الميزان في تفسير القرآن الجزء ١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 459

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 459
المشاهدات: 154931
تحميل: 6943


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 459 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 154931 / تحميل: 6943
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( ٦ - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب)

فقد تبيّن من الفصول السابقة من البحث أنّ المعجزة كسائر الاُمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العاديّة في الاحتياج إلى سبب طبيعيّ وأن مع الجميع أسبابا باطنيّة وأن الفرق بينها أن الاُمور العاديّة ملازمة لأسباب ظاهريّة تصاحبها الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة غالباً أو مع الأغلب ومع تلك الأسباب الحقيقيّة إرادة الله وأمره، والاُمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر والكهانة مستندة إلى أسباب طبيعيّة مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقيّ بالإذن والإرادة كإستجابة الدعاء ونحو ذلك من غير تحدّ يبتني عليه ظهور حقّ الدعوة وأن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعيّ حقيقيّ بإذن الله وأمره إذا كان هناك تحدّ يبتنى عليه صحّة النبوّة والرسالة والدعوة إلى الله تعالى وأنّ القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أنّ سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قطّ بخلاف سائر المسبّبات.

فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة والبلوغ إلى السبب الطبيعيّ الّذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبيّ أيضاً ولم يبق فرق بين المعجزة وغيرها إلّا بحسب النسبة والإضافه فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، وهم المطّلعون على سببها الطبيعيّ الحقيقيّ، وفي عصر دون عصر، وهو عصر العلم. فلو ظفر البحث العلميّ على الأسباب الحقيقيّة الطبيعيّة القصوى لم يبق مورد للمعجزة ولم تكشف المعجزة عن الحق. ونتيجه هذا البحث أن المعجزة لا حجيّة فيها إلّا على الجاهل بالسبب فليست حجّة في نفسها.

قلت: كلّا فليست المعجزة معجزة من حيث أنّها مستندة إلى سبب طبيعيّ مجهول حتّى تنسلخ عن إسمها عند إرتفاع الجهل وتسقط عن الحجيّة، ولا أنّها معجزة من حيث إستنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث أنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتّة، وذلك كما أنّ الأمر الحادث من جهة إستجابة الدعاء كرامة من حيث إستنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنّه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنّه حينئذ أمر عاديّ يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

٨١

( ٧ - القرآن يعدّ المعجزة برهاناً على صحّة الرّسالة لا دليلاً عاميّاً)

وهيهنا سؤال وهو أنّه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقيّة دعوى الرسالة مع أنّ العقل لا يرى تلازماً بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أنّ الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدّة من الأنبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّهم على ما يقصّه القرآن حينما بثّوا دعوتهم سئلوا عن آية تدلّ على حقّيّة دعوتهم فأجابوهم فيما سألوا وجاؤا بالآيات.

وربّما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئاً من ذلك كما قال تعالى في موسىعليه‌السلام وهارون( اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) طه - ٤٢، وقال تعالى في عيسىعليه‌السلام :( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٤٩، وكذا إعطاء القرآن معجزة للنبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقيّة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.

مضافاً إلى أنّ قيام البراهين الساطعة على هذه الاُصول الحقّة يغنى العالم البصير بها عن النظر في أمرالإعجاز، ولذا قيل إنّ المعجزات لإقناع نفوس العامّة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقليّة وأمّا الخاصّة فإنّهم في غنى عن ذلك.

والجواب عن هذا السؤال أنّ الأنبياء والرسلعليهم‌السلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لاثبات شئ من معارف المبدأ والمعاد ممّا يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالها وإنّما اكتفوا في ذلك بحجّة للعقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى:( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) : إبراهيم - ١٠ في الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا

٨٢

مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص - ٢٨ في الإحتجاج على البعث. وإنّما سئل الرسل المعجزة وأتوابها لإثبات رسالتهم وتحقيق دعواها.

وذلك أنّهم ادّعوا الرسالة من الله بالوحى وأنّه بتكليم إلهيّ أو نزول ملك ونحو ذلك وهذا شئٌ خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة والباطنة الّتي يعرفها عامّة الناس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامّة النفوس لو صحّ وجوده لكان تصرّفاً خاصّاً من ماوراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أنّ الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشريّة وقواها، ولذلك صادفوا إنكاراً شديداً من الناس ومقاومة عنيفة في ردّه على أحد وجهين:

فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجّة كقوله تعالى:( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) إبراهيم - ١٠، إستدلّوا فيها على بطلان دعواهم الرسالة بأنّهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئاً ممّا يدّعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، ولهذا أجاب الرسل عن حجّتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله:( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) إبراهيم - ١١، فردّوا عليهم بتسليم المماثلة وأنّ الرسالة من منن الله الخاصّة، والإختصاص ببعض النعم الخاصّة لا ينافي المماثلة فللناس إختصاصات، نعم لو شاء أن يمتنّ على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوّة مختصّة بالبعض وإن جاز على الكلّ.

ونظير هذا الإحتجاج قولهم في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما حكاه الله تعالى:( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ) ص - ٨، وقولهم كما حكاه الله:( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) الزخرف - ٣١.

ونظير هذا الإحتجاج أو قريب منه ما في قول تعالى:( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ ) الفرقان - ٨، ووجه الإستدلال أنّ دعوى الرسالة توجب

٨٣

أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقي إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنّة فيأكل منها لا ممّا نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) إلى أن قال:( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) الفرقان - ٢٠، وردّ تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله:( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) الانعام - ٩.

وقريب من ذلك الإحتجاج أيضاً ما في قوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان - ٢١، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الربّ سبحانه لمكان المماثلة مع النبيّ، فرّد الله تعالى عليهم ذلك بقوله:( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) الفرقان - ٢٢، فذكر أنّهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلّا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى:( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ ) الحجر - ٨، ويشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الإستدلال، وهو تسليم صدق النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم) في دعواه إلّا أنّه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوّله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله:( وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) القمر - ٩.

وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجّة على إبطال دعوى النبوّة من طريق المماثلة.

وتارة أخري أقاموا أنفسهم مقام الإنكار وسؤال الحجّة والبيّنة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند بإصطلاح فنّ المناظرة) وهذه البيّنة هي المعجزة، بيان ذلك أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ

٨٤

نبيّ ورسول على ما يقصّه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحى والتكليم الإلهيّ بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحسّ ولا تؤيّده التجربة فيتوجّه عليه الإشكال من جهتين: أحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإنّ الوحى والتكليم الإلهيّ وما يتلوه من التشريع والتربية الدينيّة ممّا لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكرة فهو أمر خارق للعادة، وقانون العليّة العامّة لا يجوّزه، فلو كان النبيّ صادقا في دعواه النبوّة والوحى كان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيّد بقوّة إلهيّة تقدر على خرق العادة وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته والوحى إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقّا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن أن يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوّة والوحى من غير مانع عنه فإنّ حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة والوحى فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.

وهذا هو الّذي بعث الاُمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جائهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقّة الّتي كان الأنبياء يدعون إليها ممّا يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد، ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدّهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدّعيها للسيّد فإنّ بيانه لهذه الأحكام وإقامتة البرهان على أنّ هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيّدهم لا يريد إلّا صلاح شأنهم، إنّما يكفي في كون الأحكام الّتي جاء بها حقّة صالحة للعمل ولا تكفى البراهين والأدّلة المذكورة في صدق رسالتة وأن سيّدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببيّنة أو علامة تدلّ على صدقه في دعواه ككتاب بخطّه وخاتمه يقرئونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبيّ:( حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) أسرى - ٩٣. فقد تبيّن بما ذكرناه أوّلاً: التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة

٨٥

وأنّها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصّة والعامّة في دلالتها وإثباتها، وثانياً أنّ ما يجده الرسول والنبيّ من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسّنا وعقولنا النظريّة الفكريّة، فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقلّ إنصاف.

وقد إنحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة والحقائق الدينيّة على ما وصفه العلوم الطبيعيّة من اصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة فقد رأوا أنّ الإدراكات الإنسانيّة خواصّ مادّيّة مترشّحة من الدماغ وأنّ الغايات الوجوديّة وجميع الكمالات الحقيقيّة إستكمالات فرديّة أو اجتماعيّة مادّيّة.

فذكروا أنّ النبوّة نوع نبوغ فكريّ وصفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمّى نبيّاً كمال قومه الإجتماعيّ ويريد به أن يخلّصهم من ورطة الوحشيّة والبربريّة إلى ساحة الحضارة والمدنيّة فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبّقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته، فيقنّن لهم أصولا اجتماعيّة وكليّات عمليّة يستصلح بها أفعالهم الحيويّة ثمّ يتمّم ذلك بأحكام واُمور عباديّة ليستحفظ بها خواصّهم الروحيّة لافتقار الجامعة الصالحة والمدنيّة الفاضلة إلى ذلك ويتفرّع على هذا الافتراض:

أوّلاً: أنّ النبيّ إنسان متفكّر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعيّ.

وثانياً: أنّ الوحي هو إنتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

وثالثاً: أنّ الكتاب السماويّ مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزّهة عن التهوسات النفسانيّة والأغراض النفسانيّة الشخصيّة.

ورابعاً: أنّ الملائكة الّتي أخبر بها النبيّ قوى طبيعيّة تدبّر اُمور الطبيعة أو قوى نفسانيّة تفيض كمالات النفوس عليها، وأنّ روح القدس مرتبة من الروح الطبيعيّة المادّيّة تترشّح منها هذه الأفكار المقدّسة، وأنّ الشيطان مرتبة من الروح تترشّح منها الأفكار الرديّة وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسرّوا الحقائق الّتي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والكتاب والحساب والجنّة والنار بما يلائم الاُصول المذكورة.

٨٦

وخامساً: أنّ الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحوّلها.

وسادساً: أنّ المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامّة عن التبدّل بتحوّل الأعصار أو لحفظ مواقع أئمّة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك ممّا أبدعه قوم وتبعهم آخرون.

هذه جمل ما ذكروه والنبوّة بهذا المعنى لأن تسمّي لعبة سياسيّة أولى بها من أن تسمّى نبوّة إلهيّة والكلام التفصيليّ في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.

والّذي يمكن أن يقال فيه هيهنا أنّ الكتب السماويّة والبيانات النبويّة المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير لا تناسبه أدنى مناسبة، وإنّما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض وركونهم إلى مباحث المادّة فاستلزموا إنكار ماوراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادّة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادّة الجامدة.

وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطّور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسّرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادّة غير أنّهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحسّ كالعرش والكرسيّ واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحسّ والتجربة على شئ من ذلك، ثمّ لما أتّسع نطاق العلوم الطبيعيّة وجرى البحث على أساس الحسّ والتجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادّيّة الخارجة عن الحسّ أو البعيدة عنه وأن يفسّروها بما تعيدها إلى الوجود المادّيّ المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.

فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أمّا القدماء من المتكلّمين فقد فهموا من البيانات، الدينيّة مقاصدها حقّ الفهم من غير مجاز غير أنّهم رأوا أنّ مصاديقها جميعاً اُمور مادّيّة محضة لكنّها غائبة عن الحسّ غير محكومة بحكم المادّة أصلاً و الواقع خلافه، وأما المتأخّرون من باحثي هذا العصر ففسّروا البيانات الدينيّة بما أخرجوها به عن مقاصدها البيّنة الواضحة، وطبّقوها على حقائق مادّيّة ينالها الحسّ وتصدّقها التجربة مع أنّها

٨٧

ليست بمقصودة، ولا البيانات اللفظيّة تنطبق على شئ منها.

والبحث الصحيح يوجب أنّ تفسّر هذه البيانات اللفظيّة على ما يعطيها اللفظ في العرف واللّغة ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسّر به بعض الكلام بعضا ثمّ ينظر هل الأنظار العلميّة تنافيها أو تبطلها ؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شئ خارج عن المادّة وحكمها فإنّما الطريق إليه إثباتاً أو نفياً طور آخر من البحث غير البحث الطبيعيّ الّذي تتكفّلة العلوم الطبيعيّة، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللأمر الخارج عنها ؟ فإنّ العلم الباحث عن المادّة وخواصّها ليس من وظيفته أن يتعرّض لغير المادّة خواصّها لا إثباتاً ولا نفياً.

ولو فعل شيئاً منه باحث من بحّاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفياً أو إثباتاً، ولنرجع إلى بقيّة الآيات.

وقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) . سوق الآيات من أوّل السورة وإن كانت لبيان حال المتّقين والكافرين والمنافقين (الطوائف الثلاث) جميعاً لكنّه سبحانه حيث جمعهم طرّاً في قوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) ، ودعاهم إلى عبادته تقسّموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإنّ هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين: المؤمن والكافر وأمّا المنافق فإنّما يتحقّق بضمّ الظاهر إلى الباطن، واللّسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللّسان والقلب إيماناً أو كفراً ومن أختلف لسانه وقلبه وهو المنافق، فلمّا ذكرنا (لعلّه) أسقط المنافقون من الذكر، وخصّ بالمؤمنين والكافرين ووضع الايمان مكان التقوى.

ثمّ إن الوقود ما توقد به النار وقد نصّت الآية على أنّه نفس الإنسان، فالإنسان وقود وموقود عليه، كما في قوله تعالى أيضاً:( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) غافر - ٧٢. وقوله تعالى:( نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) اللّمزة - ٧، فالإنسان معذّب بنار توقده نفسه، وهذه الجملة نظيرة قوله تعالى:( لَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ) البقرة - ٢٥، ظاهرة في أنّه ليس للإنسان

٨٨

هناك إلّا ما هيّأه من هيهنا، كما عن النبيّ (صلّي الله عليه و آله و سلّم):( كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون) الحديث. وإن كان بين الفريقين فرق من حيث أنّ لأهل الجنّة مزيداً عند ربّهم. قال تعالى:( لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ق - ٣٥.

والمراد بالحجارة في قوله:( وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويشهد به قوله تعالى:( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الآية الأنبياء - ٩٨، والحصب هو الوقود.

وقوله تعالى: ( لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ) ، قرينة الأزواج تدلّ على أنّ المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار والمكاره الّتي تمنع من تمام الإلتيام والألفة والأنس من الأقذار والمكاره الخلقيّة والخُلقيّة.

( بحث روائي)

روى الصدوق، قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن الآية فقال: الأزواج المطهّرة اللّاتي لا يحضن ولا يحدثن.

أقول: وفي بعض الروايات تعميم الطهارة للبرائة عن جميع العيوب والمكاره.

٨٩

( سورة البقرة الآيات ٢٦ - ٢٧)

إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا  فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا  يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا  وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ( ٢٦ ) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ  أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( ٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ ) ، البعوضة الحيوان المعروف وهو من أصغر الحيوانات المحسوسة وهذه الآية والّتي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) الرعد - ١٩، ٢٠، ٢١.

وكيف كان فالآية تشهد على أنّ من الضلال والعمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيّئة غير الضلال والعمى الّذي له في نفسه ومن نفسه حيث يقول تعالى:( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدّماً عليه هذا.

ثمّ إنّ الهداية والإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان الّتي ترد منه تعالى على عباده السعداء والاشقياء، فإنّ الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عبادة بأنّه يحييهم حياة طيّبة، ويؤيّدهم بروح الايمان، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويجعل لهم نوراً يمشون به، وهو وليّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ويذكرهم إذا ذكروه، والملائكة تنزّل عليهم بالبشرى والسلام إلى غير ذلك.

ووصف حال الاشقياء من عباده بأنّه يضلّهم ويخرجهم من النور إلى الظلمات و

٩٠

يختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويطمس وجوههم على أدبارهم ويجعل في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، ويجعل من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فيغشيهم فهم لا يبصرون، ويُقيّض لهم شياطين قرناء يضلّونهم عن السبيل ويحسبون أنّهم مهتدون، ويزيّنون لهم أعمالهم، وهم أولياؤهم، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، ويملي لهم إنّ كيده متين، ويمكربهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون.

فهذه نبذة ممّا ذكره سبحانه من حال الفريقين وظاهرها أنّ للإنسان في الدنيا وراء الحياة الّتي يعيش بها فيها حياة اُخرى سعيدة أو شقيّة ذات اصول وأعراق يعيش بها فيها، وسيطّلع ويقف عليها عند إنقطاع الأسباب وإرتفاع الحجاب، ويظهر من كلامه تعالى أيضاً أنّ للإنسان حياة اُخرى سابقة على حيوته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها. وبعبارة اُخرى إنّ للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا وحياة بعدها، والحياة الثالثة تتبع حكم الثانية والثانية حكم الاُولى، فالإنسان وهو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة ولاحقة، فهذا هو الّذي يقضي به ظاهر القرآن.

لكنّ الجمهور من المفسّرين حملوا القسم الأوّل من الآيات وهي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال وإقتضاء الاستعداد، والقسم الثاني منها وهي الواصفة للحياة اللّاحقة على ضروب المجاز والاستعارة هذا، إلّا أنّ ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك. أمّا القسم الأوّل وهي آيات الذرّ والميثاق فستأتي في مواردها، وأمّا القسم الثاني فكثير من الآيات دالّة على أنّ الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها كقوله تعالى:( لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم - ٧، وقوله تعالى:( ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ) الآية البقرة - ٢٨١، وقوله تعالى:( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) البقرة - ٢٤. وقوله تعالى:( فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق - ١٨، وقوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) آل عمران - ٣٠، وقوله تعالى:( مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) البقرة - ١٧٤، وقوله:( إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) النساء - ١٠، إلى غير ذلك من الآيات.

ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى - إلّا قوله:( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا

٩١

فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق - ٢٢، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلّا عن معلوم حاضر، وكشف الغطاء لا يستقيم إلّا عن مغطّى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قبل لما كان يصحّ أن يقال للإنسان إنّ هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.

ولعمري أنّك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلّا بنفس هذه البيانات والأوصاف الّتي نزل بها القرآن الكريم.

ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين:

أحدهما: وجه المجازاة بالثواب والعقاب، وعليه عدد جمّ من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شرّ كجنّة أو نار إنّما هو جزاءٌ لما عمله في الدنيا من العمل.

وثانيهما: وجه تجسّم الأعمال وعليه عدّة اُخرى من الآيات، وهي تدلّ على أنّ الأعمال تُهيّئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أموراً مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيراً أو شرّاً هي ألتّي سيطّلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق. وإيّاك أن تتوهّم أنّ الوجهين متنافيان فإنّ الحقائق إنّما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة كما ينصّ على ذلك القرآن.

وقوله تعالى: ( إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الفسق كما قيل من الألفاظ الّتي أبدع القرآن إستعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها وجلدها ولذلك فسّر بعده بقوله تعالى:( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية، والنقض إنّما يكون عن إبرام، ولذلك أيضاً وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين والإنسان إنّما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى:( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الشورى - ٤٥، وإيّاك أن تتلقّى هذه الصفات الّتي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقرّبين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهّرين وغيرهم، ومثل الظالمين والفاسقين والخاسرين والغاوين والضالّين وأمثالها أوصافاً مبتذلة أو مأخوذة لمجرّد تزيين اللّفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه

٩٢

تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، وتأخذها هجائً عاميًّ وحديثً ساذجً سوقيًّ بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة ومقامات معنويّة في صراطي السعادة والشقإوة، كلّ واحد منها في نفسة مبدأ لآثار خاصّة ومنشأ لأحكام مخصوصة معيّنة، كما أنّ مراتب السنّ وخصوصيّات القوى وأوضاع الخلقة في الإنسان كلّ منها منشأ ٌلأحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدً منها من غير منشأه ومحتده، ولئن تدبّرت في مواردها من كلامه تعالى وأمعنت فيها وجدت صدق ما إدّعيناه.

( بحث الجبر والتفويض)

وإعلم: أنّ بيانه تعالى أنّ الإضلال إنّما يتعلّق بالفاسقين يشرح كيفيّة تأثيره تعالى في أعمال العباد ونتائجها (وهو الّذي يراد حلّه في بحث الجبر والتفويض).

بيان ذلك: أنّه تعالى قال:( لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) البقرة - ٢٨٤، وقال:( لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد - ٥، وقال:( لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ) التغابن - ١، فأثبت فيها وفي نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنّه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه ولا يملك على بعض الوجوه، كما أنّ الفرد من الإنسان يملك عبدً أو شيئً آخر فيما يوافق تصرّفاته أنظار العقلاء، وأمّا التصرّفات السفهيّة فلا يملكها، وكذا العالم مملوك لله تعالى مملوكيّة على الإطلاق، لا مثل مملوكيّة بعض أجزاء العالم لنا حيث أن ملكنا ناقص إنّما يصحّح بعض التصرّفات لا جميعها، فإنّ الإنسان المالك لحمار مثلً إنّما يملك منه أن يتصرّف فيه بالحمل والركوب مثلً وإمّا أن يقتلة عطشا أو جوعً أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كلّ مالكيّة في هذا الإجتماع الإنسانيّ مالكيّة ضعيفة إنّما تصحّح بعض التصرّفات المتصوّرة في العين المملوكة لا كلّ تصرّف ممكن، وهذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنّها ليس لها من دون الله تعالى من ربّ يملكها وهي لا تملك لنفسها نفعً ولا ضرًّ ولا موتً ولا حيإة ولا نشورا فكلّ تصرّف متصوّر فيها فهو له تعالى، فأيّ تصرّف تصرّف به في عباده وخلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحً ولا ذمّاً

٩٣

ولا لوماً في ذلك، إذ التصرّف من بين التصرّفات إنّما يستقبح ويذّم عليه فيما لا يملك المتصرّف ذلك لإنّ العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرّف محدود مصروف إلى التصرّفات الجائزة عند العقل، وأمّا هو تعالى فكل تصرّف تصرّف به فهو تصرّف من مالك وتصرّف في مملوك فلا قبح ولا ذمّ ولا غير ذلك وقد أيّد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أيّ تصرّف في ملكه إلّا ما يشائه أو يأذن فيه وهو السائل المحاسب دون المسؤل المأخوذ، فقال تعالى:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) البقرة - ٢٥٥، وقال تعالى:( مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس - ٣، وقال تعالى:( لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) الرعد - ٣١، وقال:( يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) النحل - ٩٣، وقال تعالى:( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ) الدهر - ٣٠، وقال تعالى( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء - ٢٣، فالله هو المتصرّف الفاعل في ملكه وليس لشئ غيره شئ من ذلك إلّا بإذنه ومشيّته، فهذا ما يقتضيه ربوبيّته.

ثمّ إنّا نرى أنّه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع وجرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنسانيّ، من إستحسان الحسن والمدح والشكر عليه وإستقباح القبيح والذمّ عليه كما قال تعالى:( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ) البقرة - ٢٧١، وقال:( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ) الحجرات - ١١، وذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان ومفاسده مرعيّ فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى:( إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الانفال - ٢٤، وقال تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف - ١١، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ - إلى أن قال-وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) النحل - ٩٠، وقال تعالى:( إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) الاعراف - ٢٨، والآيات في ذلك كثيرة، وفي ذلك إمضاءٌ لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعني أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن وقبح ومصلحة ومفسدة وأمر ونهي وثواب وعقاب أو مدح وذمّ وغير ذلك والأحكام المتعلّقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر والحسن يجب أن يفعل، والقبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنّها هي الإساس للأحكام العامّة العقلائيّة كذلك الأحكام الشرعيّة الّتي شرّعها الله تعالى لعباده مرعىّ فيها ذلك، فمن

٩٤

طريقة العقلاء أنّ أفعالهم يلزم أن تكون معلّلة بأغراض ومصالح عقلائيّة ومن جملة أفعالهم تشريعاتهم وجعلهم للأحكام والقوانين، ومنها جعل الجزاء ومجازاة الإحسان بالإحسان والإسائة بالإسائة أن شاؤا فهذه كلّها معلّلة بالمصالح والإغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الإوامر العقلائيّة ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، وكلّ المجازاة إنّما تكون بالمسانخة بين الجزاء وأصل العمل في الخيريّة والشريّة وبمقدار يناسب وكيف يناسب، ومن أحكامهم أنّ الإمر والنهي وكلّ حكم تشريعيّ لا يتوجّه إلّا إلى المختار دون المضطرّ والمجبر على الفعل وإيضاً إنّ الجزاء الحسن أو السّئ أعنى الثواب والعقاب لا يتعلّقان إلّا بالفعل الاختياريّ إللّهم إلّا فيما كان الخروج عن الاختيار والوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإنّ العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، ولا يبالون بقصّة إضطراره.

فلو أنّه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنّة والعاصي بالنار إلّا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجّح وهو قبيح عندهم أيضاً ولا حجّة في قبيح وقد قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء - ١٦٥، وقال تعالى:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال - ٤٢، فقد اتّضح بالبيان السابق أمور:

أحدها: أنّ التشريع ليس مبنيّا على أساس الإجبار في الإفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أوّلً، وهي متوجّهة إلى العباد من حيث أنّهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلّفون إنّما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شرّ إختيارا.

ثانيها: أنّ ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال والخدعة والمكر والإمداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الإنسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح و

٩٥

المنكر، فإنّ جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال وشعبه وأنواعه، وليس كلّ إضلال حتّى الإضلال البدويّ وعلى سبيل الإغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) الآية البقرة - ٢٦، وقال:( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف - ٥، وقال تعالى:( كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) المؤمن - ٣٤.

ثالثها: أنّ القضاء غير متعلّق بأفعال العباد من حيث أنّها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعليّ دون الانتساب الوجوديّ وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.

رابعها: أنّ التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للإمر والنهي المولويّين فيما لا يملك المولى منه شيئً، مضافً إلى أنّ التفويض لا يتمّ إلّا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

( بحث روائي)

إستفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم قالوا: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث).

وفي العيون بعدّة طرق لما إنصرف أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام من صفّين قام إليه شيخ ممّن شهد الواقعة معه فقال يا أميرالمؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر، فقال له أميرالمؤمنين: أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أميرالمؤمنين فقال: مهلا يا شيخ لعلّك تظنّ قضاء حتما وقدرً لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والإمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئٍ لائمة ولا لمحسن محمّدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدريّة هذه الإمّة ومجوسها. يا شيخ إنّ الله

٩٦

كلّف تخييرا ونهى تحذيرا، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا، ولم يطع مكروهً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الّذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث.

أقول: قوله: بقضاء من الله وقدر إلى قوله:( عندالله أحتسب عنائي) . ليعلم أن من أقدم المباحث الّتي وقعت في الإسلام موردا للنقض والإبرام، وتشاغبت فيه الإنظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوّروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الإرادة الإلهيّة الإزليّة تعلّقت بكلّ شئ من العالم فلا شئ من العالم موجود على وصف الإمكان، بل إن كان موجودً فبالضرورة، لتعلّق الإرادة بها واستحالة تخلّف مرادة تعالى عن إرادتة، وإن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلّق الإرادة بها وإلّا لكانت موجودة، وإذا اطّردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الافعال الاختياريّة الصادرة منّا فإنّا نرى في بادي النظر أنّ نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية، وإنّما يتعيّن واحد من الجانبين بتعلّق الإرادة به بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختياريّة، والإرادة مؤثّرة في تحقّقه سبب في إيجاده، ولكن، فرض تعلّق الإرادة الإلهيّة الازليّة المستحيلة التخلّف بالفعل يبطل اختياريّة الفعل أوّلً، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيً وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصّة في صورة الخلاف والتمرّد فيكون تكليفا بما لا يطاق، ولا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنّه جزاف قبيح، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنّه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللّوازم، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، والحسن والقبح أمران غير واقعيّين لا يلزم تقيّد أفعاله تعالى بهما بل كلّ ما يفعله فهو حسن ولا يتّصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجّح، ولا من الإرادة الجزافيّة، ولا من التكليف بما لا يطاق، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.

وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الإوّل مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقإق ولذلك لما سمع الشيخ منهعليه‌السلام كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثّر واليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إنّ مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من

٩٧

حيث تعلّق الإرادة الإلهيّة بها فلم يبق لي إلّا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربّي فهو الّذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمامعليه‌السلام بقوله:( لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب) الخ، وهو أخذ بالُصول العقلائيّة الّتي أساس التشريع مبنيّ عليها واستدلّ في آخر كلامهعليه‌السلام بقوله:( ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ) الخ، وذلك لإنّ صحّة الإرادة الجزافيّة الّتي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقّق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد، وهذا الامكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد، وذلك خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، وفيه بطلان المعاد وفيه كلّ محذور، وقوله :( ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها) كإنّ المراد لم يعص والحال أنّ عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.

وفي التوحيد والعيون عن الرّضاعليه‌السلام قال: ذكر عنده الجبر والتفويض فقال: ألا أعلّمكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسّرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إنّ الله عزّوجلّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه فإن إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادّا، ولا منها مانعً وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل فعلوه فليس هو الّذي أدخلهم فيه ثمّ قالعليه‌السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

اقول: قد عرفت أنّ الّذي ألزم المجبّرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللّزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة إيضاً نتيجة صحيحة غير أنّهم اخطؤا في تطبيقها، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريّات، واختلط عليهم الوجوب والإمكان، توضيح ذلك أنّ القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أنّ الأشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللّزوم فكلّ موجود من الموجودات وكلّ حال من أحوال الموجود مقدّرة محدودة عند الله سبحانه، معيّن له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلّف عنه ولا يختلف، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب

٩٨

من شؤون العلّة فإنّ العلة التامّة هي الّتي إذا قيس إليها الشئ صار متّصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلّا متّصفا بالإمكان، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلّيّة التامّة والمعلوليّة في العالم بتمامه وجميعه، وذلك لا ينافي سريان حكم القوّة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياريّ الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادّة يتعلّق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانيّة والمكانيّة كان ضروريّ الوجود، وهو الّذي تعلّقت به الإرادة الإلهيّة الازليّة لكن كون الفعل ضروريّاً بالقياس إلى جميع أجزاء علّته التامّة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريّاً إذا قيس إلى بعض أجزاء علّته التامّة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقيّة أجزاء علّته التامّة فإنّه لا يتجاوز حد الامكان، ولا يَبلغ البتّة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أنّ عموم القضاء وتعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار، بل الإرادة الإلهيّة إنّما تعلّقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيّاته الوجوديّة ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده، وبعبارة إخرى تعلّقت الإرادة الإلهيّة بالفعل الصادر من زيد مثلً لا مطلقا بل من حيث أنّه فعل إختياريّ صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في الفعل يوجب كون لفعل إختياريّا وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة الإلهيّة عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في صيرورة الفعل ضروريّاً يوجب كون الفعل إختياريّا أي كون الفعل ضروريّاً بالنسبة إلى الإرادة الإلهيّة ممكنً إختياريًّ بالنسبة إلى الإرادة الإنسانيّة الفاعليّة، فالإرادة في طول الإرادة وليست في عرضها حتّى تتزاحما، ويلزم من تأثير الإرادة الإلهيّة بطلان تأثير الإرادة الإنسانيّة فظهر أن ملاك خطأ المجبّرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل، وعدم فرقهم بين الإرادتين الطوليّتين وبين الإرادتين العرضيتّين وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلّق إرادة الله تعالى به.

والمعتزلة وإن خالفت المجبّرة في اختياريّة افعال العبإد وسائر اللوازم إلّا أنّهم سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبّرة فسادا، وهو أنّهم سلّموا للمجبّرة أنّ

٩٩

تعلّق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، ومن جهة أخرى أصرّوا على اختياريّة الافعال الاختياريّة فنفوا بالإخرة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للإفعال وهو الإنسان، كما أنّ خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنويّة، ثمّ وقعوا في محاذير إخرى أشدّ ممّا وقعت فيه المجبّرة، كما قالعليه‌السلام : مساكين القدريّة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.

فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفيّة يختار عبدا من عبيده و يزوّجه إحدى فتياته ثمّ يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حيإته إلى حين محدود وأجل مسمّى، فإن قلنا إنّ المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملّك فإنّه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبّرة، وإن قلنا إن إلمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكيّة وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا: إن المولى مقامه في المولويّة وللعبد مقامه في الرّقيّة وإنّ العبد إنّما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحقّ الّذى رآه أئمّة أهل البيتعليه‌السلام ، وقام عليه البرهان هذ.

وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعيّ الاسديّ عن أميرالمؤمنين علىّعليه‌السلام في معنى الاستطاعة، فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعيّ فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا أميرالمؤمنين ؟ قال: تقول تملكها بالله الّذي يملكها من دونك فإنّ ملّككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.

أقول: ومعنى الرواية واضح ممّا بيّناه آنفا.

وفي شرح العقائد للمفيد قال: وقد روى عن أبي الحسن الثالثعليه‌السلام إنّه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقالعليه‌السلام : لو كان خالقا لها لما تبرء منها وقد قال سبحانه: إن الله برئ ٌمن المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنّما تبرء من شركهم وقبائحهم.

١٠٠