنسان.

وإجمال الدلالة أنّ هذه السماوات الّتي قد علتنا وأظلّتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، والأرض الّتي قد أقلّتنا وحملتنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب بالتحوّلات والتقلّبات كإختلاف الليل والنهار، والفلك الجارية، والأمطار النازلة، والرياح المصرفة، والسحب المسخّرة اُمور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكلّ منها إله موجد (وهذا هو الحجّة الاُولى).

ثمّ إنّ هذه الأجرام الجوّيّة المختلفة بالصغر والكبر واللبعد والقرب (وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغة الفحص العلمي ما يعادل:

٣٣.......................ر. من سانتيمتر مكعّب والواحد في الكبر ما يعادل الملابين من حجم الأرض وهو كرة يعادل قطرها ٩٠٠٠ ميلاً تقريباً، واكتشف من المسافة بين جرمين علويّين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نوريّة، والسنة النوريّة من المسافة تعدل ٣٦٥ * ٢٤ * ٦٠ * ٦٠ * ٣٠٠٠٠٠ كيلومتر تقريباً)، فانظر إلى هذه

٤٠٢

الأرقام الّتي تدهش اللّب وتبهت الفكر واقبض ما أنت قاض في غرابة الأمر وبداعتة تفعل البعض منها في البعض، وتنفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامّة، وإفاضة النور والجرارة وتحيي بذلك سنّة الحركة العامّة والزمان العموميّ، وهذا نظام عامّ دائم تحت قانون ثابت، حتّى أنّ النسبيّة العموميّة القاضية بالتغيّر في قوانين الحركة في العالم الجسمانيّ لا تتجافى عن الاعتراف بأنّ التغيير العموميّ أيضاً محكوم قانون آخر ثابت في التغيّر والتحوّل، ثمّ إنّ هذه الحركة والتحوّل العموميّ تتصوّر في كلّ جزء من أجزاء العالم بصورة خاصّة كما بين الشمس الّتي لعالمنا مع منظومتها ثمّ تزيد ضيقاً في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختصّ بها من الحوادث والأجرام، كالقمر والليل والنهار، والرياح والسحب والأمطار، ثمّ تتضيّق الدائرة، كما في المكوّنات الأرضيّة: من المعادن والنبات والحيوان وسائر التراكيب، ثمّ في كلّ نوع من أنواعها، ثمّ تتضيّق الدائرة حتّى تصل النوبة إلى العناصر، ثمّ إلى الذرّات، ثمّ إلى أجزاء الذرّات حتّى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلميّ الميسور للإنسان إلى هذا اليوم، وهي الالكترون، والبروتون، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسيّة جرم مركزيّ وأشياء تدور حولها دوران الكواكب على مداراتها الّتي حول شمسها وسبحها في أفلاكها.

ففي أيّ موقف من هذه المواقف وقف الإنسان شاهد نظاماً عجيباً ذا تحوّلات وتغيّرات، يحفظ بها أصل عالمه، وتحيى بها سنّة إلهيّة لا تنفد عجائبه، ولا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها وإن كان واحداً، ولا اتّفاق في طيّها وإن كان نادراً شارداً، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها، وكلّما ركّبت عدّة منها أخذاً من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد ذا نظام واحد، وتدبير متّصل حتّى ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه توسّع العلم إلى اليوم بالحسّ المسلّح والأرصاد الدقيقة، وكلّما حلّلتها وجزّيتها راجعاً من الكلّ إلى الجزء حتّى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئاً ذا نظام واحد وتدبير متّصل، على أنّ كلّ اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتاً وحكماً شخصاً.

٤٠٣

فالعالم شئ واحد والتدبير متّصل، وجميع الأجزاء مسخّرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها، وعنت الوجوه للحيّ القيّوم، فإله العالم الموجد له والمدبّر لأمره واحد (وهذا هو البرهان الثاني).

ثمّ إنّ الإنسان الّذي هو موجود أرضيّ يحيى في الأرض ويعيش في الأرض ثمّ يموت ويرجع إلى الأرض لا يفتقر في شئ من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلّيّ الّذي لمجموع هذا العالم المتّصل تدبيره، الواحد نظامه: فهذه الأجرام العلويّة في إنارتها وتسخينها، وهذه الأرض في إختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها الّتي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي الّتي يحتاج إليها الإنسان في حاجته المادّيّة وتدبير وجوده وبقائه - والله من ورائهم محيط - فإلهها الموجد لها المدبّر لأمرها هو إله الإنسان الموجد له والمدبّر لأمره (وهذا هو البرهان الثالث).

ثمّ إنّ هذا الإله هو الّذي يعطي كلّاً ما يحتاج إليه في سعادته الوجوديّة وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة اُخرويّة غائيّة فإنّ الآخرة عقبى هذه الدار، وكيف يمكن أن يدبّر عاقبة الأمر غير الّذي يدبّر نفس الأمر ؟ (وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم).

وعند هذا تمّ تعليل الآية الاُولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة، إنّ، الدالّة على التعليل إشارة إلى ذلك - والله العالم -.

فقوله تعالى:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، إشارة إلى ذوات الأجرام العلويّة والأرض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، وموادّ تتألّف منها ذواتها، وتحوّل بعضها إلى بعض، ونقص أو زيادة تطرؤها وتركّب أو تحلّل يعرضها، كما قال:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) الرعد - ٤١، وقال:( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) الأنبياء - ٣٠.

قوله تعالى: ( وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) ، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضين لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعيّة، وهي الحركة

٤٠٤

اليوميّة الّتي للأرض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائماً مع الشمس فتكتسب النور وتمصّ الحرارة، ويسمّى النهار، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظلّ المخروطيّ وتبقى مظلماً وتسمّى الليل، ولا يزالان يدوران حول الأرض، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الاستوائيّة أو المعدّل عن سطح المدار الأرضيّ في الحركة الانتقاليّة إلى الشمال والجنوب، وهو الّذي يوجب ميل الشمس من المعدّل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خطّ الاستواء وفي القطبين، أمّا القطبان فلهما في كلّ سنة شمسيّة تامّة يوم وليلة واحدة كلّ منهما يعدل نصف السنة، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس، وأمّا النقطة الاستوائيّة فلها في كلّ سنة شمسيّة ثلثمأة وخمس وستّون ليلاً ونهاراً تقريباً، والنهار والليل فيها متساويان، وأمّا بقيّة المناطق فيختلف النهار والليل فيها عدداً وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائيّة ومن القطبين، وهذا كلّه مشروح مبيّن في العلوم المربوطة بها.

وهذا الإختلاف هو الموجب لإختلاف ورود الضوء والحرارة، وهو الموجب لإختلاف العوامل الموجبة لإختلاف حدوث التراكيب الأرضيّة والتحوّلات في كينونتها ممّا ينتفع بإختلافها الإنسان انتفاعات مختلفة.

قوله تعالى: ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ) ، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الأرض إلى قطر آخر.

وفي عدّ الفلك في طيّ الموجودات والحوادث الطبيعيّة الّتي لا دخل لاختيار الإنسان فيها كالسماء والأرض وإختلاف الليل والنهار دلالةٌ على أنّها أيضاً تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فإنّ نسبة الفعل إلى الإنسان بحسب الدقّة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الأسباب الطبيعيّة، والاختيار الّذي يتبجّح به الإنسان لا يجعله سبباً تامّاً مستقلّاً غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقلّ احتياجاً إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الأسباب الطبيعيّة، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله

٤٠٥

سبحانه بين أن يفعل قوّة طبيعيّة في مادّة فتوجد بالفعل و الانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلاً، وبين أن يفعل الإنسان بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادّة صورة من الصور كصورة السفينة مثلاً في أنّ الجميع تنتهي إلى صنع الله وإيجاده لا يستقلّ شئ مستغنياً عنه تعالى في ذاته وفعله.

فالفلك أيضاً مثل سائر الموجودات الطبيعيّة تفتقر إلى الإله في وجودها وتفتقر إلى الإله في تدبير أمرها من غير فرق، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصافات - ٩٦، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الأصنام الّتي اتّخذوها آلهة فإنّ من المعلوم أنّ الصنم ليس إلّا موجوداً صناعيّاً كالفلك الّتي تجري في البحر، وقال تعالى:( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ) الرحمن - ٢٤، فعدّها ملكاً لنفسه، وقال تعالى:( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إبراهيم - ٣٢، فعدّ تدبير أمرها راجعاً إليه.

( كلام في استناد مصنوعات الإنسان إلى الله سبحانه)

فما أغفل هؤلاء الّذين يعدّون الصناعيّات من الأشياء الّتي يعملها الإنسان مصنوعة مخلوقة للإنسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عزّ اسمه مستندين إلى أنّها مخلوقة لإرادة الإنسان واختياره.

فطائفة منهم - وهم أصحاب المادّة من المنكرين لوجود الصانع - زعموا أنّ حجّة الملّيّين في إثبات الصانع: أنّهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادّيّة ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلّيّة والمعلوليّة في الأشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها - وهي مجهولة لهم بعد - فأنتج ذلك القول بأنّ لهذه الحوادث المجهولة العلّة علّة مجهولة لكنّه هي وراء عالم الطبيعة، وهو الله سبحانه، فالقول بأنّ الصانع موجود فرضيّة أوجب افتراضها ما وجده الإنسان الاُولى من الحوادث المادّيّة المجهولة العلل كالحوادث الجوّيّة وكثير من الحوادث الأرضيّة المجهولة العلل، وما وجده من الحوادث والخواصّ الروحيّة الّتي لم يكشف العلوم عن عللها المادّيّة حتّى اليوم.

٤٠٦

قالوا: وقد وفّق العلوم في تقدّمها الحديث لحلّ المشكل في الحوادث المادّيّة وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضيّة أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادّيّة المجهولة العلل إلى علل ورائها، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحيّة إلى عللها، وانتهائها إلى علّة مجرّدة، وتقدّم البحث في الكيمياء الاليّ جديداً يعدنا وعداً حسناً أن سيطّلع الإنسان على علل الروح ويقدر على صنعة الجراثيم الحيويّة وتركيب أيّ موجود روحيّ وإيجاد أيّ خاصّة روحيّة، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضيّة المذكورة ويخلق الإنسان في الطبيعة أيّ موجود شاء من الروحيّات كما يخلق اليوم أيّ شئ شاء من الطبيعيّات، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلّا إلى علّة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه.

وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلاً من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أنّ الإلهيّين من أوّل ما أذعنوا بوجود إله للعالم - ولن يوجد له أوّل - أثبتوا هذه العلّة الموجدة لجميع العالم، وبين أجزائه حوادثٌ معلومة العلل - وفيها حوادث مجهولة العلل - والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علّة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء.

فالمثبتون - ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدء لظهورهم في تاريخ حياة النوع الإنسانيّ - أثبتوا لجميع العالم صانعاً واحداً أو كثيراً (وإن كان القرآن يثبت تقدّم دين التوحيد على الوثنيّة، وقد بيّن ذلك الدكتور ماكس موللّر الآلمانيّ المستشرق صاحب التقدّم في حلّ الرموز السنسكريتيّة) وهم حتّى الإنسان الاُولى منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادّيّة، فإثباتهم، إلهاً صانعاً لجميع العالم استنادا إلى قانون العلّيّة العامّ ليس لأجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتّى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الإله واستغناء البعض الآخر عنه، بل لإذعانهم بأنّ هذا العالم المؤلّف من سلسلة علل ومعلولات طبيعيّة بمجموعها ووحدانيّتها لا يستغني عن الحاجة إلى علّة فوق العلل تتكّي عليها جميع التأثيرات والتأثّرات الجارية بين أجزائه، فإثبات هذه العلّة العالية لا يبطل قانون العلّيّة العامّ الجاري بين اجزاء العالم أنفسها، ولا وجود

٤٠٧

العلل المادّيّة في موارد المعلولات المادّيّة تغني عن استنادها الجميع إلى علّة عالية خارجة من سلسلتها، وليس معنى الخروج وقوف العلّة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كلّ جهة مفروضة.

ومن عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنّهم قائلون في الحوادث - ومن جملتها الأفعال الإنسانيّة - بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلّا وهو معلول جبريّ لعلل عندهم، وهم مع ذلك يزعمون أنّ الإنسان لو خلق إنساناً آخر كان غير منته إلى علّة العالم لو فرض له علّة.

وهذا المعنى الّذي قلنا - على لطفة ودقّته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العاميّ الساذج لكنّه موجود على الإجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الإله الصانع - وفيه العلل والمعلولات فهذا -أولا .

ثمّ إنّ البراهين العقليّة الّتي أقامتها الإلهيّون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلّيّة وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علّة واجبة الوجود، واستمرّوا على هذا المسلك من البحث منذ اُلوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات الّتي معها عللها الطبيعيّة الممكنة إلى علّة واجبة، فليس استنادهم إلى العلّة الواجبة لأجل الجهل بالعلّة الطبيعيّة، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوّهمّه هؤلآء، وهذاثانياً .

ثمّ إنّ القرآن المثبت لتوحيد الإله إنّما يثبته مع تقرير جريان قانون العلّيّة العامّ بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كلّ حادث إلى علّة خاصّة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنّه يسند الأفعال الطبيعيّة إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعيّة وينسب إلى الإنسان أفعاله الاختياريّة في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثمّ ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء. قال تعالى:( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزّمر - ٦٢، وقال تعالى:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) المؤمن - ٦٢، وقال تعالى:( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) الأعراف - ٥٤، وقال تعالى:( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) طه - ٥، فكلّ ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله،

٤٠٨

وقد جمع في آيات اُخر بين الإثباتين جميعاً فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معاً كقوله تعالى:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصّافات - ٩٦، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى:( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ ) الأنفال - ١٧، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.

ومن هذا الباب آيات اُخر تجمع بين الإثباتين بطريق عامّ كقوله تعالى:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان - ٢، وقال تعالى:( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ - إلى أن قال -وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ) القمر - ٥٣، وقال تعالى:( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق - ٣، وقال تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، فإنّ تقدير كلّ شئ هو جعله محدوداً بحدود العلل المادّيّة والشرائط الزمانيّة والمكانيّة.

وبالجملة فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلّيّة والمعلوليّة بين جميع أجزاء العالم، ثمّ استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكلّ ممّا لا يعتريه شكّ ولا ريب لا كما يزعمه هؤلآء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادّيّة المعلومة، وهذاثالثاً .

نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقّوة: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عاميّة كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.

أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلّمي الأديان الاُخرى وكانت مؤلّفة من مسائل محرّفة ما هي بالمسائل، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر. فهؤلآء لما أرادوا بيان دعواهم الحقّ (الّذي يقضي بصحّته إجمالاً عقولهم) ونقله من الإجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقّل والفكر إلى غير الطريق فعممّوا الدعوى، وتوسّعوا في الدليل، فحكموا باستناد كلّ معلول مجهول العلّة إلى الله سبحانه من غير واسطة، ونفوا حاجة الأفعال الاختياريّة إلى علّة موجبه، أو احتياج الإنسان في صدور فعله الاختياريّ إلى الإله تعالى، واستقلاله في فعله، وقد مرّ البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى:( وَ

٤٠٩

مَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة - ٢٦، ونورد هيهنا بعض ما فيه من الكلام.

وطائفة منهم - وهم بعض المحدّثين والمتكلّمين من ظاهرييّ المسلمين وجمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقّلوا معنى صحيحاً لإسناد أفعال الإنسان الاختياريّة إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الرّبوبيّ فنفوا استناد مصنوعات الإنسان إليه سبحانه، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصّة كالخمر وآلات اللهوو القمار وغير ذلك، وقد قال تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة - ٩٠، ومعلوم أنّ ما عدّه الله سبحانه عملاً للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.

وقد مرّ فيما تقدّم ما يظهر به بطلان هذا التوهّم نقلاً وعقلاً، فالأفعال الاختياريّة كما أنّ لها انتساباً إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الاُمور الصناعيّة الّتي يصنعها الإنسان لداعي رفع الحوائج الحيويّة.

على أنّ الأنصاب الواقعة في الآية السابقة هي الأصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة الّتي ذكر الله سبحانه أنّها مخلوقة له في قوله:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الآية، ومن هيهنا يظهر أنّ فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلّق بها، فإنّ الصنم ليس بحسب الحقيقة إلّا حجراً أو فلزّاً عليه شكل خاصّ وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كلّ شئ، وأمّا أنّه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة الّتي يجب نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره.

فقد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ الأمور الصناعيّة منتسبة إلى الخلقة كاستناد الاُمور الطبيعيّة من غير فرق، نعم يدور الأمر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظّ الشئ من الوجود فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ) ، فإنّ حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثمّ يتكاثف بخاراً متصاعداً حاملاً للحرارة حتّى ينتهي إلى زمهرير الهواء

٤١٠

فيتبدّل ماء متقاطراً على صورة المطر أو يجمد ثانياً فيصير ثلجاً أو برداً فينزل لثقله إلى الأرض فتشربه وتحيي به أو تحزنه فيخرج على صورة ينابيع في الأرض بها حياة كلّ شئ فلماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجوديّة جار على نظام متقن غاية الإتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كلّ نوع.

وهو من جهة تحدّده بما يحفه من حوادث العالم طولاً وعرضاً تصير معها جميعاً شيئاً واحداً لا يستغني عن موجد يوجده وعلّة تظهره فله إله واحد ومن جهة أنّه ممّا يستند إليه وجود الإنسان حدوثاً وبقاءً يدلّ على كون إلهه هو إله الإنسان.

قوله تعالى: ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ) ، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعيّة مختلفة، والأغلب فيها أنّ الأشعّة النوريّة الواقعة على الهواء من الشمس تتبدّل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفّة لأنّ الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدّة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخاريّة والعفونات المتصاعدة، وسوق السحب الماطرة وغيرها، ففيه حياة النبات والحيوان والإنسان.

وهو في وجوده يدلّ على الإله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتّحاده معها كما مرّ يدلّ على إله واحد للعالم، وفي وقوعه طريقاً إلى وجود الإنسان وبقائه يدلّ على أنّ إله الإنسان وغيره واحد.

قوله تعالى: ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) ، السحاب البخار المتكاثف الّذي منه الأمطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سمّي سحاباً وغيماً وغماماً وغير ذلك، والتسخير قهر الشئ وتذليله في عمله، والسحاب مسخّر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلّطة عليه بإذن الله، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره ممّا عدّ معه.

واعلم: أنّ إختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرّفة والسحاب المسخّر حمل الحوادث العامّة الّتي منها تتألّف نظام التكوين في

٤١١

الأرضيّات من المركّبات النباتيّة والحيوانيّة وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لإجمال قوله تعالى:( وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ) فصّلت - ١٠.

قوله تعالى: ( لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، العقل - وهو مصدر عقل يعقل - إدراك الشئ وفهمه التامّ، ومنه العقل اسم لما يميّز به الإنسان بين الصلاح والفساد وبين الحقّ و الباطل والصدق والكذب وهو نفس الإنسان المدرك وليس بقوّة من قواه الّتى هي كالفروع للنفس كالقوّة الحافظة و الباصرة وغيرهما.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا ) ، الندّ كالمثل وزناً ومعنى، ولم يقل من يتّخذ لله أنداداً كما عبّر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى:( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا ) البقرة - ٢٢، وقوله تعالى:( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا ) إبراهيم - ٣٠، وغير ذلك لأنّ المقام مسبوق بالحصر في قوله:( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) الآية. فكان من اتّخذ لله أنداداً قد نقض الحصر من غير مجوّز واتّخذ من يعلم أنّه ليس بإله إلهاً اتّباعاً للهوى وتهويناً لحكم عقله ولذلك نكّره تحقيراً لشأنه، فقال ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً.

قوله تعالى: ( يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ) ، وفي التعبير بلفظ يحبّونهم دلالة على أنّ المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكه، وأفراداً من الإنسان الّذين اتّخذوهم أرباباً من دون الله تعالى بل يعمّ كلّ مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله:( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) البقرة - ١٦٦، وكما قال تعالى:( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) آل عمران - ٦٤، وقال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ) التوبة - ٣١، وفي الآية دليل على أنّ الحبّ يتعلّق بالله تعالى حقيقة خلافاً لمن قال: إنّ الحبّ وهو وصف شهوانّي يتعلّق بالأجسام والجسمانيّات، ولا يتعلّق به سبحانه حقيقة وأنّ معنى ما ورد من الحبّ له الإطاعة بالايتمار بالأمر والانتهاء عن النهي تجوّزاً كقوله تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُم اللهُ ) آل عمران - ٣١.

والآية حجّة عليهم فإنّ قوله تعالى: أشدّ حبّاً لله يدلّ على أن حبّه تعالى

٤١٢

يقبل الاشتداد، وهو في المؤمنين أشدّ منه في المتّخذين لله أنداداً، ولو كان المراد بالحبّ هو الإطاعة مجازاً كان المعنى والّذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لأنّ طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحبّ معناه الحقيقيّ.

ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ - إلى قوله -أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) التوبة - ٢٤، فإنّه ظاهر في أنّ الحبّ المتعلّق بالله والحبّ المتعلّق برسوله والحبّ المتعلّق بالآباء والأبناء والأموال وغيرها جميعاً من سنخ واحد لمكان قوله أحبّ إليكم، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في أصل المعنى وإختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.

ثمّ إنّ الآية ذمّ المتّخذين للأنداد بقوله: يحبّونهم كحبّ الله ثمّ مدح المؤمنين بأنّهم أشدّ حبّاً لله سبحانه فدلّ التقابل بين الفريقين على أنّ ذمّهم إنّما هو لتوزيعهم المحبّة الإلهيّة بين الله وبين الأنداد الّذين اتّخذوهم أنداداً. وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنّهم لو وضعوا له سبحانه سهماً أكثر لم يذمّوا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإنّ قوله: إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعاً، وقوله: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأ وا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب، وقوله: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، يشهد بأنّ الذمّ لم يتوجّه إلى الحبّ من حيث أنّه حبّ بل من جهة لازمه الّذي هو الاتّباع وكان هذا الاتّباع منهم لهم لزعمهم أنّ لهم قوّة يتقّوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتّباع الحقّ من أصله أو في بعض الأمر، وليس من اتّبع الله في بعض أمره دون بعض بمتّبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور، ويظهر أنّ هذا الحبّ يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلّا فهو الشرك، واشتداد هذا الحبّ ملازم لانحصار التبعيّة من أمر الله، ولذلك مدح المؤمنين بذلك في قوله والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله.

وإذ كان هذا المدح والذمّ متعلّقاً بالحبّ من جهة أثره الّذي هو الاتّباع فلو كان الحبّ للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجّه إليه ذمّ ألبتّة كما قال تعالى:( قُلْ إِن كَانَ

٤١٣

آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ - إلى قوله -أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) التوبة - ٢٤، فقرّر لرسوله حبّاً كما قرّره لنفسه لأنّ حبّه (صلّي الله عليه وآله وسلّم) حبّ الله تعالى فإنّ أثره وهو الاتّباع عين اتّباع، الله تعالى: فإنّ الله سبحانه هو الداعي إلى اطاعة رسوله والآمر باتّباعه. قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء - ٦٤، وقال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) وكذلك اتّباع كلّ من يهتدي إلى الله باتّباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقرائته ونحو ذلك فإنّها كلّها محبوبة بحبّ الله واتّباعها طاعة تعدّ مقرّبة إليه.

فقد بان بهذا البيان أنّ من أحبّ شيئاً من دون الله ابتغاء قوّة فيه فاتّبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتّبعه بإطاعته في شئ لم يأمر الله به فقد اتّخذ من دون الله أنداداً وسيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وأنّ المؤمنين هم الّذين لا يحبّون إلّا الله ولا يبتغون قوّة إلّا من عند الله ولا يتّبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله ديناً.

وبان أيضاً أنّ حبّ من حبّه من حبّ الله واتّباعه اتّباع الله كالنبيّ وآله والعلماء بالله، وكتاب الله وسنّة نبيّه وكلّ ما يذكّر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شئ، والتقرّب بحبّه واتّباعه تقرّب إلى الله، وتعظيمه بما يعدّ تعظيماً من تقوى الله، قال تعالى:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ - ٣٢، والشعائر هي العلامات الدالّة، ولم يقيّد بشئ مثل الصفا والمروة وغير ذلك، فكلّ ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكّرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.

نعم لا يخفى لذي مسكة أنّ إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والآيات في قبال الله واعتقاد أنّها تملك لنفسها أو غيرها نفعاً أو ضرّاً أو موتاً أو حياةً أو نشوراً إخراج لها عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الاُلوهيّة وشرك بالله العظيم، والعياذ بالله تعالى.

قوله تعالى: ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) ، ظاهر السياق أنّ قوله: إذ مفعول يرى، وأنّ قوله: أنّ

٤١٤

القوّة لله إلى آخر الآية، بيان للعذاب، ولو للتمنّي. والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوماً يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أنّ القوّة لله جميعاً وقد أخطأوا في إعطاء شئ منه لأندادهم وأنّ الله شديد في عذابه، وإذاقته عاقبة هذا الخطاء فالمراد بالعذاب في الآية - على ما يبيّنه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطاء في اتّخاذهم أنداداً يتوهّم قوّة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطاء ويؤيّده الآيتان التاليتان: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقّعونه ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب فلم يبق تأثير لشئ دون الله، وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّة، وهو تمنّي الرجوع إلى الدنيا فنتبرّأ منهم أي من الأنداد المتبوعين في الدنيا كما تبرّأوا منّا في الآخرة، كذلك يريهم الله أي الّذين ظلموا باتّخاذ الأنداد أعمالهم، وهي حبّهم واتّباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار.

قوله تعالى: ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) ، فيه حجّة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.

( بحث روائي)

في الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني قال: إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال يا أميرالمؤمنين أتقول إنّ الله واحد ؟ قال فحمل الناس عليه، فقالوا: يا أعرابيّ أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب ؟ فقال أميرالمؤمنين دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابي هو الّذي نريده من القوم، ثمّ قال:عليه‌السلام يا أعرابيّ، إنّ القول: في أنّ الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى، ووجهان يثبتان فيه فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه - فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أمّا ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثه ؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللّذان

٤١٥

يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى يعني به: أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا.

أقول: والوجهان اللّذان أثبتهماعليه‌السلام كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى وإلهكم إله واحد الآية.

وقد تكرّر في الخطب المرويّة عن عليّعليه‌السلام والرّضاعليه‌السلام وغيرهما من أئمّة أهل البيت: قولهم: إنّه واحد لا بالعدد الخطبة، وهو ما مرّ من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد، وفي دعاء الصحيفة الكاملة لك وحدانيّة العدد الدعاء، ويحمل على الملكيّة أي أنت تملك وحدانيّة العدد دون الاتصاف فإنّ العقل والنقل ناهضان على أنّ وجوده سبحانه صرف لا يتثنّى ولا يتكرّر بذاته وحقيقته.

وفي الكافي والاختصاص وتفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام : في قوله:( ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً الآية) - في حديث - قال: هم والله يا جابر أئمّة الظلمة وأشياعهم، وفي رواية العيّاشيّ: والله يا جابر هم أئمّة الظلم وأشياعهم.

أقول: وقد اتّضح معناه بما مرّ من البيان وتعبيرهعليه‌السلام بأئمّة الظلم لمكان قوله تعالى:( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فعدّ التابعين المتّخذين للأنداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمّة الظلمة وأئمّة الظلم.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم الآية، قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلاً ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة - وقد كان المال له - وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله.

أقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ والصدوق والمفيد والطبرسيّ عن الباقر والصادقعليهما‌السلام وهو ناظر إلى التوسعة في معنى الأنداد وهو كذلك كما تقدّم.

٤١٦

( بحث فلسفي)

من المعاني الوجدانيّة الّتي عندنا معنى نسمّيه بالحبّ كما في موارد حبّ الغذاء والحبّ النساء وحبّ المال وحبّ الجاه وحبّ العلم، هذه مصاديق خمسة لا نشكّ في وجودها فينا، ولا نشكّ أنّا نستعمل لفظ الحبّ فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنويّ دون اللّفظيّ، ولا شكّ أنّ المصاديق مختلفة، فهل هو إختلاف نوعيّ أو غير ذلك ؟

إذا دقّقنا النظر في حبّ ما هو غذاء كالفاكهة مثلاً وجدناه محبوباً عندنا لتعلّقه بفعل القوّة الغاذية، ولو لا فعل هذه القوّة وما يحوزه الإنسان بها من الاستكمال البدنيّ لم يكن محبوباً ولا تحقّق حبّ، فالحبّ بحسب الحقيقة بين القوّة الغاذية وبين فعلها، وما تجده عند الفعل من اللّذّة، ولسنا نعني باللّذة لذّة الذائقة فإنّها من خوادم الغاذية وليست نفسها، بل الرضى الخاصّ الّذي تجده القوّة بفعلها، ثمّ إذا اختبرنا حال حبّ النساء وجدنا الحبّ فيها يتعلّق بالحقيقة بالوقاع، وتعلّقه بهنّ ثانياً وبالتبع، كما كان حبّ الغذاء متعلّقاً بنفس الغذاء ثانياً وبالتبع، والوقاع أثر القوّة المودعة في الحيوان، كما كان التغذّي كذلك أثراً لقوّة فيه. ومن هنا يعلم أنّ هذين الحبّين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلّق وجوديّ بين هاتين القوّتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعليّ.

ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحبّ هو التعلّق الخاصّ بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكنّ الاختبار بالآثار يدفع ذلك، فإنّ لهذا التعلّق المسمّى حبّاً أثراً في المتعلّق (اسم فاعل) وهو حركة القوّة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرّجها عن تركه إذا وجدته، وهاتان الخاصّتان أو الخاصّة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الإدراكيّة الّتي لنا وأفعالها وإنّ قوّتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيّلة وغيرها من القوى والحواسّ الظاهريّة والباطنيّة جميعها - سواء كانت فاعلة أو منفعلة - على هذه الصفة فجميعها تحبّ فعلها وتنجذب إليها وليس إلّا لكون أفعالها كمالات لها يتمّ بها نقصها وحاجتها الطبيعيّة، وعند ذلك يتّضح الأمر في حبّ المال و

٤١٧

حبّ الجاه وحبّ العلم فإنّ الإنسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم.

ومن هنا يستنتج أنّ الحبّ تعلّق خاصّ وانجذاب مخصوص شعوريّ بين الإنسان وبين كماله، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواصّ أنّه يوجد في الحيوان غير الإنسان، وقد تبيّن أنّ ذلك لكون المحبّ فاعلاً أو منفعلاً عمّا يحبّه من الفعل والأثر ومتعلّقاً بتبعه بكلّ ما يتعلّق به كما مرّ في حديث الأكل و الفاكهة، وغير الحيوان أيضاً كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور.

ومن جهة أخرى لما كان الحبّ تعلّقاً وجوديّاً بين المحبّ و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الّذي يتعلّق به حبّ علّته موجوداً ذا شعور وجد حبّ علّته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهريّ.

ويستنتج من جميع ما مرّ:أوّلاً أنّ اللحبّ تعلّق وجوديّ وانجذاب خاصّ بين العلّة المكمّلة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه، ومن هنا كنّا نحبّ أفعالنا لاستكمالنا بها ونحبّ ما يتعلّق به أفعالنا كغذاء نتغذّى بها، أو زوج نتمتّع بها، أو مال نتصرّف فيه، أو جاه نستفيد به، أو منعم ينعم علينا، أو معلّم يعلّمنا، أو هادٍ يهدينا أو ناصر ينصرنا، أو متعلّم يتعلّم منّا، أو خادم يخدمنا أو أيّ مطيع يطيعنا وينقاد لنا، وهذه أقسام من الحبّ بعضها طبيعيّ وبعضها خياليّ وبعضها عقليّ.

وثانياً: أنّ الحبّ ذو مراتب مختلفة من الشدّة والضعف فإنّه رابطة وجوديّة - والوجود مشكّك في مراتبه - ومن المعلوم أنّ التعلّق الوجوديّ بين العلّة التامّة ومعلولها ليس كالتعلّق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها، وأنّ الكمال الّذي يتعلّق بواسطته الحبّ مختلف من حيث كونه ضروريّاً أو غير ضروريّ، ومن حيث كونه مادّيّاً كالتغذّي أو غير مادّيّ كالعلم، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالمادّيّات حتّى ذكر بعضهم: أنّ أصله حبّ الغذاء، وغيره ينحل إليه، وذكر آخرون: أن الأصل في بابه حبّ الوقاع، وغيره راجع إليه.

وثالثاً: أنّ الله سبحانه أهل للحبّ بأيّ جهة فرضت فإنّه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأيّ كمال فرض غيره فهو متناه، والمتناهي متعلّق الوجود بغير المتناهي

٤١٨

وهذا حبّ ذاتيّ مستحيل الارتفاع، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدّة والمدّة فنحبّه كما نحبّ كلّ منعم لإنعامه.

ورابعاً: أنّ الحبّ لما كانت رابطة وجوديّة - والروابط الوجوديّة غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزّلاته - أنتج ذلك أنّ كلّ شئ فهو يحبّ ذاته، وقد مرّ أنّه يحبّ ما يتعلّق بما يحبّه فيحبّ آثار وجوده، ومن هنا يظهر أنّ الله سبحانه يحبّ خلقه لحبّ ذاته، ويحبّ خلقه لقبولهم إنعامه عليهم، ويحبّ خلقه لقبولهم هدايته.

وخامساً: أنّ لزوم الشعور والعلم في مورد الحبّ إنّما هو بحسب المصداق وإلّا فالتعلّق الوجوديّ الّذي هو حقيقة الحبّ لا يتوقّف عليه من حيث هو، ومن هنا يظهر أنّ القوى والمبادي الطبيعيّة غير الشاعرة لها حبّ بآثارها وأفعالها.

وسادساً: يستنتج ممّا مرّ أن الحبّ حقيقة سارية في الموجودات.

( بحث فلسفي آخر)

مسألة انقطاع العذاب والخلود ممّا اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقليّ ومن جهة الظواهر اللفظيّة.

والّذي يمكن أن يقال: أمّا من جهة الظواهر، فالكتاب نصّ في الخلود، قال تعالى:( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) الآية والسنّة من طرق أئمّة أهل البيت مستفيضة فيه، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفى الخلود، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب.

وأمّا من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدّم من البحث في ذيل قوله تعالى:( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ) البقرة - ٤٨، أنّ الاستدلال على خصوصيّات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدّمات الكلّيّة العقليّة غير مقدور لنا لأنّ العقل لا ينال الجزئيّات، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبيّ الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.

وأمّا النعمة والعذاب العقليّان الطارئان على النفس من جهة تجرّدها وتخلّقها بأخلاق وملكات فاضلة أو رديّة أو اكتسائها وتلبّسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أنّ هذه الأحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعّم

٤١٩

بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذّب بما هي قبيحة مشوّهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقيّة.

وأنّ ما كانت من هذه الصور صوراً غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنّها ستزول لأنّ القسر لا يكون دائميّاً ولا أكثريّاً، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتاً وعليها هيآت شقيّة رديّة ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، وهذا كلّه ظاهر.

وأمّا الهيآت الرديّة الّتي رسخت في النفس حتّى صارت صوراً أو كالصور الجديدة تعطي للشئ نوعيّة جديدة كالإنسان البخيل الّذي صار البخل صورة لإنسانيّتة كما صار النطق لحيوانيّته الصائرة به نوعاً جديداً تحت الحيوان فالإنسان البخيل أيضاً نوع جديد تحت الإنسان، فمن المعلوم أنّ هذا النوع نوع مجرّد في نفسه دائميّ الوجود، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذّب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلّا أنّها لما كانت صادرة عن نوعيّته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، ومثل هذا الإنسان المعذّب بلوازم ملكاته من وجه مثل من إبتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمرّ فإنّه لا يزال يصدر عن قوّة تخيّله صور هائلة أو مشوّهة يعذّب بها وهو نفسه هو الّذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألّماً من حيث إنتهاء الصدور إليه نفسه لكنّه معذّب بها من حيث أنّ العذاب ما يفرّ منه الإنسان إذا لم يبتل به بعد ويحبّ التخلّص عنه إذا ابتلى به وهذا الحدّ يصدّق على الاُمور المشوّهة والصور غير الجميلة الّتي تستقبل الإنسان الشقيّ في دار آخرته، فقد بان أنّ العذاب خالد غير منقطع عن الإنسان الشقيّ الّذي لذاته شقوة لازمة.

وقد استشكل هيهنا بإشكالات واضحة السقوط بيّنة الفساد: مثل أنّ الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شئ ؟

ومثل أنّ العذاب إنّما يكون عذاباً إذا لم يلائم الطبع فيكون قسراً ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصحّ وجود عذاب دائم ؟.

٤٢٠