الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154876
تحميل: 6940


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154876 / تحميل: 6940
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة البقرة وهي مائتان وستّ وثمانون آية)

( سورة البقرة الآيات ١ - ٥)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم( ١) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ( ٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ( ٤) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ٥)

( بيان)

لما كانت السورة نازلةً نجوما لم يجمعها غرض واحد إلّا أنّ معظمها تنبئ عن غايةٍ واحدةٍ محصّلةٍ وهو بيان أنّ من حقّ عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرّقة بين وحيٍ ووحيٍ ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثمّ تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرّقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثمّ التخلّص إلى بيان عدّة من الأحكام كتحويل القبلة وأحكام الحجّ والارث والصوم وغير ذلك.

قوله تعالى : ( ألم ) ، سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة الّتي في اوائل السور، في أوّل سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتاباً.

وقوله تعالى: ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ) الخ، المتّقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الاوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتّى تكون مقاماً من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعةٌ لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق، والدليل على ذلك أنّه تعالى لا يخصّ بتوصيفه طائفةً خاصّة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والّذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة الّتي

٤١

يبيّن فيها حال المؤمنين والكفّار والمنافقين، خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، واقامة الصلاة، والانفاق ممّا رزق الله سبحانه، والإيمان بما انزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنّهم على هدى من ربّهم فدلّ ذلك على ان تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبّسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم انّما صاروا متّقين اُولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثمّ وصف الكتاب بأنّه هدى لهؤلاء المتّقين بقوله تعالى:( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) فعلمنا بذلك: أنّ الهداية غير الهداية، وأنّ هؤلاء وهم متّقون محفوفون بهدايتين، هداية اولى بها صاروا متّقين، وهداية ثانية اكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحّت المقابلة بين المتّقين وبين الكفّار والمنافقين، فإنّه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أوّل هو الموجب لاوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكّد به ضلالهم الأوّل، ويتّصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفّار:( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) البقرة - ٧، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين:( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ) البقرة - ١٠ فنسب المرض الأوّل إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حدّ ما يستفاد من قوله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) البقرة - ٢٦، وقوله تعالى:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥.

وبالجملة المتّقون واقعون بين هدايتين، كما أنّ الكفّار والمنافقين واقعون بين ضلالين.

ثمّ إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاُولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى امر خارج عنها، وكذا احتياج كلّ ما سواها ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل إلى امر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحسّ منه يبدء الجميع وإليه ينتهي ويعود، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الاعمال والاخلاق، وهذا هو

٤٢

الإذعان بالتوحيد والنبوّة والمعاد وهي ُصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّتة، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الإمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإنفاق.

ومن هنا يعلم: إنّ الّذي أخذه سبحانه من إوصافهم هو الّذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وإنّه سبحانه وعدهم إنّه سيفيض عليهم إمرً سمّاه هداية، فهذه الاعمال الزاكية منهم متوسّطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أنّ هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الُولى، آيات كثيرة كقوله تعالى:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) ابراهيم - ٢٧. وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد - ٢٨. وقوله تعالى:( إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الصف - ٧. وقوله تعالى:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) الصفّ - ٥. إلى غير ذلك من الآيات.

والإمر في ضلال الكفّار والمنافقين كما في المتّقين على ما سيأتي إنشاء الله.

وفي الآيات إشارة إلى حياة ُخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحيإة الدنيويّة، وهي الحياة الّتي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٣ وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله.

وقوله سبحانه : يؤمنون الإيمان، تمكّن الاعتقاد في القلب ماخوذ من الإمن كأنّ المؤمن يعطي لما امن به الإمن من الريب والشكّ وهو آفة الاعتقاد، والإيمان كما مرّ معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشئ نفسه فيترتّب عليه إثره فقط، وربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه، وربّما يتعلّق بجميع لوازمه فيستنتج منه إنّ للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.

وقوله سبحانه : ( بِالْغَيْبِ ) ، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه

٤٣

الحسّ، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسّنا، ومنها الوحي هو الّذي اشير إليه بقوله:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي والإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتمّ بذلك الإيمان بالاصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكّد القول على عدم القصر على الحسّ فقط ويحرّص على اتّباع سليم العقل وخالص اللبّ.

وقوله سبحانه : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ، العدول في خصوص الاذعان بالاخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنّه للإشارة إلى أنّ التقوى لا تتمّ إلّا مع اليقين بالاخرة الّذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرّد، فإنّّ الإنسان ربّما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنّه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من اعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتّة قال تعالى:( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦. فبيّن تعالى: أنّ الضلال عن سبيل الله إنّما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره واليقين به ينتج التقوى.

وقوله تعالى : ( أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ) ، الهداية كلّها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتّة الّا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، ولمّا وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ) : لانعام - ١٢٥، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كلّ ضيق وشحّ، وقد قال تعالى:( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الحشر - ٩، عقّب سبحانه ههنا أيضاً قوله: اُولئك على هدىً من ربّهم، بقوله: واُولئك هم المفلحون الآية.

( بحث روائي)

في المعاني عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائمعليه‌السلام أنّه حقّ.

اقول: وهذا المعنى مروّي في غير هذه الرّواية وهو من الجرى.

٤٤

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) قال: وممّا علّمنا هم يبثّون.

وفي المعاني عنهعليه‌السلام : في الآية: وممّا علّمناهم يبثّون، وما علّمناهم من القرآن يتلون.

اقول: والرّوايتان مبنيّتان على حمل الإنفاق على الاعمّ من إنفاق المال كما ذكرناه.

( بحث فلسفي)

هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسّيّة من المعاني العقليّة ؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيّين، وإن كان المعظم من القدماو حكماء الاسلام على جواز التعويل على الحسّ والعقل معا، بل ذكروا أنّ البرهان العلميّ لا يشمل المحسوس من حيث إنّه محسوس، لكنّ الغربيّين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصّة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحسّ، وقد احتجّوا على ذلك بأنّ العقليّات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميّز به الصواب من الخطأ وهو الحسّ والتجربة المماسّان للجزئيّات بخلاف الإدراكات الحسّيّة فإنّا إذا أدركنا شيئاً بواحد من الحواسّ اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، ولا نزال نكرّر حتّى نستثبت الخاصّة المطلوبة في الخارج ثمّ لا يقع فيه شكّ بعد ذلك، والحجّة باطلة مدخولة.

أوّلاً: بأنّ جميع المقدّمات المأخوذة فيها عقليّة غير حسّيّة فهي حجّة على بطلان الاعتماد على المقدّمات العقليّة بمقدّمات عقليّة فيلزم من صحة الحجّة فسادها.

وثانياً: بأنّ الغلط في الحواسّ لا يقصر عدداً من الخطأ والغلط في العقليّات، كما يرشد إليه الأبحاث الّتي أوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرّد وقوع الخطأ في باب موجباً لسدّه وسقوط الاعتماد عليه لكان سدّ باب الحسّ أوجب وألزم.

وثالثاً: أنّ التميّز بين الخطأ والصواب ممّا لا بدّ منه في جميع المدركات غير أنّ التجربة وهو تكرّر الحسّ ليست آلة لذلك التميّز بل القضيّة التجربيّة تصير إحدى

٤٥

المقدّمات من قياس يحتجّ به على المطلوب، فإنّا إذا اُدركنا بالحسّ خاصّة من الخواصّ ثمّ اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إنّ هذه الخاصّة دائميّ الوجود أو أكثريّ الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصّة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائميّ أو أكثريّ، لكنّه دائميّ أو اكثريّ وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدّمات عقليّة غير حسّيّة ولا تجربيّة.

ورابعاً: هب إنّ جميع العلوم الحسّيّة مؤيّدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة اُخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحّته من طريق غير طريق الحسّ، فالاعتماد على الحسّ والتجربة اعتمادٌ على العلم العقليّ اضطراراً.

وخامساً: أنّ الحسّ لا ينال غير الجزئيّ المتغيّر والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكليّة وهي غير محسوسة ولا مجرّبة، فإنّّ التشريح مثلاً إنّما ينال من الإنسان مثلاً أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحسّ فيها مشاهدة أنّ لهذا الإنسان قلباً وكبداً مثلاً، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقلّ أو يكثر وذلك غير الحكم الكليّ في قولنا: كلّ انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحسّ والتجربة فحسب من غير ركون على العقليّات من رأس لم يتمّ لنا إدراك كلّي ولا فكر نظريّ ولا بحث علميّ، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحسّ في مورد يخصّ به كذلك التعويل فيما يخصّ بالقوّة العقليّة، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكليّة والمدرك لهذه الأحكام العامّة، ولا ريب أنّ الإنسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصوّر أن يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأساً ؟ أو يمكن أن يخطئ في فعله الّذي خصّه به التكوين ؟ والتكوين إنّما يخصّ موجوداً من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجيّة بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط ؟

وأمّا وقوع الخطأ في العلوم أو الحواسّ فلبيان حقيقة الأمر فيه محلّ آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.

٤٦

( بحث آخر فلسفي)

الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلّا انّه ينال من الأشياء اُعيانها الخارجيّة من غير أن يتنبّه أنّه يوسّط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتّى يصادف في بعض مواقفه الشكّ أو الظنّ، وعند ذلك يتنبّه: أنّه لا ينفكّ في سيره الحيويّ ومعاشه الدنيويّ عن استعمال العلم لا سيّما وهو ربّما يخطئ ويغلط في تمييزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الاعيان، فيتيقّن عند ذلك بوجود صفة العلم (وهو الإدراك المانع من النقيض) فيه.

ثمّ البحث البالغ يوصلنا أيضاً إلى هذه النتيجة، فإنّّ إدراكاتنا التصديقيّة تحلّل إلى قضيّة أوّل الأوائل (وهى أنّ الايجاب والسلب لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً) فما من قضيّة بديهيّة أو نظريّة إلّا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضيّة البديهيّة الأوّليّة، حتّى أنّا لو فرضنا من انفسنا الشّك فيها وجدنا الشّك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضيّة على بداهتها ثبت جمٌّ غفيرٌ من التصديقات العلميّة على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معوّل الإنسان في أنظاره وأعماله.

فما من موقف علميّ ولا واقعة عمليّة إلّا ومعوّل الإنسان فيه على العلم، حتّى أنّه إنّما يشخّص شكّه بعلمه أنّه شّك، وكذا ظنّه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنّه ظنّ أو وهم أو جهل هذا.

ولقد نشأ في عصر اليونانيّين جماعة كانوا يسمّون بالسو فسطائيّين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كلّ شئ الشّك حتّى في أنفسهم وفي شّكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكّاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم (إدراكاتهم) وربّما لفّقوا لذلك وجوها من الاستدلال.

منها: أنّ أقوى العلوم والإدراكات (وهي الحاصلة لنا من طرق الحواسّ) مملوّة

٤٧

خطأ وغلطاً فكيف بغيرها ؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلّقة بالخارج منّا ؟

ومنها: أنّا كلّما قصدنا نيل شئ من الأشياء الخارجيّة لم ننل عند ذلك إلّا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الأشياء ؟ إلى غير ذلك من الوجوه.

والجواب عن الأوّل: أنّ هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدّمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافاً إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافاً إلى أنّ القائل بوجود العلم لا يدّعي صحّة كلّ تصديق بل إنّما يدّعيه في الجملة، وبعبارة اُخرى يدّعي الايجاب الجزئيّ في مقابل السلب الكلّي والحجّة لا تفي بنفي ذلك.

والجواب عن الثاني: أن محلّ النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ماورائه فإذا فرضنا أنّا كلّما قصدنا شيئاً من الأشياء الخارجيّة وجدنا العلم بذلك إعترفنا بأنّا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنّما ندّعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدّع احد في باب وجود العلم: أنّا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريّاً في أفعال الحياة الاختياريّة وغيرها، فإنّهم يتحرّكون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كلّ مطلوب عند طلبه لاعند تصوّره الخالي، ويهربون عن كلّ محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرّد تصوّره، وبالجملة كلّ حاجة نفسانيّة ألهمتها إليهم احساساتهم أوجدوا حركة خارجيّة لرفعها ولكنّهم عند تصوّر تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحرّكون نحو رفعها، وبين التصوّرين فرق لا محالة، وهو أنّ احد العلمين يوجده الإنسان باختياره ومن عند نفسه والاخر إنّما يوجد في الإنسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثّر فيه، وهو الّذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود وذلك ما اردناه.

واعلم: أنّ في وجود العلم شكّاً قويّاً من وجه آخر وهو الّذي وضع عليه اساس العلوم المادّيّة اليوم من نفي العلم الثابت (وكل علم ثابت)، بيانه: أنّ البحث العلميّ

٤٨

يثبت في عالم الطبيعة نظام التحوّل والتكامل، فكلّ جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقعٌ في مسير الحركة متوجّه إلى الكمال، فما من شئ إلّا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الأوّل من وجوده، ولا شكّ أنّ الفكر والإدراك من خواصّ الدماغ فهي خاصّة مادّيّة لمركّب مادّيّ، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحوّل والتكامل، فهذه الإدراكات (ومنها الإدراك المسمّى بالعلم) واقعة في التغيّر والتحوّل فلا معنى لوجود علم ثابت باق وإنّما هو نسبيّ، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمراً أو أخفى نقيضاً ونقضاً من بعض آخر وهو المسمّى بالعلم فيما وجد.

والجواب عنه: أن الحجّة مبنية على كون العلم مادّيّاً غير مجرّد في وجوده وليس ذلك بيّنا ولا مبيّناً بل الحقّ أنّ العلم ليس بمادّيّ البتّة، وذلك لعدم إنطباق صفات المادّة وخواصّها عليه.

(١) فإنّّ المادّيّات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنّه علم الانقسام البتّة.

(٢) والمادّيّات مكانيّة زمانيّة والعلم بما أنّه علم لا يقبل مكاناً ولا زماناً، والدليل عليه إمكان تعقّل الحادثة الجزئيّة الواقعة في مكان معيّن وزمان معيّن في كل مكان وكلّ زمان مع حفظ العينيّة.

(٣) والمادّيّات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العموميّة فالتغيّر خاصّة عموميّة فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغيّر، فإنّّ حيثيّة العلم بالذات تنافي حيثيّة التغيّر والتبدّل وهو ظاهر عند المتأمّل.

(٤) ولو كان العلم ممّا يتغيّر بحسب ذاته كالمادّيّات لم يمكن تعقّل شئ واحد ولا حادثة واحدة فوقتين مختلفين معاً ولا تذكّر شئ أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإنّّ الشئ المتغيّر وهو في الآن الثاني غيره في الآن الأوّل، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على أنّ العلم بما أنّه علم ليس بمادّيّ البتّة، وأمّا ما يحصل في العضو الحسّاس أو الدماغ من تحقّق عمل طبيعيّ فليس بحثنا فيه أصلاً ولا دليل على أنّه هو العلم، ومجرّد تحقّق عمل عند تحقّق أمر من الاُمور لا يدلّ على كونهما أمراً واحداً، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محلّ آخر.

٤٩

( سورة البقرة الآيات ٦ – ٧)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( ٦ ) خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِم  وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة  وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم، ويدلّ عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم، ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الّذين كفروا هم الكفّار من صناديد قريش وكبراء مكّة الّذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين ولم يألوا جهداً في ذلك ولم يؤمنوا حتّى أفناهم الله عن آخرهم في بدر وغيره، ويؤيّده أنّ هذا التعبير وهو قوله:( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) ، لا يمكن استطراده في حقّ جميع الكفّار وإلّا انسدّ باب الهداية القرآن ينادي على خلافه، وأيضاً هذا التعبير إنّما وقع في سورة يس (وهي مكّية) وفي هذه السورة (وهي سورة البقرة أوّل سورة نزلت في المدينة) نزلت ولم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد( مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، هيهنا وفي ساير الموارد من كلامه تعالى: كفّار مكّة في أوّل البعثة إلّا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أنّ المراد من قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا ) ، فيما اُطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأوّلون من المسلمين، خُصُّوا بهذا الخطاب تشريفاً.وقوله تعالى: ( خَتَمَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ) الخ يشعر تغيير السياق: (حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم) بأنّ فيهم حجاباً دون الحقّ في أنفسهم وحجاباً من الله تعالى عقيب كفرهم وفسوقهم، فأعمالهم متوسّطة بين حجابين: من ذاتهم ومن الله تعالى، وسيأتي بعض ما يتعلّق بالمقام في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا ) .

واعلم : أنّ الكفر كالإيمان وصف قابل للشدّة والضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.

٥٠

( بحث روائي)

في الكافي عن الزبيريّ عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عزّوجلّ، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، والجحود على وجهين، والكفر بترك ما أمر الله، وكفر البرائة، وكفر النعم. فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة وهو قول من يقول: لا ربّ ولا جنّة ولا نار، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهريّة وهم الّذين يقولون وما يهلكنا إلّا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالإستحسان منهم ولا تحقيق لشئ ممّا يقولون: قال عزّوجلّ: إن هم إلّا يظنّون، أنّ ذلك كما يقولون، وقال: إنّ الّذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده، وقد قال الله عزّوجلّ:( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) ، وقال الله عزّوجلّ: وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهى الجحود، والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن يكفر فإنّ الله غنيّ كريم، وقال: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد، وقال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون.

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عزّوجلّ به، وهو قول عزّوجلّ:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزّوجلّ به ونسبهم إلى الإيمان

٥١

ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزىٌ في الحياة الدنيا ويوم القيمة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون.

والوجه الخامس من الكفر كفر البرائة وذلك قول الله عزّوجلّ يحكي قول إبراهيم:( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) ، يعني تبرّأنا منكم، وقال: ( يذكر ابليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة ) إنّي كفرت بما أشركتمون من قبل، وقال: إنّما اتّخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً، يعني يتبرّأ بعضكم من بعض.

اقول: وهي في بيان قبول الكفر الشدّة والضعف كما مرّ.

٥٢

( سورة البقرة الآيات ٨ – ٢٠)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( ٨ ) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ٩ ) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا  وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( ١٠ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( ١١ ) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ ( ١٢ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ( ١٤ ) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( ١٦ ) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ( ١٧ ) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ١٨ ) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ  وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( ١٩ ) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ  كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا  وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٠ )

٥٣

( بيان)

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ) إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، والشيطان هو الشرير ولذلك سمّي إبليس شيطاناً.

وفي الآيات بيان حال المنافقين، وسيجئ إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين وغيرها.

وقوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (الخ) مثل يمثل به حالهم، أنّهم كالّذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميّز فيها خير من شر ولا نافع من ضار فتسبّب لرفعها بسبب من أسباب الإستضائة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلمّا توقدّت وأضائت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقى فيما كان عليه من الظلمة وتورّط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها وظلمة الحيرة وبطلان السبّب.

وهذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم ومناكحهم وغيرهما حتّى إذا حان حين الموت وهو الحين الّذي فيه تمام الإستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره وأبطل ما عمله وتركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئاً ويقع بين الظّلمة الأصليّة وما أوجده من الظلمة بفعاله.

وقوله تعالى: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) الخ، الصيّب هو المطر الغزير، والبرق معروف، والرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، والصاعقة هي النازلة من البروق.

وهذا مثل ثان يمثّل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنّهم كالّذي أخذه صيّب السماء ومعه ظلمة تسلب عنه الإبصار والتمييز، فالصيّب يضطرّه إلى الفرار والتخلّص، والظلمة تمنعه ذلك، والمهوّلات من الرعد والصاعقة محيطة به فلا يجد مناصاً عن أن يستفيد بالبرق وضوئه وهو غير دائم ولا باق متّصل كلّما أضاء له مشى وإذا أظلم عليه قام.

وهذه حال المنافق فهو لا يحبّ الإيمان ولا يجد بدّا من إظهاره، ولعدم المواطأة بين قلبه ولسانه لا يستضئ له طريقه تمام الإستضائة، فلا يزال يخبط خبطاً بعد خبط ويعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا ويقف قليلا ويفضحه الله بذلك ولو شاء الله لذهب بسمعه وبصره فيفتضح من أوّل يوم.

٥٤

( سورة البقرة الآيات ٢١ – ٢٥)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٢١ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ  فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٢ ) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٣ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ  أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( ٢٤ ) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا  قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ  وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا  وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ  وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) الخ، لما بيّن سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتّقين والكافرين، والمنافقين، وأنّ المتّقين على هدى من ربّهم والقرآن هدى لهم، وأنّ الكافرين مختوم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وأنّ المنافقين مرضى وزادهم الله مرضاً وهم صمّ بكم عمى (وذلك في تمام تسع عشرة آية) فرّع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته وأن يلتحقوا بالمتّقين دون الكافرين والمنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون. وهذا السياق يعطي كون قوله:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) متعلّقاً بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم وإن كان المعنى صحيحاً على كلا التقديرين.

وقوله تعالى: ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، الأنداد جمع ندّ كمثل،

٥٥

وزناً ومعنى وعدم تقييد قوله تعالى: وانتم تعلمون بقيد خاصّ وجعله حالاً من قوله تعالى:( فَلَا تَجْعَلُوا ) ، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأنّ الإنسان وله علم مّا كيفما كان لا يجوز له أن يتّخذ لله سبحانه أنداداً والحال أنّه سبحانه هو الّذي خلقهم والّذين من قبلهم ثمّ نظم النظام الكونيّ لرزقهم وبقائهم.

وقوله تعالى: ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) أمر تعجيزيّ لإبانة إعجاز القرآن، وأنّه كتاب منزّل من عند الله لا ريب فيه، إعجازاً باقياً بمرّ الدّهور وتوالي القرون، وقد تكرّر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الاسراء - ٨٨، وقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) هود - ١٣. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: ممّا نزّلنا، ويكون تعجيزاً بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه.

ويمكن أن يكون الضمير راجعاً إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزاً بالقرآن من حيث أنّ الّذي جاء به رجل اُمّي لم يتعلّم من معلّم ولم يتلّق شيئاً من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس - ١٦، وقد ورد التفسيران معاً في بعض الأخبار.

واعلم: ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلاً، وما ربّما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلاً يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنّما يرميه جميعاً ولا يخصّص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لردّه بالتحدّي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وإن كنتم في من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلاً فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بيّن الإستهجان هذا.

٥٦

( الإعجاز وماهيّته)

اعلم: أنّ دعوى القرآن أنّها آية معجزة بهذا التحدّي الذى أبدتها هذه الآية تنحّل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الإعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى أنّ القران مصداق من مصاديق الإعجاز ومعلوم أنّ الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الاُولى، والقرآن أيضاً يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدّى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنّه يبقى الكلام على كيفيّة تحقّق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدّقه العادة الجارية في الطبيعة من إستناد المسبّبات إلى أسبابها المعهودة المشخّصة من غير استثناء في حكم السببيّة أو تخلّف واختلاف في قانون العلّيّة، والقرآن يبيّن حقيقة الأمر ويزيل الشبهة فيه.

فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.

الاولى: أنّ الإعجاز ثابت ومن مصاديقه القران المثبت لأصل الإعجاز ولكون منه بالتحدّي.

الثانية: أنّه ما هو حقيقة الإعجاز وكيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها وينقض كلّيّتها.

( إعجاز القرآن)

لا ريب في أنّ القرآن يتحدّى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكّية ومدنيّة تدلّ جميعها على أنّ القرآن آية معجزة خارقة حتّى أنّ الآية السابقة أعني قوله تعالى:( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) الآية، اي من مثل النبيّ (صلى إليه عليه وآله وسلم) إستدلال على كون القرآن معجزة بالتحدّي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أنّه إستدلال على النبوّة مستقيماً وبلا واسطة، والدليل عليه قوله تعالى في أوّلها:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ) ولم يقل وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديّات الواقعة في القرآن نحو استدلال

٥٧

على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، والآيات المشتملة على التحدّي مختلفة في العموم والخصوص ومن أعمّها تحدّيا قوله تعالى:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الأسراء - ٨٨، والآية مكّية وفيها من عموم التحدّي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.

فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي قوماً خاصّاً وهم العرب العرباء من الجاهليّين والمخضرمين قبل اختلاط اللسان وفساده، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجنّ.

وكذا غير البلاغة والجزالة من كلّ صفة خاصّة إشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقيّة والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعيّة والأخبار المغيّبة ومعارف اُخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كلّ واحد منها ممّا يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.

فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعيّ في اجتماعه، وللمقنّنين في تقنينهم وللسياسيّين في سياستهم، وللحكّام في حكومتهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان.

ومن هنا يظهر أنّ القرآن يدّعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازاً لكلّ فرد من الإنس والجنّ من عامّة أو خاصّة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لبّ يشعر بالقول، فإنّ الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة وإدراك الزيادة والنقيصة فيها، فلكلّ إنسان أن يتأمّل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثمّ يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق والنصفة، فهل يتأتّى القوّة البشريّة أن يختلق معارف إلهيّة مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن وتماثله في الحقيقة ؟ وهل يمكنها أن تأتّي بأخلاق مبنيّة على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء والفضيلة ؟ وهل يمكنها

٥٨

أن يشرّع أحكاما تامّة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدّي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد وكلمة التقوى في كلّ حكم ونتيجته، وسريان الطهارة في أصله وفرعه ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب والإتقان الغريب من رجل ُمّي لم يتربّ إلّا في حجر قوم حظّهم من الإنسانيّة على مزإياها الّتي لا تحصى وكمالاتها الّتي لا تغيّا أن يرتزقوا بالغارات الغزوات ونهب الاموال وأن يئدوا البنات ويقتلوا الإولاد خشية إملاق ويفتخروا بالآباء وينكحوا الإمّهات ويتباهوا بالفجور ويذمّوا العلم ويتظاهروا بالجهل وهم على أنفتهم وحميّتهم الكاذبة إذّلاء لكلّ مستذلّ وخطفة لكل خاطف فيوما لليمن ويوما للحبشة ويوما للروم ويومً للفرس ؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهليّة.

وهل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدّعيه هدى للعالمين ثمّ يودعه أخبارً في الغيب ممّا مضى ويستقبل وفيمن خلت من الُمم وفيمن سيقدم منهم لا بالواحد والإثنين في أبواب مختلفة من القصص والملاحم والمغيّبات المستقبلة ثمّ لا يتخلّف شئ منها عن صراط الصدق ؟.

وهل يتمكّن إنسان وهو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادّيّة، والدار دار التحوّل والتكامل، أن يداخل في كلّ شأن من شئون العالم الإنسانيّ ويلقي إلى الدنيا معارف وعلوما وقوانين وحكما ومواعظ وأمثالا وقصصً في كلّ ما دقّ وجلّ ثمّ لا يختلف حاله في شئ منها في الكمال والنقص وهي متدرجّة الوجود متفرّقة الالقاء وفيها ما ظهر ثمّ تكرّر وفيها فروع متفرّعة على أصولها ؟ هذا مع ما نراه أنّ كلّ إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل ونقصه على حال واحدة.

فالإنسان اللبيب القادر على تعقّل هذه المعاني لا يشكّ في أنّ هذه المزايا الكلّيّة وغيرها ممّا يشتمل عليه القرآن الشريف كلّها فوق القوّة البشريّة ووراء الوسائل الطبيعيّة المادّيّة وان لم يقدر على ذلك فلم يضلّ في إنسانيّته ولم ينس ما يحكم به وجدإنه الفطريّ أن يراجع فيما لا يحسن إختباره ويجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.

فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدّي إلى العامّة والتعدّي عن حومه الخاصّة

٥٩

فإنّ العامّة سريعة الانفعال للدعوة والإجابة لكل صنيعة وقد خضعوا لإمثال الباب والبهاء والقاديانيّ والمسيلمة على أنّ ما أتوا به واستدلّوا عليه أشبه بالهجر والهذيان منه بالكلام.

قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز والطريق الممكن في تمييز الكمال والتقدّم في أمر يقع فيه التفاضل والسباق، فإنّ أفهام الناس مختلفة اختلافً ضروريّاً والكمالات كذلك، والنتيجة الضروريّة لهاتين المقدّمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي والنظر الصائب ويرجع من هو دون ذلك فهما ونظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة والغريزة قاضية.

ولا يقبل شئ ممّا يناله الانسان بقواه المدركة ويبلغه فهمه العموم والشمول لكلّ فرد في كلّ زمان ومكان بالوصول والبلوغ والبقاء إلّا ما هو من سنخ العلم والمعرفة على الطريقة المذكورة، فإنّ كلّ ما فرض آية معجزة غير العلم والمعرفة فإنّما هو موجود طبيعيّ أو حادث حسّيّ محكوم بقوانين المادّة محدود بالزمان والمكان فليس بمشهود إلّا لبعض أفراد الانسان دون بعض ولو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكلّ فرد منه فإنّما يمكن في مكان دون جميع الإمكنة، ولو فرض اتّساعه لكلّ مكان لم يمكن اتّساعه لجميع الإزمنة والإوقات.

فهذا ما تحدّى به القرآن تحدّيً عامًّ لكلّ فرد في كلّ مكان في كلّ زمان.

( تحدّيه بالعلم)

وقد تحدّى بالعلم والمعرفة خاصّة بقوله تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقوله( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) الانعام - ٥٩، إلى غير ذلك من الآيات، فإنّ الإسلام كما يعلمه ويعرفه كلّ من سار في متن تعليماته من كلّيّاته الّتي أعطاها القرآن وجزئيّاته الّتي أرجعها إلى النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم)، بنحو قوله:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، وقوله تعالى:( لِتَحْكُمَ

٦٠