حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)0%

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 181

  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 27738 / تحميل: 6171
الحجم الحجم الحجم
حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

أمّا تحقيق التّقدّم المادّي وحده مع إهمال العناية بالوضعيّة الأخلاقيّة والمعنويّة للإنسانيّة أو مع التّضحية بها، فإنّه كقصر العناية على الوضعيّة الأخلاقيّة والرّوحية مع إهمال شؤون التّقدّم المادّي، كلاهما لا يمثّلان النّظرة المتوازنة الّتي يجب أنْ تقوم عليها حركة الإنسان التّاريخيّة، وتبنى على هَدْيها مؤسّسات الحضارة. إنّ كلّ واحد من الاتّجاهين يمثّل انحرافاً معيّناً لا يخدم الإنسانيّة ولا يبني الحضارة.

إنّنا - وفقاً لهذه النّظرة المتوازنة - كما نعتبر النقص في إنتاج السّلع والخدمات المادّيّة بدرجة تكفي أكبر عدد من الناس وتحقّق لهم الرّفاهيّة واللّذة، كما نعتبر هذا النقص وما يتّصل به تخلّفاً، كذلك نعتبر من أسوأ مظاهر التّخلّف:

- تزايد الجرائم في المجتمع بشتّى أنواعها.

- وتصدّع الأسرة.

- وجفاف العلاقات الإنسانيّة النّظيفة.

- ونموّ روح الحرب والعدوان داخل المجتمعات وبين الجماعات القوميّة والوطنيّة.

وهو أنّ الحياة البشريّة عندما تكون خارج الإطار القومي والعنصري للمُعْتدي وغير ذلك من مظاهر فساد الوضعيّة الأخلاقيّة للإنسان، فرداً وجماعة ومجتمعاً ودولةً.

ووفقاً لهذه النّظرة المتوازنة يكون من الخطأ تقسيم عالَم اليوم إلى عالَم متقدّم وعالم متخلّف.

إنّ عالم اليوم كلَّه - وفقاً لهذه النّظرة - متخلّف، فإنّه إِذا كان العالَم الثالث متخلّفاً على مستوى المادّة وأساليب التّنظيم والإدارة، فإنّ العالم الآخر متخلّف من حيث الوضعيّة الأخلاقيّة والعلاقات الإنسانيّة والصّفات الإنسانيّة في أفراده وجماعاته ومجتمعاته.

وسنرى خلال هذا البحث: أنّ منطلق أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) في فهمه للتّاريخ وحركة الإنسان في الحاضر نحو المستقبل هو هذه النّظرة المتوازنة الّتي اشتمل عليها الإسلام، وعبّر عنها القرآن الكريم، والسّنّة الشّريفة، والفقه المستمدّ منهما المبني عليهما.

٢١

الإمام في مواجهة التاريخ

٢٢

الإمام في مواجهة التّاريخ

كان أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) كما يخبرنا هو، وكما سنرى خلال هذه الدراسة يوجّه عنايةً فائقة إلى التاريخ، عناية جعلتْ من التاريخ عنصراً بارزاً فيما وصل إِلينا من كلامه في مختلف الموضوعات الّتي كانت تُثير اهتمامه.

* وعناية الإمام بالتاريخ:

- ليست عناية القاصّ والباحث عن القصص.

- كما أنّها ليست عناية السياسي الباحث عن الحِيَل السياسيّة وأساليب التمويه الّتي يعالج بها تذمّر الشعب.

- وإنّما هي عناية رجل الرسالة والعقيدة، والقائد الحضاري والمفكِّر المستقبلي.

إِنّ القاصّ يبحث ليجد في تاريخ الماضين وآثارهم مادّة للتّسلية والإثارة. والسياسي يبحث ليجد في التاريخ أساليب يستعين بها في عمله السياسي اليومي في مواجهة المآزق، أو يستعين بها في وضع الخطط الآنيّة المحدودة (1) .

والمؤرّخ يقدم لهذا وذاك المادّة التاريخيّة الّتي يجدان فيها حاجتهما.

أمّا الرائد الحضاري، رجل الرسالة والعقيدة ورجل الدولة فهو يبحث ليجد في

____________________

1 - قال المسعودي في تقريره عن النشاط اليومي لمعاوية بن أبي سفيان:

(... ويستمرّ إلى ثلث اللّيل في أخبار العرب وأيّامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيّتها، وسير ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وسياستها لرعيّتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة... ثمّ يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتّبون وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها، فتمرّ بسمعه كلّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسِيَر والآثار وأنواع السّياسات...) مروج (بتحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد) / مطبعة السّعادة / الطّبعة الثّانية (1367هجري / 1948م) الجزء الثّالث / ص 40.

٢٣

التاريخ جذور المشكل الإنساني، ويتقصّى جهود الإنسانيّة الدائبة؛ في سبيل حلّ هذا المشكل بنحو يعزّز قدرة الإنسان على التكامل الروحي - المادّي، كما يعزّز قدرته على تأمين قدر ما من السعادة مع الحفاظ على الطهارة الإنسانيّة.

وقد كان الإمامُ عليّ يتعامل مع التاريخ بهذه الروح ومن خلال هذه النظرة، ومن ثمّ فلم يتوقّف عند جزئيّات الوقائع إلاّ بمقدار ما تكون شواهد ورموزاً، وإِنّما تناول المسألة التاريخيّة بنظرة كلّيّة شاملة، ومن هنا فقلّما نرى الإمام في خطبه وكتبه يتحدّث عن وقائع وحوادث جزئيّة، وإِنّما يغلب على تناوله للمسألة التاريخيّة طابع الشمول والعموميّة.

والإمام ليس مؤرِّخاً؛ ولذا فليس من المتوقَّع أنْ نجد عنده نظرة المؤرِّخ وأسلوبه في سرد الوقائع وتحليلها والحكم عليها، وإنّما هو رجل دولةٍ حاكمٌ، ورجل عقيدة ورسالة فيها كلّ حياته، فهو يتعامل مع التاريخ باعتباره حركة تكوِّن شخصيّة الإنسان الحاضرة والمستقبلة؛ ولذا فهي تشغل حيّزاً هامّاً وعلى درجة كبيرة من الخطورة في عمليّة التربيّة والتحرّك السياسي، وهذا ما يجعل رجل رسالةٍ وحاكماً كالإمام علي (عليه السلام) حريصاً على أنْ يَدخل في وعي أمّته، الّتي يحمل مسؤوليّة قيادتها ومصيرها إلى التاريخ سليمةً، تجعله قوّة بانية لا مخرّبة ولا محرّفة.

***

ونحن نعرف عناية الإمام عليّ (عليه السلام) الفائقة بالتاريخ واهتمامه البالغ بشأنه من نصّ وَرَدَ في وصيّته الّتي وجّهها إلى ابنه الإمام الحسن (عليه السّلام) كتبها إليه بحاضرين (1) عند انصرافه من صفّين،

قال فيه:

____________________

1 - قال (ابن أبي الحديد) في شرح نهج البلاغة: 16 / 52 - أمّا قوله: (كتبها إليه بحاضرين) فالّذي كنّا نقرؤه قديماً، (كتبها إليه بالحاضِرَينِ) على صيغة التّثنية، يعني: حاضر حلب وحاضر قنسرين، وهي: الأرباض والضواحي المحيطة بهذه البلاد، ثمّ بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام، ولم يفسّروه.

ومنهم: مَن يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التّثنية.

ومنهم من يقول: خناصرين يظنّونه تثنية خناصرة أو جمعها. وقد طلبتُ هذه الكلمة في الكتب المصنّفة سيّما في البلاد والأرضين فلم أجدها، لعلِّي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع.

قال الشيخ (محمّد عبده) في شرحه: حاضرين: اسم بلدة بنواحي صفّين.

٢٤

(أيْ بُنَيَّ إنِّي وَإنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إلَيَّ مَنْ أُمُوِرِهِمْ، قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أوَّلَهَمْ إلى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مَنْ ضَرَرِه).

وكان قبل ذلك قد وجّه الإمام الحسن (عليه السّلام) في هذه الوصيّة إلى تعرّف التاريخ الماضي؛ للعبرة والموعظة، قال:

(أحْيِ قَلْبَكَ بالْمَوعظَةِ وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْماضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا، وَعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلوُّا وَنَزَلُوا. فَإنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلوُّا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَليلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ).

وهذا النص يحملنا على الاعتقاد بأنّ الإمام (عليه السّلام) تحدّث كثيراً عن المسألة التاريخيّة في توجيهاته السياسيّة وتربيته الفكريّة لمجتمعه، ولرجال إدارته، ولخواصّ أصحابه.

ولكنّ النّصوص السياسيّة والفكريّة التي اشتمل عليها نهج البلاغة مِمّا يدخل فيه العنصر التاريخي قليلة جدّاً، وإنْ كانت النصوص الوعظيّة الّتي بُنِيَتْ على الملاحظة التاريخيّة كثيرة نسبيّاً.

ولا نستطيع أنْ نفسّر نقص النصوص السياسيّة والفكريّة - التاريخيّة إلاّ بضياع هذه النصوص؛ لنسيان الرّواة أو لإهمال الشّريف الرضي لِمَا وصل إليه منها؛ لأنّه جعل منهجه في تأليف كتاب نهج البلاغة: (اختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثمّ محاسن الحِكَم والأدب) (1) . وقد أدّى هذا المنهج بطبيعة الحال إلى إهمال الكثير من النّصوص السياسيّة والفكريّة؛ لأنّه لم يكن في الذّروة من الفصاحة والبلاغة.

ومن المؤكّد أنّ الكثير من كلام أميرِ المؤمنين في هذا الباب وغيرِه لم يصل إلى الشّريف الرضي، كما اعترف هو بذلك في قوله:

(... ولا أدّعي - مع ذلك - أنّي أُحيط بأقطار جميع كلامه (عليه السّلام) حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ، ولا يندّ نادّ، بل لا أبعد أنْ يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ،

____________________

1 - من مقدّمة (الشريف الرضي) ، نهج البلاغة.

٢٥

والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي) (1) .

***

وعلى أيّة حال فإنّ سُؤالاً هامّاً يواجهنا هنا، وهو: مِنْ أين استقى الإمام معرفته التاريخيّة؟

إنّه يقول عن نفسه:

(... نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ...).

فما الوسيلة الّتي توصّل بِها إلى معرفة أعمالهم لينظر فيها هو، كيف تسنّى له أنْ اطّلع على أخبارهم ليفكّر فيها؟

* نُقدِّرُ أنّ الإمام (عليه السّلام) قد اعتمد في معرفته التاريخيّة على عدّة مصادر:

1 - القرآن الكريم:

يأتي القرآن الكريم في مقدّمة هذه المصادر الّتي استقى منها الإمام معرفته التاريخيّة، وقد اشتمل القرآن على نصوص تاريخيّة كثيرة منبثّة في تضاعيف السّور تضمّنتْ أخبار الأمم القديمة وارتفاع شأنها، وانحطاطها، واندثار كثير منها، وذلك من خلال عرض القرآن الكريم لحركة النّبوُّات في تاريخ البشريّة، وحكايته لكيفيّة استجابات الناس في كلّ أُمّة وجيل لرسالات اللّه تعالى، الّتي بشّر بها الأنبياء سلام اللّه عليهم أجمعين..

وقد كان أميرُ المؤمنين عليّ (عليه السّلام) أفضل الناس - بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) - معرفةً بالقرآن من حيث: الظاهر والباطن، والـمُحْكَم والمتشابَه، والناسخ والمنسوخ، والأهداف والمقاصد والأبعاد الحاضرة والمستقبلة. وغير ذلك من شؤون القرآن.

كانت معرفته بالقرآن شاملة مستوعبة لكلّ ما يتعلّق بالقرآن من قريب أو بعيد. والتأثير القرآني شديد الوضوح في تفكير الإمام التاريخي من حيث المنهج ومن حيث المضمون، كما هو شديد الوضوح في كلّ جوانب تفكيره الأخرى.

وقد حدّث الإمام عن نفسه في هذا الشأن كاشفاً عن أنّه كان يلحّ في مُسَائَلَةٍ

____________________

1- من مقدَمة (الشّريف الرّضي) لنهج البلاغة.

٢٦

لرسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) في شأن القرآن من جميع وجوهه.

قال: (وَاللّه مَا نَزَلَتْ آيَة إلاّ وَقَدْ عَلِمْتُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَأَيْنَ أُنْزِلَتْ. إنّ رَبِّي وَهَبَ لِي قَلْبَاً عَقُولاً وَلِسَاناً سَؤُولاً) (1) .

وشهاداتُ معاصريه له في هذا الشأن كثيرة جدّاً. منها:

ما رُوِي عن عبد اللّه بن مسعود، قال: (إنّ القرآنَ أُنْزِل على سبعةِ أحرُفٍ، مَا منها حرفُ إلاّ له ظَهْر وبطن، وإنّ عليَّ بنَ أبي طالبِ عليه السّلام عنده علم الظاهر والباطن) (2) .

2 - التعليم الخاص:

التعليم الخاص الّذي آثر به رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) عليّاً مصدرٌ آخر من مصادر معرفته التاريخيّة وغيرها.

فقد استفاضتْ الروايات الّتي نقلها المحدّثون، وكُتّاب السيرة، والمؤرِّخون من المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأهوائهم - استفاضت هذه الروايات بل تواترتْ إِجمالاً - بأنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) قد خصّ أميرَ المؤمنين عليّاً بجانبٍ من العلم لم يرَ غيره من أهل بيته وأصحابه أهلاً له.

فمِن ذلك ما قاله عبد اللّه بن عباس: (وَاللّهِ لَقدْ أُعطِيَ عَلَيُّ بن أبِي طَالِب (عليه السلام) تِسْعَةَ أعْشَارِ العلمِ، وَأيمُ اللّهِ لَقدْ شَارَكَكُمْ فِي العُشرِ العَاشِرِ) (3) .

وما رُوِي عن رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله): (عَلِيٌّ عَيبَةُ عِلْمِي) (4) .

وما رواه أنس بن مالك، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللّه عَمَّنْ نَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ قالَ: (عَنْ عَلِيّ وَسَلمَانَ) (5) .

وقال الإمام عليه السّلام: (عَلَّمَني رَسُولُ اللّهِ (صلّى الله عليه وآله) ألْفَ بَابِ مِنَ العِلِم كُلُّ بابٍ يَفتَحُ

____________________

1 - (ابن سعد) : الطبقات الكبرى ج 2 قسم 2 ص 101 والمتّقي الهندي: كنز العمّال 6 / 396 - وقال: أخرجه ابن سعد وابن عساكر، وقالوا: (لِسَاناً طَلِقاً سَؤولاً) و (أبو نعيم) : حُلية الأولياء 1 / 67.

2 - (أبو نعيم) : حلية الأولياء: 1 / 65.

3 - أُسد الغابة 4 / 22 والاستيعاب: 2 / 462.

4 - كنز العمال 6 / 153 وفتح القدير: 4 / 456.

5 - تاريخ بغداد: 4 / 158.

٢٧

ألفَ بابٍ) (1) .

وقد صرّح فيما وصل إِلينا من نصوصِ كلامه في نهج البلاغة بذلك في عدّة مناسبات، فقال:

1 - (... بَلِ انْدَمَجْتُ (2) عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَو بُحْتُ بِهِ لاضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأرشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ (3) الْبِعيدَةِ) (4) .

2 - (وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذَا الْمَقَامِ وَهذَا الْيَوْم...) (5) .

3 - (... لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ (6) عَنْكُمْ غَيْبُهُ إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلى الصُّعُدَاتِ (7) تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ) (8) .

4 - ( يَا أَخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّماَ هُوَ تَعَلُّمُ مِنْ ذِي عِلْمٍ) (9).

وإِذا كانت بعضُ هذه النصوص ظاهرة في العلم بالغيِّبات (علم المستقبل) ، فإنَّ غيرها مطلقٌ يشمل الماضي، وإِذا كان الإمام قد اطّلع من رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) على بعض المعلومات المتعلِّقة بالمستقبل، فمن المرجّح أنّه قد اطّلع منه على علم الماضي.

3 - السّنة النّبويّة:

اشتملت السُنَّة النبويّة على الكثير المتنوّع من المادّة التاريخيّة.

منه ما ورد في تفسير وشرح القرآن الكريم، ومِن ما اشتمل إِجمالاً أو تفصيلاً على حكاية أحداث تاريخيّة لم ترد في القرآن إِشارة إِليها.

____________________

1 - كنز العمال: 6 / 392.

2 - اندمجتُ: انطويتُ، كناية عن معرفته بأمور خاصّة جدّاً.

3 - الأرْشِية: جمع رشاء، الحبل. والطّويّ: جمع طوية وهي البئر.

4 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 5.

5 - نهج البلاغة: الخطبة رقم: 16.

6 - طُوي: حُجب عِلمُه عَنكُمْ.

7 - الصِّعُدات: جمع صَعيد يُريدُ: لَذهبتْ عنكم الدّعةُ والاستقرار في منازِلكم وخرجتُم مِنها قلقينَ على مَصيرِكم.

8 - نهج البلاغة: رقم الخطبة: 116.

9- نهج البلاغة: رقم الخطبة: 128.

٢٨

وقد كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أعلم أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة قاطبة، بما قاله رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) أو فَعَلَهُ وأَقَرَّهُ، فقد عاش علي (عليه السلام) في بيت رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) منذ طفولته، وبُعث الرسولُ (صلّى الله عليه وآله) وعلي عنده، وكان أوّل مَن آمن به، ولم يفارقْه منذ بعثته (صلّى الله عليه وآله) إِلى حين وفاته إِلاّ في تنفيذ المهمّات الّتي كان يكلِّفه بها خارج المدينة، وهي لم تستغرق الكثير من وقته، ومِن هنا: مِن تَفَرُّغِهِ الكامل لتلقِّي التوجيه النبوي، ووَعْيه الكامل لِمَا كان يتلقّاه، كان الإمام أعلم الناس بسنّة رسول اللّه وكتاب اللّه.

4 - القراءة:

فقدّر أنّ الإمام عليّاً قد قَرأَ مدوّنات تاريخية باللّغة العربيّة أو بغيرها من اللّغات الّتي كانت متداولة في المنطقة الّتي شهدت نشاطه، وخاصّةً بعد أنْ انتقل من الحجاز إِلى العراق واضطرّته مشكلات الحكم والفِتن إِلى التنقّل بين العراق وسوريا، وإِنْ كنّا لا نعلم ما إِذا كانت هذه المدوّنات قد دُفعت إِليه صدفة أو أنّه بحث عن كتب كهذه وقرأها أو قرئت له بلغاتها الأصليّة، مع ترجيحنا أنّه (عليه السّلام) كان يعرف اللّغة الأدبيّة الّتي كانت سائدة في المنطقة العراقيّة السّوريّة.

5 - الآثار القديمة:

وربّما كانت الآثار العمرانيّة للأمم القديمة من جملة مصادر المعرفة التاريخيّة عند الإمام (عليه السّلام)، ويعزّز هذا الظن بدرجة كبيرة قوله في النص الآنف الذكر: (وَسِرْتُ في آثَارِهِمْ) ممّا يحمل دلالة واضحة على أنّ مراده الآثار العمرانيّة.

وقد خبر الإمام في حياته أربعة من أقطار الإسلام، هي:

1 - شبه الجزيرة العربيّة.

2 - واليمن.

3 - والعراق.

4 - وسوريا.

ونقدّر أنّه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة في هذه البلاد، وإِذا كان هذا قد حدث - ونحن نرجّح حدوثه - فمِن المؤكّد أنّ الإمام لم يزر هذه الآثار زيارة سائح ينشد التسلية إِلى جانب الثقافة، أو زيارة عالِم آثار يتوقّف عند الجزئيّات، وإنّما زارها زيارة مُعْتَبِر مفكِّر، يكمل معرفته النظريّة بمصائر الشعوب والجماعات بمشاهدة بقايا وأطلال مُدُنها ومؤسّساتها الّتي حلّ بها الخراب بعد أنْ انحطّ بناتها وفقدوا

٢٩

قدرتهم على الاستمرار فاندثروا.

هذه هي، فيما نقدّر، المصادر المعلومة والمظنونة والمحتملة التي استقى منها الإمام علي (عليه السلام) معرفته التاريخيّة.

٣٠

التاريخ عند الإمام (عليه السلام) في المجال الوعظي، وفي المجال السّياسي الفكري

* استخدم الإمام عنصر التّاريخ في مجالَين:

أحدهما: مجال السّياسة والفكر.

وثانيهما: مجال الوعظ.

وهنا يواجهنا سؤال هام:

لماذا يُدخل الإمام عنصر التاريخ في أحاديثه الوعظيّة، أو في أحاديثه وخطبه و كتبه السياسيّة والفكريّة، أو في غير ذلك من مجالات توجيههِ كرجل رسالة وعقيدة وحاكم دولة؟ لماذا التاريخ؟

ونقول في الجواب على هذه المسألة الّتي تثير الشك حول جدوى التاريخ، باعتباره مادّة أساسيّة في البُنْيَة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، أو باعتباره عاملاً مساعداً في الأعمال الفكريّة الّتي تتناسب مع مادّة التاريخ...

نقول في الجواب:

إِنّ الحياة الإنسانية لدى جميع الناس في جميع الأزمان والأوطان واحدة في أصولها العميقة، ومكوّناتها الأساسيّة، وحوافزها، فهي نهر متدفِّق من التجارب والآمال والإنجازات وخيبات الأمل، وهذا ما يجعل الأسئلة الّتي تثيرها مشكلات الحاضر حافزاً نحو استرجاع الماضي، باعتباره عملاً مكمّلاً وضروريّاً في البحث الصحيح الموضوعي عن أجوبة أكثر سداداً وحكمة، تؤدّي إِلى حلول صائبة أو مقاربة للصواب للمشكلات الّتي تواجه الإنسان في حاضره، أجوبة معجونة بالتّجارب الإنسانيّة

٣١

السّابقة.

وقد يثير هذا التحليل حفيظة فريق من أهل الفكر المشتغلين بالسياسة، أو فريق من أهل السياسة يدّعون لأنفسهم صلة بالفكر، يرون - أولئك وهؤلاء - أنّ النزعة التاريخيّة، أو العقليّة التاريخيّة (السلفيّة) تُعيق نموّنا في الحاضر وتقدّمنا في المستقبل؛ لأنّها تشدّنا دائماً إلى الماضي، إلى قِيَمِهِ وتصوّراته. إنّ التاريخ عند هؤلاء مرض يشوّه الحاضر ويقضي على المستقبل.

ولكن هذا الرأي بعيد عن الصّواب.

بطبيعة الحال نحن - في فَهْمنا لدور التاريخ كعامل مكوّن في البنيّة الثقافيّة للإنسان والمجتمع، ومساعد في عمليّات الفكر - لا ندّعي أنّ من الحكمة أنْ يجعل الإنسان نفسه سجين التاريخ، لسنا في فَهْمنا لدور التاريخ مع غلاة النزعة التاريخيّة الّذين يَرَون أنّ التاريخ هو الحقيقة كلّها، لا مرحلة من مراحل نمو الحقيقة التجريبية فقط. فهذا الموقف الفكري يتّسم بالغلوّ والشَطَط.

ولكن ليس من الحكمة أيضاً أنْ يواجه الإنسان حاضره ويتّجه نحو مستقبله وهو بلا جذور، إنّه حين لا يستشعر تاريخه الخاص بأمّته أو تاريخ الإنسانيّة يفقد القدرة على الرؤية الصحيحة، ويفقد القدرة على تقويم المواقف الّتي تواجهه في خاطره تقويماً سليماً، سواء في ذلك ما يتعلّق منها بالحاضر نفسه أو ما يتعلّق منها بالمستقبل، إنّه في هذه الحالة يتحرّك في الفراغ.

لهذا وذاك نرى أنَّ الاستخدام المُتّزِن للتاريخ، الاستخدام المُتّسم بالحكمة والاعتدال يجعلنا أقدر على التحرّك في حاضرنا وأكثر شعوراً بخطورة قراراتنا فيما يتعلّق بشؤون المستقبل؛ لأنّ التاريخ في هذه الحالة يُعمّق حِسَّنا الأخلاقي حين اتخاذنا قرارات مستقبليّة تمسّ نتائجها حياةَ أجيال، نصنع بهذه القرارات - المستقبليّة بالنسبة إلينا - حاضرها هي، الّذي هو مستقبلنا المظنون الّذي قد لا نشاركها فيه؛ لأنّنا نكون حينئذٍ قد غادرنا الحياة، ومِن ثمّ فلا نواجه نتائج قراراتنا الماضية، بدون استرجاع الماضي وما يمنحنا ذلك من عمق في الرّؤية، وغنى في التجربة

٣٢

الإنسانيّة، ووعي لاستمرار الحضارة الإنسانيّة فينا وفيمن يأتي بعدنا من الأجيال، بدون ذلك لن يكون في وسعنا تفادي أخطاء وقعتْ في الماضي، كما لنْ يكون مِن حقّنا التمتّع بنتائج تجارب ناجحة أُنجزتْ فيه، كما أنّنا في هذه الحالة قد نتّخذ بالنسبة إلى المستقبل الّذي لا نملكه وحدنا قرارات متهوّرة، شديدة الخطورة بالنسبة إلينا، وإلى وضعيّة ومصير الأجيال الآتية.

إنّ الغلوّ في استرجاع التّاريخ، فكراً وعملاً، قد يجعل من التّاريخ مقبرة للحاضر والمستقبل، ويجعل الإنسان غريباً في العالم الّذي يعاصره ويحيط به ويتدفّق بالحياة نحو المستقبل مِن حوله.

كما إنّ الغلوّ في رفض التاريخ، والانقطاع عنه والانصراف عن تجاربه ومآثره قد يجعل الإنسان (ريشة في مهبّ الريح) عاجزاً عن التماسك في الحاضر، ويفقده القدرة على ممارسة دوره الأصيل في بناء الحضارة، ويجعل منه مجرّد ممثّل لأدوار يضعها الآخرون، يعكس هو بتمثيله إراداتهم وأفكارهم وموجاتهم.

إذنْ لابدّ للإنسان من أنْ يتعامل مع التاريخ باعتدال، يجعله دليلاً في حركته، وتربةً ينمو فيها الحاضر الأصيل والمستقبل الأكثر يُمْناً وأصالةً.

واستجابةً لهذه الضّرورة تعامل أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع التّاريخ في مجال الوَعظ وفي مجال السّياسة والفكر.

وأكبر همِّنا في هذه الدراسة هو التّعرف على النظرة التاريخيّة للإمام في مجالَي السّياسة والفكر، مكتفين بالنسبة إلى المجال الوعظي ذي المحتوى التاريخي بتقديم نموذج واحد من النصوص الوعظيّة في كتاب نهج البلاغة، وتحليله مع تسليط الأضواء على الجانب التاريخي فيه.

٣٣

التّاريخ في مجال الوعظ

حلّلنا في فصل (الوعظ) من كتابنا (دراسات في نهج البلاغة) (1) ، مواعظ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة على ضوء الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة الّتي كانت تسيطر وتوجّه مجتمع العراق بوجه خاص في أيام خلافة الإمام (عليه السّلام).

وكشفنا النّقاب هناك عن أنّ الإمام لم يكن في مواعظه داعياً إلى مذهب زُهْدِي، يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة الدنيا والعمل لها والاستمتاع بها، وإنّما كان في مواعظه وتوجيهه الفكري بوجه عام يدعو إلى مواجهة الحياة بواقعيّة وصدق، محذِّراً من اللّهاث المجنون وراء الآمال الخادعة والأحلام الكاذبة، الّتي ليس لها في واقع الحياة سند ولا أساس.

وكشفْنا النّقاب أيضاً عن أنّ النّظرة الشّائعة إلى مواعظ الإمام في نهج البلاغة قد تأثّرت بالتّيَّار الزُهْدِي السّلبي، الّذي طبع المجتمع الإسلامي بطابعه في عصور الانحطاط، وهو دخيل على الفكر الإسلامي وعلى أخلاقيّات الإسلام وتشريعه، ولذا فإنّ هذه النظرة خاطئة لا تمثِّل مقاصد الإمام وأهدافه من المواعظ الّتي كان يوجّهها إلى مجتمعه.

____________________

1 - (محمّد مهدي شمس الدّين): دراسات في نهج البلاغة (الطّبعة الثّالثة) بيروت ص 247.

٣٤

والمواعظ الّتي استخدم الإمام فيها عنصر التّاريخ كغيرها من مواعظه في أنّه لا يدعو فيها إلى مذهب زهدي سلبي من الحياة الدنيا، وإنّما يعالج بها حالة خاصّة في مجتمعه الّذي بدا غافِلاً عن مصيره التَعِس، مُهْمِلاً لواجباته في جهاد النفس وجهاد العدو، مُتلهِّفاً على المُتَع والثراء اللّذَين لا يستحقّهما إلاّ مجتمع مستقر، أحكم وضعه الأمني والسّياسي والاجتماعي، وقطع دابر الطامعين فيه المتآمرين عليه، وهذا ما لم يَكُنْه مجتمع العراق في عهد الإمام (عليه السلام) بل كان مُجْتَمَعاً قلِقاً يعاني من اضطراب أَمْنِهِ الخارجي وتدهور أَمْنه الداخلي، كما يُعاني من التمزّق السياسي، وكان - نتيجةً لذلك - يؤجّج مطامع الحكم الأموي في الشام ويدفع به نحو التآمر عليه.

* ونقدّم فيما يلي نموذجاً من النّصوص الوعظيّة الّتي يكون التاريخ عنصراً بارزاً وأساسيّاً فيها:

قال (عليه السّلام):

(أمّا بَعْدُ، فَإنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإنَّهَا حُلوَة خَضِرَة، حُفَّتْ بِالشَّهواتَ، وَتحبَّبتْ بِالعاجِلةِ، وراقت بِالقليلِ، وتحلَّتْ بِالآمالِ، وتزيَّنتْ بِالغُرُور، لا تدُومُ حَبرتُها (1) ، ولا تُؤمَنُ فجعتُها، غرَّارة ضرَّارة، حائِلة (2) زائِلة نافِدة (3) بائِدة، أكَّالة غوَّالة (4) ، لا تعدُو إذا تناهتْ إلى أُمنيَّةِ أهلِ الرَّغبةِ فِيها والرِّضاءِ بِها أَنْ تكُون كما قالَ اللهُ تعالى سُبحانهُ:

( كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا (5) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) (6) ، لم يكُنِ امرُؤ مِنها فِي حَبرةٍ إلاّ أعقبتهُ بعدها عبرةً، ولم يلقَ فِي سرَّائها بطناً إلا منحتهُ مِن ضرَّائَها ظهراً (7) ، ولم تطُلَّهُ فيها دِيمة (8) رخاءٍ إِلاّ هتنتْ (9) عليهِ مُزنةُ بلاءٍ. وحرِيّ إذا أَصبحتْ لهُ مُنتصرةً

____________________

1 - الحبرة: بالفتح - النّعمة.

2 - حائلة: متغيِّرة.

3 - نافدة: فانية.

4 - غوّالة: مُهْلِكَة.

5 - الهشيم: النَبْت اليابس.

6 - سورة الكهف (رقم 18/ مكيّة) الآية: 45.

7 - البطن: كناية عن إقبال الدّنيا، والظّهر: كناية عن الإدبار.

8 - الطلّ: المطر الخفيف. والدّيمة: مطر يدوم في سكون لا يرافقه رعد وبرق.

9 - هتنتْ: انصبّت.

٣٥

أن تُمسِيَ لهُ مُتنكِرةً، وإنْ جانِب مِنها اعذوذبَ واحلولى أَمرَّ مِنها جانِب فأَوبى (1) لا ينالُ امرُؤ مَن غضاريها رغباً (2) إلاّ أرهقتْهُ مِن نوائبِها تَعَبَاً، ولا يُمسِي مِنها في جناحِ أَمْنٍ إلاّ أصبحَ على قوادِمِ خوفٍ (3) . غرَّارةُ ما فِيها، فانية، فانٍ مَن عليها، لا خيرَ فِي شيءٍ مِن أزوادِها إلاّ التقوى).

(مَن أقلَّ مِنها استكثرَ مِمَّا يُؤمِنُهُ، ومَنِ استكثرَ مِنها استكثرَ مِمّا يُوبِقُهُ (4) ، وزال عمَّا قلِيلٍ عنهُ).

(كم مِن واثقٍ بِها قد فجعتْهُ، وذِي طُمَأنِينَةٍ إليها قد صرعتْهُ، وذِي أُبهةٍ قد جعلتْهُ حقِيراً (5) ، وذِي نخْوةٍ قد ردَّتْهُ ذلِيلاً (6) .

(سُلطانُها دُوَّل (7) وعيشُها ريق (8) ، وعذبُها أُجاج (9) ، وحُلوها صَبِر (10) ، وغِذاؤُها سِمام (11) وأسبابُها رِمام (12) .

(حيُّها بِعرضِ موتٍ، وصحِيحُها بِعرضِ سُقمٍ، وموفُورُها منكُوبٍ (13) وجارُها محرُوب (14) .

(ألستُم فِي مساكِنِ مَن كان قبلكُم أطولَ أعماراً وأبقى آثاراً، وأبعدَ آمالاً، وأعدَّ عدِيداً. وأكثف جُنُداً؟ تعبَّدُوا لِلدُّنيا أيَّ تعبُّدٍ، وآثرُوها أيَّ إيثارٍ، ثُمَّ ظعنُوا عنها بِغيرِ زادٍ مُبلغٍ، ولا ظهرٍ قاطِعٍ (15) ).

____________________

1 - أوبَى: صار كثير الوباء.

2 - الغضارة: النّعمة، والرّغَب: الرغبة، والمرغوب فيه.

3 - القوادِم: جمع قادِمة، ريش في مقدم جناح الطائر.

4 - يُوبِقهُ: يُهلكهُ.

5 - أبّهة: عظمة.

6 - النّخوة: الافتخار.

7 - دُوَّل - بضم الدال - المنحول.

8 - الريق: الكدر.

9 - أُجاج: شديد الملوحة.

10 - الصّبر: عصارة الشّجر المرّ.

11 - سمام: جمع سم، وهو مثلث السين.

12 - الرُّمام: جمع رُمّة - بالضم - القطعة البالية من الحبل، ومنه (ذُو الرّمّة).

13 - موفورها: مَن كان عنده وفر (كثرة) من الدنيا معرض للمصائب والنّكبات.

14 - محروب: المحروب مَن سلب مالُه.

15 - ظهر قاطع: وسيلة تقطع براكبها الطريق بأمان وتبلغه غايته.

٣٦

(فهل بَلَغَكُم أنَّ الدُّنيا سختْ لهُم نفساً بِفِديةٍ (1) أو أعانتْهُم بِمَعُونةٍ، أو أحسنت إليهِم صُحبَةً..؟ بل أرهقتْهُم بالقوادِحِ (2) وأوهقتْهُم بِالقوارِعِ (3) وضَعْضَعَتْهُم بِالنَّوائبِ (4) ، وعفَّرتْهُم لِلمناخِرِ (5) ، ووطِئتْهُم بِالمناسِمِ (6) ، وأعانتْ عليهِم ريبَ المنُون).

(فقد رأيتُم تنكُّرَها لِمَن دان لها (7) وآثرها وأَخْلَدَ إليها (8) حِين ظعنُوا عنها لِفِراقِ الأبدِ... أفهذِهِ تُؤثِرون؟ أَمْ إِلَيْهَا تطمئنُّونَ؟ أَمْ عليها تَحرِصُون؟ فبِئستِ الدَّارُ لِمَنْ لم يتَّهِمها، ولم يكُن على وجلٍ مِنه).

(فاعلمُوا - وأنتُم تعلمُون - بِأنكُم تارِكُوها وظاعِنُون عنها، واتَّعِظُوا فِيها بِالَّذِين قالُوا ( ... مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ... ) (9) حُمِلُوا إلى قُبُورِهِم فلا يُدعَون رُكباناً (10) ، وأُنزِلُوا الأجداث فلا يُدعَونَ ضِيفاناً (11) ، وجُعِل لهُم مِنَ الصَّفِيحِ (12) أجنانُ (13) ومِن التُّرابِ أكفان...

استبدَلُوا بِظهرِ الأرِضِ بطناً، وبِالسَّعةِ ضِيقاً، وبِالأهلِ غُربةً، وبِالنُّورِ ظُلمَةً...) (14) .

***

ركّز الإمام (عليه السّلام) في هذه الخطبة الوعظيّة - كما هو شأنه في معظم مواعظه - على عامِلَيْن ثابتَين في طبيعة الحياة على هذه الأرض:

____________________

1 - لم تدفع عنهم الدّنيا بلاء الموت.

2 - أرهقتْهم: أتْعَبَتْهُم. والقوادِح: جمع قادح، مرض يصيب الأسنان والشجر. أراد به هنا المصائب والنكبات.

3 - الوهق: حبل تُصطاد به الفريسة، والقوارع: المحن. أراد أنّهم أسرى مشاكلهم المادِّيَّة والاجتماعيّة.

4 - ضَعْضَعَتْهُم: جعلتهم قلقين، وحرمتهم الاستقرار وطنب العيش.

5 - عَفّرَتْهم: العفر التراب، مرّغتْ آنافهم بالتّراب، كناية عن إذلالِهم.

6 - المنسم: خف البعير، كناية عن إذلالهم.

7 - دَانَ: خضع.

8 - أَخْلَدَ: اطمأنّ.

9 - سورة فُصّلت: (رقم 41 / مكّيّة) الآية: 15.

10 - لا يُدعَونَ رُكباناً ؛ لأنّهم مقهُوُرون ولم يُحمَلُوا مختارين، ولا يُدعون ضيفاناً ؛ لأنّهم يُقيمون في قبورهم.

11 - الأجداث: القبور.

12 - الصَفِيْح: الوجه من كلّ شيء له مساحة، والمراد هنا الأرض.

13 - أَجْنَان: جمع جَنَن - بالفتح - القبر.

14 - نهج البلاغة: رقم الخطبة: 111.

٣٧

1 - عامل التغيّر والتقلّب في الحياة:

الحياة بما هي حركة، وبما هي تفاعل، وبما هي طاقات وقوى تتفاعل فتتكامل أو تتقاتل في داخل كلّ شيء ومِن حول كلّ شيء في الكون المادِّي كلّه - الحياة بما هي كلّ هذا متقلِّبة متغيِّرة متحوِّلة باستمرار - هي في حالة صيرورة دائمة لا تستقر على حال ولا تثبت على وتيرة واحدة.

2 - عامل الزّمن:

أثر الزمن في الأشياء والأعمار ظاهر لكلّ ذي بصيرة، فالزّمن يُفتِّت الحياة باستمرار، فما إنْ يبدأ وجود الحياة في شيء، بل ما إنْ يبدأ وجود شيء - حيّاً كان أو غير حيّ - حتّى يبدأ هذا الوجود بالذّوبان والتّفتّت والضّياع. إنّ الحياة تولد في الزّمن. ولكنّ الزّمن يغتالها باستمرار.

وهذان العاملان - التّغيّر والزمن - لا يختصّان بعالَم الإنسان وحده، إِنّهما يعملان في كلّ شيء، ويحُولانِ دون ثبات كلّ شيء:

- الجماد.

- والنّبات.

- والحيوان.

- والإنسان.

ويتميّز الإنسان - بالنسبة إليهما - عن العوالِم الأُخرى بأنّه - لِمَا أُوتي مِن عقل وإدراك - يستطيع أنْ يَعِي الوجه المأساوي لعمل هذَيْن العامِلَيْن، وأثرهما في حياته، وفي الوجود مِن حوله.

ووعيُ الإنسان لهذين العاملَين وأثرهما في الحياة والأشياء يجعله قادِراً على مواجهة الحياة ومباهجها المؤقَّتة، ووُعُودها السّخيّة، وآمالها اللامعة، بعقلٍ صافٍ خالٍ من الأوهام، ويعزّز فيه النّزعة الواقعيّة في أخذ الحياة والتعامل مع الدّنيا، هذه النّزعة الّتي من شأنها أنْ تجعل الآمال أقلّ بريقاً وجذباً واستهواءً، والانتصارات أقلّ مدعاة للغرور والصلف، والمآسي أقلّ إيلاماً. ويعزّز مناعة الإنسان أمام تكالب صروف الدهر، وخيبات الأمل وضياع الجهود، ونوازل المرض والموت... فلا ينهار بسبب ذلك ولا ييأس ولا يستسلم، ولا يستكين ولا يهرب من العمل، وإنّما ينبعث للعمل والكفاح في سبيل نفسه وأهله ومجتمعه وعالَمه من جديد؛ لأنّه لم يُفَاجَأ بالخيبة والإخفاق، بل كان مهيّأ النفس لتقبّلهما، ومِن ثمّ فقد كان مهيّأ النفس لتجاوزهما، واستئناف

٣٨

العمل مرّة أخرى بأملٍ واقعي جديد.

بالإجمال:

إنّ وعيَ الإنسان لهذَين العاملَين، وإدراكهُ لأثرهما العميق والمصيري في حياته وفي الوجود من حوله يجعله قادِراً على مواجهة الحياة بكلّ وجوهها وما فيها من حسن وقبح، وألم ولذّة، وواقع وخيال، ونجاح وإخفاق يواجهها بروح واقعيّة.

وحين يُدخل الإمام (عليه السّلام) في وعظه عنصر التاريخ، فيتحدّث عن الماضين وما حلّ بهم من كوارث وآلام، وما انتهتْ إِليه حياتهم على عظمة توهّجها من انطفاء، فإنّه يقدّم لتحليله النظري - الّذي تناول واقع حياة معاصريه الّذين يخاطبهم - يقدّم نماذج تطبيقيّة من حياة أقوام آخرين إنّه يقدّم لمعاصريه تجربة الآخرين الّتي يعرفونها، ويبعثون حياتهم في ساحاتها، ويرون آثارها الباقية من الماضي في هذه الساحات.

فهذه المدن والمساكن، وهذه الضِياع والمزارع، وهذه القِلاع والحُصون، عمّرها في عصور سابقة أناسٌ تقلّبت بهم صروف الحياة وأفراحها وأحزانها، والآمال الّتي سَعِدُوا بإنجازها وخيبات الأمل، ثمّ ماتوا وانقطعوا عن كلّ ما كان يملأ عليهم حياتهم من أحلام وأماني، ومطامح ومطامع، وحب وبغضاء، وصداقات وعداوات...

وكان هؤلاء أطول أعماراً، وأكثرُ قوّةً (وأعد عديد)، وقد وجّهوا كل ما أوتوا من قدرة وذكاء ومعرفة لدنياهم، فأعدّوا لها واستعدّوا، ولم يشغلْهم عنها تفكيرٌ بالآخرة أو عمل لها، ولكن كلّ ذلك لم ينفعهم ولم يَعُدْ عليهم بطائل؛ لأنَّ عامل التغيّر والتقلّب من جهة وعامل الزمن من جهة أخرى، عملاً دائماً - كما لا يزالان يعملان، وكما سيعملان في المستقبل - على تفتيت حياة أولئك الناس، وكانت حياتهم - كما هي الحياة الآن، وكما ستبقى الحياة - تحمل في جوهرها وفي أعماقها أثناء ولادتها ونموّها وازدهارها بذور تقلّصها وذبولها وانطفائها في آخر المطاف.

***

هذا نموذج من وعظ الإمام عليّ الّذي يدخل فيه عنصر التاريخ باعتباره يُضيء الحاضر؛ لأنّه يضيف إِليه تجربة الماضي ويجعله - بذلك - أكثر غنى، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على مواجهته بروح واقعيّة وبعقل خالٍ مِنَ الأوهام، فلا يَهِن ولا يستسلم تحت وطْأة الكارثة، ولا يطغى ولا يطوّح به الغرور وهو في ذُرى النجاح.

٣٩

التّاريخ في مجال السّياسة والفكر

تمهيد:

* استخدام الإمام التّاريخ في مجال الفكر كما استخدمه في مجال السّياسة:

كان رجل رسالةٍ هي الإسلام، رسالة استوعبتْ الحياة كلّها: تنظيماً، وتشريعاً، ومناهجَ. وهي رسالة ذات طابع عالمي، ممتدّة في الزّمان إلى آخر الزمان، أراد اللّه تعالى لها أنْ تكون ديناً للإنسان كلّ إنسان، تقوده نحو التكامل الّذي يُحقّق له التّوازن والتّسامي.

وهي رسالة تقوم على العلم والمعرفة، وترفض الجهل؛ لأنّه يتيح لأعدائها أنْ يتسلّلوا في ظلماته إلى قلوب أتباعها المؤمنين بها وعقولهم، فيُشوِّهون ويُحرِّفون عقائدها وشرائعها ومناهجها، ويُضلِّلون بعد ذلك أتباعها المؤمنين بها؛ وذلك حين يُلْبِسُوْنَ لهم الحقّ بالباطل والصواب بالخطأ.

ومن هنا كان مِن أكبر هموم رجل الرسالة الاستعداد الدائم في هذا المجال؛ لأجل أنْ يجعل المسلمين على معرفة كاملة بالإسلام، وفي حالة وعي متجدّد ونامٍ لحقيقة الإسلام وجوهره ومناهجه وغاياته؛ ليكون المسلم المستنير بالمعرفة في حصانة من الحيرة والتضليل، على بَيِّنة من أمره، وليكون الإسلام بمنجاة من التشويه والتحريف، ويكون كلّ مسلم مستنير ديدباناً على دينه الّذي هو معنى وجوده وشرف وجوده.

ومن هنا كان عليّ (عليه السلام) في حركة تعليميّة دائمة لمجتمعه وخواصّ أصحابه،

٤٠