علم الإمام

علم الإمام0%

علم الإمام مؤلف:
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 110

علم الإمام

مؤلف: الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 110
المشاهدات: 38067
تحميل: 2947

توضيحات:

علم الإمام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 110 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38067 / تحميل: 2947
الحجم الحجم الحجم
علم الإمام

علم الإمام

مؤلف:
العربية

ثم إنَّ هناك مؤيدات للقول بحضور علمهم وصحة الجمع بين أدلة الجانبين، وتأويل النافي منهما، على نحو ما سبق، وهي أمور جمة نستطرد شيئاً منها.

الأول:

علمهم منَّة منه وهي تقضي بالحضوري

إنّ مما امتن به سبحانه على النبي وأهل بيته عليهم السلام، العلم سوى ما منحهم به من سائر الصفات الكمالية، والفضائل العظيمة، وإنَّ مقتضى الإمتنان والمنحة من ذلك القادر الذي لا يعجزه شيء أن يكون علمهم حضورياً، وتقييده بالإشارة والإرادة خلاف التعميم بالمنة، ولا شيء لا تكون منته عليهم على قدر ما كانوا عليه من الملكات القدسية، وعلى قدر تفضله وألطافه.. أفهل تحد قدرته ولطفه وفضله.

الثاني:

إنَّ سائر صفاتهم غير مقيدة

إنّ الله جل لطفه منح النبي وأوصياءه عليهم السلام بصفات جليلة ومواهب سنية لا تجارى ولا تبارى، ولم يجعل لتلك الخصال الجمة حداً ولا قيداً، ولم يحصرها على دائرة ولم يقصرها على زمن. فلأي وجه إذاً نقصر علمهم دونها. ونحصره في دائرة خاصة سواها؟ فلو كان استعظام علمهم واستكبار شأنه، حدا ببعض الناس إلى تضييق

٨١

دائرته ضيقاً منهم، وعدم تحمل منهم لتلك السعة، فلم لا يكون ذلك أيضاً حاملاً لهم على تحديد سائر صفاتهم، وتضييق خصالهم.

الثالث:

الحضوري أبعد عن عصيان الناس وأقرب إلى طاعتهم

إن الناس لو علموا بأنَّ الإمام يعلم سرّهم ونجواهم، وما يقترفون من عصيان؛ ويأتون من طاعة، وأنَّه يستطيع على إخبارهم بالشأن، وردعهم عن الموبقات إذا أصابوها، وحثهم على ازدياد الطاعات إذا ارتكبوها، لكان ذلك ابعد عن عصيانهم، وأقرب منهم إلى الطاعة.

الرابع:

حاجة الناس إلى عالم حاضر العلم

إن الناس في حاجة إلى عالم يكشف لهم عما يعلمون ليقربهم إلى الطاعة، ويبعدهم عن المصعية. ولما كان النبي وأوصياؤه أهلاً لأن يمنحهم الجليل تعالى بتلك الكرامة، والناس في حاجة لها، فلأي شيء لا يفيض عليهم ذلك الغمر، مع عدم المفسدة في ذلك الفيض، بل ووجود المصلحة به..؟

الخامس:

الحضوري ممكن وقام الدليل عليه

لا ريب في أنه من الممكن أن يكون علمهم حضورياً، إذ لا دليل

٨٢

يدل على إمتناعه. فأي مانع من الذهاب إليه والزعم به، وقد قامت البراهين المتضافرة، والحجج المتكاثرة، على صدوره ووقوعه،على ذلك النحو من الحضور، وذلك السمت من الحصول، فإن ركني الوجوب في القول به - وهما الإمكان والوقوع - قد وُجدا ولُمسا عن يقين وخبرة. فأي مانع بعد أن اتفق الركنان من الإعتقاد بالحضوري والمصير إليه.

السادس:

لو لم يكن علمهم حاضراً لجاز إن يوجد من هو اعلم منهم

لو قلنا بأنَّ علمهم غير حاضر لديهم، لجاز أن يكون هناك من هو أعلم منهم بالأمر الذي يقع أو يسألون عنه. ولا يجوز أن يكون أحد أعلم من الإمام في وقته في شيء من الأشياء.

أما استلزام عدم الحضوري وجود الأعلم فأمر بديهي، وذلك لأنّ جزئيات الموضوعات الخارجية لابد وأن يكون هناك من يعرفها كبنوة زيد لعمرو، أو زنا خالد بهند. فلو سئل الغمام عنها، وكان غير عالم بها واتفق وجود العالم بها، فقد وجد حينئذ في الناس الأعلم من الإمام، ولو في الموضوعات الخارجية.

السابع:

جهلهم يستلزم السهو والنسيان وغيرهما أحياناً

إنَّنا لو قلنا بأنَّهم لا يعلمون الموضوعات الصرفة، لجاز عليهم

٨٣

السهو والنسيان فيها، بل لوقع منها قطعاً، بل لجاز عليهم أيضاً حرمان المستحق وإعطاء من لا يستحق، بل لكثر منهم الخطأ في الشؤون الخارجية، وتفويت الواقع أحياناً، لأنَّ هذه شؤون لازمة للجهل لا محالة، ولا ينفك عنها البشر. وأي منقصة أكبر من ذلك للأمام، وهو المنزَّه عن النقائص.

ولو كان ذلك واقعاً منهم، لحكي ونقل على طول الزمن وكثرة الأئمة، وللزم من حدوث هاتيك الأمور منهم المفاسد الكثيرة، واختلال بعض النظام، إلى ما لا يحصى من النقائص والمفاسد، لو جوَّزنا على الإمام الجهل.

الثامن:

جهلهم يستلزم الحاجة للناس

لا شك في أنَّهم يكونون محتاجين إلى الناس في معرفة الموضوعات الصرفة لو قلنا بأنهم غير عالمين بها، لاحتياج الجاهل إلى العالم فيما يجهل، وكيف يحتاجون إلى تعليم أحد، وهم في غنى عن البشر في العلم، وكيف يكون حجة على من هو أعلم منه، وعلى من هو معلمه. فهو من استلزم وجود الأعلم، واحتياجه إلى المعلم سقوط حجيته عليها، ولابد أن يكون الإمام الحجة على كل أحد، وقوله الفصل في كل شيء. وهذا لا يجامع الجهل.

٨٤

التاسع:

جهلهم يستلزم أمهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر

إن للجهل لوازماً كثيرة، وفوق ما سبق، نجد أنَّهم لابد أن يقع منهم ما يخالف الواقع من إرتكاب المنكر، وترك المعروف فيجب عندئذ إذا صدر هذا منهم أن يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وأي إمام من يجب أن يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.

العاشر:

الجهل لازمه فعل ما يجب معه القصاص

وهذا أيضاً من لوازم الجهل، إذ يجوز عليهم الخطأ في الأقوال والأعمال مع الناس. فلو كان الإمام مبسوط اليه وضرب من لا يستحق الضرب، أو اقتص ممن لا يجب عليه القصاص، لوجب أن يطيع للإقتصاص منه، وكيف يكون إمام وللناس أن يقتصوا منه؛ ويكون لهم عليه حق في ماله أو بدنه.

وهذا بعض المؤيدات للعلم الحضوري واستلزام الجهل بالموضوعات الصرفة، من اللوازم التي ينزه عنها الإمام.

جملة القول:

وجملة القول إنّه لو لم يرد عن الأئمة الميامين، ما يشهد لعلمهم الحضوري من الأفعال والأقوال، والآثار والأخبار، لكان في حكم

٨٥

العقل دلالة كافية، وبرهان نيِّر؛ فإن العقل يرى أنّ اللطيف جل شأنه يجب عليه أن يجعل حجة بينه وبين عباده، يقوم بتبليغ أحكامه، وبيان نظامه، وذلك الحجة جامع لجمع صفات الكمال، وعارٍ عن جميع خصال النقص، ولا يكون فيه ما يجعله عرضة للإنتقاص، ومسرحاً للتوهين ومحلاً للإنتقاد. بل يجب أن يكون المنزَّه عن النقائص في الخلق والخُلق، ليصلح أن تقوم به الحجة، ولا تكون لاحد عليه حجة أو تطاول في فضل أو علم.

وأين هذا من القول بجهلهم بالموضوعات الصرفة التي تؤول بهم إلى تلك اللوازم السيئة، والأعمال الممقوتة؟ وكيف تتفق تلك الخلال اللازمة مع أغراض ذلك الحكيم اللطيف، وألطاف ذلك القدير العليم.

وكيف يأمر جل شأنه، باتباع من يجوز عليه الخطأ والغلط، ويحذر من يخالفه من يؤمن عثاره؟ وكيف يوجب الطاعة والتسليم من يسوغ سهوه ونسيانه، والفشل بجهله، ويزجر عن الإعتراض على من يخاف من سقطاته، ويخشى من هفواته..؟

أفيجوز على الحكيم أن ينصب علماً للناس مَن هاتيك شؤونه، وهذه صفاته؟؟.

٨٦

شبهات بعض القائلين

بعدم العموم والرد عليها

٨٧

٨٨

هناك بعض الشبهات لبعض الأعلام، دعتهم إلى القول بعدم التعميم لعلمهم وعدم الحضورية له في الجميع، أحببنا سطرها، وبيان ما فيها، لئلا تبقى شبهة في المقام لم نقم بدفعها، وإبداء الملاحظة عليها:

الشبهة الأولى:

سهو النبي رحمة للأمة

علل الشيخ الصدوق طاب ثراه في فقيهه في كتاب الصلاة «باب السهو» بأنَّ سهو النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسهونا من الشيطان، بل هو إسهاء من الرحمن، لمصلحة الترحّم على الأمَّة، لئلا يعيَّر المسلم الساهي والنائم عن صلاته؛ ولئلا يتوهم فيه الربوبية، وليعلم الناس حكم السهو متى سهوا.

وجوابه: أولاً - بأن سهو النبي صلى الله عليه وسلم منقصة له، ويشين عليه، ولا يدفع العار عن الناس، بما يجلب العار إلى سيد الرسل صلى الله عليه وسلم المنزه عن كل نقص.

وثانياً - بأنَّ المناقص في الناس كثيرة في الأخلاق والخلقة، فمقتضى هذه العلة أن يجعل الله تلك المناقص فيه دفعاً للعارض عن الناس فيجعله سيِّء الخلق فظاً غليظاً أعرج أعور أشلّ أفطح، إلى ما سوى ذلك، حتى لا يُعيَّر أحد من الناس فيه شيء من الاخلاق السيئة والنقصان في الخلقة.

٨٩

وثالثاً - بأنَّ السهو منقصة فيه ذاتية، ولا يتدارك هذه المنقصة دفع العار عن الناس، لانَّ الأعمال تابعة لمصالحها ومفاسدها الشخصية.

ورابعاً بأنَّ رفع توهم الربوبية لا ينحصر في السهو والنوم، بل له طرق أخرى، ومن يغويه الشيطان فيوقعه في حبائل هذا الزعم، فلا يمنعه دعوى السهو والنوم، كما أنَّه ما منع من قال بهذه المقالة نسبة السهو والنوم إليه صلى الله عليه وآله.

وأما معرفة حكم السهو من فعله فالبيان فيها أفصح، والتعليم بها أوضح، وبه غنىً عن فعله، ولربما لا يغني عن البيان في اللفظ.

الشبهة الثانية:

التفصيل بين سهو النوم وغيره، فيجوز في الأول دون الثاني

حكي عن الشيخ المفيد أعلى الله مقامه في الرد على الصدوق في كلامه السالف التفصيل بين السهو في العبادة الناشىء عن غلبة النوم حتى يخرج الوقت فيقضيها بعده، فيجوز عليه، وبين السهو الناشىء عن غير النوم، فلا يجوز معلّلا ذلك بأنَّه نقص عن الكمال الإنساني وعيب يمكن التحرز عنه، وهذا بخلاف النوم، لأنَّه ليس بنقص ولا عيب، إذ لا ينفك عنه بشر.

وجوابه: بأنَّ الفرق بين السهوين - إن كان النقص والعيب - فهو جارٍ في السهوين، لان النوم عن الصلاة المفروضة، والسهو في الصلاة الواجبة: نقص في الإنسان ذي الدين والفضيلة، فكيف

٩٠

بسيد الرسل وإمام الأمَّة؟ وإن كان النص فإنَّه مردود لمنافاته لحكم العقل وللنصوص الكثيرة الصريحة: على أنّها تعارض ما دل على أنَّ الإمام تنام عينه ولا ينام قلبه، فهو إذاً كالتارك عن عمد، بعد أن كان يقظان القلب وشاعراً بالوقت.

الشبهة الثالثة:

لو كانوا يعلمون الموضوعات للزم سد باب معاشهم ومعاشرتهم

إنّك على حبر بما تقوم به السوق من الكذب والسرقة، وتقلب النقود المغصوبة فيه بأيدي الناس، وبوجود النجاسة الواقعية في الناس، وبإرتكابهم للمحرمات، ولو كانوا حاضري العلم لسد عليهم باب المعاش والمعاشرة، لمخالفة الظاهر للواقع، ولوجب عليهم ردع المرتكب للمحرمات في السر والعلن، أو إقصاؤهم عنهم، ولا نجدهم كانوا على هذا مع الناس في المعاش والمعاشرة.

والجواب أولاً: إنّ معاملتهم بالإمارات الظاهرية مع الناس لا يستلزم عدم علمهم بالواقع، إذ لا يجوز أن يكون تكليفهم في العمل على الظاهر، وإن خالف ما علموه، لعدم إمكانهم أن يعملوا مع الناس بما علموا.

وثانياً: بأنهم يعملون بما يعلمون، ومن الذي أعلمنا بأنَّهم لا يقدرون على العمل بالواقع؟ ولم كان باب المعاش والمعاشرة يسد عليهم، وهم بتلك القدرة التي من الله تعالى عليهم بها؟ نعم! لم تكن

٩١

معاملاتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الناس على الواقع، لعدم قدرتهم على تنفيذ الأحكام الآلهية، سوى من كان يمت إليهم بالولاء، فإنَّهم كانوا يردعونهم عن المنكرات، وإن عملوها في الخفاء، ومن سبر شيئاً من أحوال الأئمة عليهم السلام عرف هذا الأمر… ولو كانت معاملاتهم جارية على الظاهر دون العلم، لاتفق لهم الخطأ والسهو، ولانكشفت لهم المخالفة لأعمالهم، مع أنّه لم يتفق لهم ذلك طيلة أيامهم.

الشبهة الرابعة:

قبح العلم الفعلي أحياناً بالموضوعات

لو كان علمهم بالموضوعات فعلياً دوماً، لقبح أحياناً بعضه، كالعلم بفروج النساء حال الجماع.

وجوابه: بأنَّ العلم بالقبيح والمنكر والمستهجن ليس بقبيح ذاتاً، وإلا لكان علم العلاّم تعالى بالأُمور القبيحة قبيحاً، بل وخلقه لآلات التناسل قبيحاً، وللحيوانات النجسة العين - كالكلب والخنزير - قبيحاً:

نعم! إنّما يقبح تعلم القبيح، والإستعلام والتجسس عنه، وارتكابه ومن ثم اشتبه هذا على ذي الشبهة، فحسب أنّ العلم بالقبيح أيضاً قبيح.

٩٢

الشبهة الخامسة:

الأصل عدم علمهم الفعلي

إنّ علمهم كوجودهم حادث ومسبوق بالعدم، فالأصل بقاؤه على ما كان، وإنما خرج عن الأصل ما تيقن بالدليل، وهو ما كان بالإشاءة.

وجوابه: بأنَّ المدار على هذا العرض على أفاده الدليل، وقد سبق أنَّ الدليل عقلاً ونفلاً شاهد على فعلية علمهم وحضوره، على أنَّ مثل هذه الأصول مقطوع استمرارها للقطع بحدوث علم لهم، كما انقطع أصل الوجود بحدوث الوجود.

الشبهة السادسة:

لو كان علمهم حاضراً للغى نزول جبرائيل

إنَّ نزول جبرائيل بالوحي والآيات، وإخباره بالحوادث والكائنات، دليل قطعي على عدم فعلية علم النبي. إذ لو كان فعلياً لما احتاج إلى مجيء جبرائيل،وغشيانه بالوحي، وإعلامه بالحوادث، ويؤيده قوله تعالى( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّ‌وحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَ‌بِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‌ ) فإنَّ نزول الملائكة والروح على النبي أو على الإمام بعده في ليلة القدر وإتيانهم بكل أمر يحدث في تلك السنة، شاهد لعدم علمهم بما تأتي به الأيام، لولا تنزّل الملائكة والروح.

٩٣

وجوابه أولاً: بأن لعلمهم الحاضر منابع يستقون من فراتها، وموارد ينتهلون من معينها؛ ومن تلك المنابع والموارد غشيان الملائكة عليهم بالوحي والإعلام بالحوادث، وهذا لا ينافي أن يكون علمهم حاضراً ولحضوره أسباب ودواع.

وثانياً: بأن إنزال الملائكة وجبرائيل والروح بالآيات والحادثات، إنَّما هو لإقامة الحجة وتأييد الدعوة، ومن ثم كان تعدد الأنبياء على الأمم بل وتعددهم في الوقت الواحد، كما كان لكل واحد منهم آيات عديدة ودلائل أكيدة، تقوم على صدق دعواه، ومن تلك الحجج المقامة على العباد إشهاده تعالى عليهم بجعل الحفظة والكرام الكاتبين وتسجيلهم كل عمل وقول، مع أنَّه جلَّ شأنه هو الحفيظ الرقيب والشاهد غير الغائب.

ولو أخذنا بما يدَّعيه الخصم للغي كل هذه البينات، وبطل كل هذه الآيات والحجج والبراهين.

وثالثاً: بأنَّ مثل هذه الحجج المقامة إنمّا تكون لطفاً منه بعباده، لتقريبهم إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية، ولولا ذلك لكان في العقل وإقامته حجة على العبد، كفاية عن سواه من الدلائل المنصوبة.

ورابعاً: بأنّ هذه الدعوى مصادمة للبراهين العقلية والشواهد النقلية، ولا نرفع اليد عن صريح تينك الحجتين، بمجرد الاحتمال

٩٤

والاستبعاد، ولو جهلنا الحكمة في إنزال جبرائيل بالوحي لتأولناه بصريح العقل والنقل.

وهذه أقوى الشبه التي أوردوها لدفع العلم الحاضر وأقاموها لتأييد زعمهم بأنه موقوف على الإشاءة، وقد عرفت الجواب عنها والدفع لها.

زبدة المخض

إنّ البرهان العقلي دل - نظراً لحاجة الناس الماسة إلى وجود الهادي بين ظهرانيهم،والمصلح لشؤونهم، والحاكم بالعدل بينهم، إلى ما سوى هذا مما يتطلبه صالح أمورهم في الدارين: -

على أن الله تعالى يجب عليه لطفاً بعباده أن يجعل فيهم - وقد جعل - من يكون العالم بالكائنات كافة، والعلوم والفنون، والمتحلي بأبراد الكمال كلها، حتى يكون الفرد الأوحد في عصرة، الصالح للنهضة بالإرشاد والهداية للعالم، والمضطلع بهذا العبء الباهض، حتى لو كانت له الهيمنة على الكرة الأرضية برمتها، لاستطاع أن يدير شؤونها أحسن إدارة، ويدبر أمورها أجمل تدبير كما يقوى على خصم كل محاجج بالقوة البيانية والآيات الفعلية، ويستطيع الجواب عن مسألة كل سائل، بالكشف عن الحقيقة، وإماطة الستار عن الواقع، ليكون حقاً هو الحجة البالغة من الخالق على الخلق والهادي لهم بعد ذلك الرسول المنذر.

٩٥

وإنَّ النقل قد عاضد هذا البرهان العقلي، وفصل مجمله، وأبان غامضه حتى لا يبقى لذي وهم ريب، ولذي مسكة عذر، في الإعتقاد بوجوب وجود ذلك الهادي في الأمة.

وقد جاءت الأفعال والأقوال ممن تجلبب بتلك الصفات الكريمة. وفقاً لتينك الدلالتين من العقل والنقل، حتى يتضح للعالم أجمع أنّ من يجب أن يوجد لطفاً منه تعالى بعباده متحلياً بهاتيك الخصال الجميلة والهبات القدسية، قد أصبح والوجود مفاض عليه، بحيث لو فحص عنه طالب الحق لوجده شخصاً مرئياً وقالباً حسياً، لا يحيد عن تلك المزايا الجليلة قيد شعرة.

وقو قام ما يخال بأنَّه برهان على أن ليس في البشر ممن يجمع هذه الخصال،ويتقمص بهذه الصفات، أو أنّها ليست بتلك السعة المزعومة. أو العلم منها خاصة، فهو مردود مرفوض، ملخالفته لجهتي العقل والنقل، بل وللوجدان: من فعل الإمام وقوله.. فهل بعد هذه الحجج النيرة يصغي إلى شبهة، أو يلتفت إلى زعم..».

وقعود الناس عن معرفة تلك الحجة البالغة، وسكوتهم عن طلب ذلك الإمام الهادي أو سلوكهم في غير سبيله، بعد سطوع نهجه، ووضوح أمره، لا ينقص من شأنه ولا يحط من كرامته، ولا يبطل حجته، ولا يفسد المصلحة التي من أجلها اختير وجعل إماماً، ومن جرائها اصطفي وانتخب.

وعدم إظهاره أو تظاهره بذلك العلم المخزون والفيض الغمر

٩٦

أحياناً. حذراً من عدم قبوله أو عدم احتماله، أو خشية من العدو الحاسد وبطشه أو خوفاً من غلو الناس وإفراطهم في الدعوة، لا يكون ذلك شاهداً على عدم الوجدان لذلك العلم أو عدم سعته، وما تحمل الإمام للمصائب والنوائب، وهو القدير على دفع ما مني به، ورفع ما نزل بساحته، إلا لتأكد الحجة على الخلق مع ما له من الحجج البالغة، وإلا لدفع أوهام الغلاة، ومزاعم المفرطين في الحب، الذين يخرجون الإمام عن مستوى البشر،ويلبسونه أبراد الأولوهية.

وقد كشف عن هذه الغامضة السفير الجليل الحسين بن روح عليه الرحمة وقد سأله سائل قائلاً له: أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟ قال: نعم. قال الرجل: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله؟ قال نعم. قال الرجل: فهل يجوز أن يسلِّط الله تعالى عدوَّه على وليه، فقال له ابن روح: إفهم عني ما أقول لك، إعلم أن الله تعالى لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جل جلاله يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ول بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم وصورهم، لنفروا عنهم، ولم يقبلوا منهم، فلما جاءهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا لا نقبل منكم حتى تأتونا بشيء نعجز أن تأتي بمثله، فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه. جعل الله عز وجل لهم المعجزات التي تعجز الخلق عنها: فمنهم من جاء بالطوفان بعد

٩٧

الإنذار والإعذار، فغرق جميع من طغى وتمرد ومنهم من القى في النار، فكانت عليه برداً وسلاماً، ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة، وأجرى من ضرعها اللبن، ومنهم من فلق البحر وفجَّر له من الحجر العيون، وجعل له العصى اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون، ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحى الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، ومنهم من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك. فلما أتوا بمثل ذلك، وعجز الخلق من أممهم عن أن يأتوا بمثله. كان من تقدير الله تعالى ولطفه بعباده وحكمته، أن جعل الانبياء عليهم السلام مع هذه المعجزات في حال غالبين وفي حال مغلوبين، وفي حال قاهرين وفي حال مقهورين، ولو جعلهم الله تعالى في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله تعالى، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والإختيار. ولكنه تعالى جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، وليكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد بأنّ لهم إلهاً هو خالقهم ومدبرهم، فيعبدوه ويطيعوا رسله وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحد فيهم، وادعى الربوبية لهم، أو عاند وخالف وعصى وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل عليه السلام، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة.

قال محدث هذا الحديث «محمد بن إبراهيم بن إسحاق»: فعدت

٩٨

إلى ابن روح من الغد، وأنا أقول في نفسي: «أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدرني فقال لي: يا محمد لئن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحب إلي من أن أقوال في دين الله تعالى برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل، مسموع عن الحجة عليه السلام(1) .

وهل بعد هذا البيان من عذر أو حجة لمن يزعم بأنهم لا يعلمون على ما يقدمون، وأن دائرة علمهم ضيقة لا تحيط بالحوادث، ولعمر الحق إنَّ القول بحضور علمهم لا يحتاج إلى كل هذه الحجج والبراهين بل إنَّ البعض مما سلف كافٍ في الإيضاح عنه والكشف عن نقابه وإزاحة الشبهة فيه غير أنّ وفور الادلة دعانا إلى إستطراد البعض منها وإن أغنى النزر منها.

علم الإمام يجب الإعتقاد به

لما كان نصب الإمام واجباً على الله جلَّ شأنه من باب اللطف، وكانت معرفته بعد وجوب واجبة أيضاً عقلاً ونقلاً، كانت تلك المعرفة له يجب أن تكون بشخصه وكافة صفاته، بحكم العقل وصراحة النقل.

فإذا وجب هذا كله وجب أن يكون الإمام أفضل الناس في جميع الصفات الحميدة، وإذا وجب هذا أيضاً وجب أن يعتقد من يقول بالإمامة بأن الإمام جامع لصفات الفضل ممتازاً بها على العالم بأسره.

____________________

(1) إكمال الدين وإتمام النعمة: التوقيعات.

٩٩

ومن تلك الصفات «العلم» وهذا مما لا ينبغي الريب فيه، كما أنَّ البحث في تفصيل هذه الأمور مذكور في كتب الكلام، في أبواب الإمامة، فلا يلزم ذكرها هنا؛ وإنما الذي يلزم البحث عنه في هذا المقام أمران: الأول: هو أنّ علم الإمام - بعد وجوب الإعتقاد به - هل يجب على نحو التفصيل أو يكفي الإجمال. الثاني: إنّ هذا الإعتقاد ضروري، بحيث يكون من لا يعتقد ذلك منكراً لضروري من الضروريات في الدين. أو ليس الأمر كذلك؟

أما الأول: فلم نجد دليلاً يرشدنا إلى وجوب الإعتقاد تفصيلاً. نعم أقصى ما يدل عليه العقل، هو أنَّ الإمام يجب أن يكون أعلم الناس فإذا وجب هذا، وجب على القائل بالإمامة الإعتقاد بذلك، لأنّه من شؤون الإمامة ولوازمها. ومن أرشده الدليل إلى التفصيل وجب عليه الإعتقاد بما وضح لديه، لأنه من شؤون الإمامة عند ذاك.. وكيف نستطيع أن نقول بوجوب الإعتقاد بالتفصيل مطلقاً، والمعرفة التفصيلية متعذرة لمثل النساء والأطفال، بل وعامة الناس.

وأما الثاني: ففيه تفصيل، وذلك لأنَّ مثل الصبية والنسوة، بل والسواد العام لا يتعقلون في أنَّ علم الإمام، على نحو ما أشرنا إليه من الضروريات، وإنَّ من يتعذر في شأنه فهم الشيء وإدراكه والوصول إلى كنهه كيف يكون اعتقاده به ضرورياً، نعم! إنَّ ذلك إنما يتأتى في شأن الخواص وأهل العلم، ومن قام لديه الدليل على وجوب اتصاف الإمام بتلك الخصال الكريمة، فإنَّ العلم بالنسبة إليه

١٠٠