الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 89167
تحميل: 4959


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89167 / تحميل: 4959
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الصبيان؟ فقالوا: إنّ مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم وأموالهم ونساءهم ليقاتل كلّ منهم عن أهله وماله فقال دريد: راعى ضأن وربّ الكعبة.

ثمّ قال: ائتونى بمالك فلمّا جاءه قال: يا مالك إنّك أصبحت رئيس قومك، وهذا يوم له ما بعده، ردّ قومك إلى عليا بلادهم، والق الرجال على متون الخيل فإنّه لا ينفعك إلّا رجل بسيفه وفرسه فإن كانت لك لحقّ بك من وراءك، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك، فقال له مالك: إنّك قد كبرت وذهب علمك وعقلك.

وعقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواءه الأكبر ودفعه إلى علىّ بن ابى طالبعليه‌السلام ، وكلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها، وخرج بعد أن أقام بمكّة خمسة عشر يوماً، وبعث إلى صفوان بن اُميّـة فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عارية مضمونة مؤدّاة، فأعاره صفوان مائة درع وخرج معه، وخرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل مكّة في عشرة آلاف رجل وخرج منها في اثنى عشر ألفاً.

وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف وهو يقول لقومه: ليصير كلّ رجل منكم أهله وماله خلف ظهره، واكسروا جفون سيوفكم واكمنوا في شعاب هذا الوادي وفي السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهدّوا القوم فإن محمّـداً لم يلق أحداً يحسن الحرب.

ولمّا صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه الغداة انحدر في وادى حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، وانهزمت بنو سليم وكانوا على المقدّمة وانهزم ما وراءهم، وخلّى الله تعالى بينهم وبين عدوّهم لإعجابهم بكثرتهم وبقى علىّعليه‌السلام ومعه الراية يقاتلهم في نفر قليل ومرّ المنهزمون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلوون على شئ.

وكان العبّـاس بن عبدالمطّلب أخذ بلجام بغلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفضل عن يمينه، وأبوسفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب عن يساره، ونوفل بن الحارث وربيعة بن الحارث في تسعة من بنى هاشم، وعاشرهم أيمن بن اُمّ أيمن، وفي ذلك يقول العبّـاس:

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

و قد فرّ من قـد فرّ عنه فأقشعوا

و قـولى إذا ما الفـضل كرّ بسيفه

على القوم اخرى يا بنىّ ليرجعوا

٢٤١

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجّع

ولمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هزيمة القوم عنه قال للعبّـاس - وكان جهوريّا صيّـتا - اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين والأنصار يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله.

فلمّا سمع المسلمون صوت العبّـاس تراجعوا وقالوا: لبّيك لبّيك، وتبادر الأنصار خاصّـة وقاتلوا المشركين حتّى قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآن حمى الوطيس. أنا النبيّ لا كذب(١) أنا ابن عبدالمطّلب، ونزل النصر من عند الله، وانهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففرّوا في كلّ وجه، ولم يزل المسلمون في آثارهم.

وفرّ مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، وقتل منهم زهاء مائة رجل، وأغنم الله المسلمين أموالهم ونساءهم، وأمر رسول الله بالذرارى والأموال أن تحدر إلى الجعرانة، وولّى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعىّ.

ومضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر أهل الطائف بقيّـة الشهر فلمّا دخل ذو القعدة انصرف وأتى الجعرانة، وقسّم بها غنائم حنين وأوطاس.

قال سعيد بن المسيّب: حدّثنى رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقفوا لنا حلب شاة فلمّا كشفناهم جعلنا نسوقهم حتّى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلقّانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا فكانوا إيّـاها يعنى الملائكة.

قال الزهريّ: وبلغني أنّ شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا اُريد أن أقتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم اُحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلىّ وضرب في صدري، وقال: اُعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحبّ إلىّ من سمعي وبصرى فقلت: أشهد أنّك رسول الله، وأنّ الله أطلعك على ما في نفسي.

____________________

(١) غير كذب خ.

٢٤٢

وقسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغنائم بالجعرانة، وكان معه من سبى هوازن ستّة آلاف من الذرارى والنساء، ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدّته.

قال أبو سعيد الخدرىّ: قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمتألّفين من قريش ومن سائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شئ قليل ولا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّ هذا الحىّ من الأنصار وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شئ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلّا امرؤ من قومي فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فاجمع لى قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: يا معشر الأنصار أو لم آتكم ضُلّالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله وأعداء فألّف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله.

ثمّ قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وما نقول؟ وبما ذا نجيبك؟ المنّ لله ولرسوله. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فآمناك، ومخذولاً فنصرناك. فقالوا: المنّ لله ولرسوله.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام. أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فو الّذى نفسي بيده لو أنّ الناس سلكوا شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ولو لا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتّى اخضلّت لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسماً ثمّ تفرّقوا.

وقال أنس بن مالك: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امر منادياً فنادى يوم اوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، ولا غير الحبالى حتّى يستبرأن بحيضة.

ثمّ أقبلت وفود هوازن وقدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجعرانة مسلمين فقام خطيبهم وقال: يا رسول الله إنّما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللّاتى كنّ يكفلنك فلو أنّا ملحنا ابن أبى شمر أو النعمان بن المنذر ثمّ أصابنا منهما مثل الّذى أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما وأنت خير المكفولين ثمّ أنشد أبياتاً.

٢٤٣

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأمرين أحبّ إليكم: السبى أو الأموال؟ قالوا: يا رسول الله خيّرتنا بين الحسب وبين الأموال، والحسب أحبّ إلينا ولا نتكلّم في شاة ولا بعير فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الّذى لبنى هاشم فهو لكم وساُكلّم لكم المسلمين وأشفع لكم فكلموهم وأظهروا إسلامكم.

فلمّا صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهاجرة قاموا فتكلّموا فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد رددت الّذى لبنى هاشم والّذى بيدى عليهم فمن أحبّ منكم أن يعطى غير مكره فليفعل ومن كره أن يعطى فليأخذ الفداء وعلىّ فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلّا قليلاً من الناس سألوا الفداء.

وأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مالك بن عوف وقال: إن جئتني مسلماً رددت إليك أهلك ومالك ولك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فردّ عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل واستعمله على من أسلم من قومه.

أقول: وروى القمّىّ في تفسيره مثله ولم يرو ما نسب من الرجز إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا ما أسنده إلى راو معيّـن كالمسيّب والزهرىّ وأنس وأبى سعيد، وروى هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنّة.

وفي رواية علىّ بن إبراهيم القمّىّ زيادة يسيرة هي ما يأتي:

قال علىّ بن إبراهيم: فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه(١) فقال: يا عبّـاس اصعد هذا الظرب وناد: يا أصحاب [ سورة ] البقرة يا أصحاب الشجرة إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله.

ثمّ رفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده وقال: اللّهمّ لك الحمد ولك الشكر واليك المشتكى وأنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران حين فلق الله له البحر ونجّاه من فرعون.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي سفيان بن الحارث: ناولنى كفّاً من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ثمّ قال: شاهت الوجوه. ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد.

____________________

(١) وفى نسخة البحار: ركض نحو على بغلته فرآه قد شهر سيفه.

٢٤٤

فلمّا سمعت الأنصار نداء العبّـاس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم ينادون: لبّيك ومرّوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّـاس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآن حمى الوطيس فنزل النصر من السماء وانهزمت هوازن.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوالشيخ عن محمّـد بن عبيد الله بن عمير الليثىّ قال: كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة آلاف من الأنصار و ألف من جهينة، وألف من مزينة وألف من أسلم وألف من غفار وألف من أشجع وألف من المهاجرين وغيرهم فكان معه عشرة آلاف وخرج باثنى عشر ألفاً وفيها قال الله تعالى في كتابه:( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً ) .

وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق قال : فلمّا انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جفاة أهل مكّة الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن:

فقال أبوسفيان بن حرب: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإنّ الأزلام لمعه في كنانته وصرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن اُميّه مشرك في المدّة الّتى جعل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -: ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فضّ الله فاك فو الله لأن يربّنى رجل من قريش أحبّ إلىّ من أن يربّنى رجل من هوازن.

قال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثأرى - وكان أبوه قتل يوم اُحد - اليوم أقتل محمّـداُ قال: فأدرت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأقتله فأقبل شئ حتّى تغشّى فؤادى فلم أطق ذاك فعلمت أنّه ممنوع منّى .

( فهرس أسماء شهداء حنين)

في سيرة ابن هشام قال ابن اسحاق: وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين:

من قريش ثمّ من بنى هاشم أيمن بن عبيد ومن بنى أسد بن عبد العزّى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل.

٢٤٥

ومن الأنصار سراقة بن الحارث بن عدىّ من بنى العجلان ومن الأشعريّين أبو عامر الأشعريّ.

أقول: وأمّا الثباة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد عدّوا في بعض الروايات ثلاثة وفي بعضها أربعة وفي بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - وهو ابن اُمّ أيمن - وفي بعضها ثمانين وفي بعضها: دون المائة.

المتعمد من بينها ما روى عن العبّـاس أنّهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن وله في ذلك شعر تقدّم نقله وذلك أنّه كان ممّن ثبت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طول الوقعة وشاهد ما كان من الأمر وهو الّذى كان ينادى المنهزمين ويستلحقهم بأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد باهى بما قاله من الشعر.

ومن الممكن أن يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثمّ يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدّوا ممّن ثبت وقاتل فالحرب العوان لا يجرى على ما يجرى عليه السلم من النظم.

ومن هنا يعلم ما في قول بعضهم: أن الأرجح رواية الثمانين كما عن عبدالله ابن مسعود وإليها يرجع ما رواه ابن عمر أنّهم كانوا دون المائة فإنّ الحجّة لمن حفظ على من لم يحفظ، انتهى ملخّصاً.

وذلك أنّ كون الحجّة لمن حفظ على من لم يحفظ حقّ لكنّ الحفظ في حال الحرب على ما فيه من التحوّل السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلّا على ما شهدت القرائن لصحّته وأيّد الاعتبار وثاقة حفظه وقد كان العبّـاس مأموراً بما من شأنه حفظ هذا الشأن وما يرتبط به.

٢٤٦

( سورة التوبة آيه ٢٩ - ٣٥)  

قَاتِلُوا الّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَيُحَرّمُونَ مَاحَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتّى‏ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( ٢٩ ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى‏ يُؤْفَكُونَ ( ٣٠ ) اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لاَإِلهَ إِلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ( ٣١ ) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( ٣٢ ) هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى‏ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( ٣٣ ) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٤ ) يَوْمَ يُحْمَى‏ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ فَتُكْوَى‏ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ( ٣٥ )

( بيان)

الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممّن يمكن تبقيته بالجزية وتذكر اُموراً من وجوه انحرافهم عن الحقّ في الاعتقاد والعمل.

قوله تعالى: ( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين اُوتوا الكتاب ) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم وكذا المجوس على

٢٤٧

ما يشعر أو يدلّ عليه قوله تعالى:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والّذين اشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة إنّ الله على كلّ شئ شهيد ) الحجّ: ١٧ حيث عدّوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماويّـة في قبال الّذين أشركوا، والصابئون كما تقدّم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتّخذوا طريقاً بين الطريقين.

والسياق يدلّ على أنّ لفظه( من ) في قوله:( من الّذين اُوتوا الكتاب ) بيانيّـة لا تبعيضية فإنّ كلّا من اليهود والنصارى والمجوس اُمّـة واحدة كالمسلمين في إسلامهم وإن تشعّبوا شعباً مختلفة وتفرّقوا فرقاً متشتّة اختلط بعضهم ببعض ولو كان المراد قتال البعض وإثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.

وحيث كان قوله:( من الّذين اُوتوا الكتاب ) بياناً لما قبله من قوله:( الّذين لا يؤمنون ) الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامّة لجميعهم وهى ثلاثة أوصاف وصفهم الله سبحانه بها: عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم تحريم ما حرّم الله ورسوله، وعدم التديّن بدين الحقّ.

فأوّل ما وصفهم به قوله:( الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) وهو تعالى ينسب إليهم في كلامه أنّهم يثبتونه إلهاً وكيف لا؟ وهو يعدّهم أهل الكتاب، وما هو إلّا الكتاب السماويّ النازل من عند الله على رسول من رسله ويحكى عنهم القول أو لازم القول بالاُلوهيّـة في مئات من آيات كتابه.

وكذا ينسب إليهم القول باليوم الآخر في أمثال قوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّـاماً معدودة ) البقره: ٨٠، وقوله:( وقالوا لن يدخل الجنّـة إلّا من كان هوداً أو نصارى ) البقرة: ١١١.

غير أنّه تعالى لم يفرّق في كلامه بين الإيمان به والإيمان باليوم الآخر فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله والكفر بالله كفر بالأمرين جميعاً، وحكم فيمن فرّق بين الله ورسله فآمن ببعض دون بعض أنّه كافر كما قال:( إنّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن

٢٤٨

يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً اُولئك هم الكافرون حقّاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً ) النساء: ١٥١.

فعدّ أهل الكتاب ممّن لم يؤمن بنبوّة محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفّـاراً حقّاً وإن كان عندهم إيمان بالله واليوم الآخر، لا بلسان أنّهم كفروا بآية من آيات الله وهى آية النبوّة بل بلسان أنّهم كفروا بالإيمان بالله فلم يؤمنوا بالله واليوم الآخر كما أنّ المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحّدوه وإن أثبتوا إلهاً فوق الآلهة.

على أنّهم يقرّرون أمر المبدء والمعاد تقريراً لا يوافق الحقّ بوجه كقولهم بأنّ المسيح ابن الله وعزيراً ابن الله يضاهؤون في ذلك قول الّذين كفروا من أرباب الاصنام والأوثان إنّ من الآلهة من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، وقول اليهود في المعاد بالكرامة وقول النصارى بالتفدية.

فالظاهر أنّ نفى الإيمان بالله واليوم الآخر عن أهل الكتاب إنّما هو لكونهم لا يرون ما هو الحقّ من أمر التوحيد والمعاد وإن أثبتوا أصل القول بالاُلوهيّـة لا لأنّ منهم من ينكر القول باُلوهيّـة الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنّهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن وإن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلاً.

ثمّ وصفهم ثانياً بقوله:( ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ) وذلك كقول اليهود بإباحة أشياء عدّها وذكّرها لهم القرآن في سورتي البقرة والنساء وغيرهما وقول النصارى بإباحة الخمر ولحم الخنزير، وقد ثبت تحريمهما في شرائع موسى وعيسى ومحمّـدعليهم‌السلام وأكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الآية الآتية:( إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ) .

والمراد بالرسول في قوله:( ما حرّم الله ورسوله ) إمّا رسول أنفسهم الّذى قالوا بنبوّته كموسىعليه‌السلام بالنسبه إلى اليهود وعيسىعليه‌السلام بالنسبة إلى النصارى فالمعنى لا يحرّم كلّ اُمّة منهم ما حرّمه عليهم رسولهم الّذى قالوا بنبوّته، واعترفوا بحقّانيّـته وفي ذلك نهاية التجرّى على الله ورسوله واللعب بالحقّ والحقيقة.

وإمّا النبيّ محمّـد (صلّى لله عليه وآله وسلّم) الّذى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يحلّ

٢٤٩

لهم الطيّـبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتى كانت عليهم.

ويكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله بغرض تأنيبهم والطعن فيهم ولبعث المؤمنين وتهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرّمه الله ورسوله في شرعهم واسترسالهم في الوقوع في محارم الله وهتك حرماته.

وربّما أيّد هذا الإحتمال أن لو كان المراد بقوله:( ورسوله ) رسول كلّ اُمّة بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حقّ الكلام أن يقال:( ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسله ) على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله:( ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ) النساء: ١٥٠، وقوله:( قالت رسلهم أفى الله شكّ ) ابراهيم: ١٠، وقوله:( وجاءتهم رسلهم بالبيّـنات ) يونس: ١٣.

على أنّ النصارى رفضوا محرّمات التوراة و الإنجيل فلم يحرّموا ما حرّم موسى وعيسى (عليه السلام )، وليس من حقّ الكلام في مورد هذا شأنه: أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله.

على أنّ المتدبّر في المقاصد العامّة الإسلاميّـة لا يشكّ في أنّ قتال أهل الكتاب حتّى يعطوا الجزية ليس لغرض تمتّع أولياء الإسلام ولا المسلمين من متاع الحياة الدنيا واسترسالهم وانهما كهم في الشهوات على حدّ المترفين من الملوك والرؤساء المسرفين من أقوياء الاُمم.

وإنّما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحقّ وسنّة العدل وكلمة التقوى على الباطل والظلم والفسق فلا يعترضها في مسيرها اللّعب والهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتّى لا ينجرّ إلى أن تجذب هذه إلى جانب، وتلك إلى جانب، فيتشوّش أمر النظام الإنسانيّ إلّا أن لا يرتضى واحد أو جماعة التربية الإسلاميّـة لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحراراً فيما يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصّـة على شرط أن يكونوا على شئ من دين التوحيد، وهو اليهوديّـة أو النصرانيّـة أو المجوسيّـة، وأن لا يتظاهروا بالمزاحمة، وهذا غاية العدل والنصفة من دين الحقّ الظاهر على غيره.

٢٥٠

وأمّا الجزية فهى عطيّـة ماليّـة مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمّتهم وحسن إدارتهم ولا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقّة أو باطلة.

ومن هذا البيان يظهر أنّ المراد بهذه المحرّمات: المحرّمات الإسلاميّـة الّتى عزم الله أن لا تشيع في المجتمع الإسلاميّ العالميّ كما أنّ المراد بدين الحقّ هو الّذى يعزم أن يكون هو المتّبع في المجتمع.

ولازم ذلك أن يكون المراد بالمحرّمات: المحرّمات الّتى حرّمها الله ورسوله محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادع بالدعوة الإسلاميّـة، وأن يكون الأوصاف الثلاثة:( الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية في معنى التعليل تفيد حكمة الأمر بقتال أهل الكتاب.

وبذلك كلّه يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنّه لا يعقل أن يحرّم أهل الكتاب على أنفسهم ما حرّم الله ورسوله علينا إلّا إذا أسلموا، وإنّما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين.

وجه الفساد أنّه ليس من الواجب أن يكون الغرض من قتالهم أن يحرّموا ما حرّم الإسلام وهم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرّز بالمحرّمات من غير مانع يمنع شيوعها والاسترسال فيها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأكل المال بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمّه فلا يتظاهروا بالفساد، ويحتبس الشرّ فيما بينهم أنفسهم.

ولعلّه إلى ذلك الإشارة بقوله:( وهم صاغرون ) على ما سيجئ في الكلام على ذيل الآية.

ثمّ وصفهم ثالثاً بقوله:( ولا يدينون دين الحقّ ) أي لا يأخذونه ديناً وسنّة حيويّـة لأنفسهم.

وإضافة الدين إلى الحقّ ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون المراد الدين الّذى هو حقّ بل من الاضافة الحقيقة، والمراد به الدين الّذى هو منسوب إلى الحقّ لكون الحقّ هو الّذى يقتضيه للإنسان ويبعثه إليه، وكون هذا الدين يهدى إلى الحقّ ويوصل متّبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحقّ وطريق

٢٥١

الضلال بمعنى الطريق الّذى هو للحقّ والطريق الّذى هو للضلال إى إنّ غايته الحقّ أو غايته الضلال.

وذلك أنّ المستفاد من مثل قوله تعالى:( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله الّتى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ) الروم: ٣٠، وقوله:( إنّ الدين عند الله الإسلام ) آل عمران: ١٩، وسائر ما يجرى هذا المجرى من الآيات أنّ لهذا الدين أصلاً في الكون والخلقة والواقع الحقّ، يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويندب الناس إلى الإسلام والخضوع له ويسمّى اتّخاذه سنّة في الحياة إسلاماً لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للإنسان عن استجابته والتسليم له وهو الخضوع للسنّة العمليّـة الاعتباريّـة الّتى يهدى إليها السنّة الكونيّـة الحقيقيّـة، وبعبارة اُخرى التسليم لإرادة الله التشريعيّـة المنبعثة عن إرادته التكوينيّـة.

وبالجملة للحقّ الّذى هو الواقع الثابت دين وسنّة ينبعث منه كما أنّ للضلال والغىّ ديناً يدعو إليه، والأوّل اتّباع للحقّ كما أنّ الثاني اتّباع للهوى، قال تعالى:( ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ) .

والإسلام دين الحقّ بمعنى أنّه ستّة التكوين والطريقة الّتى تنطبق عليها الخلقة وتدعو إليها الفطرة فطرة الله الّتى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم.

فتلخّص ممّا تقدّمأوّلاً : أنّ المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر عدم تلبّسهم بالإيمإن المقبول عند الله، وبعدم تحريمهم ما حرّم الله ورسوله عدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهى الّتى يفسد التظاهر بها المجتمع البشرىّ ويخيب بها سعى الحكومة الحقّة الجارية فيه، وبعدم تديّنهم بدين الحقّ عدم استنانهم بسنّة الحقّ المنطبقة على الخلقة والمنطبقة عليها الخلقة والكون.

وثانياً : أنّ قوله:( الّذين لا يؤمنون بالله ) إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق لبيان الحكمة في الأمر بقتالهم ويترتّب عليه فائدة التحريض والتحضيض عليه.

وثالثاً : أنّ المراد قتال أهل الكتاب جميعاً لا بعضهم بجعل( من ) في قوله:( من الّذين اُوتوا الكتاب ) للتبعيض.

٢٥٢

قوله تعالى: ( حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) قال الراغب في المفردات: الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم. انتهى.

وفي المجمع: الجزية فعلة من جزى يجزى مثل العقدة والجلسة وهى عطيّـة مخصوصة جزاءً لهم على تمسّكهم بالكفر عقوبة لهم. عن علىّ بن عيسى. انتهى.

والاعتماد على ما ذكره الراغب فإنّه المتأيّد بما ذكرناه آنفاً أنّ هذه عطيّـة ماليّـة مصروفة في جهة حفظ ذمّتهم وحقن دمائهم وحسن إدارتهم.

وقال الراغب أيضاً: الصغر والكبر من الأسماء المتضادّة الّتى تقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشئ قد يكون صغيراً في جنب الشئ وكبيراً في جنب آخر - إلى أن قال - يقال: صغر صغراً - بالكسر فالفتح - في ضدّ الكبير وصغر صغرا وصغاراً - بالفتحتين فيهما - في الذلّة. والصاغر الراضي بالمنزلة الدنيّـة:( حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) انتهى.

والاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثمّ إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمّتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنّة الإسلاميّـة والحكومة الدينيّـة العادلة في المجتمع الإسلاميّ فلا يكافؤوا المسلمين ولا يبارزوهم بشخصيّة مستقلّة حرّة في بثّ ما تهواه أنفسهم وإشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد والأعمال المفسدة للمجتمع الإنسانيّ مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.

فظاهر الآية أنّ هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم والسخريّة بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينيّـة فإنّ هذا ممّا لا يحتمله السكينة والوقار الإسلاميّ وإن ذكر بعض المفسّرين.

واليد: الجارحة من الإنسان وتطلق على القدرة والنعمة فإن كان المراد به في قوله:( حتّى يعطوا الجزية عن يد ) هو المعنى الأوّل فالمعنى حتّى يعطوا الجزية متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، وإن كان لمراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتّى يعطوا الجزية عن قدرة وسلطة لكم عليهم وهم صاغرون غير مستعلين عليكم ولا مستكبرين.

٢٥٣

فمعنى الآية - والله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لأنّهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إيماناً مقبولاً غير منحرف عن الصواب ولا يحرّمون ما حرّمه الإسلام ممّا يفسد اقترافه المجتمع الإنسانيّ ولا يدينون ديناً منطبقاً على الخلقة الإلهيّـة قاتلوهم ودوموا على قتالهم حتّى يصغروا عندكم ويخضعوا لحكومتكم، ويعطوا في ذلك عطيّـة ماليّـة مضروبة عليهم يمثّل صغارهم، ويصرف في حفظ ذمّتهم وحقن دمائهم وحاجة إدارة اُمورهم.

قوله تعالى: ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة. والإفك على ما ذكره الراغب كلّ مصروف عن وجهه الّذى يحقّ أن يكون عليه فمعنى( يؤفكون ) يصرفون في اعتقادهم عن الحقّ إلى الباطل.

وقوله:( وقالت اليهود عزير ابن الله ) عزير هذا هو الّذى يسمّيه اليهود عزرا غيّرت اللفظة عند التعريب كما غيّر لفظ (يسوع) فصار بالتعريب (عيسى) ولفظ (يوحنّا) فصار كما قيل (يحيى).

وعزرا هذا هو الّذى جدّد دين اليهود وجمع أسفار التوراة وكتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصّر ملك بابل الّذى فتح بلادهم وخرّب هيكلهم وأحرق كتبهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم والباقين من ضعفائهم وسيّرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثمّ لمّا فتح (كورش) ملك ايران بابل شفع لهم عنده عزرا وكان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم وأن يكتب لهم التوراة ثانياً بعد ما افتقدوا نسخها وكان ذلك في حدود سنة ٤٥٧ قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانياً ما جمعه عزرا من التوراة وإن كانوا افتقدوا أيضاً في زمن أنتيوكس صاحب سوريّة الّذى فتح بلادهم حدود سنة ١٦١ ق م وتتّبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة وقتل من وجدت عنده أو اُخذت عليه على ما في كتب التاريخ.

ولما نالهم من خدمته عظّموا قدره واحترموا أمره وسمّوه ابن الله ولا ندرى أكان دعاؤه بالبنوّة بالمعنى الّذى يسمّى به النصارى المسيح ابن الله - والمراد أنّ فيه شيئاً من جوهر الربوبيّـة أو هو مشتقّ منه أو هو هو؟ - أو أنّها تسمية تشريفيّـة كما قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه؟ وإن كان ظاهر سياق الآية التالية:( اتّخذوا أحبارهم ورهبأنّهم أرباباً من

٢٥٤

دون الله والمسيح بن مريم ) الآية يؤيّد الثاني على ما سيأتي.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ هذا القول منهم:( عزير ابن الله ) كلمة تكلّم بها بعض اليهود ممّن في عصرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أنّ قولهم:( إنّ الله فقير ونحن أغنياء ) وكذا قولهم:( يد الله مغلولة ) ممّا قاله بعض يهود المدينة ممّن عاصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لأنّ البعض منهم راضوان بما عمله البعض الآخر، والجميع ذو رأى متوافق الأجزاء ورويّة متشابهة التأثير.

وقوله:( وقالت النصارى المسيح ابن الله ) كلمة قالتها النصارى، وقد تقدّم الكلام فيها وفي ما يتعلّق بها في قصّة المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.

وقوله:( يضاهؤون قول الّذين كفروا من قبل ) تنبئ الآية عن أنّ القول بالبنوّة منهم مضاهاة ومشاكلة لقول من تقدّمهم من الاُمم الكافرة وهم الوثنيّون عبدة الأصنام فإنّ من آلهتهم من هو إله أب إله ومن هو إله ابن إله، ومن هي إلهة اُمّ إله أو زوجة إله، وكذا القول بالثالوث ممّا كان دائراً بين الوثنيّـين من الهند والصين ومصر القديم وغيرهم وقد مرّ نبذة من ذلك فيما تقدّم من الكلام في قصّة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.

وتقدّم هناك أنّ تسرّب العقائد الوثنيّـة في دين النصارى ومثلهم اليهود من الحقائق الّتى كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية:( يضاهؤون قول الّذين كفروا من قبل ) .

وقد اعتنى جمع(١) من محقّقى هذا العصر بتطبيق ما تضمّنته كتب القوم أعني العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيّـين والبرهمائيّـين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتّى كثيراً من القصص والحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يُبق ذلك ريباً لأىّ باحث في أصالة قوله تعالى:( يضاهؤون ) الآية في هذا الباب.

ثمّ دعا عليهم بقوله:( قاتلهم الله أنّى يؤفكون ) وختم به الآية.

____________________

(١) (Budhist and Christian Gospels Edmuds A. J. V ٢. philadelphia ١٩٠٨)

٢٥٥

قوله تعالى: ( اتّخذوا أحبارهم ورهبأنّهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم ) الأحبار جمع حبر بفتح الحاء وكسرها وهو العالم وغلب استعماله في علماء اليهود والرهبان جمع راهب وهو المتلبّس بلباس الخشية وغلب على المتنسّكين من النصارى.

واتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله هو إصغاؤهم لهم وإطاعتهم من غير قيد وشرط ولا يطاع كذلك إلّا الله سبحانه.

وأمّا اتّخاذهم المسيح بن مريم ربّاً من دون الله فهو القول باُلوهيّته بنحو كما هو المعروف من مذاهب النصارى، وفي إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم محقّين في هذا الإتّخاذ لكونه إنساناً ابن مرأة.

ولكون الإتّخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله أوّلاً، ثمّ عطف عليه قوله:( والمسيح بن مريم ) .

والكلام كما يدلّ على اختلاف الربوبيّـتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أنّ قولهم ببنوّة عزير وبنوّة المسيح على معنيين مختلفين، وهو البنوّة التشريفيّة في عزير والبنوّة بنوع من الحقيقة في المسيحعليه‌السلام فإنّ الآية أهملت ذكر اتّخاذهم عزيراً ربّاً من دون الله، ولم يذكر مكانه إلّا اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.

فهو ربّ عندهم بهذا المعنى إمّا لاستلزام التشريف بالبنوّة ذلك أو لأنّه من أحبارهم وقد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، وأمّا المسيح فبنوّته غير هذه البنوّة.

وقوله:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلّا هو ) جملة حاليّة أي اتّخذوا لهم أرباباً والحال هذه.

وفي الكلام دلالة أوّلاً: على أنّ الاتّخاذ بالربوبيّـة بواسطة الطاعة كالاتّخاذ بها بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، ولازم ذلك أنّ الربّ الّذى هو المطاع من غير قيد وشرط وعلى نحو الاستقلال إله، فإنّ الإله هو المعبود الّذى من حقّه أن يعبد، يدلّ على ذلك كلّه قوله تعالى:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً ) حيث بدّل الربّ بالإله، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وما اُمروا إلّا ليتّخذوا ربّاً واحداً

٢٥٦

فالاتّخاذ للربوبيّـة بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، واتّخاذ الربّ معبوداً اتّخاذ له إلهاً فافهم ذلك.

وثانياً: على أنّ الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله تعالى:( لا إله إلّا أنا فاعبدون ) الأنبياء: ٢٥ وقوله:( فلا تدع مع الله إلهاً آخر ) الشعراء: ٢١٣ وأمثال ذلك كما اُريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف فيه تعالى كذلك اُريد قصر الطاعة فيه تعالى، وذلك أنّه تعالى لم يؤاخذهم في طاعتهم لأحبارهم ورهبانهم إلّا بقوله عزّ من قائل:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلّا هو ) .

وعلى هذا المعنى يدلّ قوله تعالى:( ألم أعهد إليكم يا بنى آدم إلّا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوّ مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) يس - ٦١، وهذا باب ينفتح منه ألف باب.

وفي قوله:( لا إله إلّا هو ) تتميم لكلمة التوحيد الّتى يتضمّنها قوله:( وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً ) فإنّ كثيراً من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بوجود آلهة كثيرة، وهم مع ذلك لا يخصّون بالعبادة إلّا واحداً منها فعبادة إله واحد لا يتمّ به التوحيد إلّا مع القول بأنّه لا إله إلّا هو.

وقد جمع تعالى بين العبادتين مع الإشارة إلى مغايرة ما بينهما وأنّ قصر العبادة بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الإسلام له سبحانه الّذى لا مفرّ منه للإنسان، فيما أمر به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دعوة أهل الكتاب بقوله:( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) آل عمران: ٦٤.

وقوله تعالى في ذيل الآية:( سبحانه عمّا يشركون ) تنزيه له تعالى عمّا يتضمّنه قولهم بربوبيّـة الأحبار والرهبان، وقولهم بربوبيّـة المسيحعليه‌السلام من الشرك.

و الآية بمنزلة البيان التعليلىّ لقوله تعالى في أوّل الآيات:( الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) فإنّ اتّخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع الإيمان بالله، ولا الإيمان بيوم لا ملك فيه إلّا لله.

قوله تعالى: ( يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ) إلى آخر الآية، الإطفاء

٢٥٧

إخماد النار أو النور، والباء في قوله:( بأفواههم ) للآلة أو السببيّـة.

وإنّما ذكر الأفواه لأنّ النفخ الّذى يتوسّل به إلى إخماد الأنوار والسرج يكون بالأفواه، قال في المجمع: وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم لأنّ الفم يؤثّر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة. انتهى.

وقال في الكشّاف: مثّل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثّ في الآفاق يريد الله أن يزيده، ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه. انتهى، والآية إشارة إلى حال الدعوة الإسلاميّـة، وما يريده منه الكافرون، وفيها وعد جميل بأنّ الله سيتمّ نوره.

قوله تعالى: ( هو الّذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون ) الهدى الهداية الإلهيّـة الّتى قارنها برسوله ليهدى بأمره، ودين الحقّ هو الإسلام بما يشتمل عليه من العقائد والأحكام المنطبقة على الواقع الحقّ.

والمعنى أنّ الله هو الّذى أرسل رسوله وهو محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الهداية - أو الآيات والبيّنات - ودين فطرىّ ليظهر وينصر دينه الّذى هو دين الحقّ على كلّ الأديان ولو كره المشركون ذلك.

وبذلك ظهر أنّ الضمير في قوله:( ليظهره ) راجع إلى دين الحقّ كما هو المتبادر من السياق، وربّما قيل: إنّ الضمير راجع إلى الرسول، والمعنى ليظهر رسوله ويعلمه معالم الدين كلّها وهو بعيد.

وفي الآيتين من تحريض المؤمنين على قتال أهل الكتاب والإشارة إلى وجوب ذلك عليهم ما لا يخفى فإنّهما تدلّان على أنّ الله أراد انتشار هذا الدين في العالم البشرىّ فلا بدّ من السعي والمجاهدة في ذلك، وأنّ أهل الكتاب يريدون أن يطفؤوا هذا النور بأفواههم فلا بدّ من قتالهم حتّى يفنوا أو يستبقوا بالجزية والصغار، وأنّ الله سبحانه يأبى إلّا أن يتمّ نوره، ويريد أن يظهر هذا الدين على غيره فالدائرة بمشيّـة الله لهم على أعدائهم فلا ينبغى لهم أن يهنوا ويحزنوا وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون

٢٥٨

أموال الناس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله ) الظاهر أنّ الآية إشارة إلى بعض التوضيح لقوله في أوّل الآيات:( ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ ) كما أنّ الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها:( الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) .

أمّا إيضاح قوله تعالى:( ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ) بقوله:( إنّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ) فهو إيضاح بأوضح المصاديق وأهمّها تأثيراً في إفساد المجتمع الإنسانيّ الصالح، وإبطال غرض الدين.

فالقرآن الكريم يعدّ لأهل الكتاب وخاصّـة لليهود جرائم وآثاماً كثيرة مفصّلة في سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها لكنّ الجرائم والتعدّيات الماليّـة شأنها غير شأن غيرها، وخاصّـة في هذا المقام الّذى تعلّق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع الإنسانيّ الصالح لو كانوا مبسوطي اليد واستقلالهم الحيوىّ قائماً على ساق، ولا مفسد للمجتمع مثل التعدّي المالىّ.

فإنّ أهمّ ما يقوم به المجتمع الإنسانيّ على أساسه هو الجهة الماليّـة الّتى جعل الله لهم قياماً فجل المآثم والمساوي والجنايات والتعدّيات والمظالم تنتهى بالتحليل إمّا إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعدّيات الماليّـة، وإمّا إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف والإسراف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن، والاسترسال في الشهوات وهتك الحرمات، وبسط التسلّط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم.

وتنتهى جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال واقتناء الثروة، والأحكام المشرّعة لتعديل الجهات المملّكة المميّزة لأكل المال بالحقّ من أكله بالباطل، فإذا اختلّ ذلك وأذعنت النفوس بإمكان القبض على ما تحتها من المال، وتتوّق إليه من الثروة بأىّ طريق أمكن لقّن ذلك إيّـاها أن يظفر بالمال ويقبض على الثروة بأىّ طريق ممكن حقّ أو باطل، وأن يسعى إلى كلّ مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدّى إلى ما أدّى، وعند ذلك يقوم البلوى بفشوّ الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقيّ في المجتمع، وانقلاب

٢٥٩

المحيط الإنسانيّ إلى محيط حيوانىّ ردىّ لأهمّ فيه إلّا البطن وما دونه ولا يملك فيه إراده أحد بسياسة أو تربية ولا تفقّه فيه لحكمة ولا إصغاء إلى موعظة.

ولعلّ هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، وخاصّـة من الأحبار والرهبان الّذين إليهم تربية الاُمّة وإصلاح المجتمع.

وقد عدّ بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدّمه الناس إليهم من المال حبّاً لهم لتظاهرهم بالزهد والتنسّك، وأكل الربا والسحت، وضبطهم أموال مخالفيهم وأخذهم الرشا على الحكم، وإعطاء أوراق المغفرة وبيعها، ونحو ذلك.

والظاهر أنّ المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدّم من قصّتهم في تفسير قوله تعالى:( يا أيّها الرسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر ) الآية المائدة: ٤١، في الجزء الخامس من الكتاب.

ولو لم يكن من ذلك إلّا ما كانت تأتى به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة لكفى به مقتاً ولوماً.

وأمّا ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهّدهم، وكذا تخصيصهم بأوقاف ووصايا ومبرّات عامّة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، وكذا ما ذكره من أكل الربا والسحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامّة قومهم كقوله تعالى:( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) النساء: ١٦١، وقوله:( سمّاعون للكذب أكّالون للسحت ) المائدة: ٤٢، وإنّما كلامه تعالى في الآية الّتى نحن فيها فيما يخصّ أحبارهم ورهبانهم من أكل المال بالباطل لا ما يعمّهم وعامّـتهم.

إلّا أنّ الحقّ أنّ زعماء الاُمّة الدينيّـة ومربّيهم في سلوك طريق العبوديّـة المعتنين بإصلاح قلوبهم وأعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحقّ إلى سبيل الباطل كان جميع ما أكلوه لهذا الشأن واستدّروه من منافعه سحتاً محرّماً لا يبيحه لهم شرع ولا عقل.

وأمّا إيضاح قوله تعالى:( ولا يدينون دين الحقّ ) بقوله:( ويصدّون عن سبيل الله ) فهو أيضاً مبنىّ على ما قدّمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة الّتى ثالثها قوله:( ولا يدينون دين الحقّ ) وهو بيان ما يفسد من صفاتهم وأعمالهم المجتمع الإنسانيّ

٢٦٠