الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 89152
تحميل: 4958


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89152 / تحميل: 4958
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن هنا يعلم أنّ المراد بالخير حسن السريرة الّذى يثبت به الاستعداد لقبول الحقّ ويستقرّ في القلب، وأنّ المراد بقوله:( ولو أسمعهم ) الإسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقرّ فافهم ذلك فلا يرد أنّه تعالى لو أسمعهم ورزقهم قبول الحقّ استلزم ذلك تحقّق الخير فيهم ولا وجه مع ذلك لتولّيهم وإعراضهم وذلك أنّ الشرط في قوله:( ولو اسمعهم ) على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) لمّا دعاهم في قوله:( اطيعوا الله ورسوله ) الخ إلى إطاعة الدعوة الحقّة وعدم التولّى عنها بعد استماعها أكّده ثانياً بالدعوة إلى استجابة الله والرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الأمر والركن الواقعيّ الّذى تعتمد عليه هذه الدعوة وهو أنّ هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيى الإنسان بإخراجه من مهبط الفناء والبوار، وموقفه في الوجود، أنّ الله سبحانه أقرب إليه من قلبه وأنّه سيحشر إليه فليأخذ حذره وليجمع همّه ويعزم عزمه.

الحياة أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحىّ لنفسه كيف لا؟ وهو لا يرى وراءه إلّا العدم والبطلان، وأثرها الّذى هو الشعور والإرادة هو الّذى ترام لأجله الحياة ويرتاح إليه الإنسان ولا يزال يفرّ من الجهل وافتقاد حرّيّـة الإرادة والإختيار وقد جهز الإنسان وهو أحد الموجودات الحيّـة بما يحفظ به حياته الروحيّـة الّتى هي حقيقة وجوده كما جهّز كلّ نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه.

وهذا الجهاز الإنسانيّ يشخّص له خيراته ومنافعه، ويحذّره من مواطن الشرّ والضرّ.

وإذ كان هذه الهداية الإلهيّـة الّتى يسوق النوع الإنسانيّ إلى نحو سعادته وخيره ويندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين وفي طور الخلقة، ومن المحال أن يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضرورىّ أن يدرك الإنسان سعادة وجوده إدراكاً لا يقع فيه شكّ كما أنّ سائر الأنواع المخلوقة تسير إلى ما فيه خير وجوده ومنافع شخصه من غير أن يسهو فيه من حيث فطرته، وإنّما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل وأسباب اُخر مضادة تؤثّر فيه أثراً مخالفاً ينحرف فيه الشئ عمّا هو خير له إلى ما هو شرّ، وعمّا

٤١

فيه نفعه الى ما فيه ضرر يعود إليه، وذلك كالجسم الثقيل الأرضىّ الّذى يستقرّ بحسب الطبيعة الأرضيّـة على بسيط الأرض ثمّ إنّه يبتعد عن الأرض بالحركة إلى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقرّه بالحركة نحو الأرض على الاستقامة إلّا أن يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامىّ إلى انحراف وأعوجاع.

وهذا هو الّذي يصرّ عليه القرآن الكريم أنّ الإنسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم وعمل، وأنّه يدرك بفطرته ما هو حقّ الاعتقاد والعمل قال تعالى:( فطرة الله الّتى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّـم ) الروم: ٣٠، وقال تعالى:( الّذى خلق فسوّى والّذى قدّر فهدى - إلى أن قال -فذكّر إن نفعت الذكرى سيذّكّر من يخشى ويتجنّـبها الأشقى ) الأعلى: ١١، وقال تعالى:( ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ) الشمس: ١٠.

نعم ربّما أخطأ الإنسان طريق الحقّ في اعتقاد أو عمل وخبط في مشيته لكن لا لأنّ الفطرة الإنسانيّـة والهداية الإلهيّـة أو قعته في ضلالة وأوردته في تهلكة بل لأنّه اغفل عقله ونسى رشده و اتّبع هوى نفسه وما زيّنه جنود الشياطين في عينه، قال تعالى:( إن يتّبعون إلّا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى ) النجم: ٢٣ وقال:( أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم ) الجاثية: ٢٣.

فهذه الاُمور الّتى تدعو إليها الفطرة الإنسانيّـة من حقّ العلم والعمل لوازم الحياة السعيدة الإنسانيّـة وهى الحياة الحقيقيّـة الّتى بالحرىّ أن تختصّ باسم الحياة، والحياة السعيدة تستتبعها كما أنّها تستلزم الحياة وتستتبعها، وتعيدها إلى محلّها لو ضعفت الحياة في محلّها بورود ما يضادّها ويبطل رشد فعلها.

فإذا انحرف الإنسان عن سوىّ الصراط الّذى تهديه إليه الفطرة الإنسانيّـة وتسوقه إليه الهداية الإلهيّـة، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الارادة الحرّة والعمل النافع بالأموات ولا يحييه إلّا علم حقّ وعمل حقّ، وهما اللّذان تندب إليهما الفطرة وهذا هو الّذى تشير إليه الآية الّتى نبحث عنها:( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) .

٤٢

واللّام في قوله:( لما يحييكم ) بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والّذى يدعو إليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الدين الحقّ وهو الاسلام الّذى يفسّره القرآن الكريم باتّباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح.

وللحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدقّ ممّا نراه بحسب النظر السطحيّ الساذج فإنّا إنّما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الإنسان في نشأته الدنيويّـة إلى أن يحلّ به الموت، وهى الّتى تصاحب الشعور والفعل الاراديّ، ويوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الإنسان أيضاً من سائر الأنواع الحيوانيّـة لكنّ الله سبحانه يقول:( وما هذه الحياة الدنيا إلّا لهو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون ) العنكبوت ٦٤ ويفيد ذلك أنّ الإنسان متمتّع بهذه الحياة غير مشتغل إلّا بالأوهام، وأنّه مشغول بها عمّا هو أهمّ وأوجب من غايات وجوده وأغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه وبين حقيقة ما يطلبه ويبتغيه من الحياة.

وهذا هو الّذى يشير إليه قوله تعالى وهو من خطابات يوم القيامة:( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ق: ٢٢.

فللإنسان حياة اُخرى أعلى كعباً وأغلى قيمة من هذه الحياة الدنيويّـة الّتى يعدّها الله سبحانه لعباً ولهواً، وهى الحياة الاُخرويّـة الّتى سينكشف عن وجهها الغطاء، وهى الحياة الّتى لا يشوبها اللعب واللهو، ولا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها الإنسان إلّا بنور الإيمان وروح العبوديّـة قال تعالى:( اُولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ) المجادلة: ٢٢ وقال تعالى:( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) الأنعام: ١٢٢.

فهذه حياة اُخرى أرفع قدراًّ وأعلى منزلة من الحياة الدنيويّـة العامّـة الّتى ربّما شارك فيها الحيوان العجم الإنسان، ويظهر من أمثال قوله تعالى:( وأيّدناه بروح القدس ) البقرة: ٢٥٣ وقوله:( وكذلك اوحينا إليك روحاً من أمرنا ) الآية الشورى: ٥٢ أن هناك حياة اُخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد إن شاء الله.

٤٣

وبالجملة فللإنسان حياة حقيقيّـة أشرف وأكمل من حياته الدنيّـة الدنيويّـة يتلبّس بها إذا تمّ استعداده بالتحلّى بحلية الدّين والدّخول في زمرة الأولياء الصالحين كما تلبّس بالحياة الدنيويّـة حين تمّ استعداده للتلبّس بها وهو جنين إنسانىّ.

وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى في الآية المبحوث عنها:( يا أيها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) فالتلبّس بما تندب إليه الدعوة الحقّة من الاسلام يجرّ إلى الإنسان هذه الحياة الحقيقيّـة كما أنّ هذه الحياة منبع ينبع منه الإسلام وينشأ منه العلم النافع والعمل الصالح، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى:( من عمل صالحاً من ذكر أو اُنثى وهو مؤمن فلنحيينّـه حياة طيّـبة ولنجزينّـهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) النحل: ٩٧.

والآية أعني قوله فيها:( إذا دعاكم لما يحييكم ) مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحيية للقلوب، أو بعضها الّذى فيه طبيعة الإحياء أو لنتائجها الّتى هي أنواع الحياة السعيدة الحقيقيّـة كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الآخرة.

ومن هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الآية بما قيّـدها به أكثر المفسّرين فقد قال بعضهم: إنّ المراد بقوله:( إذا دعاكم لما يحييكم ) بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه إحياء أمركم و إعزاز دينكم.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوّكم فإنّ الله سبحانه عدّ الشهداء إحياءً كما في قوله:( ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون ) آل عمران: ١٦٩.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الإيمان، فإنّه حياة القلب والكفر موته، أو إذا دعاكم إلى الحقّ.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لأنّ العلم حياة والجهل موت والقرآن نور وحياة وعلم.

وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنّـة لما فيها من الحياة الدّائمة والنعمة الباقية الأبديّـة.

٤٤

وهذه الوجوه المذكورة يقبل كلّ واحد منها انطباق الآية عليه غير أنّ الآية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عمّا لهامن المعنى آلوسيع.

قوله تعالى: ( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون ) الحيلولة هي التخلّل وسطاً، والقلب العضو المعروف. ويستعمل كثيراً في القرآن الكريم في الأمر الّذى يدرك به الإنسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحبّ والبغض والخوف والرجاء والتمنّى والقلق ونحو ذلك فالقلب هو الّذى يقضى ويحكم، وهو الّذى يحبّ شيئاً ويبغض آخر، وهو الّذى يخاف ويرجو ويتمنّى ويسرّ ويحزن، وهو في الحقيقة النفس الإنسانيّـة تفعل بما جهّزت به من القوى والعواطف الباطنة.

والإنسان كسائر ما أبدعه الله من الأنواع الّتى هي أبعاض عالم الخلقة مركّب من أجزاء شتّى مجهّز بقوى وأدوات تابعة لوجوده يملكها ويستخدمها في مقاصد وجوده، والجميع مربوطة به ربطاً يجعل شتات الأجزاء والأبعاض على كثرتها وتفاريق القوى والأدوات على تعدّدها، وأحداً تامّاً يفعل ويترك، ويتحرّك ويسكن، بوحدته وفردانيّـته.

غير أنّ الله سبحانه لمّا كان هو المبدع للإنسان وهو الموجد لكلّ واحد واحد من أجزاء وجوده وتفاريق قواه وأدواته كان هو الّذى يحيط به وبكلّ واحد من أجزاء وجوده وتوابعه، ويملك كلًّا منها بحقيقة معنى الملك يتصرّف فيه كيف يشاء، ويملّك الإنسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسّط الحائل بين الإنسان وبين كلّ جزء من اجزاء وجوده وكلّ تابع من توابع شخصه: بينه وبين قلبه، بينه وبين سمعه، بينه وبين بصره، بينه ومن بدنه، بينه وبين نفسه. يتصرّف فيها بإيجادها، ويتصرّف فيها بتمليك الإنسان ما شاء منها كيف شاء، وإعطائه ما أعطى، وحرمانه ما حرم.

ونظير الإنسان في ذلك سائر الموجودات فما من شئ في الكون وله ذات وتوابع ذات من قوى وآثار وأفعال إلّا والله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته ولتوابع ذاته، وهو المملّك إيّـاه كلًّا من ذاته وتوابع ذاته فهو الحائل المتوسّط بينه وبين ذاته وبينه وبين توابع ذاته من قواه وآثاره وأفعاله.

٤٥

فالله سبحانه هو الحائل المتوسّط بين الإنسان وبين قلبه وكلّ ما يملكه الإنسان ويرتبط ويتّصل هو به نوعاً من الارتباط والاتّصال وهو أقرب إليه من كلّ شئ كما قال تعالى:( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ق: ١٦.

والى هذه الحقيقة يشير قوله:( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون ) فهو تعالى لكونه مالكاً لكلّ شئ ومن جملتها الإنسان ملكاً حقيقيّـاً لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتّى من نفسه وقوى نفسه الّتى يملكها لأنّه سبحانه هو الّذى يملكه إيّـاها فهو حائل متوسّط بينه وبينها يملّكه إيّـاها ويربطها به فافهم ذلك.

ولذلك عقّب الجملة بقوله:( وأنّه إليه تحشرون ) فإنّ الحشر والبعث هو الّذى ينجلى عندهأنّ المك الحقّ لله وحده لا شريك له، ويبطل عند ذلك كلّ ملك صوريّ وسلطنة ظاهريّـة إلّا ملكه الحقّ جلّ ثناؤه كما قال سبحانه:( لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن: ١٦، وقال:( يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله ) الانفطار: ١٩.

فكأنّ الآية تقول: واعلموا أنّ الله هو المالك بالحقيقة لكم ولقلوبكم وهو أقرب إليكم من كلّ شئ ، وأنّه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم يومئذ فلا يغنى عنكم منه شئ.

وأمّا اتّصال الكلام أعني ارتباط قوله:( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) الخ بقوله:( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) فلأنّ حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه، يقطع منبت كلّ عذر في عدم استجابته لله والرسول إذا دعاه لما يحييه، وهو التوحيد الّذى هو حقيقة الدعوة الحقّة فإنّ الله سبحانه لمّا كان أقرب إليه من كلّ شئ حتّى من قلبه الّذى يعرفه بوجدانه قبل كلّ شئ فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الّذى هو وسيلة إدراكه وسبب أصل معرفته وعلمه.

فهو يعرف الله إلهاً واحداً لا شريك له قبل معرفته قلبه وكلّ ما يعرفه بقلبه، فمهما شكّ في شئ أو ارتاب في أمر فلن يشكّ في إلهه الواحد الّذى هو ربّ كلّ شئ ولن يضلّ في تشخيص هذه الكلمة الحقّة.

٤٦

فإذا دعاه داعى الحقّ إلى كلمة الحقّ ودين التوحيد الّذى يحييه لو استجاب له، كان عليه أن يستجيب داعى الله فإنّه لا عذر له في ترك الاستجابة معلّلاً بأنّه لم يعرف حقّـيّـة ما دعى إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الإقبال على الحقّ الصريح فإنّ الله سبحانه هو الحقّ الصريح الّذى لا يحجبه حاجب، ولا يستره ساتر إذ كلّ حجاب مفروض فالله سبحانه أقرب منه إلى الإنسان، وكلّ ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسّط متخلّل بينه - مع ما له من ظرف وهو القلب - وبين الإنسان فلا سبيل للإنسان إلى الجهل بالله والشكّ في توحّده.

وأيضاً فإنّ الله سبحانه لمّا كان حائلاً بين المرء وقلبه فهو أقرب إلى قلبه منه كما أنّه أقرب إليه من قلبه فإنّ الحائل المتوسّط أقرب إلى كلّ من الطرفين من الطرف الآخر، وإذا كان تعالى أقرب إلى قلب الإنسان منه فهو أعلم بما في قلبه منه.

فعلى الإنسان إذا دعاه داعى الحقّ إلى ما يحييه من الحقّ أن يستجيب دعائه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، ولا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لبّـاه بلسانه وهو النفاق فإنّ الله أعلم بما في قلبه منه وسيحشر إليه فينبّـؤه بحقيقة عمله ويخبره بما طواه في قلبه قال تعالى:( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ ) المؤمن: ١٦، وقال:( ولا يكتمون الله حديثاً ) النساء: ٤٢.

وأيضاً فإنّ الله سبحانه لمّا كان هو الحائل بين الإنسان وقلبه وهو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرّف في القلب قبل الإنسان وله أن يتصرّف فيه بما شاء فما يجده الإنسان في قلبه من إيمان أو شكّ أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق واضطراب أو غير ذلك ممّا ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه تعالى بتصرّفه فيما هو أقرب إليه من كلّ شئ تصرّفاً بالتوفيق أو الخذلان أو أيّ نوع من أنواع التربية الإلهيّـة، يتصرّف بما شاء ويحكم بما أراد من غيرأن يمنعه مانع أو يهدّده ذمّ أو لوم كما قال تعالى:( والله يحكم لا معقّب لحكمه ) الرعد: ٤١، وقال تعالى:( له الملك وله الحمد وهو على كلّ شئ قدير ) التغابن: ١.

فمن الجهل أن يثق الإنسان بما يجد في قلبه من الإيمان بالحقّ أو التلبّس

٤٧

بنيّـة حسنة أو عزيمة على خير أو همّ بصلاح وتقوى، بمعنى أن يرى استقلاله بملك قلبه وقدرته المطلقة على ما يهمّ به فإنّ القلب بين أصابع الرحمان يقلّبه كيف يشاء وهو المالك له بحقيقة معنى الملك والمحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى:( ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ) الانعام: ١١٠، فمن الواجب عليه أن يؤمن بالحقّ ويعزم على الخير على مخافة من الله تعالى أن يقلّبه من السعادة إلى الشقاء ويحوّل قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس والانحراف، ولا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

وكذلك الإنسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحقّ والعزم على الخير وصالح العمل، عليه أن يبادر إلى استجابة الله ورسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، ولا ينهزم عمّا يهجم عليه من أسباب اليأس وعوامل القنوط من ناحية قلبه فإنّ الله سبحانه يحوّل بين المرء وقلبه، وهو القادر على أن يصلح سرّه ويحوّل قلبه إلى أحسن حال ويشمله بروح منه ورحمه فإنّما الأمر إليه، وقد قال:( إنّه لا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون ) يوسف: ٨٧، وقال:( ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر: ٥٦.

فالآية الكريمة - كما ترى - من أجمع الآيات القرآنيّـة تشتمل على معرفة حقيقيّـة من المعارف الإلهيّـة - مسألة الحيلولة - وهى تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفّـار والمشركين، وتقلع غرّة النفاق من أصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربّهم وأنّه أعلم بما في قلوبهم منهم، ويلقى إلى المسلمين والّذين هم في طريق الإيمان بالله وآياته مسألة نفسيّـة تعلّمهم أنّهم غير مستقلّين في ملك قلوبهم ولا منقطعون في ذلك من ربّهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمّن يرى لنفسه استقلالاً وسلطنة فيما يملكه فلا يغرّه ما يشاهده من تقوى القلب وإيمان السرّ، ورذيله اليأس والقنوط عمّن يحيط بقلبه دواهي الهوى ودواعى أعراض الدنيا فيتثاقل عن الإيمان بالحقّ والإقبال على الخير، ويورثه ذلك اليأس والقنوط.

وممّا تقدّم يظهر أنّ قوله:( واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) الخ تعليل

٤٨

لقوله تعالى:( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) على جميع التقادير من وجوه معناه.

وبذلك يظهر أيضاً أنّ الآية أوسع معنى ممّا أورده المفسّرون من تفسيرها: كقول من قال: إنّ المراد أنّ الله سبحانه أقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، وفيه تحذير شديد.

وقول من قال: إنّ المراد أنّ القلب لا يستطيع أن يكتم الله حديثاً فإنّ الله أقرب إلى قلب الإنسان من نفسه، فما يعلمه الإنسان من قلبه يعلمه الله قبله.

وقول من قال: إنّ المراد أنّه يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف، وفيه حثّ على الطاعة قبل حلول المانع.

وقول من قال: معناه أنّ الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنّهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه أنّه يبدّل خوفهم أمناً بأن يحول بينهم وبين ما يتفكّرون فيه من أسباب الخوف.

وقد ورد في الحديث عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بذلك أنّ الله سبحانه يحول بين الإنسان وبين أن يعلم أنّ الحقّ باطل أو أنّ الباطل حقّ، وسيجئ في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة واعلموا أنّ الله شديد العقاب ) قرأ علىّ والباقرعليهم‌السلام من أئمّـة أهل البيت وكذا زيد بن ثابت والربيع بن أنس وأبوالعالية على ما في المجمع: لتصيبنّ باللام ونون التأكيد الثقيلة، والقراءة المشهورة: لا تصيبنّ بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة.

وعلى أيّ تقدير كان، تحذّر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختصّ بالظالمين منهم، ولا يتعدّاهم إلى غيرهم من الكفّـار والمشركين، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر عامّـتهم مع ذلك باتّـقائها يدلّ على أنّها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكنّ السيّئ من أثرها يعمّ الجميع ثمّ قوله تعالى:( واعلموا أنّ الله شديد العقاب ) تهديد للجميع بالعقاب

٤٩

الشديد ولا دليل يدلّ على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من العذاب الدنيويّ من قبيل الاختلافات القوميّـة وشيوع القتل والفساد وارتفاع الأمن والسلام ونحو ذلك.

ومقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم ممّا يوجب على عامّـة الاُمّـة أن يبادروا على دفعها، ويقطعوا دابرها ويطفؤوا لهيب نارها بما أوجب الله عليهم من النهى عن المنكر والأمر بالمعروف.

فيؤول معنى الكلام إلى تحذير عامّـة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخليّـة الّتى تهدّد وحدتهم وتوجب شقّ عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون أن تحزّبهم أحزاباً وتبعّـضهم أبعاضاً، ويكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحقّ والدين الحنيف الّذى يشترك فيه عامّـة المسلمين.

فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصّـة وهم الظالمون غير أنّ سيّئ أثره يعمّ الكلّ ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلّة والمسكنة وكلّ ما يترقّب من مرّ البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعاً مسئولون عند الله والله شديد العقاب.

وقد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة ولم يعرّفها بكمال اسمها ورسمها غير أنّ قوله فيما بعد:( لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) وقوله:( واعلموا أنّ الله شديد العقاب ) - كما تقدّم - يوضحها بعض الإيضاح، وهو أنّها اختلاف البعض من الاُمّـة مع بعض منها في أمر يعلم جميعهم وجه الحقّ فيه فيجمح البعض عن قبول الحقّ ويقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس كلّ ظلم، بل الظلم الّذى يسرى سوء أثره إلى كافّة المؤمنين وعامّـة الاُمّـة لمكان أمره سبحانه الجميع بإتّـقائه، فالظلم الّذى هو لبعض الاُمّـة ويجب على الجميع أن يتّـقوه، ليس إلّا ما هو من قبيل التغلّب على الحكومة الحقّة الإسلاميّـة، والتظاهر بهدم القطعيّـات من الكتاب والسنّة الّتى هي من حقوقها.

وأيّـا مّا كان ففى الفتن الواقعة في صدر الإسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح انطباق وقد انهدمت بها الوحده الدينيّـة، وبدت الفُرقة ونفدت القوّة، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الأعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء

٥٠

السنّة، وقال الرسول: يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً.

ومن شمول مشأمتها وتعرّق فسادها أنّ الاُمّـة لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتّى بعد التنبّـه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

وقد تفطّن بعض المفسّرين بأنّ الآية تحذّر الاُمّـة وتهدّدهم بفتنه تشمل عامّـتهم وتفرّق جمعهم، وتشتّت شملهم، وتوعدهم بعذاب الله الشديد، وقد أحسن التفطّن غير أنّه تكلّف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيويّ، وتحمّل في تقييد ما في الآية من إطلاق العقاب، وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد.

ولنرجع إلى لفظ الآية:

أمّا على قراءة أهل البيتعليه‌السلام وزيد:( واتّقوا فتنة لتصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) فاللّام في( لتصيبنّ ) للقسم والنون الثقيله لتأكيده، والتقدير: واتّقوا فتنة اُقسم لتصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة، وخاصّـة حال من الفتنة، والمعنى اتّقوا فتنة تختصّ إصابته بالّذين ظلموا منكم أيّها المخاطبون وهم الّذين آمنوا، وعليك أن تتذكّر ما سلف بيانه أنّ لفظ:( الّذين آمنوا ) في القرآن خطاب تشريفيّ للمؤمنين في أوّل البعثة وبدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثمّ تذكر أنّ فتن صدر الإسلام تنتهى إلى أصحاب بدر، والآية على أيّ حال يأمر الجميع أن يتّقوا فتنة تثيرها بعضهم، وليس إلّا لأنّ أثرها السيّئ يعمّ الجميع كما تقدّم.

وأمّا على قراءة المشهور:( واتّقوا فتنه لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) فقد ذكروا: أنّ لا في( لا تصيبنّ ) ناهية والنون لتأكيد النهى، وليس( لا تصيبنّ ) جواباً للأمر في( اتّقوا ) بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى:( يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّـكم سليمان وجنوده ) النمل: ١٨ فقد قال أوّلاً:( واتّقوا فتنة ) ثمّ استأنف وقال:( لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّـة ) لاتّصال الجملتين معنى.

وربّما جوّز بعض النحاة أن يكون( لا تصيبنّ ) ونهياً وارداً في جواب الأمر كما

٥١

يقال: اتّق زيداً لا يضربك أو لا يضربنّـك والتقدير: اتّق زيداً فإنّك إن اتّقيته لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.

وربّما قال بعضهم: إنّ لا زائدة والمعنى: اتّقوا فتنة تصيبنّ الآية.

وربّما ذكر آخرون:( أنّ أصل لا تصيبنّ ) ( لتصيبنّ ) اشبعت فتحة اللّام حتّى تولّدت الألف، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال:

فأنت من الغوائل حين ترمى

ومن ذمّ الرجال بمنتزاح

يريد: بمنتزح، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.

ومال المعنى على هذا الوجه أي على قراءة الاُولى( لا تصيبنّ ) أيضاً إلى ما تفيده القراءة الاُولى( لتصيبنّ ) كما عرفت.

والآية - كما عرفت - تتضمّن خطاباً اجتماعيّـاً متوجّهاً إلى مجموع الاُمّـة وذلك يؤيّد كون الخطاب في الآية السابقة:( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) خطاباً اجتماعيّـاً متوجّهاً إلى كافّة المؤمنين، ويتفرّع عليه أنّ المراد بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتّفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم التفرّق فيه كما قال:( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) آل عمران: ١٠٣ وقال:( أن اقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه ) الشورى: ١٣ وقوله:( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) الانعام: ١٥٣.

وبهذا يتأيّد بعض الوجوه المذكورة سابقاً في قوله:( إذا دعاكم لما يحييكم ) وكذا في قوله:( أنّ الله يحول بين المرء وقلبه ) وتختصّ الآية به بحسب السياق وإن كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار أخذها في نفسها مفردة عن السياق، والباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادى.

قوله تعالى: ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس ) إلى آخر الآية. الاستضعاف عدٌّ الشئ ضعيفاً بتوهين أمره، والتخطّف والخطف والاختطاف أخذ الشئ بسرعة انتزاع، والإيواء جعل الإنسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوى، والتأييد من الأيد وهو القوّة.

٥٢

والسياق يدلّ على أنّ المراد بقوله:( إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض ) الزمان الّذى كان المسلمون محصورين بمكّة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون، وبقوله:( تخافون أن يتخطّفكم الناس ) مشركوا العرب وصناديد قريش، وبقوله :( فآواكم ) أي بالمدينة وبقوله :( وأيّدكم بنصره ) ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، وبقوله:( ورزقكم من الطيّـبات ) ما رزقهم من الغنائم وأحلّها لهم.

وما عدّه في الآية من احوال المؤمنين ومننه عليهم بالإيواء وإن كانت ممّا يختصّ بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلّا أنّ المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والأنصار فأنّهم اُمّـة واحدة يوحّدهم دين واحد. على أنّ فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد بالنصر والرزق من الطيّـبات وهما يعمّـان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعمّ جميع المسلمين من حيث إنّهم اُمّـة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدأ ظهور الإسلام فيهم وهم قليل مستضعفون بمكّة يخافون أن يتخطّفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثّرهم بالأنصار وأيّدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيّـبات الغنائم وغيرها من سائر النعم لعلّهم يشكرون.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) إلي آخر الآيتين. الخيانة نقض الأمانة الّتى هي حفظ الأمن لحقّ من الحقوق بعهد أو وصيّـة ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلّا أنّ الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثمّ يتداخلان فالخيانة مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ، ونقيض الخيانة الأمانة يقال: خنت فلاناً، وخنت أمانة فلان وعلى ذلك قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم. انتهى.

وقوله:( وتخونوا أماناتكم ) من الجائز أن يكون مجزوماً معطوفاً على تخونوا السابق، والمعنى: ولا تخونوا أماناتكم، وأن يكون منصوباً بحذف أن والتقدير: وأن تخونوا أماناتكم ويؤيّد الوجه الثاني قوله بعده:( وأنتم تعلمون ) .

وذلك أنّ الخيانة وإن كانت إنّما يتعلّق النهى التحريميّ بها عند العلم فلا نهى مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير أنّ العلم من الشرائط العامّـة الّتى لا ينجز تكليف من

٥٣

التكاليف المولويّـة إلّا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهى عن الخيانة بالعلم مع أنّ العلم لكونه شرطاً عامّاً مستغنى عن ذكره، وظاهر قوله:( وأنتم تعلمون ) بحذف متعلّقات الفعل أنّ المراد: ولكم علم بأنّه خيانة لا ما قيل: إنّ المعنى: وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله إيّـاها فإنّ ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا من جهه السياق.

فالوجه أن تكون الجملة بتقدير: وأن تخونوا أماناتكم، ويكون مجموع قوله:( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) نهياً واحداً متعلّقاً بنوع خيانة هي خيانة أمانة الله ورسوله وهى بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فإنّ من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرّعة من عنده ومنها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنه، ومنها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو أسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهى الاُمور الّتى أمر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسيّـة والمقاصد الحربيّـة الّتى تضيع بإفشائها آمال الدين وتضلّ بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلاميّـة فيبطل به حقّ الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامّـة المؤمنين.

فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانةٌ لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم أنّ هذه الأمانة الّتى يخونها أمانةٌ لنفسه ولسائر إخوانه المؤمنين وهو يخون أمانة نفسه، ولن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة نفسه فإنّ الإنسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه؟

فالمراد بقوله:( وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) - والله أعلم - وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول أماناتكم والحال أنّكم تعلمون أنّها أمانات أنفسكم وتخونونها، وأىّ عاقل يقدم على خيانة أمانة نفسه والاضرار بما لا يعود إلّا إلى شخصه فتذييل النهى بقوله:( وأنتم تعلمون ) لتهييج العصبيّـة الحقّة وإثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.

فكأنّ بعض أفراد المسلمين كان يفشى اُموراً من عزائم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض أسراره فسمّاه الله تعالى خيانة. ونهى عنه، وعدّها خيانة لله

٥٤

والرسول والمؤمنين.

ويؤيّد ذلك قوله بعد هذا النهى:( واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) الخ فإنّ ظاهر السياق أنّه متّصل بما قبله غير مستقلّ عنه، ويفيد حينئذ أنّ موعظتهم في أمر الأموال والأولاد مع النهى عن خيانة الله والرسول وأماناتهم إنّما هو لإخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة أن يتعدّوا على أموالهم وأولادهم الّذين تركوهم بمكّة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالأخبار إلقاءً للمودّة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبى لبابة مع بنى قريظة.

وهذا يؤيّد ما ورد في سبب النزول أنّ أباسفيان خرج من مكّة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) وفي نزول الآية بعض أحاديث اُخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائيّ التالى.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إن تتّقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيّآتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) الفرقان ما يفرّق به بين الشئ والشئ، وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحقّ والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الإيمان والكفر وكلّ هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكلّ ما يرضى الله أو يسخطه، أو في الرأى والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فإنّ ذلك كلّه ممّا تثمره شجرة التقوى، وقد أطلق الفرقان في الآية ولم يقيّـده وقد عدّ جمل الخير والشرّ في الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.

ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى:( ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ) وقد تقدّم الكلام في معنى تكفير السيّآت والمغفرة، والآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر والنواهي الّتى تتضمّنها الآيات السابقة أي إن تتّقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضى الله في جميع ما تقدّم بما يسخطه ويكفّر عنكم سيّآتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.

٥٥

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن عقيل الخزاعىّ: أنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: إنّ الرعب والخوف من جهاد المستحقّ للجهاد والمتوازرين على الضلال، ضلالٌ في الدين وسلب للدنيا مع الذلّ والصغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال يقول الله عزّوجلّ:( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار ) .

وفي الفقيه والعلل بإسناده عن ابن شاذان: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرّم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمّـة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبيّـة وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدوّ على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبى والقتل وإبطال دين الله عزّوجلّ وغيره من الفساد.

أقول: وقد استفاضت الروايات عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، وقد تقدّم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى:( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّآتكم ) النساء: ٣١ في الجزء الرابع من الكتاب.

وعلى ذلك روايات من طرق أهل السنّة كما في صحيحي البخاريّ ومسلم عن أبى هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله وقتل النفس الّتى حرّم الله إلّا بالحقّ والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولّى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهناك روايات اُخرى عن ابن عبّـاس وغيره تدلّ على كون الفرار من الزحف من الكبائر.

نعم قوله تعالى:( اليوم خفّف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مأة صابرة يغلبوا مأتين ) الآية يقيّد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.

وقد روى من طرقهم عن عمر بن الخطّاب وعبدالله بن عمرو بن عبّـاس وأبى هريرة

٥٦

وأبى سعيد الخدرىّ وغيرهم كما في الدرّ المنثور: أنّ تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاصّ بيوم بدر.

وربّما وجّه ذلك بأنّ الآية نزلت يوم بدر، وأنّ الظرف في قوله:( ومن يولّهم يومئذ دبره ) إشارة إلى يوم بدر، وقد عرفت أنّ سياق الآيات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، وأنّ المراد بقوله:( يومئذ ) هو يوم الزحف لا يوم بدر. على أنّه لو فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئاً كما في سائر الآيات الّتى جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب.

قال صاحب المنار في تفسيره: وإنّما قد يتّجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافاً للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أوّل غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة. وتأييد المسلمين بالملائكة يثبّـتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.

فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهى اتّجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الّذى في الآية خاصّا بها. أضف إلى ذلك أنّ الله تعالى امتحن الصحابة (رض) بالتولّي والإدبار في القتال مرّتين مع وجودهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم: يوم اُحد وفيه يقول الله تعالى:( ٣: ١٥٥ إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان إنّما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إنّ الله غفور حليم ) ويوم حنين، وفيه يقول الله تعالى:( ٩: ٢٥ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين ٢٦، ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الخ، وهذا لا ينافى كون التولّى حراماً ومن الكبائر، ولا يقتضى أن يكون كلّ تولّ لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك، ويتقيّـد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدّم في سورة البقرة وسيأتى تفصيله قريباً.

٥٧

وقد روى أحمد وأصحاب السنن إلّا النسائيّ من حديث ابن عمر قال: كنت في سريّـة من سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثمّ قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا؟، ثمّ قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فإن كان لنا توبة وإلّا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرّارون؟ فقلنا: نحن الفرّارون. قال: بل أنتم العكّارون أنا فئتكم وفئة المسلمين. قال: فأتينا حتّى قبّـلنا يده.

(ولفظ أبى داود) فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل صلاة الفجر فلمّا خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرّارون الخ.

تأوّل بعضهم هذا الحديث بتوسّع في معنى التحيّـز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للّغة حكم، وقد قال الترمذيّ فيه: حسن لا نعرفه إلّا من حديث يزيد بن أبى زياد أقول: وهو مختلف فيه ضعّفه الكثيرون، وقال ابن حبّان كان صدوقاً إلّا أنّه لمّا كبر ساء حفظه وتغيّر فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغيّر فسماعه صحيح، وجملة القول: أنّ هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متناً ولا سنداً، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. انتهى.

أقول: والّذى نقله في أوّل كلامه من الوجوه والقرائن المحتفّة بغزوة بدر من كونه أوّل غزوة في الإسلام، وكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ونحو ذلك مشتركة بحسب حقيقة الملاك بينها وبين أمثال غزوة اُحد والخندق وخيبر وحنين، والإسلام أيّـامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين ثباتهم في الزحوف، والنبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم، والله وعدهم بالنصرو أنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.

والّذى ذكره من الآيات النازلة في فرارهم يوم اُحد ويوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الأنفال لهم إذ ذاك وأىّ مانع يمنع من ذلك والآية مطلقة وليس هناك مقيّـد يقيّـدها.

٥٨

ومن العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرّمة ثمّ قوله: إنّ ذلك لا يقتضى كونه ممّا يبوء صاحبه بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع أنّ الكبائر الموبقة هي المعاصي الّتى أوعد الله عليها النار.

وأعجب منه قوله: إنّه يتقيّـد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها ! مع أنّ آية رخصة الضعف إنّما تدلّ على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الأعداء على الضعف.

وآية النهى عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلّت بعمومها على أزيد ممّا يدلّ عليه آية رخصة الضعف لغت آية الأنفال وبقيت بلا مصداق كما أنّ التأوّل في قوله تعالى:( أو متحيّـزاً إلى فئة ) على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الآية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخّص أن لا مناص عن إبقاء الآية على ظاهر إطلاقها.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في الآية:( إلّا متحرّفاً لقتال ) قال متطرّداً يريد الكرّة عليهم( أو متحيّـزاً إلى فئة ) يعنى متأخّراً إلى أصحابه من غير هزيمة. من انهزم حتّى يجوز صفّ أصحابه فقد باء بغضب من الله.

أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمّة في لفظ الآية، وهى أنّ النهى إنّما تعلّقت في الآية على تولّى الأدبار وهى أعمّ من الانهزام فإذا استثنى الموردان أعنى التحرّف لقتال والتحيّـز إلى فئة وهى غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهى فكلّ انهزام عن أعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عدداً حرام محرّم.

وفي تفسير البرهان عن إبن شهر آشوب عن الثعلبيّ عن ضحّاك عن عكرمة عن ابن عبّـاس في قوله تعالى:( وما رميت إذ رميت ) أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلّى: ناولنى كفّاً من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقى أحد إلّا امتلأت عيناه من الحصى.

أقول: ورواه في الدرّ المنثور عن الطبرانيّ وأبى الشيخ وابن مردويه عن ابن عبّـاس وروى العيّـاشيّ في تفسيره حديث المناولة عن محمّـد بن كليب الأسديّ عن أبيه عن الصادقعليه‌السلام ، وفي خبر آخر عن علىّعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن محمّـد بن قيس ومحمّد بن كعب رضى الله عنهما

٥٩

قالا لمّا دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلّهم، وأقبل أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول االله (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) فأنزل الله:( وما رميت إذ رميت - إلى قوله - سميع عليم ) .

أقول: والمراد بنزول الآية نزولها بعد ذلك وهى تقصّ القصّة لا نزولها وقتئذ، وهو شائع في أسباب النزول. وقد ذكر ابن هشام في سيرته: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه و آله و سلّم ) رماهم بالتراب ثمّ أمر أصحابه بالكرّة فكانت الهزيمة.

وفيه أخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في الدلائل عن ابن شهاب عن عبدالله بن ثعلبة بن صعير: أنّ أباجهل قال حين التقى القوم: اللّهمّ أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت:( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) الآية.

وفي المجمع في قوله تعالى:( إنّ شرّ الدوابّ عند الله ) الآية قال: قال الباقرعليه‌السلام : هم بنو عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له: سويبط.

وفي جامع الجوامع: قال الباقرعليه‌السلام هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة، وكانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌ عمىٌ عمّا جاء به محمّـد، وقد قتلوا جميعاً باُحد وكانوا أصحاب اللواء.

أقول: وروى في الدرّ المنثورما في معناه بطرق عن ابن عبّـاس وقتادة، والرواية من قبيل الجرى والانطباق، والآية عامّـة.

وفي تفسير القمّىّ في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) الآية. قال: قال الحياة الجنّـة.

وفي الكافي بإسناده عن أبى الربيع الشاميّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزوجل:( يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) قال:

٦٠