الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154930
تحميل: 6943


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154930 / تحميل: 6943
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ ) النساء - ١٠٤، وغير ذلك متعرّض للجليل والدقيق من المعارف الإلهيّة (الفلسفيّة) والأخلاق الفاضلة والقوانين الدينيّة الفرعيّة من عبادات ومعاملات وسياسات واجتماعيّات وكلّ ما يمسّه فعل الإنسان وعمله، كلّ ذلك على أساس الفطرة وأصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، ويرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.

وقد بيّن بقائها جميعاً وانطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور وكرورها بقوله تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم سجدة - ٤٢. وقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر - ٩، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ ولا يقضي عليه قانون التحوّل والتكامل.

فإن قلت: قد إستقرّت أنظار الباحثين عن الاجتماع وعلماء التقنين اليوم على وجوب تحوّل القوانين الوضعيّة الاجتماعيّة بتحوّل الاجتماع وإختلافها بإختلاف الأزمنة والأوقات وتقدّم المدنيّة والحضارة.

قلت: سيجئ البحث عن هذا الشأن والجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الآية البقرة - ٢١٣.

وجملة القول وملخّصه أنّ القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطريّ والأخلاق الفاضلة الغريزيّة ويدّعي أنّ التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين والوجود. وهؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحوّل الاجتماع مع إلغاء المعنويّات من معارف التوحيد وفضائل الأخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعيّ المادّيّ العادم لفضيلة الروح، وكلمة الله هي العليا.

( التحدّي بمن اُنزل عليه القرآن)

وقد تحدّى بالنبيّ الاُمّيّ الّذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه ومعناه، ولم يتعلّم عند معلّم ولم يتربّ عند مربّ بقوله تعالى:( قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم

٦١

بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس - ١٦، فقد كان (صلّي الله عليه و آله و سلّم) بينهم وهو أحدهم لا يتسامى في فضل ولا ينطق بعلم حتّى لم يأت بشئ من شعر أو نثر نحواً من أربعين سنة وهو ثلثا عمره لا يحوز تقدّماً ولا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثمّ أتى بما اتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم وكلّت دونه ألسنة بلغائم، ثمّ بثّه في أقطار الأرض فلم يجترئ على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لبّ وفطانة.

وغاية ما أخذوه عليه: أنّه سافر إلى الشام للتجارة فتعلّم هذه القصص ممّن هناك من الرهبان ولم يكن أسفاره إلى الشام إلّا مع عمّه أبي طالب قبل بلوغه وإلّا مع ميسرة مولى خديجة وسنه يومئذ خمسة وعشرون وهو مع من يلازمه في ليله ونهاره، ولو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه الحكم والحقائق ؟ وممّن هذه البلاغة في البيان الّذي خضعت له الرقاب وكلّت دونه الألسن الفصاح ؟

وما أخذوه عليه أنّه كان يقف على قين بمكّة من أهل الروم كان يعمل السيوف ويبيعها فأنزل الله سبحانه:( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) النحل - ١٠٣.

وما قالوا عليه أنّه يتعلّم بعض ما يتعلّم من سلمان الفارسيّ وهو من علماء الفرس عالمٌ بالمذاهب والأديان مع أنّ سلمان إنّما آمن به في المدينة وقد نزل أكثر القرآن بمكّة وفيها من جميع المعارف الكلّيّة والقصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد، فما الّذي زاده ايمان سلمان وصحابته ؟

على أنّ من قرأ العهدين وتأمّل ما فيهما ثمّ رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين واُممهم رأى أنّ التاريخ غير التاريخ والقصّة غير القصّة ففيهما عثرات وخطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتتنفّر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم، والقرآن يبرّئهم منها وفيها اُمور اُخرى لا يتعلّق بها معرفة حقيقيّة ولا فضيلة خلقيّة ولم يذكر القرآن منها إلّا ما ينفع الناس في معارفهم وأخلاقهم وترك الباقي وهو الأكثر.

٦٢

( تحدّي القرآن بالإخبار عن الغيب)

وقد تحدّى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين وأممهم كقوله تعالى:( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ) الآية هود - ٤٩، وقوله تعالى بعد قصّة يوسف:( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) يوسف - ١٠٢ وقوله تعالي في قصّة مريم:( ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) آل عمران - ٤٤ وقوله تعالى:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) مريم - ٣٤ إلى غير ذلك من الآيات.

ومنها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى:( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) الروم - ٢ - ٣، وقوله تعالى في رجوع النبيّ إلى مكّة بعد الهجرة:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) القصص - ٨٥ ، وقوله تعالى( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ) الآية الفتح - ٢٧، وقوله تعالى:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) الفتح - ١٥، وقوله تعالى:( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) المائدة -٦٧، وقوله تعالى:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر- ٩، وآيات اُخر كثيرة في وعد المؤمنين وعيد كفّار مكّة ومشركيها.

ومن هذا الباب آيات اُخر في الملاحم نظير قوله تعالى:( وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) الأنبياء - ٩٥، ٩٧، وقوله تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) النور - ٥٥، وقوله تعالى( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ) الانعام - ٦٥، ومن هذا الباب قوله تعالى:( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ )

٦٣

الحجر - ٢٢، وقوله تعالى( وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) الحجر - ١٩، وقوله تعال:( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) النباء - ٧، ممّا يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علميّة مجهولة عند النزول حتّى اكتشف الغطاء عن وجهها بالأبحاث العلميّة الّتي وفق الإنسان لها في هذه الأعصار.

ومن هذا الباب (وهو من مختصّات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض واستشهاد بعضها على بعض) ما في سورة المائدة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) الآية المائدة - ٥٤. وما في سورة يونس من قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) إلى آخر الآيات يونس - ٤٧، وما في سورة الروم من قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) الآية الروم - ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنبئ عن الحوادث العظيمة الّتي تستقبل الاُمّة الإسلاميّة أو الدنيا عامّة بعد عهد نزول القرآن، وسنورد انشاء الله تعالى طرفاً منها في البحث عن سورة الاسراء.

( تحدّي القرآن بعدم الإختلاف فيه)

وقد تحدّى أيضاً بعدم وجود الإختلاف فيه، قال تعالى:( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء - ٨٢، فإنّ من الضروريّ أنّ النشأة نشأة المادّة والقانون الحاكم فيها قانون التحوّل والتكامل فما من موجود من الموجودات الّتي هي أجزاء هذا العالم الّا وهو متدرّج الوجود متوجّه من الضعف إلى القوّة ومن النقص إلى الكمال في ذاته وجميع توابع ذاته ولواحقه من الافعال والآثار ومن جملتها الإنسان الّذي لا يزال يتحوّل ويتكامل في وجوده وأفعاله وآثاره الّتي منها آثاره الّتي يتوسّل إليها بالفكر والإدراك، فما من واحد منّا إلّا وهو يرى نفسه كلّ يوم أكمل من أمس ولا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله وعثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأوّل، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.

٦٤

وهذا الكتاب جاء به النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) نجوما وقرأه على الناس قطعاً قطعاً في مدّة ثلاث وعشرين سنة في أحوال مختلفة وشرائط متفاوتة في مكّة والمدينة في الليل والنهار والحضر والسفر والحرب والسلم في يوم العسرة وفي يوم الغلبة ويوم الأمن ويوم الخوف، ولإلقاء المعارف الإلهيّة وتعليم الأخلاق الفاضلة وتقنين الأحكام الدينيّة في جميع أبواب الحاجة، ولا يوجد فيه أدنى إختلاف في النظم المتشابه، كتاباً متشابها مثانى ولم يقع في المعارف الّتي ألقاها والاُصول الّتي أعطاها إختلاف يتناقض بعضها مع بعض وتنافي شئ منها مع آخر، فالآية تفسّر الآية والبعض يبيّن البعض، والجملة تصدّق الجملة كما قال عليعليه‌السلام : (ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) (نهج البلاغة). ولو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن والبهاء والقول في الشداقة والبلاغة والمعنى من حيث الفساد والصحّة ومن حيث الإتقان والمتانة.

فإن قلت: هذه مجرّد دعوى لا تتّكي على دليل وقد اُخذ على القرآن مناقضات وإشكالات جمّة ربّما ألف فيه التأليفات، وهى إشكالات لفظيّة ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة ومناقضات معنويّة تعود إلى خطأه في آرائه وأنظاره وتعليماته، وقد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلّا إلى التأويلات الّتي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة وإرتضاء الفطرة السليمة.

قلت: ما اُشير إليه من المناقضات والإشكالات موجودة في كتب التفسير وغيرها مع أجوبتها ومنها هذا الكتاب، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.

ولا تكاد تجد في هذه المؤلّفات الّتي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلّا وهي مذكور في مسفورات المفسّرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات وجمعوها ورتّبوها وتركوا الأجوبة وأهملوها، ونعم ما قيل: لو كانت عين الحبّ متّهمة فعين البغض أولى بالتهمة.

فإن قلت: فما تقول في النسخ الواقع في القرآن وقد نصّ عليه القرآن نفسه في قوله:( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) البقرة - ١٠٦ وقوله:( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) النحل - ١٠١، وهل النسخ إلّا إختلاف في

٦٥

النظر لو سلّمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول ؟.

قلت: النسخ كما أنّه ليس من المناقضة في القول وهو ظاهر كذلك ليس من قبيل الإختلاف في النظر والحكم وإنّما هو ناش من الإختلاف في المصداق من حيث قبوله إنطباق الحكم يوماً لوجود مصلحته فيه وعدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدّل المصلحة من مصلحة اُخرى توجب حكما آخر، ومن أوضع الشهود على هذا أنّ الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظيّة تؤمي إلى أنّ الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى:( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ) النساء - ١٥، (انظر إلى التلويح الّذي تعطيه الجملة الأخيرة)، وكقوله تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ) إلى أن قال( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) البقرة - ١٠٩، حيث تمّم الكلام بما يشعر بأنّ الحكم مؤجّل.

( التحدّي بالبلاغة)

وقد تحدّى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) هود - ١٣، ١٤. والآية مكّية، وقوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس - ٣٨، ٣٩. والآية أيضاً مكّية وفيها التحدّي بالنظم والبلاغة فإنّ ذلك هو الشأن الظاهر من شؤون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أنّ العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الاُمم المتقدّمة عليهم والمتأخّرة عنهم و وطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق. وقد تحدّى عليهم القرآن بكلّ تحدّ ممكن ممّا يثير الحميّة ويوقد نار الأنفة والعصبيّة. وحالهم في الغرور

٦٦

ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم ممّا لا يرتاب فيه، وقد طالت مدّة التحدّي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلّا بالتجافي ولم يزدهم إلّا العجز ولم يكن منهم إلّا الاستخفاء والفرار، كما قال تعالى:( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) هود - ٥.

وقد مضى من القرون والأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشئ إلّا أخزى نفسه وافتضح في أمره.

وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: ( الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل ) وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبيّة (فنولجه فيكنّ إيلاجا، ونخرجه منكن إخراجاً) فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى (الحمد للرحمن. ربّ الأكوان الملك الديّان. لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الايمان) إلى غير ذلك من التقوّلات.

فإن قلت: ما معنى كون التأليف الكلاميًّ بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان ووضع الكلام ممّا سمحت به قريحة الإنسان ؟ فكيف يمكن أن يترشّح من القريحة ما لا تحيط به والفاعل أقوى من فعله ومنشأ الاثر محيط بأثره ؟ وبتقريب آخر الإنسان هو الّذي جعل اللّفظ علامة دالّة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعيّة إلى تفهيم الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصّة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصّة وضعيّة اعتباريّة مجعولة للإنسان، ومن المحال أن يتجاوز هذه الخاصّة المترشّحة عن قريحة الإنسان حدّ قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقّق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة وإلّا كانت غير الدلالة الوضعيّة الاعتباريّة، مضافا إلى أنّ التراكيب الكلاميّة لو فرض أنّ بينها تركيباً بالغا حدّ الإعجاز كان معناه أن كلّ معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلاميّة مختلفة في النقص والكمال والبلاغة وغيرها، وبين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها وابلغها لا تسعها طاقة البشر، وهو التركيب المعجز، ولازمه أن يكون في كلّ معنى مطلوب تركيب واحد إعجازيّ، مع أنّ القرآن

٦٧

كثيراً ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة وتراكيب متفرّقة، وهو في القصص واضح لا ينكر، ولو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كلّ معنى مقصود إلّا واحد لا غير.

قلت: هاتان الشبهتان وما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف، ومعنى الصرف أنّ الإتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدّي وظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون، ولكن لا لكون التأليفات الكلاميّة الّتي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الإنسان وفائقة على القوّة البشريّة، مع كون التأليفات جميعاً أمثالا لنوع النظم الممكن للإنسان، بل لأنّ الله سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها والإتيان بمثلها بالإرادة الإلهيّة الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوّة ووقاية لحمى الرسالة.

وهذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدلّ عليه آيات التحدّي بظاهرها كقوله( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ) الآية هود - ١٣ و ١٤، فإنّ الجملة الأخيرة ظاهرة في أنّ الاستدلال بالتحدّي إنّما هو على كون القرآن نازلاً لا كلاماً تقوله رسول الله (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وأنّ نزوله إنّما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) الطور - ٣٤، وقوله تعالى:( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) الشعراء - ٢١٢، والصرف الّذي يقولون به إنّما يدلّ على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده، ونظير هذه الآية الآية الاُخرى، وهي قوله:( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) الآية يونس - ٣٩، فإنّها ظاهرة في أنّ الّذي يوجب إستحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كلّ من يعينهم على ذلك من تحمّل هذا الشأن هو أنّ للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذّبوه، ولا يحيط به علماً إلّا الله فهو الّذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكّنهم منه لولا الصرف بإرادة من الله تعالى.

٦٨

وكذا قوله تعالى:( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) الآية النساء - ٨٢، فإنّه ظاهر في أنّ الّذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنّما هو كونه في نفسه على صفة عدم الإختلاف لفظاً ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الإختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الإختلاف الّذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.

وأما الإشكال باستلزام الاعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغه من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الإنسانيّة فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدّا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أنّ الّذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنّما هو كشف اللّفظ المفرد عن معناه، وأمّا سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلّف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامّة أو ناقصة وإرائة واضحة أو خفيّة، وكذا تنظيم الصورة العلميّة في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدّماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنّما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفنّ البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ ونظم الأدوات اللفظيّة ونوع لطف في الذهن يحيط به القوّة الذاهنة على الواقعة المحكيّة بأطرافها ولوازمها ومتعلّقاتها.

فهيهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربّما أحاط إنسان بلغة من اللّغات فلا يشذّ عن علمه لفظ لكنّه لا يقدر على التهجّي والتكلّم، وربما تمهّر الإنسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلّم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته الّتي هو عليها في نفسه، وربّما تبحّر الإنسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقّت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره، وعىّ عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.

فهذه اُمور ثلاثة: أوّلها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعيّة، والثانى والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوّة المدركة، ومن البيّن أن إدراك القوى المدركة

٦٩

منّا محدودة مقدّرة لا نقدر على الإحاطه بتفاصيل الحوادث الخارجيّة والاُمور الواقعيّة بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطأ قطّ في وقت من الأوقات، ومع ذلك فالإستكمال التدريجيّ الّذي في وجودنا أيضاً يوجب الإختلاف التدريجيّ في معلوماتنا أخذاً من النقص إلى الكمال، فأيّ خطيب اشدق وأي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أوّل أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره ؟ فلو فرضنا كلاماً إنسانيّاً أيّ كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم إطّلاع متكلّمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه (أوّلاً) ولم يكن على حدّ كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللّاحق بل ولا أوّله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقّة الأمر، لكن حكم التحوّل والتكامل عامّ (ثانياً)، وعلي هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه (وجدّ الهزل هو القول بغير علم محيط) ولا إختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريّا، وهو الّذي يفيده القرآن بقوله:( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) الآية النساء - ٨٢، وقوله تعالى:( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق - ١٤. أنظر إلى موضع القسم بالسماء والأرض المتغيّرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيّره واتّكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله (وسيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل)، وقوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج - ٢٢، وقوله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف - ٤. وقوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، فهذه الآيات ونظائرها تحكى عن إتّكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيّرة ولا متغيّر ما يتكّي عليها.

إذا عرفت ما مرّ علمت أن إستناد وضع اللّغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلاميّ فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع له، وليس ذلك إلّا كالقول بان القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون امهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.

٧٠

فقد تبيّن من ذلك كلّه أنّ البلاغة التامّة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللّفظ للمعني ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الّذي يحكيه الصورة الذهنيّة. أمّا اللّفظ فإن يكون الترتيب الّذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقاً للترتيب الّذي بين أجزاء المعنى المعبّر عنه باللّفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجانيّ في دلائل الإعجاز.

وأما المعنى فإن يكون في صحّته وصدقه معتمداً على الخارج الواقع بحيث لا يزول عمّا هو عليه من الحقيقة، وهذه المرتبة هي الّتي يتكّى عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليّته لكنّه لا يقاوم الجدّ، وكم من كلام بليغ مبنىّ على الجهالة لكنّه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الاُسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو أرقى الكلام.

وإذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذّب الحقائق الاُخر ولم تكذّبه فإنّ الحقّ مؤتلف الأجزاء ومتّحد الأركان، لا يبطل حقّ حقّاً، ولا يكذّب صدق صدقا، والباطل هو الّذي ينافي الباطل وينافي الحقّ، أنظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى:( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ) يونس - ٣٢، فقد جعل الحقّ واحدا لا تفرّق فيه ولا تشتّت. وانظر إلى قوله تعالى:( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ) الانعام - ١٥٣. فقد جعل الباطل متشتّتا ومشتّتا ومتفرّقا و مفرّقا.

وإذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحقّ إختلاف بل نهاية الايتلاف، يجرّ بعضه إلى بعض، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.

وهذا من عجيب أمر القرآن فإنّ الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الإنتاج، كلّما ضمّت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثمّ الآية الثالثة تصدّقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصّته، وستري في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على أنّ الطريق متروك غير مسلوك ولو أنّ المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.

٧١

فقد اتّضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعاً فإنّ أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتّى يقال إنّ الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال إنّ ابلغ التركيبات المتصوّرة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعدّدة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حدّ الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.

( معنى الآية المعجزة في القرآن وما يفسر به حقيقتها)

ولا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة وتحقّقها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدّال على تصرّف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادّة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل.

وما تمحّله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالّة على ذلك توفيقاً بينها وبين ما يترائى من ظواهر الأبحاث الطبيعيّة (العلميّة) اليوم تكلّف مردود إليه.

والّذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة وإعطاء حقيقتة نذكره في فصول من الكلام.

( ١ - تصديق القرآن لقانون العليّة العامّة)

إنّ القرآن يثبت للحوادث الطبيعيّة أسباباً ويصدّق قانون العليّة العامّة كما يثبته ضرورة العقل وتعتمد عليه الأبحاث العلميّة والأنظار الاستدلاليّة، فإنّ الإنسان مفطور على أن يعتقد لكلّ حادث مادّيّ علّة موجبة من غير تردّد وإرتياب. وكذلك العلوم الطبيعيّة وساير الأبحاث العلميّة تعلّل الحوادث والاُمور المربوطة بما تجده من اُمور اُخرى صالحة للتعليل، ولا نعني بالعلّة إلّا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع اُمور إذا تحقّقت في الطبيعة مثلا تحقّق عندها أمر آخر نسمّيه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنّه كلّما تحقّق إحتراق لزم أن يتحقّق هناك قبله علّة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، ومن هنا كانت الكلّيّة وعدم التخلّف من أحكام العلّيّة والمعلوليّة ولوازمهما.

٧٢

وتصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه وتكلّم فيه من موت وحيوة ورزق وحوادث اُخرى علويّة سماويّة أو سفليّة أرضيّة على أظهر وجه، وإن كان يسندها جميعاً بالاخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.

فالقرآن يحكم بصحّة قانون العليّة العامّة بمعنى أنّ سبباً من الأسباب إذا تحقّق مع ما يلزمه ويكتنف به من شرائط التّأثير من غير مانع لزمه وجود مسبّبه مترتّباً عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبّب كشف ذلك عن تحقّق سببه لا محالة.

( ٢ - اثبات القرآن ما يخرق العادة)

ثمّ إنّ القرآن يقتصّ ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلّة والمعلول الموجود، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة الّتي ينسبها إلى عدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمّد (صلّي الله عليه و آله و سلّم) فإنّها امور خارقة للعادة المستمرّة في نظام الطبيعة.

لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الاُمور والحوادث و إن انكرتها العادة واستبعدتها إلّا أنّها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروريّ كما يبطل قولنا : الايجاب والسلب يجتمعان معاً ويرتفعان معاً من كلّ جهة وقولنا الشئ يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا: لواحد ليس نصف الإثنين وأمثال ذلك من الاُمور الممتنعة بالذات كيف ؟ وعقول جمّ غفير من الملّيّين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير إنكار وردّ ولو كانت المعجزات ممتنعه بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدلّ بها على شئ ولم ينسبها أحد إلى أحد.

على أنّ أصل هذه الاُمور أعني المعجزات ليس ممّا تنكره عادة الطبيعة بل هي ممّا يتعاوره نظام المادّة كل حين بتبديل الحىّ إلى ميّت والميّت إلى الحىّ وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاءٍ وبلاءٍ إلى رخاء، وإنّما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أنّ الأسباب المادّيّة المشهودة الّتي بين أيدينا

٧٣

إنّما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانيّة ومكانيّة خاصّة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا وإن أمكن أن تصير حيّة تسعى والجسد البالى وإن أمكن أن يصير إنسانا حيّا لكنّ ذلك إنّما يتحقّق في العادة بعلل خاصّة وشرائط زمانيّة ومكانيّة مخصوصة تنتقل بها المادّة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتّى تستقرّ وتحلّ بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدّقه المشاهدة والتجربة لا مع أيّ شرط إتّفق أو من غير علّة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق الّتي يقصها القرآن.

وكما أنّ الحسّ والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلميّ الطبيعيّ، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلّة والمعلول الطبيعيّين، اعني به السطح الّذى يستقر عليه التجارب العلميّ اليوم والفرضيّات المعلّلة للحوادث المادّيّة.

إلّا أنّ حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الإرتياض كلّ يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريّات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لبّ في وقوعها شكّ ولا في تحقّقها ريب.

وهذا هو الّذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحيّة من علماء العصر أن يعلّلوه بجريان أمواج مجهولة الكتريسية مغناطيسيّة فافترضوا أن الإرتياضات الشاقّة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قويّة تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرّفات عجيبة في المادّة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك.

وهذه الفرضيّة لو تمّت وأطّردت من غير انتقاض لأدّت إلى تحقّق فرضيّة جديدة وسيعة تعلّل جميع الحوادث المتفرّقة الّتي كانت تعلّلها جميعاً أو تعلّل بعضها الفرضيّات القديمة على محور الحركة والقوّة ولساقت جميع الحوادث المادّيّة إلى التعلّل والارتباط بعلّة واحدة طبيعيّة.

٧٤

فهذا قولهم والحقّ معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعيّ لا علّة طبيعيّة له مع فرض كون الرابطة طبيعيّة محفوظة، وبعبارة اُخرى إنا لا نعني بالعلّة الطبيعيّة إلّا أن تجتمع عدّة موجودات طبيعيّة مع نسب وروابط خاصّة فيتكوّن منها عند ذلك موجود طبيعيّ جديد حادث متأخّر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقّق وجوده.

وأما القرآن الكريم فإنّه وإن لم يشخّص هذه العلّة الطبيعيّة الأخيرة الّتي تعلّل جميع الحوادث المادّيّة العاديّة والخارقة للعادة (على ما نحسبه) بتشخيص إسمه وكيفيّة تأثيره لخروجه عن غرضه العامّ إلّا أنّه مع ذلك يثبت لكلّ حادث مادّيّ سبباً مادّيّاً بإذن الله تعالى، وبعبارة اُخرى يثبت لكلّ حادث مادّيّ مستند في وجوده إلى الله سبحانه و (الكلّ مستند) مجرى مادّيّاً وطريقاً طبيعيّاً به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه. قال تعالى:( وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق - ٣، فإنّ صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتّقى الله وتوكّل عليه وإن كانت الأسباب العاديّة المحسوبة عندنا أسباباً تقضي بخلافه وتحكم بعدمه فإنّ الله سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة، كما يدلّ عليه أيضاً اطلاق قوله تعالى:( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) البقرة - ١٨٦، وقوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) غافر- ٦٠، وقوله تعالى:( أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) الزمر - ٣٦. ثمّ الجملة التالية وهي قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق - ٣، يعلّل إطلاق الصدر، وهذا المعنى قوله:( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف - ٢١. وهذه جملة مطلقة غير مقيّدة بشئ البتّة فللّه سبحانه سبيل إلى كلّ حادث تعلّقت به مشيّته وإرادتة وإن كانت السبل العاديّة والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.

وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسّل تعالى إليه من غير سبب مادّيّ وعلّة طبيعيّة بل بمجرّد الإرادة وحدها، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعيّ مستور عن

٧٥

علمّنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه إلّا أنّ الجملة التالية من الآية المعلّلة لما قبلها أعني قوله تعالى( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) تدلّ على ثاني الوجهين فإنّها تدلّ على أنّ كلّ شئ من المسبّبات أعمّ ممّا تقتضيه الإسباب العاديّة أو لا تقتضيه فإنّ له قدرا قدّره الله سبحانه عليه، وإرتباطات مع غيره من الموجودات، واتّصالات وجوديّة مع ما سواه، لله سبحانه أن يتوسّل منها إليه وإن كانت الإسباب العاديّة مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلّا أنّ هذه الإتّصالات والإرتباطات ليست مملوكة للإشياء أنفسها حتّى تطيع في حال وتعصى في إخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.

فالآية تدلّ على أنّه تعالى جعل بين الإشياء جميعها إرتباطات واتّصالات له إن يبلغ إلى كلّ ما يريد من أيّ وجه شاء وليس هذا نفيً للعليّة والسببيّة بين الأشياء بل إثبات أنّها بيد الله سبحانه يحوّلها كيف شاء وأراد. ففي الوجود علية وارتباط حقيقيّ بين كلّ موجود وما تقدّمه من الموجودات المنتظمة غير أنّها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (ولذلك نجد لفرضيّات العلميّة الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجوديّة) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه.

وهذه الحقيقة هي الّتي تدلّ عليها آيات القدر كقوله تعالى:( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر - ٢١، وقوله تعالى:( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر - ٤٩، وقوله تعالى:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان - ٢، وقوله تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الاعلى - ٣. وكذا قوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ) الحديد - ٢٢، وقوله تعالى:( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن - ١١. فإنّ الآية الُولى وكذا بقيّة الآيات تدلّ على أنّ الأشياء تنزّل من ساحة الاطلاق إلى مرحلة التعيّن والتشخّص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدّم على الشئ ويصاحبه، ولا معنى لكون الشئ محدودً مقدّرً في وجوده إلّا أن يتحدّد ويتعيّن بجميع روابطه الّتي مع سائر الموجودات والموجود المادّيّ مرتبط بمجموعة من الموجودات المادّيّة الاخرى الّتي هي كالقالب الّذي يقلب به الشئ ويعيّن وجوده ويحدّده

٧٦

ويقدّره فما من موجود مادّيّ إلّا وهو متقدّر مرتبط بجميع الموجودات المادّيّة الّتي تتقدّمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.

ويمكن أن يستدلّ أيضاً على ما مرّ بقوله تعالى:( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ - إلي أن قال -خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الأنعام - ١٠٢، وقوله تعالى:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) هود - ٥٦. فإنّ الآيتين بانضمام ما مرّت الاشارة إليه من أن الآيات القرآنيّة تصدّق قانون العلّيّة العامّ تنتج المطلوب.

وذلك أنّ الآية الُولى تعمّم الخلقة لكلّ شئ فما من شئ إلّا وهو مخلوق لله عزّ شأنه، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والايجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير إختلاف يؤدّي إلى الهرج والجزاف.

والقرآن كما عرفت يصدّق قانون العلّيّة العامّ في ما بين الموجودات المادّيّة ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادّيّة سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلّف ووتيرة واحدة في إستناد كلّ حادث فيه إلى العلّة المتقدّمة عليه الموجبة له.

ومن هنا يستنتج أنّ الأسباب العاديّة الّتي ربما يقع التخلّف بينها وبين مسبّباتها ليست بأسباب حقيقيّة بل هناك أسباب حقيقيّة مّطردة غير متخلّفة الأحكام والخواصّ كما ربّما يؤيّده التجارب العلميّ في جراثيم الحيإة وفي خوارق العادة كما مر.

( ٣ - القرآن يسند ما أسند إلى العلّة المادّيّة إلى الله تعالى)

ثمّ إنّ القرآن كما يثبت بين الأشياء العلّيّة والمعلوليّة ويصدّق سببيّة البعض للبعض كذلك يسند الإمر في الكلّ إلى الله سبحانه فيستنتج منه أنّ الأسباب الوجوديّة غير مستقلّة في التأثير والمؤثّر الحقيقيّ بتمام معنى الكلمة ليس إلّا الله عزّ سلطانه. قال تعالى:( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) الاعراف - ٥٤، وقال تعالى( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة - ٢٨٤، وقال تعالى:( لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد - ٥، وقال تعالى:( قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ ) النساء - ٧٨. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ كلّ شئ مملوك محض لله

٧٧

لا يشاركه فيه إحد، وله أن يتصرّف فيها كيف شاء وأراد وليس لإحد أن يتصرّف في شئ منها إلّا من بعد أن يأذن الله لمن شاء ويملّكه التصرّف من غير إستقلال في هذا التمليك أيضاً، بل مجرّد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الآذن، قال تعالى:( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ) آل عمران - ٢٦، وقال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، إلى غير ذلك من الآيات، وقال تعالى أيضاً:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥، وقال تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣.

فالأسباب تملّكت السببيّة بتمليكه تعالى، وهي غير مستقلّة في عين أنّها مالكة. وهذا المعنى هو الّذي يعبّر سبحانه عنه بالشفاعة والإذن، فمن المعلوم أنّ الاذن إنّما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرّف المأذون فيه، والمانع أيضاً إنّما يتصوّر فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره ويحول بينه وبين تصرّفه.

فقد بان أنّ في كل السبب مبدئً مؤثّرً مقتضيًّ للتأثير به يؤثّر في مسبّبه، والإمر مع ذلك لله سبحانه.

( ٤ - القرآن يثبت تأثيرً في نفوس الأنبياء في الخوارق)

ثمّ أنّه تعالى قال:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) غافر- ٧٨.

فأفاد إناطة اتيان أية آية من أيّ رسول بإذن الله سبحانه فبيّن أن إتيان الآيات المعجزة من الأنبياء وصدورها عنهم إنّما هو لمبدأ مؤثّر موجود في نفوسهم الشريفة متوقّف في تأثيره على الإذن كما مرّ في الفصل السابق.

قال تعالى:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) البقرة - ١٠٢. ولآية كما أنّها تصدّق صحّة السحر في الجملة كذلك تدلّ على إنّ السحر أيضاً كالمعجزة في كونه عن مبدأ

٧٨

نفسانيّ في الساحر لمكان الإذن.

وبالجملة جميع الُمور الخارقة للعادة سواء سمّيت معجزة أو سحرً أو غير ذلك ككرامات الإولياء وسائر الخصال المكتسبة بالارتياضات والمجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانيّة ومقتضيات إراديّة على ما يشير إليه كلامه سبحانه إلّا إنّ كلامه ينصّ على إنّ المبدأ الموجود عند الأنبياء والرسل والمؤمنين هو الفائق الغالب على كلّ سبب وفي كلّ حال، قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافات - ١٧٣، وقال تعالى:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقال تعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) غافر - ٥١. والآيات مطلقة غير مقيّدة.

ومن هنا يمكن أن يستنتج أنّ هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة وفوق المادّة. فإنّ الُمور المادّيّة مقدّرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرً وحدّا عند التزاحم والمغالبة، والُمور المجرّدة إيضاً وإن كانت كذلك إلا أنّها لا تزاحم بينها ولا تمانع إلّا إن تتعلّق بالمادّة بعض التعلّق، وهذا المبدأ النفسانيّ المجرّد المنصور بإرادة الله سبحانه إذا قابل مانعً ماديًّ إفاض إمدادً على السبب بما لا يقاومه سبب مادّيّ يمنعه فافهم.

( ٥ - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى)

ثمّ إنّ الجملة الإخيرة من الآية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى:( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) الآية، تدلّ على إن تأثير هذا المقتضي يتوقّف على أمر من الله تعالى يصاحب الإذن الّذي كان يتوقّف عليه أيضاً فتأثير هذا المقتضى يتوقّف على مصادفته الامر أو اتّحاده معه. وقد فسّر الُمر في قوله تعالى( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس - ٨٢، بكلمة الايجاد وقول: كن. وقال تعالى:( إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ ) الدهر: ٢٩ - ٣٠ وقال:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) التكوير -

٧٩

٢٧، ٢٨، ٢٩، دلّت الآيات على أنّ الأمر الّذي للإنسان أن يريده وبيده زمام اختياره لا يتحقّق موجوداً إلّا أن يشاء الله ذلك بأن يشاء أن يشاء الإنسان ويريد إرادة الإنسان فإنّ الآيات الشريفة في مقام أنّ أفعال الإنسان الإراديّة وإن كانت بيد الإنسان بإرادته لكن الإرادة والمشيّة ليست بيد الإنسان بل هي مستندة إلى مشيّة الله سبحانه، وليست في مقام بيان أنّ كلّ ما يريده الإنسان فقد اراده الله فإنّه خطأ فاحش ولازمه أن يتخلّف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلّفه عن إرادة الإنسان، تعالى الله عن ذلك. مع أنّه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى:( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) السجدة - ١٣. وقوله تعالى:( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) يونس - ٩٩، إلى غير ذلك فإرادتنا ومشيئاتنا إذا تحقّقت فينا فهي مرادة بإرادة الله ومشيّتة لها وكذا أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا ومشيّتنا بالواسطة. وهما أعني الارادة والفعل جميعاً متوقّفان على أمر الله سبحانه وكلمة كن.

فالاُمور جميعاً سواء كانت عاديّة أو خارقة للعادة وسواءٌ كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة، أو في جانب الشرّ كالسحر والكهانة مستندة في تحقّقها إلى أسباب طبيعيّة، وهي مع ذلك متوقّفة على ارادة الله، لا توجد إلّا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتّحد مع أمر الله سبحانه.

وجميع الأشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الأمر الإلهيّ على حدّ سواء بحيث إذا تحقّق الإذن والأمر تحقّقت عن أسبابها، وإذا لم يتحقّق الإذن والأمر لم تتحقّق، أي لم تتمّ السببيّة إلّا أنّ قسماً منها وهو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد ربّه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمة كما يدلّ عليه قوله:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) الآية المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) الآية البقرة - ١٨٦، وغير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.

٨٠