الميزان في تفسير القرآن الجزء ٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 89177
تحميل: 4960


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89177 / تحميل: 4960
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 9

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي والتحف ببردتى فنام علىّعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحف ببردته.

وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم:( وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار وكان من أمره ما كان.

فلمّا أصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب علىّعليه‌السلام في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: أين محمّـد؟ قال: أجعلتمونى عليه رقيباً؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على أبى لهب يضربونه ويقولون: أنت تخدعنا منذ الليل.

فتفرّقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفوا الآثار فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهم: هذه قدم محمّـد والله إنّها لاُخت القدم الّتى في المقام، وكان أبوبكر بن أبى قحافة استقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فردّه معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن أبى قحافة أو أبيه ثمّ قال: وههنا غير ابن أبى قحافة، ولا يزال يقف بهم حتّى أوقفهم على باب الغار.

ثمّ قال: ما جاوزوا هذا المكان إمّا أن يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت الأرض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة ثمّ قال: ما في الغار أحد فتفرّقوا في الشعاب، وصرفهم الله عن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أذن لنبيّـهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهجرة.

أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى ملخّصاً في الدرّ المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى نعيم والبيهقيّ معا في الدلائل عن ابن عبّـاس لكن نسب فيه إلى أبى جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجديّ ثمّ ذكر أنّ الشيخ النجديّ صدّق أباجهل في رأيه واجتمع القوم على قوله.

وقد روى دخول إبليس عليهم في دار الندوة في زى شيخ نجدىّ في عدّة روايات

٨١

من طرق الشيعة وأهل السنّة.

وأمّا ما في الرواية من قول أبى كرز لمّا اقتفى أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هذه قدم محمّـد، وهذه قدم ابن أبى قحافة، وههنا غير ابن أبى قحافة) فقد ورد في الروايات أنّ ثالثهما هند بن أبى هالة ربيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُمّـه خديجة بنت خويلد رضى الله عنها.

وقد روى الشيخ في أماليه بإسناده عن أبى عبيدة بن محمّـد بن عمّار بن ياسر عن أبيه وعبدالله بن أبى رافع جميعاً عن عمّار بن ياسر وأبى رافع وعن سنان بن أبى سنان عن ابن هند بن أبى هالة، وقد دخل حديث عمّار وأبى رافع وهند بعضه في بعض، وهو حديث طويل في هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه: واستتبع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبابكر بن أبى قحافة وهند بن أبى هالة فأمرهما أن يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه الى الغار، وثبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكانه مع علىّ يأمره في ذلك بالصبر حتّى صلّى العشائين ثمّ خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فحمة العشاء والرصد من قريش قد اطافوا بداره ينتظرون أن ينتصف الليل وتنام الأعين.

فخرج وهو يقرأ هذه الآية:( وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) وكان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رؤوسهم فما شعر القوم به حتّى تجاوزهم ومضى حتّى أتى إلى هند وأبى بكر فنهضا معه حتّى وصلوا إلى الغار.

ثمّ رجع هند إلى مكّة بما أمره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر الغار.

قال بعد سوق القصّة الليلة: حتّى إذا اعتمّ من الليلة القابلة انطلق هو - يعنى عليّـاًعليه‌السلام - وهند بن أبى هالة حتّى دخلا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنداً أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين فقال أبوبكر قد كنت أعددت لى ولك يا نبىّ الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: إنّى لا آخذهما ولا أحدهما إلّا بالثمن قال: فهى لك بذلك فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّـاًعليه‌السلام فأقبضه الثمن ثمّ وصّاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته.

وكانت قريش قد سمّوا محمّـداً في الجاهليّـة: الأمين، وكانت تودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكّة من العرب في الموسم، وجاءت النبوّة والرسالة والأمر

٨٢

كذلك فأمر عليّـاًعليه‌السلام أن يقيم صارخاً بالأبطح غدوة وعشيّـاً: من كان له قبل محمّـد أمانه أو دين فليأت فلنؤدّ إليه أمانته.

قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّهم لن يصلوا من الآن اليك يا علىّ بأمر تكرهه حتّى تقدّم علىّ فأدّ أمانتى على أعين الناس ظاهراً ثمّ إنّى مستخلفك على فاطمة ابنتى ومستخلف ربّى عليكما ومستحفظه فيكما فأمر أن يبتاع رواحل له وللفواطم(١) ومن أزمع الهجرة معه من بنى هشام.

قال أبوعبيدة: فقلت لعبيد الله يعنى ابن أبى رافع: أوكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: إنّى سألت أبى عمّا سألتنى وكان يحدّث لى هذا الحديث. فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجةعليه‌السلام .

قال عبيد الله بن أبى رافع: وقد قال علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ثلاثاً نظماً:

وقيت بنفسى خير من وطئ الحصا

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجرِ

محمّـد لمّـا خـاف أن يمكروا به

فوقّـاه ربّى ذو الجـلال من المكرِ

و بتّ أراعيـهم متـى ينشرونـنى

وقد وُطّنت نفسي على القتل والأسرِ

و بات رسول الله في الغـار آمنـاً

هنـاك وفي حفظ الإله وفي سـترٍ

أقـام ثـلاثـاً ثـمّ زمّـت قلائص

قلائص يفرين الحـصا أينما تفرى

وقد روى الأبيات عنهعليه‌السلام بتفاوت يسير في الدرّ المنثور عن الحاكم عن علىّ بن الحسينعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّـاشيّ عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهم‌السلام قوله:( خير الماكرين ) قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان لقى من قومه بلاءً شديداً حتّى أتوه ذات يوم وهو ساجد حتّى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته وهو ساجد لم يرفع رأسه فرفعته عنه ومسحته ثمّ أراه الله بعد ذلك الّذى يحبّ.

إنّه كان ببدر وليس معه غير فارس واحد

____________________

(١) و هن علي ما في ذيل الرواية : فاطمة بنت النبيّعليها‌السلام و فاطمة بنت أسد و فاطمة بنت الزبير.

٨٣

ثمّ كان معه يوم الفتح اثنا عشر ألفاً حتّى جعل أبوسفيان والمشركون يستغيثون. الحديث.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدّىّ رضى الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم فلمّا قدم إلى مكّة سمع كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلّا أساطير الأوّلين.

أقول: وهناك بعض روايات اُخر في أنّ القائل بهذا القول كان هو النضر بن الحارث وقد قتل يوم بدر صبراً.

وفيه أخرج البخاريّ وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن مردويه والبيهقيّ في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبوجهل بن هشام: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) .

أقول: وروى القمّىّ هذا المعنى في تفسيره وروى السيوطيّ أيضاً في الدرّ المنثور عن ابن جرير الطبريّ وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وعن ابن جرير عن عطاء: أنّ القائل:( اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك ) الآية النضر بن الحارث وقد تقدّم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الآية.

وفيه أخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمّـد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمّـد أكرمه الله من بيننا؟ اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللّهمّ فأنزل الله: وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون - إلى قوله - لا يعلمون.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن ابن أبزى رضي الله عنه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة فأنزل الله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فأنزل الله:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) فلمّا خرجوا أنزل الله:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله ) الآية فأذن في فتح مكّة فهو العذاب الّذى وعدهم.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبوالشيخ عن

٨٤

عطيّـة رضي الله عنه في قوله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) يعنى المشركين حتّى يخرجك منهم( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) قال: يعنى المؤمنين: ثمّ أعاد المشركين فقال:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ) .

وفيه أخرج ابن أبى حاتم عن السدّىّ رضي الله عنه في قوله:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) يقول: لو استغفروا وأقرّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ) يقول: وكيف لا اُعذّبهم وهم لا يستغفرون.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبوالشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) قال: بين أظهرهم( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) قال: يسلمون.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبى مالك رضي الله عنه( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) يعنى أهل مكّة( وما كان الله معذّبهم ) وفيهم المؤمنون يستغفرون.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن عكرمة والحسن رضى الله عنهما في قوله:( وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) قالا: نسختها الآية الّتى تليها:( وما لهم أن لا يعذّبهم الله ) فقوتلوا بمكّة فأصابهم فيها الجوع والحصر.

أقول: عدم انطباقها على الآية بظاهرها المؤيّد بسياقها ظاهر، وإنّما دعاهم إلى هذه التكلّفات الاحتفاظ باتّصال الآية في التأليف بما قبلها وما قبلها من الآيات المتعرّضة لحال مشركي اهل مكّة، ومن عجيب ما فيها تفسير العذاب في الآية بفتح مكّة، ولم يكن إلّا رحمة للمشركين والمؤمنين جميعاً.

وفيه أخرج الترمذيّ عن أبى موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنزل الله علىّ أمانين لاُمّـتي( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.

أقول: مضمون الرواية مستفاد من الآية، وقد روى ما في معناها عن أبى هريرة وابن عبّـاس عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورواها في نهج البلاغة عن علىّعليه‌السلام .

٨٥

وفي ذيل هذه الرواية شئ، وهو أنّه لا يلائم ما مرّ في البيان المتقدّم من إيعاد القرآن هذه الاُمّـة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، ولازمه أن يرتفع الاستغفار من بينهم قبل يوم القيامة.

وفيه أخرج أحمد عن فضالة بن عبيد رضى الله عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال العبد آمنٌ من عذاب الله ما استغفر الله.

وفي الكافي عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقامي بين أظهركم خير لكم فإنّ الله يقول:( وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ) ، ومفارقتي إيّـاكم خير لكم. فقالوا: يا رسول الله مقامك: بين أظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خيراً لنا؟ فقال: أما مفارقتي إيّـاكم خير لكم فإنّ أعمالكم تعرّض علىّ كلّ خميس واثنين فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيّـئة أستغفر الله لكم.

أقول: وروى هذا المعنى العيّـاشيّ في تفسيره والشيخ في أماليه عن حنان بن سدير عن أبيه عنهعليه‌السلام ، وفي روايتهما أنّ السائل هو جابر بن عبدالله الأنصاريّ رضي الله عنه ، ورواه أيضاً في الكافي بإسناده عن محمّـد بن أبى حمزة وغير واحد عن أبى عبداللهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: كانت قريش تعارض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطواف يستهزئون ويصفّرون ويصفّقون فنزلت:( وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية ) .

وفيه أخرج أبوالشيخ عن نبيط وكان من الصحابة رضي الله عنه في قوله:( وما كان صلاتهم عند البيت ) الآية قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفّرون.

وفيه أخرج الطستىّ عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما: أنّ نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عزّوجلّ:( إلّا مكاء وتصدية ) قال: المكاء صوت القنبرة، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكّة كان يصلّى قائماً بين الحجر والركن اليمانيّ فيجئ رجلان من بنى سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكّاء، و

٨٦

الآخر يصفّق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته.

وفي تفسير العيّـاشيّ عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ عمّن ذكره عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه ) يعنى أولياء البيت يعنى المشركين( إن أولياؤه إلّا المتّقون ) حيث ما كانوا هم أولى به من المشركين( وما كان صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية ) قال: التصفير والتصفيق.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقيّ في الدلائل كلّهم من طريقه(١) قال: حدّثنى الزهريّ ومحمّـد بن يحيى بن حيّـان وعاصم ابن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمان بن عمر قال: لمّا اُصيبت قريش يوم بدر ورجع فلّهم إلى مكّة ورجع أبوسفيان بعيره مشى عبدالله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن اُميّـة في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش إنّ محمّـداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلّنا أن ندرك منه ثاراً ففعلوا ففيهم كما ذكر عن ابن عبّـاس أنزل الله:( إنّ الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله - إلى قوله -والّذين كفروا إلى جهنّم يحشرون ) .

وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس رضى الله عنهما في قوله:( إن الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ) قال نزلت في أبى سفيان بن حرب.

وفيه أخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم وأبوالشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله:( إنّ الّذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله ) الآية قال: نزلت في أبى سفيان بن حرب استأجر يوم اُحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانه يقاتل بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى من استجاش من العرب فأنزل الله فيه هذه الآية.

وهم الّذين قال فيهم كعب بن مالك رضى الله عنه:

وجئنا إلى موج من البحر وسطه

أحابيش منهم حاسر ومقنّع

ثـلاثـة آلاف و نحـن نـصيةٌ

ثلاث مئين إن كثرن فأربع

____________________

(١) يعني طريق محمّـد بن إسحاق.

٨٧

أقول: ورواه ملخّصاً عن ابن إسحاق وابن أبى حاتم عن عبّـاد بن عبدالله بن الزبير.

وفى المجمع في قوله تعالى:( وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله ) الآية، قال: روى زرارة وغيره عن أبى عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: لم يجئ تأويل هذه الآية ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية وليبلغنّ دين محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بلغ اللّيل حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض.

أقول: ورواه العيّـاشيّ في تفسيره عن زراره عنهعليه‌السلام ، وفي معناه ما في الكافي بإسناده عن محمّـد بن مسلم عن أبى جعفرعليه‌السلام ، وروى هذا المعنى أيضاً العيّـاشيّ عن عبد الأعلى الحلبيّ عن أبى جعفرعليه‌السلام في رواية طويلة.

وقد تقدّم حديث إبراهيم اللّيثىّ في تفسير قوله:( ليميز الله الخبيث من الطيّـب ) الآية مع بعض ما يتعلّق به من الكلام في ذيل قوله:( كما بدأكم تعودون ) الاعراف: ٢٩ في الجزء الثامن من الكتاب.

٨٨

( سورة الانفال آيه ٤١ - ٥٤)

وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى‏ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أَنْتُم بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى‏ وَالرّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلكِن لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٤٤ ) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ٤٥ ) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَتَنَازَعُوافَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ ( ٤٦ ) وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ٤٧ ) وَإِذْ زَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِي‏ءٌ مِنكُمْ إِنّي أَرَى‏ مَالاَتَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤٨ ) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ غَرّ هؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٩ ) وَلَوْ تَرَى‏ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ

٨٩

يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ( ٥١ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنّ اللّهَ قَوِيّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٥٢ ) ذلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى‏ قَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَابِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُوا بِآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلّ كَانُوا ظَالِمِينَ ( ٥٤ )

( بيان)

تشتمل الآيات على الأمر بتخميس الغنائم و بالثبات عند اللّقاء وتذكّرهم، وتقصّ عليهم بعض ما نكب الله به أعداء الدين وأخزاهم بالمكر الإلهىّ، وأجرى فيهم سنّة آل فرعون ومن قبلهم من المكذّبين لآيات الله الصادّين عن سبيله.

قوله تعالى: ( واعلموا أنّما غنمتم من شئ فأنّ لله خمسه وللرسول ) إلى آخر الآية. الغنم والغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب وينطبق بحسب مورد نزول الآية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: ومن البقر والغنم ما حرّمنا عليهم شحومهما، والغنم - بالضمّ فالسكون - إصابته والظفر به ثمّ استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال: واعلموا أنّما غنمتم من شئ، فكلوا ممّا غنمتم حلالاً طيّـباً. والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى.

وذو القربى القريب والمراد به قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو خصوص أشخاص منهم على ما يفسره الآثار القطعيّـة، واليتيم هو الإنسان الّذى مات أبوه وهو صغير، قالوا: كلّ حيوان يتيم من قبل اُمّـه إلّا الإنسان فإنّ يتمه من قبل أبيه.

وقوله:( فأنّ لله خمسه ) الخ قرئ بفتح أنّ، ويمكن أن يكون بتقدير

٩٠

حرف الجرّ والتقدير: واعلموا أنّ ما غنمتم من شئ فعلى أنّ لله خمسه أي هو واقع على هذا الأساس محكوم به، ويمكن أن يكون بالعطف على أنّ الاُولى، وحذف خبر الاُولى لدلالة الكلام عليه، والتقدير: اعلموا أنّ ما غنمتم من شئ يجب قسمته فاعلموا أنّ خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فإنّ مآل المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئاً فخمسه لله الخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، وكرّر أنّ للتأكيد، والأصل: اعلموا أنّ ما غنمتم من شئ أنّ خمسه لله الخ، والأصل الّذى تعلّق به العلم هو: ما غنمتم من شئ خمسه لله وللرسول الخ، وقد قدّم لفظ الجلالة للتعظيم.

وقوله:( إن كنتم آمنتم بالله ) الخ قيد للأمر الّذى يدلّ عليه صدر الآية أي أدّوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا، وربّما قيل: إنّه متّصل بقوله تعالى في الآية السابقة:( فاعلموا أنّ الله مولاكم ) هذا والسياق الّذى يتمّ بحيلولة قوله:( واعلموا أنّما غنمتم من شئ ) الخ لا يلائم ذلك.

وقوله تعالى:( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ) الظاهر أنّ المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإنزال، ولو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الأنسب أوّلاً: أن يقال: ومن أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدّى هذا المعنى وثانياً: أن يقال: عليكم لا على عبدنا فإنّ الملائكة كما اُنزلت لنصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدلّ عليه قوله:( فاستجاب لكم أنّى ممدّكم بألف من الملائكة مردفين ) الأنفال: ٩. وقوله بعد ذلك:( إذ يوحى ربّك إلى الملائكة أنّى معكم فثبّـتوا الّذين آمنوا ) الخ الأنفال: ١٢. ونظيرهما قوله:( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكين منزلين بلى إن تصبروا وتتّقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربّـكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ) آل عمران: ١٢٥.

وفي الالتفات من الغيبة إلى التكلّم في قوله:( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا ) من بسط اللطف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واصطفائه بالقرب ما لا يخفى.

ويظهر بالتأمّل فيما قدّمناه من البحث في قوله تعالى في أوّل السورة:( يسألونك

٩١

عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) الآية أنّ المراد بقوله:( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ) هو قوله تبارك وتعالى:( فكلوا ممّا غنمتم حلالاً طيّـباً ) بما يحتفّ به من الآيات.

والمراد بقوله:( يوم الفرقان ) يوم بدر كما يشهد به قوله بعده:( يوم التقى الجمعان ) فإنّ يوم بدر هو اليوم الّذى فرّق الله فيه بين الحقّ والباطل فأحقّ الحقّ بنصرته، وأبطل الباطل بخذلانه.

وقوله تعالى:( والله على كلّ شئ قدير ) بمنزلة التعليل لقوله:( يوم الفرقان ) بما يدلّ عليه من تمييزه تعالى بين الحقّ والباطل كأنّه قيل: والله على كلّ شئ قدير فهو قادر أن يفرّق بين الحقّ والباطل بما فرّق.

فمعنى الآية - والله أعلم - واعلموا أنّ خمس ما غنمتم أيّ شئ كان هو لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فردّوه إلى أهله إن كنتم آمنتم بالله وما أنزله على عبده محمّـدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر، وهو أنّ الأنفال وغنائم الحرب لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها أحد، وقد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها وأباح لكم التصرّف فيها فالّذي أباح لكم التصرّف فيها يأمركم أن تؤدّوا خمسها إلى أهله.

وظاهر الآية أنّها مشتملة على تشريع مؤبّد كما هو ظاهر التشريعات القرآنيّـة، وأنّ الحكم متعلّق بما يسمّى غنماً وغنيمة سواء كان غنيمة حربيّـة مأخوذة من الكفّـار أو غيرها ممّا يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من الكنوز والمعادن، وإن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصّص.

وكذا ظاهر ما عدّ من موارد الصرف بقوله:( لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، وأنّ لكلّ منهم سهماً بمعنى استقلاله في أخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غيرأن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل.

٩٢

فهذا كلّه ممّا لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، وعليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمّـة أهل البيتعليهم‌السلام وقد اختلفت كلمات المفسّرين من أهل السنّة في تفسير الآية وسنتعرّض لها في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولاً ) العدوة بالضمّ وقد يكسر شفير الوادي، والدنيا مؤنّث أدنى كما أنّ القصوى وقد يقال: القصيا مؤنّث أقصى والركب كما قيل هو العير الّذى كان عليه أبوسفيان بن حرب.

والظرف في قوله:( إذ أنتم بالعدوة ) بيان ثان لقوله في الآية السابقة:( يوم الفرقان ) كما أنّ قوله:( يوم التقى الجمعان ) بيان أوّل له متعلّق بقوله:( أنزلنا على عبدنا ) وأمّا ما يظهر من بعضهم إنّه بيان لقوله:( والله على كلّ شئ قدير ) بما يفيده بحسب المورد، والمعنى: والله قدير على نصركم وأنتم أذلّة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب، فلا يخفى بعده ووجه التكلّف فيه.

وقوله تعالى:( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) ، سياق ما تقدّمه من الجمل الكاشفة عن تلاقى الجيشين، وكون الركب أسفل منهم، وأنّ الله بقدرته الّتى قهرت كلّ شئ فرّق بين الحقّ والباطل، وأيّد الحقّ على الباطل، وكذا قوله بعد:( ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولاً ) كلّ ذلك يشهد على أنّ المراد بقوله:( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) بيان أنّ التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلّا بمشيّـة خاصّـة من الله سبحانه حيث نزل المشركون وهم ذووا عدّة وشدّة بالعدوة القصوى وفيها الماء والأرض الصلبه، والمؤمنون على قلّة عددهم وهوان أمرهم بالعدوة الدنيا ولا ماء فيها والأرض رمليّـة لا تثبت تحت أقدامهم، وتخلّص العير منهم إذ ضرب أبوسفيان في الساحل أسفل، وتلاقي الفريقان لا حاجز بينهما ولا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقى والمواجهة على هذا الوجه ثمّ ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن أسباب عاديّـة بل لمشيّـة خاصّـة إلهيّـة ظهرت بها قدرته وبانت بها عنايته الخاصّـة ونصره وتأييده للمؤمنين.

فقوله:( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) بيان أنّ هذا التلاقي لم يكن عن سابق

٩٣

قصد وعزيمة، ولا روية أو مشورة، ولهذا المعنى عقّبه بقوله:( ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولاً ) بما فيه من الاستدراك.

وقوله:( ليهلك من هلك عن بيّـنة ويحيى من حىّ عن بيّـنة ) لتعليل ما قضى به من الأمر المفعول أي إنّ الله إنّما قضى هذا الّذى جرى بينكم من التلاقي والمواجهة ثمّ تأييد المؤمنين وخذلان المشركين ليكون ذلك بيّـنة ظاهرة على حقّـيّـة الحقّ وبطلان الباطل فيهلك من هلك عن بيّـنة ويحيى من حىّ عن بيّـنة.

وبذلك يظهر أنّ المراد بالهلاكة والحياة هو الهدى والضلال لأنّ ذلك هو الّذى يرتبط به وجود الآية البيّـنة ظاهراً.

وكذا قوله:( وأنّ الله لسميع عليم ) عطف على قوله:( ليهلك من هلك عن بيّـنة ) الخ، أي و إنّ الله إنّما قضى ما قضى وفعل ما فعل لأنّه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، وفيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الآيات:( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم ) إلى آخر الآيات.

وعلى هذا السياق - أي لبيان أنّ مرجع الأمر في هذه الواقعة هو القضاء الخاصّ الإلهىّ دون الاسباب العاديّـة - سيق قوله تعالى بعد:( إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ) الخ، وقوله:( وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم ) الخ، وقوله:( إذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ) الخ.

ومعنى الآية يوم الفرقان هو الوقت الّذى أنتم نزول بالعدوه الدنيا وهم نزول بالعدوة القصوى، وقد توافق نزولكم بها ونزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم أن تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه ولم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم ولا منهم ولكنّ ذلك كان أمراً مفعولاً والله قاضيه وحاكمه، وإنّما قضى ما قضى ليظهر آية بيّـنة فتتمّ بذلك الحجّـة، ولأنّه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم وعلم به من حاجة قلوبكم.

قوله تعالى: ( إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ) إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، والتنازع هو الاختلاف وهو من النزع نوع من القلع كأنّ المتنازعين ينزع

٩٤

كلّ منهما الآخر عمّا هو فيه، والتسليم هو النتيجة.

والكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتاً يريكهم الله في منامك قليلاً، وإنّما أراكهم قليلاً ليربط بذلك قلوبكم وتطمئنّ نفوسكم ولو أراكهم كثيراً ثمّ ذكرتها للمؤمنين أفزعكم الضعف واختلفتم في أمر الخروج إليهم ولكنّه تعالى نجّـاكم بإراءتهم قليلاً عن الفشل والتنازع إنّه عليم بذات الصدور وهى القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها وارتباطها وقوّتها.

والآية تدلّ على أنّ الله سبحانه أرى نبيّـهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا مبشّرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين أنّها لهم، وقد أراهم قليلاً لا يعبأ بشأنّهم، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر ما رآه للمؤمنين ووعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم. والدليل على ذلك قوله:( ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ) الخ وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقلّلكم في أعينهم ) إلى آخر الآية. معنى الآية ظاهر، ولا تنافى بين هذه الآية وقوله تعالى:( قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله واُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيّد بنصره من يشاء ) آل عمران: ١٣ بناءً على أنّ الآية تشير إلى وقعة بدر.

وذلك أنّ التقليل الّذى يشير إليه في الآية المبحوث عنها مقيّـد بقوله:( إذ التقيتم ) وبذلك يرتفع التنافى كأنّ الله سبحانه أرى المؤمنين قليلاً في أعين المشركين في بادئ الالتقاء ليستحقروا جمعهم ويشجّـعهم ذلك على القتال والنزال حتّى إذا زحفوا واختلطوا، كثّر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأى العين فأوهن بذلك عزمهم وأطار قلوبهم فكانت الهزيمة فآية الأنفال تشير إلى أوّل الوقعة، وآية آل عمران إلى ما بعد الزحف والاختلاط وقوله:( ليقضى الله أمراً كان مفعولاً ) متعلّق بقوله:( يريكموهم ) تعليل لمضمونه.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون ) إلى آخر الآيات الثلاث.قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح الثاء - ضدّ الزوال انتهى فهو في المورد ضدّ الفرار من العدوّ، وهو بحسب ما له من المعنى أعمّ من الصبر الّذى يأمر به في قوله:( واصبروا إنّ الله مع الصابرين ) فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب

٩٥

بأن لا يضعف ولا يفزع ولا يجزع، وبالبدن بأن لا يتكاسل ولا يتساهل ولا يزول عن مكانه ولا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاصّ.

والريح على ما قيل: العزّ والدولة، وقد ذكر الراغب: أنّ الريح في الآية بمعنى الغلبة استعارة كأنّ من شأن الريح أن تحرّك ما هبّت عليه وتقلعه وتذهب به، والغلبة على العدوّ يفعل به ما تفعله الريح بالشئ كالتراب فاستعيرت لها.

وقال الراغب: البطر دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلّة القيام بحقّها وصرفها إلى غير وجهها قال عزّوجلّ:( بطراً ورئاء الناس ) وقال:( بطرت معيشتها ) وأصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل ونصب، ويقارب البطر الطرب، وهو خفّـة أكثر ما يعترى من الفرح وقد يقال ذلك في الترح، والبيطرة معالجة الدابّـة. انتهى. والرئاء المراءاة.

وقوله:( فاثبتوا ) أمر بمطلق الثبوت أمام العدوّ، وعدم الفرار منه فلا يتكرّر بالأمر ثانياً بالصبر كما تقدّمت الإشاره إليه.

وقوله:( واذكروا الله كثيراً ) أي في جنانكم ولسانكم فكلّ ذلك ذكر، ومن المعلوم أنّ الأحوال القلبيّـة الباطنة من الإنسان هي الّتى تميّـز مقاصده وتشخّصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره وهو يقول: يا غنىّ والمريض المستغيث به من مرضه وهو يقول: يا شافي ولو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غنىّ ويا شافي لأنّهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة والدعوة لا يريدان إلّا ذلك كما هو ظاهر.

والّذى يخرج إلى قتال عدوّه، ثمّ لقيه واستعدّ الظرف للقتال، وليس فيه إلّا زهاق النفوس، وسفك الدماء ونقص الأطراف وكلّ ما يهدّد الإنسان بالفناء في ما يحبّـه فإنّ حاله يحوّل فكرته ويصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، والغلبة على العدوّ الّذى يهدّده بالفناء، والّذى حاله هذا الحال وتفكيره هذا التفكير إنّما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله وتنصرف إليه فكرته.

وهذا أقوى قرينة على أنّ المراد بذكر الله كثيراً أن يذكر المؤمن ما علّمه تعالى من

٩٦

المعارف المرتبطة بهذا الشأن وهو أنّه تعالى إلهه وربّه الّذى بيده الموت والحياة وهو على نصره لقدير، وأنّه هو مولاه نعم المولى ونعم النصير، وقد وعده النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبّـت أقدامكم، وأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأنّ مآل أمره في قتاله إلى إحدى الحسنيين إمّـا الظفر على عدوّه ورفع راية الإسلام وإخلاص الجوّ لسعادته الدينيّـة، وإمّا القتل في سبيل الله والانتقال بالشهادة إلى رحمته، والدخول في حظيرة كرامته، ومجاورة المقرّبين من أوليائه، وما في هذا الصفّ من المعارف الحقيقيّـة الّتى تدعو إلى السعادة الواقعيّـة والكرامة السرمديّـة.

وقد قيّـد الذكر بالكثير لتتجدّد به روح التقوى كلّما لاح للإنسان ما يصرف نفسه إلى حبّ الحياة الفانية والتمتّع بزخارف الدنيا الغارّة والخطورات النفسانيّـة الّتى يلقيها الشيطان بتسويله.

وقوله:( وأطيعوا الله ورسوله ) ظاهر السياق أنّ المراد بها إطاعة ما صدر من ناحيته تعالى وناحية رسوله من التكاليف والدساتير المتعلّقة بالجهاد والدفاع عن حومة الدين وبيضة الإسلام ممّا تشتمل عليه آيات الجهاد والسنّة النبويّـة كالابتداء بإتمام الحجّـة وعدم التعرّض للنساء والذراري والكفّ عن تبييت العدوّ وغير ذلك من أحكام الجهاد.

وقوله:( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) أي ولا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتّى يورث ذلكم ضعف إرادتكم وذهاب عزّتكم ودولتكم أو غلبتكم فإنّ اختلاف الآراء يخلّ بالوحدة ويوهن القوّة.

وقوله:( واصبروا إنّ الله مع الصابرين ) أي الزموا الصبر على ما يصيبكم من مكاره القتال ممّا يهدّدكم به العدوّ، وعلى الإكثار من ذكر الله، وعلى طاعة الله ورسوله من غير أن يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذّة المعصية أو يضلّكم عجب النفس وخيلاؤها.

وقد أكّد الأمر بالصبر بقوله:( إنّ الله مع الصابرين ) لأنّ الصبر أقوى عون على الشدائد وأشدّ ركن تجاه التلوّن في العزم وسرعة التحوّل في الإرادة، وهو الّذى يخلّى بين الإنسان وبين التفكير الصحيح المطمئنّ حيث يهجم عليه الخواطر المشوّشة والأفكار الموهنة لإرادته عند الأهوال والمصائب من كلّ جانب فالله سبحانه مع الصابرين.

٩٧

وقوله:( ولا تكونوا كالّذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ) الآية نهى عن اتّخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادّين عن سبيل الله، وهم على ما يفيده سياق الكلام في الآيات، كفّـار قريش، وما ذكره من أوصافهم أعنى البطر ورئاء الناس والصدّ عن سبيل الله هو الّذى أوجب النهى عن التشبّـه بهم واتّخاذ طريقتهم بدلالة السياق، وقوله:( والله بما يعملون محيط ) ينبئ عن إحاطته تعالى بأعمالهم وسلطنته عليها وملكه لها، ومن المعلوم أنّ لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشيّـة بإذنه ومشيّـته وما هذا شأنه لا يكون ممّا يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عمّا يصرّح به بعد عدّة آيات بقوله:( ولا يحسبنّ الّذين كفروا سبقوا إنّهم لا يعجزون ) الأنفال: ٥٩.

وظاهر أنّ أخذ هذه القيود أعنى قوله:( بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله ) يوجب تعلّق النهى بها والتقدير: ولا تخرجوا من دياركم إلى قتل أعداء الدين بطرين ومرائين بالتجمّـلات الدنيويّـة، وصدّ الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم وأفعالكم إلى ترك تقوى الله والتوغّـل في معاصيه والانخلاع عن طاعة أوامره ودساتيره فإنّ ذلك يحبط أعمالكم ويطفئ نور الإيمان ويبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي والفوز بالمقاصد الهامّـة إلّا سوىّ الصراط الّذى يمهّـده الدين القويم وتسهّـله الملّة الفطريّـة والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.

وقد اشتملت الآيات الثلاث على اُمور ستّة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الإسلاميّـة عند اللقاء وهى الثبات، وذكر الله كثيراً، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، وأن لا يخرجوا بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله.

ومجموع الاُمور الستّة دستور حربىّ جامع لا يفقد من مهامّ الدستورات الحربيّـة شيئاً، والتأمّل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلاميّـة الواقعة في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبدر واُحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أنّ الأمر في الغلبة والهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين موادّ هذا الدستور الإلهىّ وعدم رعايتها، والمراقبة لها والمساهلة فيها.

قوله تعالى: ( وإذ زيّـن لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم ) إلى آخر

٩٨

الآية، تزيين الشيطان للإنسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسناً جميلاً يستلذّ به وذلك بتهييج قواه الباطنة وعواطفه الداخلة المتعلّقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، ولا يجد فراغاً يعقل ما له من سوء الأثر و شؤم العاقبة.

وليس من البعيد أن يكون قوله:( وقال لا غالب لكم اليوم ) الآية مفسّراً أو بمنزلة المفسّر للتزيين الشيطانيّ على أن يكون المراد بالأعمال نتائجها وهى ما هيّـؤوه من قوّة وسلاح وعدّة وما أخرجوه من القيان والمعازف والخمور، وما تظاهروا به من نظام الجيش والجنائب تساق بين أيديهم، ويمكن أن يكون المراد بها نفس الأعمال وهى أنواع تماديهم في الغىّ والضلال وإصرارهم في محادّة الله ورسوله، واسترسالهم في الظلم والفسق فيكون قوله المحكى:( لا غالب لكم اليوم من الناس ) ممّا يتمّ به تزيين الشيطان، وتطيب به نفوسهم فيما اهتمّوا به من قتال المسلمين، وقد أكمل ذلك بقوله:( وإنّى جار لكم ) .

والجوار من سنن العرب في الجاهليّـة الّتى كانت تعيش عيشة القبائل، ومن حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدوّ، وله آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الإنسانيّـة.

وقوله:( فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه ) النكوص الإحجام عن الشئ و( على عقبيه ) حال والعقب مؤخّر القدم أي أحجم وقد رجع القهقرى منهزماً وراءه.

وقوله:( إنّى أرى ما لا ترون ) الآية تعليل لقوله:( إنّى برئ منكم ) ولعلّه إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الّذين نصر الله المسلمين بهم، وكذا قوله:( إنّى أخاف الله والله شديد العقاب ) تعليل لقوله:( إنّى برئ منكم ) ومفسّر للتعليل السابق.

والمعنى ويوم الفرقان هو الوقت الّذى زيّـن الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله ورسوله وقتال المؤمنين، ويتلبّـسون به للتهيّـئ على إطفاء نور الله، فزيّـن ذلك في أنظارهم، وطيّـب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنّى مجير لكم أذبّ عنكم فلمّا تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين والمؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزماً وراءه وقال للمشركين إنّى برئ منكم إنّى أرى ما لا ترونه من نزول

٩٩

ملائكة النصر للمؤمنين وما عندهم من العذاب الّذى يهدّدكم إنّى أخاف عذاب الله والله شديد العقاب.

وهذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم وتهييجهم على المؤمنين وتشجيعهم على قتالهم وتطييب نفوسهم بما استعدّوا به حتّى إذا تراءت الفئتان ونزل النصر واستولى الرعب على قلوبهم انتكست أوهامهم وتبدّلت أفكارهم وعادت مزعمة الغلبة واُمنيّـة الفتح والظفر مخافة مستولية على نفوسهم وخيبة ويأساً شاملة لقلوبهم.

ويقبل الانطباق على تصوّر شيطانيّ يبدو لهم فتنجذب إليه حواسّهم بأن يكون قد تصوّر لهم في صورة إنسان ويقول لهم ما حكاه الله من قوله:( لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّى جار لكم ) فيغويهم ويسيّرهم ويقرّبهم من القتال حتّى إذا تقاربت الفئتان وتراءتا فلمّا تراءت الفئتان ورأى الوضع على خلاف ما كان يؤمّـله ويطمع فيه نكص على عقبيه وقال: إنّى برئ منكم إنّى أرى ما لا ترون من نزول النصر والملائكة إنّى أخاف الله والله شديد العقاب، وقد ورد في روايات القصّة من طرق الشيعه وأهل السنّة ما يؤيّد هذا الوجه.

وهو أنّ الشيطان تصوّر للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكنانىّ ثمّ المدلجىّ وكان من أشراف كنانة وقال لهم ما قال وحمل رايتهم حتّى إذا تلاقى الفريقان فرّ منهزماً وهو يقول:( إنّى برئ منكم إنّى أرى ما لا ترون ) إلى آخر ما حكاه الله تعالى، وستجئ الرواية في البحث الروائيّ التالى إن شاء الله تعالى.

وقد أصرّ بعض المفسّرين على الوجه الأوّل، وردّ الثاني بتزييف الآثار المرويّـة وتضعيف أسناد الأخبار، وهى وإن لم تكن متواترة ولا محفوفة ببعض القرائن القطعيّـة الموجبة للوثوق التامّ لكن أصل المعنى ليس من المستحيل الّذى يدفعه العقل السليم، ولا من اللقصص الّتى تدفعها آثار صحيحة، ولا مانع من أن يتمثّـل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال والغىّ حتّى إذا تمّ له ما أراد تركهم في تهلكتهم أو حتّى شاهد عذاباً إلهيّـاً نكص على عقبيه هارباً.

١٠٠