الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 89146
تحميل: 4958


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89146 / تحميل: 4958
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وثانياً: قوله:( عند الله ) وقوله:( في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ) فإنّ هذه القيود تدلّ على أنّ هذه العدّة لا سبيل للتغيّر والاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك ولا يتغيّر علمه، وكونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات والأرض فجعل الشمس تجرى لمستقرّ لها، والقمر قدّره منازل حتّى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، ولا معقّب لحكمه تعالى.

ومن المعلوم أنّ الشهور الشمسيّة وضعيّة اصطلاحيّة وإن كانت الفصول الأربعة والسنة الشمسيّة على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر الّتى هي ثابتة ذات أصل ثابت هي الشهور القمريّة.

فمعنى الآية أنّ عدّة الشهور اثنا عشر شهراً تتألّف منها السنون، وهذه العدّة هي الّتى في علم الله سبحانه، وهى الّتى أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض وأجرى الحركات العامّة الّتى منها حركة الشمس وحركة القمر حول الأرض وهى الأصل الثابت في الكون لهذه العدّة.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدّة الشهور على حدّ الكتب والدفاتر الّتى عندنا المؤلّفة من قراطيس وأوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصّـة وضعيّة.

قوله تعالى: ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم ) الحرم جمع حرام وهو الممنوع منه، والقيّم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة اُمور حياتهم وحفظ شؤونها.

وقوله:( منها أربعة حرم ) هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب بالنقل القطعيّ، والكلمة كلمة تشريع بدليل قوله:( ذلك الدين القيّم ) الخ.

وإنّما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرماً ليكفّ الناس فيها عن القتال وينبسط عليهم بساط الأمن، ويأخذوا فيها الاُهبة للسعادة، ويرجعوا إلى ربّهم بالطاعات والقربات.

٢٨١

وكانت حرمتها من شريعة إبراهيم، وكانت العرب تحترمها حتّى في الجاهليّـة حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنّهم ربّما كانوا يحوّلون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسئ الّذى تتعرّض له الآية التالية.

وقوله:( ذلك الدين القيّم ) ، الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة، والدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أنّ تحريم الأربعة من الشهور القمريّة هو الدين الّذى يقوم بمصالح العباد. كما يشير إليه في قوله:( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام ) الآية المائدة: ٩٧ وقد تقدّم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.

وقوله:( فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم ) الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعاً إلى( اثنا عشر ) المذكور سابقاً لكان الظاهر أن يقال( فيها ) كما نقل عن الفرّاء، وأيضاً لو كان راجعاً إلى( اثنا عشر ) وهى تمام السنة لكان قوله:( فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم ) كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبداً أنفسكم، وكان الكلام متفرّعاً على كون عدّة الشهور عند الله اثنى عشر شهراً، ولا تفرّع له عليه ظاهراً فالمعنى لما كانت هذه الأربعة حرماً تفرّع على حرمتها عند الله أن تكفّوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها وعظم منزلتها عند الله سبحانه.

فالنهى عن الظلم فيها يدلّ على عظم الحرمة وتأكّدها لتفرّعها على حرمتها أوّلاً ولأنّها نهى خاصّ بعد النهى العامّ كما يفيده قولنا: لا تظلم أبداً ولا تظلم في زمان كذا.

والجملة أعنى قوله:( فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم ) وإن كانت بحسب إطلاق لفظها نهياً عن كلّ ظلم ومعصية لكنّ السياق يدلّ على كون المقصود الأهمّ منها النهى عن القتال في الأشهر الحرم.

قوله تعالى: ( و قاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) قال الراغب في المفردات: الكفّ كفّ الإنسان وهى ما بها يقبض ويبسط، وكففته أصبت كفّه، وكففته أصبته بالكفّ ودفعته بها، وتعورف الكفّ بالدفع على أيّ وجه كان، بالكفّ كان أو غيرها حتّى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره.

٢٨٢

وقوله: وما أرسلناك إلّا كافّة للناس أي كافّاً لهم عن المعاصي، والهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية وعلّامة ونسّابة، وقوله:( وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ) قيل: معناه كافّين لهم كما يقاتلونكم كافّين، وقيل: معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة، وذلك أنّ الجماعة يقال لهم: الكافّة كما يقال لهم: الوازعة لقوّتهم باجتماعهم، وعلى هذا قوله:( يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ) . انتهى.

وقال في المجمع: كافّة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كافّة الشئ وهى حرفه وإذا انتهى الشئ إلى ذلك كفّ عن الزيادة، وأصل الكفّ المنع. انتهى.

وقوله:( كافّة ) في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الأوّل عن الأوّل وفي الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، والمتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللّفظىّ الّذى بين الحال و ذى الحال حينئذ، ومعنى الآية على هذا: وقاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.

فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيرة قوله تعالى:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك وتتخصّص أو تتقيّد بما تخصّص أو تقيّد به هي.

والآية مع ذلك إنّما تتعرّض لحال القتال مع المشركين وهم عبدة الأوثان غير أهل الكتاب فإنّ القرآن وإن كان ربّما نسب الشرك تصريحاً أو تلويحاً إلى أهل الكتاب لكنّه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلّا على عبدة الأوثان، وأمّا الكفر فعلاً أو وصفاً فقد نسب إلى أهل الكتاب واُطلق عليهم كما نسب واُطلق إلى عبدة الأوثان.

فالآية أعنى قوله:( وقاتلوا المشركين كافّة ) الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولا هي مخصّصة أو مقيّدة بها. وقد قيل في الآية بعض وجوه اُخر تركناه لعدم جدوى في التعرّض له.

وقوله:( واعلموا أنّ الله مع المتّقين ) تعليم وتذكير وفيه حثّ على الاتّصاف بصفة التقوى يترتّب عليه من الفائدة: أوّلاً: الوعد الجميل بالنصر الإلهىّ والغلبة والظفر فإنّ حزب الله هم الغالبون.

٢٨٣

وثانياً: منعهم أن يتعدّوا حدود الله في الحروب والمغازى بقتل النساء والصبيان ومن ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهاه عن ذلك وقتل رجالاً من بنى جذيمة وقد أسلموا فوداهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبرّأ إلى الله من فعله ثلاثاً(١) ، وقتل اُسامة يهوديّاً أظهر له الإسلام فنزل قوله تعالى:( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) النساء: ٩٤ وقد تقدّم.

قوله تعالى: ( إنّما النسئ زيادة في الكفر ) إلى آخر الآية يقال: نسأ الشئ ينسؤه نساً ومنسأة ونسيئاً إذا أخّره تأخيراً، وقد يطلق النسئ على الشهر الّذى اُخّر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهليّـة فإنّهم ربّما كانوا يؤخّرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره وأمّا أنّه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسّرين كأهل التاريخ.

و الّذى يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنّه كانت لهم فيما بينهم سنّة جاهليّـة في أمر الأشهر الحرم وهى المسمّاة بالنسئ، وهو يدلّ بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرّمة الّذى بعده، وأنّهم إنّما كانوا يؤخّرون الحرمة ولا يبطلونها برفعها من أصلها لإرادتهم بذلك أن يتحفّظوا على سنّة قوميّـة ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيمعليه‌السلام .

فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغىً و إنّما يؤخّرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطؤوا عدّة ما حرّم الله، وهى الأربعة ثمّ يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأوّل.

وهذا نوع تصرّف في الحكم الإلهىّ بعد كفرهم بالله باتّخاذ الأوثان شركاء له تعالى وتقدّس، ولذا عدّه الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.

وقد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاصّ بحرمة الأشهر الحرم النهى عن ظلم الأنفس حيث قال:( فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم ) وأظهر مصاديقه القتال كما أنّه المصداق

____________________

(١) القصتان الاوليان مذكورتان في كتب السير والمغازي والثالثة تقدّمت في تفسير الآية سابقاً.

٢٨٤

الوحيد الّذى استفتوا فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحكاه الله سبحانه بقوله:( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) الآية البقرة: ٢١٧ وكذا ما في معناه من قوله:( لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ) المائدة: ٢ وقوله:( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس و الشهر الحرام والهدى والقلائد ) المائدة: ٩٧.

وكذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال:( ومن دخله كان آمناً ) آل عمران: ٩٧ وقال:( أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً ) القصص: ٥٧.

فالظاهر أنّ النسئ الّذى تذكره الآية عنهم إنّما هو تأخير حرمة الشهر الحرام. للتوسّل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحجّ الّذى هو عبادة دينيّـة مختصّة ببعضها.

وهذا كلّه يؤيّد ما ذكروه: أنّ العرب كانت تحرّم هذه الأشهر الحرم، وكان ذلك ممّا تمسّكت به من ملّة ابراهيم واسماعيلعليهما‌السلام ، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب فربّما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم، إلى صفر فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم فيمكثون بذلك زماناً ثمّ يعود التحريم إلى المحرّم، ولا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرّم إلى صفر إلّا في ذى الحجّة.

وأمّا ما ذكره بعضهم أنّ النسئ هو ما كانوا يؤخّرون الحجّ من شهر إلى شهر فممّا لا ينطبق على لفظ الآية البتّـة، وسيجئ تفصيل الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتى إن شاء الله. ولنرجع إلى ما كنّا فيه.

فقوله تعالى:( إنّما النسئ زيادة في الكفر ) أي تأخير الحرمة الّتى شرعها الله لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنّه تصرّف في حكم الله المشروع وكفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر.

وقوله:( يضلّ به الّذين كفروا ) أي ضلّوا فيه بإضلال غيرهم إيّاهم بذلك، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أنّ هناك من يحكم بالنسئ، وقد ذكروا أنّ المتصدّي لذلك كان بعض بنى كنانة، وسيجئ تفصيله في البحث الروائيّ إن شاء الله.

وقوله:( يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطؤوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله )

٢٨٥

في موضع التفسير للإنساء، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهو أنّهم يحلّون الشهر الحرام الّذى نسؤوه بتأخير حرمته عاماً ويحرّمونه عاماً، أي يحلّونه عاماً بتأخير حرمته إلى غيره، ويحرّمونه عاماً بإعادة حرمته إليه.

وإنّما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والإثبات اُخرى ليواطؤوا ويوافقوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنّهم يريدون التحفّظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محلّ الحرمة ليتمكّنوا ممّا يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة.

وقوله:( زيّن لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين ) المزيّن هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، وربّما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات اُخر، ولا ينسب الشرّ إليه سبحانه إلّا ما قصد به الجزاء على الشرّ كما قال تعالى:( يضلّ به كثيراً ويهدى به كثيراً وما يضلّ به إلّا الفاسقين ) البقرة: ٢٦.

وذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذناً لداعى الضلال وهو الشيطان أن يزيّن له سوء عمله فيغويه ويضلّه، ولذلك قال تعالى:( زيّن لهم سوء أعمالهم ) ثمّ عقّبه بقوله:( إنّ الله لا يهدى القوم الكافرين ) كأنّه لمّا قيل: زيّن لهم سوء أعمالهم قيل: كيف أذن الله فيه ولم يمنع ذلك قيل: إنّ هؤلاء كافرون والله لا يهدى القوم الكافرين.

( بحث روائي)

في تفسير العيّـاشيّ عن أبى خالد الواسطيّ في حديث ثمّ قال - يعنى أبا جعفرعليه‌السلام - حدّثنى أبى عن علىّ بن الحسين عن أميرالمؤمنينعليهم‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا ثقل في مرضه قال: أيّها الناس إنّ السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثمّ قال بيده: رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ثلاث متواليات.

٢٨٦

أقول: وقد ورد في عدّة روايات تأويل الشهور الاثنى عشر بالأئمّة الاثنى عشر، وتأويل الأربعة الحرم بعلىّ أميرالمؤمنين وعلىّ بن الحسين وعلىّ بن موسى وعلىّ بن محمّـدعليهم‌السلام ، وتأويل السنة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد والبخاريّ ومسلم أبوداود وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في شعب الإيمان عن أبى بكرة: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب في حجّته فقال: ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم، ورجب مضر الّذى بين جمادى وشعبان.

أقول: وهى من خطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهورة، وقد رويت بطرق اُخرى عن أبى هريرة وابن عمر وابن عبّـاس وعن أبى حمزة الرقاشىّ عن عمّه وكانت له صحبة وغيرهم.

والمراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض استقرار الأحكام الدينيّـة على ما تقتضيه الفطرة والخلقة وتمكّن الدين القيّم من الرقابة في أعمال الناس، ومن ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم وإلغاء النسئ الّذى هو زيادة في الكفر.

وفيه أخرج ابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعقبة فقال: إنّ النسئ من الشيطان زيادة في الكفر يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً فكانوا يحرّمون المحرّم عاماً ويحرّمون صفر عاماً ويستحلّون المحرّم وهو النسئ.

وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عبّـاس قال: كان جنادة بن عوف الكنانىّ يوفى الموسم كلّ عام وكان يكنّى أبا ثمادّة فينادى: ألا إنّ أبا ثمادة لا يخاف ولا يعاب ألا إنّ صفر الأوّل حلال.

وكان طوائف من العرب إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوّهم أتوه فقالوا: أحلّ لنا هذا الشهر يعنون صفر، وكانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحلّه لهم عاماً، ويحرّمه عليهم في العام الآخر، ويحرّم المحرّم في قابل ليواطؤوا عدّة ما حرّم الله يقول:

٢٨٧

ليجعلوا الحرم أربعة غير أنّهم جعلوا صفر عاماً حلالاً وعاماً حراماً.

وفيه أخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله:( إنّما النسئ زيادة في الكفر ) الآية قال: عمد اُناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: إنّ آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرّمونه ذلك العام، وكان يقال لهما الصفران.

وكان أوّل من نسأ النسئ بنو مالك من كنانة، وكانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن اُميّة وأحد بنى فقيم بن الحارث، ثمّ أحد بنى كنانة.

وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن السدّىّ في الآية قال: كان رجل من بنى كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنّى أبا اُمامة ينسئ الشهور، وكانت العرب يشتدّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيّر بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغيّر على أحد قام يوماً بمنى فخطب فقال: إنّى قد أحللت المحرّم وحرّمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرّم فإذا كان صفر عمدوا ووضعوا الأسنّة ثمّ يقوم في قابل فيقول: إنّى قد أحللت صفر وحرّمت المحرّم فيواطؤوا أربعة أشهر فيحلّوا المحرّم.

وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في قوله:( يحلّونه عاماً ويحرّمونه عاماً ) قال: هو صفر كانت هوازن وغطفان يحلّونه سنة ويحرّمونه سنة.

أقول: محصّل الروايات - كما ترى - أنّ العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم الأربعة رجب وذى القعدة وذى الحجّة والمحرّم ثمّ إنّهم ربّما كانوا يتحرّجون من القعود عن الحروب والغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بنى كنانة أن يحلّ لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيّـام الحجّ بمنى وأحلّ لهم المحرّم ونسأ حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدوّ ثمّ ردّ الحرمة إلى مكانه في قابل وهذا هو النسئ.

وكان يسمّى المحرّم صفر الأوّل وصفر الثاني وهما صفران كالربيعين والجماديين والنسئ إنّما ينال صفر الأوّل ولا يتعدّى صفر الثاني فلمّا أقرّ الإسلام الحرمة لصفر الأوّل عبّروا عنه بشهر الله المحرّم ثمّ لمّا كثر الاستعمال خفّف وقيل: المحرّم، واختصّ اسم صفر بصفر الثاني فالمحرّم من الألفاظ الإسلاميّـة كما ذكره السيوطيّ في المزهر.

٢٨٨

وفيه أخرج عبد الرزّاق وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن مجاهد في قوله:( إنّما النسئ زيادة في الكفر ) قال: فرض الله الحجّ في ذى الحجّة، وكان المشركون يسمّون الأشهر ذا الحجّة والمحرّم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ثمّ يحجّون فيه.

ثمّ يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه ثمّ يعودون فيسمّون صفر صفر ثمّ يسمّون رجب جمادى الآخرة ثمّ يسمون شعبان رمضان ورمضان شوّال، ويسمون ذا القعدة شوال ثمّ يسمون ذا الحجّة ذا القعدة ثمّ يسمون المحرّم ذا الحجّة ثمّ يحجّون فيه واسمه عندهم ذو الحجّة.

ثمّ عادوا إلى مثل هذه القصّة فكانوا يحجّون في كلّ شهر عاماً حتّى وافق حجّة أبى بكر الآخرة من العام في ذى القعدة ثمّ حجّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّته الّتى حجّ فيها فوافق ذو الحجّة فذلك حين يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته: إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض.

أقول: ومحصّله على ما فيه من التشويش والاضطراب أنّ العرب كانت قبل الإسلام يحجّ البيت في ذى الحجّة غير أنّهم أرادوا أن يحجّوا كلّ عام في شهر فكانوا يدورون بالحجّ الشهور شهراً بعد شهر وكلّ شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سمّوه ذا الحجّة وسكتوا عن اسمه الأصلىّ.

ولازم ذلك أن يتألّف كلّ سنة فيها حجّة من ثلاثة عشر شهراً، وأن يتكرّر اسم بعض الشهور مرّتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، ولذا ذكر الطبريّ أنّ العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية اثنى عشر شهراً وخمسة وعشرين يوماً.

ولازم ذلك أيضاً أن تتغيّر أسماء الشهور كلّها، وأن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر إلّا في كلّ اثنتى عشرة سنة مرّة إن كان التأخير على نظام محفوظ، وذلك على نحو الدوران.

ومثل هذا لا يقال له الإنساء والتأخير فإنّ أخذ السنة ثلاثة عشر شهراً وتسمية آخرها ذا الحجّة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.

٢٨٩

على أنّه مخالف لسائر الأخبار والآثار المنقولة، ولا مأخذ لذلك إلّا هذه الرواية وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: كانت العرب يحلّون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحجّ إلّا في كلّ ستّة وعشرين سنة مرّة وهو النسئ الّذى ذكر الله تعالى في كتابه فلمّا كان عام الحجّ الأكبر ثمّ حجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلّة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. وهو في الاضطراب كخبر مجاهد.

على أنّ الّذى ذكره من حجّة أبى بكر في ذى القعدة هو الّذى ورد من طرق أهل السنّة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل أبابكر أميراً للحاجّ عام تسع فحجّ بالناس، وقد ورد في بعض روايات اُخر أيضاً أنّ الحجّة عامئذ كانت في ذى القعدة.

وهذه الحجّة على أيّ نعت فرضت كانت بأمر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمضائه، ولا يأمر بشئ ولا يمضى أمراً إلّا ما أمر به ربّه تعالى، وحاشا أن يأمر الله سبحانه بحجّة في شهر نسئ ثمّ يسمّيها زيادة في الكفر.

فالحقّ أنّ النسئ هو ما تقدّم أنّهم كانوا يتحرّجون من تولّى شهور ثلاثة محرّمة فينسؤون حرمة المحرّم إلى صفر ثمّ يعيدونها مكانها في العام المقبل.

وأمّا حجّهم في كلّ شهر سنة أو في كلّ شهر سنتين أو في شهر سنة وفي شهر سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، وليس من البعيد أن تكون عرب الجاهليّـة مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتّى وعشائر متفرّقة كلّ متّبع لهوى نفسه غير أنّ الحجّ كان عبادة ذات موسم لا يتخلّفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم، وما كانوا يتمكّنون من ذلك لو كان أحلّ الشهر بعضهم وحرّمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم، وهو ظاهر.

٢٩٠

( سورة التوبة آيه ٣٨ - ٤٨)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَلِيلٌ ( ٣٨ ) إِلّا تَنْفِرُوا يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ( ٣٩ ) إِلّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَتَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلى‏ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٠ ) انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٤١ ) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٤٢ ) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّى‏ يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبينَ ( ٤٣ ) لاَيَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتّقِينَ ( ٤٤ ) إِنّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ ( ٤٥ ) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدّوا لَهُ عُدّةً وَلكِن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ( ٤٦ ) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ ( ٤٧ ) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتّى‏ جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( ٤٨ )

٢٩١

( بيان)

تعرّض للمنافقين وفيه بيان لجمل أوصافهم وعلائمهم، وشرح ما لقى الإسلام والمسلمون من كيدهم ومكرهم وما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، وفي مقدّمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، وحديث خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة وذكر الغار.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض ) الآية اثّاقلتم أصله تثاقلتم على وزان ادّاركوا وغيره، وكأنّه اُشرب معنى الميل ونحوه فعدّى بإلى وقيل: اثّاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض والمراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.

وقوله:( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) كأنّ الرضا اُشرب معنى القناعة فعدّى بمن كما يقال: رضيت من المال بطيّـبه، ورضيت من القوم بخلّة فلان، وعلى هذا ففى الكلام نوع من العناية المجازيّة كأنّ الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها، ويشعر بذلك قوله بعده:( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلّا قليل ) .

فمعنى الآية: يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لم يصرّح باسمه صوناً وتعظيماً - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنّكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلّا قليل.

وفي الآية وما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين وتهديد عنيف وهى تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.

قوله تعالى: ( إلّا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ) إلى آخر الآية العذاب الّذى اُنذروا به مطلق غير مقيّد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه، وربّما أيّد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا والآخرة جميعاً.

وقوله:( يستبدل قوماً غيركم ) أي يستبدل بكم قوماً غيركم لا يتثاقلون في

٢٩٢

امتثال أوامر الله والنفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، والدليل على هذا المعنى قرينة المقام.

وقوله:( ولا تضرّوه شيئاً ) إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم ويأتى بآخرين فإنّ الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، وقوله:( والله على كلّ شئ قدير ) تعليل لقوله:( يعذّبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ) .

قوله تعالى: ( إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار ) ثانى اثنين أي أحدهما، والغار الثقبة العظيمة في الجبل، والمراد به غار جبل ثور قرب منى وهو غير غار حراء الّذى ربّما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأوى إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة، والمراد بصاحبه هو أبوبكر للنقل القطعيّ.

وقوله:( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا ) أي لا تحزن خوفاً ممّا تشاهده من الوحدة والغربة وفقد الناصر وتظاهر الأعداء وتعقيبهم إيّاى فإنّ الله سبحانه معنا ينصرني عليهم.

وقوله:( فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها ) أي أنزل الله سكينته على رسوله وأيّد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل الّتى عملت في انصراف القوم عن دخول الغار والظفر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد روى في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

والدليل على رجوع الضمير في قوله:( فأنزل الله سكينته عليه ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً: رجوع الضمائر الّتى قبله وبعده إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله:( إلّا تنصروه ) و( نصره ) و( أخرجه ) و( يقول ) و( لصاحبه ) و( أيّده ) فلا سبيل إلى رجوع ضمير( عليه ) من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدلّ عليه.

وثانياً: أنّ الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم يكن معه أحد ممّن يتمكّن من نصرته إذ يقول تعالى:( إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ ) الآية وإنزال السكينة والتقوية بالجنود من النصر فذاك لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّـة.

ويدلّ على ذلك تكرار( إذ ) وذكرها في الآية ثلاث مرّات كلّ منها بيان لما قبله

٢٩٣

بوجه فقوله( إذ أخرجه الّذين كفروا ) بيان لوقت قوله:( فقد نصره الله ) وقوله:( إذ هما في الغار ) بيان لتشخيص الحال الّذى هو قوله:( ثانى اثنين ) وقوله:( إذ يقول لصاحبه ) بيان لتشخيص الوقت الّذى يدلّ عليه قوله:( إذ هما في الغار ) .

وثالثاً: أنّ الآية تجرى في سياق واحد حتّى يقول:( وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ) ولا ريب أنّه بيان لما قبله، وأنّ المراد بكلمة الّذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإطفاء نور الله، وبكلمة الله هي ما وعده من نصره وإتمام نوره، وكيف يجوز أن يفرّق بين البيان والمبيّن وجعلُ البيان راجعاً إلى نصره تعالى إيّاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمبيّن راجعاً إلى نصره غيره.

فمعنى الآية: إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إيّاه في وقت لم يكن له أحد ينصره ويدفع عنه وقد تظاهرت عليه الأعداء وأحاطوا به من كلّ جهة وذلك إذ همّ المشركون به وعزموا على قتله فاضطرّ إلى الخروج من مكّة في حال لم يكن إلّا أحد رجلين اثنين، وذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصاحبه وهو أبوبكر: لا تحزن ممّا تشاهده من الحال إنّ الله معنا بيده النصر فنصره الله.

حيث أنزل سكينته عليه وأيّده بجنود غائبة عن أبصاركم، وجعل كلمة الّذين كفروا - وهى قضاؤهم بوجوب قتله وعزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة ولا مؤثّرة، وكلمة الله - وهى الوعد بالنصر وإظهار الدين وإتمام النور - هي العليا العالية القاهرة والله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل ولا يغلط في ما شائه وفعله.

وقد تبيّن ممّا تقدّم أوّلاً: أنّ قوله:( فأنزل الله سكينته عليه ) متفرّع على قوله:( فقد نصره الله ) في عين أنّه متفرّع على قوله:( إذ يقول لصاحبه لا تحزن ) فإنّ الظرف ظرف للنصره على ما تقدّم، والكلام مسوق لبيان نصره تعالى إيّاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الّذى هو قوله:( فقد نصره الله ) لا على قوله:( يقول لصاحبه لا تحزن ) .

وربّما استدلّ لذلك بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل على سكينة من ربّه فإنزال السكينة في هذا الظرف خاصّـة يكشف عن نزوله على صاحبه.

٢٩٤

ويدفعه أوّلاً قوله تعالى:( ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) في قصّة حنين، والقول بأنّ نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار. يدفعه أنّه من الافتعال بغير علم فالآية لا تذكر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزناً ولا اضطراباً ولا غير ذلك إلّا ما تذكر من فرار المؤمنين. على أنّه يبطل أصل الاستدلال أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل على سكينة من ربّه لا يتجدّد له شئ منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللّهمّ إلّا أن يريدوا به أنّه لم يزل في الغار كذلك.

ونظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى المؤمنين في سورة الفتح:( إذ جعل الّذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّـة فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الفتح: ٢٦.

ويدفعه ثانياً: لزوم تفرّع قوله:( وأيّده بجنود لم تروها ) على أثر تفرّع قوله:( فأنزل الله سكينته عليه ) لأنّهما في سياق واحد، ولازمه عدم رجوع التأييد بالجنود إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوّز يجوّزه.

وربّما التزم بعضهم - فراراً من شناعة لزوم التفكيك - أنّ الضمير في قوله تعالى:( وأيّده ) أيضاً راجع إلى صاحبه، ولازمه كون إنزال السكينة والتأييد بالجنود عائدين إلى أبى بكر دون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وربّما أيّده بعض آخر بأنّ الوقائع الّتى تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها كوقعة حنين والأحزاب وكذا نزول الملائكة لوقعة بدر وإن لم تذكر نزولهم على المؤمنين ولم تصرّح بتأييدهم بهم لكنّهم حيث كانوا إنّما نزلوا للنصر وفيه نصر المؤمنين وإمدادهم فلا مانع من القول بأنّ الجنود الّتى لم يروها إنّما أيّدت أبابكر، وتأييدهم المؤمنين جميعاً أو أبابكر خاصّـة تأييد منهم في الحقيقة للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الّذى هو قوله:( وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى ) الآية مترتّباً على ما تقدّمه من الفرعين لئلّا يلزم التفكيك في السياق.

٢٩٥

ولا يخفى عليك أنّ هذا الّذى التزموا به يخرج الآية عن مستقرّ معناها الوحدانيّ إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوّله، وينقض ذيله صدره فقد بدأت الآية بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكرم على الله وأعزّ من أن يستذلّه ويحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليّه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافّين حوله المتّبعين أثره ثمّ إذا شرعت في بيان نصره تعالى إيّاه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه وتأييده بجنودٍ لم يروها إلى آخر الآية.

هب أنّ نصره تعالى بعض المؤمنين بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكنّ الآية في مساق يدفعه البتّـة فإنّ الآية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيّها الّذين آمنوا - ويعاتبهم ويهدّدهم على التثاقل عن إجابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله والخروج إلى الجهاد ثمّ الآية الثانية تهدّدهم بالعذاب والاستبدال إن لم ينفروا وتبيّن لهم أنّ الله ورسوله في غنىً عنهم ولا يضرّونه شيئاً، ثمّ الآية الثالثة توضح أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غنى عن نصرهم لأنّ ربّه هو وليّه الناصر له، وقد نصره حيث لم يكن لأحد منهم صنع فيه وهو نصره إيّاه إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا.

ومن البيّن الّذى لا مرية فيه أنّ مقتضى هذا المقام بيان نصرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخاصّ به المتعلّق بشخصه من الله سبحانه خاصّـة من دون صنع لأحد من المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إيّاه بالمؤمنين أو ببعضهم وقد جمعهم في خطاب المعاتبة، ولا بيان نصره بعض المؤمنين به ممّن كان معه.

ولا أنّ المقام مقام يصلح لأن يشار بقوله:( إذ أخرجه الّذين كفروا ثانى اثنين ) إشارة إجماليّـة إلى نصره العزيز لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يؤخذ في تفصيل ما خصّ به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة والتأييد بالجنود فإنّ المقام على ما تبيّن لك يأبى ذلك.

ويدفعه ثالثاً: أنّ فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة وقد تقدّم الكلام فيها في ذيل قوله تعالى:( ثمّ أنزل الله سكينتة على رسوله وعلى المؤمنين ) الآية: ٢٦ من السورة.

والامر الثاني: أنّ المراد بتأييدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على

٢٩٦

ما يفيد السياق، وأمّا قول بعضهم: إنّ المراد به ما أيّده بالجنود يوم الأحزاب ويوم حنين على ما نطقت به الآيات فممّا لا دليل عليه من اللّفظ البتّـة.

والامر الثالث: أنّ المراد بالكلمة في قوله:( وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى ) هو ما قضوا به في دار الندوة وعزموا عليه من قتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبطال دعوته الحقّة بذلك، وبقوله:( وكلمة الله هي العليا ) هو ما وعد الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النصر وإظهار دينه على الدين كلّه.

ذلك أنّ هذه بما تتضمّنه من قوله:( فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ) تشير إلى ما يقصّه قوله تعالى:( وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) الأنفال: ٣٠، والّذى في ذيل الآية من إبطال كلمتهم وإحقاق الكلمة الإلهيّـة مرتبط بما في صدر الآية من حديث الإخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، والّذى اضطرّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتّفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة الّتى أبطلها الله سبحانه وجعلها السفلى وتقابلها كلمة الله وليست إلّا النصر والإظهار.

ومن هنا يظهر أنّ قول بعضهم إنّ المراد بكلمة الّذين كفروا الشرك والكفر، وبكلمة الله تعالى التوحيد والإيمان غير سديد فإنّ الشرك وإن كان كلمة لهم، والتوحيد كلمة لله لكنّه لا يستلزم كونهما المرادين كلّما ذكرت الكلمتان حتّى مع وجود القرينة على الخلاف.

قوله تعالى: ( انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل الماليّـة وحبّ الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء الّذى يوجب كراهة مفارقتهم، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك، والخفّة كناية عن خلاف ذلك.

فالأمر بالنفر خفافاً وثقالاً وهما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أيّ حال، وعدم اتّخاذ شئ من ذلك عذراً يعتذر به لترك الخروج كما أنّ الجمع بين

٢٩٧

الأموال والأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأىّ وسيلة أمكنت.

وقد ظهر بذلك أنّ الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار الّتى يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فإنّ المراد بالخفّة والثقل أمر وراء ذلك.

قوله تعالى: ( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتّبعوك ) إلى آخر الآية العرض ما يسرع إليه الزوال ويطلق على المال الدنيويّ وهو المراد في الآية بقرينه السياق والمراد بقربه كونه قريباً من التناول و القاصد من القصد وهو التوسّط في الأمر والمراد بكون السفر قاصداً كونه غير بعيد المقصد سهلاً على المسافر والشقّة: المسافة لما في قطعها من المشقّة.

و الآية كما يلوح من سياقها تعيير وذمّ للمنافقين المتخلّفين عن الخروج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجهاد في غزوه تبوك إذ الغزوه الّتى خرج فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تخلّف عنه المنافقون وهى على بعد من المسافه هي غزوه تبوك لا غيرها.

ومعنى الآية لو كان ما أمرتهم به ودعوتهم إليه عرضاً قريب التناول وغنيمة حاضرة وسفراً قاصداً قريباً هيّناً لاتّبعوك يا محمّـد وخرجوا معك طمعاً في الغنيمة و لكن بعدت عليهم الشقّة والمسافة فاستصعبوا السير وتثاقلوا فيه.

وسيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم ولمتموهم على تخلّفهم : لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة: من الخروج إلى القتال طمعاً في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه والتخلّف عنه إذا شقّ عليهم ثمّ الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيّهم والحلف في ذلك بالله كاذبين أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف الكاذب والله يعلم إنّهم لكاذبون.

قوله تعالى: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم حتّى يتبيّن لك الّذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) الجمله الاُولى دعاء للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله:( قتل الإنسان ما أكفره ) عبس - ١٧ وقوله:( فقتل كيف قدّر ) المدثر - ١٩ وقوله:( قاتلهم الله أنّى يؤفكون ) التوبه - ٣٠.

٢٩٨

والجمله متعلّقه بقوله:( لم أذنت لهم ) أي في التخلّف و القعود ولمّا كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه: كان ينبغى أن لا تأذن لهم في التخلّف والقعود ويستقيم به تعلّق الغاية الّتى يشتمل عليها قوله:( حتّى يتبيّن لك الّذين صدقوا ) الآية. بقوله:( لم أذنت لهم ) فالتعلّق إنّما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام و إلّا أفاد خلاف المقصود والكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم وأنّ أدنى الامتحان كالكفّ عن إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.

ومعنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلّف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم - وكانوا أحق - به حتّى يتبيّن لك الّذين صدقوا وتعلم الكاذبين فيتميّز عندك كذبهم ونفاقهم.

والآية - كما ترى وتقدّمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم، و أنّهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به، ومن مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب وتوبيخه والإنكار عليه كأنّه هو الّذى ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء سريرتهم ، وهو نوع من العناية الكلاميّـة يتبيّن به ظهور الأمر و وضوحه لا يراد أزيد من ذلك فهو من أقسام البيان على طريق:( إيّاك أعني و اسمعي يا جارة ) .

فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسوء تدبيره في إحياء أمر الله، وارتكابه بذلك ذنباً - حاشاه - وأولويّة عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم وأنّهم أحقّ بذلك لما بهم من سوء السريره وفساد النيّة لا لأنّه كان أولى وأحرى في نفسه وأقرب و أمسّ بمصلحة الدين.

والدليل على هذا الّذى ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات:( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنه وفيكم سمّاعون لهم ) إلى آخر الآيتين فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلّف ليصان الجمع من الخبال وفساد الرأى وتفرّق الكلمة والمتعيّـن أن يقعدوا فلا يفتّنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم والتفتين فيهم وفيهم ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب وهم سمّاعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم ولو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف كانت الفتنه أشدّ والتفرّق في كلمة الجماعه أوضح وأبين.

٢٩٩

ويؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين:( ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ) فقد كان تخلّفهم ونفاقهم ظاهراً لائحاً من عدم إعدادهم العدّة يتوسّمه في وجوههم كلّ ذى لبّ ولا يخفى مثل ذلك على مثل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نبّأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه السوره كراراً فكيف يصحّ أن يعاتب ههنا عتاباً جدّيّاً بأنّه لم لم يكفّ عن الإذن ولم يستعلم حالهم حتّى يتبيّن له نفاقهم ويميّز المنافقين من المؤمنين؟ فليس المراد بالعتاب إلّا ما ذكرناه.

وممّا تقدّم يظهر فساد قول من قال: إنّ الآية تدلّ على صدور الذنب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ العفو لا يتحقّق من غير ذنب وأنّ الإذن كان قبيحاً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صغائر الذنوب لأنّه لا يقال في المباح لم فعلته؟ انتهى.

وهذا من لعبهم بكلام الله سبحانه ولو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل المقام الّذى سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك وقد أوضحنا أنّ الآية مسوقه لغرض غير غرض الجدّ في العتاب.

على أنّ قولهم: إنّ المباح لا يقال فيه: لم فعلت؟ فاسد فإنّ من الجائز. إذا شوهد من رجّح غير الأولى على الأولى أن يقال له: لم فعلت ذلك ورجّحته على ما هو أولى منه؟ على أنّك قد عرفت أنّ الآية غير مسوقه لعتاب جدّىّ.

ونظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال: إنّ بعض المفسّرين ولا سيّما الزمخشريّ قد أساؤوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية وكان يجب أن يتعلّموا أعلى الأدب معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أخبره ربّه ومؤدّبه بالعفو قبل الذنب وهو منتهى التكريم واللّطف.

وبالغ آخرون كالرازيّ في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أنّ العفو لا يدلّ على الذنب وغايته أنّ الإذن الّذى عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى.

وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاصّ في معنى الذنب وهو المعصية وما كان ينبغى لهم أن يهربوا من إثبات ما اثبته الله في كتابه تمسّكاً بإصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له والمدلول اللّغة أيضاً.

٣٠٠