حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)30%

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 181

  • البداية
  • السابق
  • 181 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32557 / تحميل: 9903
الحجم الحجم الحجم
حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

حركة التاريخ عند الإمام علي (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

سلسلة زاد عاشوراء

بلاغ عاشوراء

١

الكتاب: بلاغ عاشوراء

نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني

الطبعة: الاولى، كانون٢، ٢٠٠٦م- ١٤٢٧هـ

جميع حقوق الطبع محفوظة ©

٢

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

"ينبغي على الخطباء إثارة عواطف الناس تجاه الحسين عليه السلام. وتوضيح واقعة عاشوراء ومبادئها... وإثارة المعرفة والإيمان".

الإمام الخامنئي دام ظله

السادة الأفاضل المحاضرين في المجالس الحسينية دمتم موفقين.

تتقدم منكم الوحدة الثقافية المركزية في حزب اللَّه بأسمى آيات العزاء بالمصاب العظيم بإمامنا أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام سائلة المولى تعالى أن يجعلنا من الطالبين بثاره مع الولي الأعظم الإمام الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف.

ومع إطلالة شهر محرم لعام ١٤٢٨هـ وتلافياً للوقوع في تكرار مضامين الكلمات ومن أجل إنجاح البرامج المقرَّرة نقترح توزيع مضامين الكلمات، للمحاضرين الكرام، وفق الترتيب والبرنامج الزمني المحدَّد في هذا الكتيب.

٣

وقد توَّجنا هذا الكتيب بكلمات توجيهية للإمام الراحل الخميني العظيم قدس سره ولولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله سائلين المولى تعالى أن يعجل فرج صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وأن يتقبل أعمالنا وأعمالكم بأحسن قبول إنه سميع مجيب الدعاء.

٤

توجيهات الولي

توجيهات الإمام الخميني قدس سره للمحاضرين والخطباء الحسينيين

١- إن على الخطباء أن يقرأوا المراثي حتى آخر الخطبة ولا يختصروها بل ليتحدثوا كثيراً عن مصائب أهل البيت عليهم السلام.

٢- ليهتم خطباء المنابر ويسعوا إلى دفع الناس نحو القضايا الإسلامية وإعطائهم التوجيهات اللازمة في الشؤون السياسية والاجتماعية.

٣- يجب التذكير بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كل عصر ومصر.

توجيهات الإمام الخامنئي دام ظله للمحاضرين والخطباء الحسينيين

أول شيء يجب أن تهتموا به هو رسالة الثورة في المصيبة وفي المدح وفي الأخلاقيات والوعظ.

٥

كيف يجب أن تقام مراسم العزاء؟

إنه سؤال موجَّه إلى جميع من يشعر بالمسؤولية في هذه القضية، وباعتقادي أن هذه المجالس يجب أن تتميز بثلاثة أمور:

١- تكريس محبة أهل البيت عليهم السلام ومودتهم في القلوب لأن الارتباط العاطفي ارتباط قيِّم ووثيق.

٢- اعطاء صورة واضحة عن أصل قضية عاشوراء وتبيانها للناس من الناحية الثقافية والعقائدية والنفسية والاجتماعية.

٣- تكريس المعرفة الدينية والإيمان الديني. والاعتماد على آية شريفة أو حديث شريف صحيح السند أو رواية تاريخية ذات عبرة.

٤- على أيّ منبر صعدتم وأي حديث تحدثتم، بيّنوا للناس يزيد هذا العصر وشمر هذا العصر ومستعمري هذا العصر.

٦

السياسات العامة للخطاب العاشورائي

السادة الأفاضل محاضري وخطباء المنبر الحسيني دمتم موفقين.

السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته

مع إطلالة شهر محرّم الحرام تتجدَّد الجاذبية الخاصة للإمام أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام لتأتي بالناس من كل حدب وصوب ولتمتلئ المجالس العاشورائية بشكل لا تعهده مناسبات أخرى. وهذا ما يثقل المسؤولية في الاستفادة والإفادة من هذا الموسم المبارك لا سيما من روّاد المنبر الحسيني الشريف محاضرين وخطباء، وهنا تأتي أهمية تحديد أولويات الخطاب العاشورائي بما يخدم الناس في توجيههم وتحديد تكليفهم الإلهي، لا سيّما في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الأمة التي تشهد هجمات جائرة وشرسة تهددها بمخاطر كبيرة مقبلة مما يتطلب خطاباً تعبوياً للأمة يهيؤها لممارسة الدور المنشود منها.

٧

ونطرح هنا بعض السياسات لهذا الخطاب العاشورائي التعبوي المطلوب:

١- التأكيد على أهمية الجانب المعنوي الذي يحققه الارتباط باللَّه تعالى والتوكل عليه، وأهمية هذا الجانب في استنزال المدد والنصر الإلهي ولو قلَّ المؤمنون وكثر أعداؤهم.

٢- ربط الناس بالتكليف الإلهي على قاعدة كونه الموجِّه لموقف الفرد والأمة.

٣- توجيه الناس نحو العمل للآخرة لضمان استمرار الحياة بسعادة باقية. وإبراز دور الشهادة في تحقيق ذلك.

٤- غرس روح التضحية في أبناء الأمة لكون معركة الحق ضد الباطل لا بد لها من تضحيات، وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الدليل الواضح على ذلك.

٨

٥- الإرشاد إلى دور الولاية في توجيه الأمة وترشيدها. وإن وحدة الولي والقائد هي الضمان لوحدة الأمة وعزِّها.

٦- تأكيد ضرورة وحدة المسلمين صفاً واحداً أمام أعدائهم.

٧- تحديد طواغيت العصر ويزيدييه المتمثلين اليوم في الدرجة الأولى بأمريكا وإسرائيل والتطرق إلى الممارسات الإرهابية التي يمارسها هؤلاء الطواغيت ضد مسلمي ومستضعفي العالم.

٨- بيان تكليف الأمة في نصرة المظلومين.

٩- التشديد على ضرورة الثبات في معركة الحق ضد الباطل ودورها في تحقيق النصر الإلهي.

١٠- إبراز التشابه بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومعركتنا ضد الباطل، سواء على مستوى أهداف وممارسات الأعداء، أو على مستوى مشاركة الشرائح المتنوعة من المجتمع لنصرة الحق (شبان، شيوخ، نساء، أطفال، طبقات اجتماعية متفاوتة).

٩

١١ ـ الإلفات إلى ضرورة التكافل الاجتماعي في الأمة بما يؤمِّن القوة الداخلية للمجتمع في معركته ضد الباطل.

١٢- تقوية علاقة الناس بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وتبيان مسؤوليتهم في التمهيد لظهوره المبارك، واستعدادهم الاستمرار التضحية بين يديه.

والحمد للَّه رب العالمين

١٠

الليلة الأولى

الارتباط بالحق بين القلة والكثرة

الهدف:

تعريف المستمع بإن تشخيص الحق والباطل لا يعتمد على كثرة أو قلة أتباعهما.

تصدير الموضوع:

٭﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ﴾.(١)

محاور الموضوع:

تشخيص طريق الحق

١ ـ معرفة الحق:

٭" لا يعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله"(٢)

٢ ـ التدبر في القرآن يؤكد معادلة أن العباد الصالحين قلة

٭﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ٭ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ٭ فِي

__________

١- يونس٣٥

٢- بحار الأنوار ج٤٠ ص١٢٦

١١

َجنَّاتِ النَّعِيمِ ٭ ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ ٭ وَقَلِيلٌ مِنَ الآَخِرِينَ(٣) .

٣ ـ ملاحظة أن كثرة العدد والعدة والعتاد ليس دليلاً على الأحقية بل غالباً ما يكون العكس قال تعالى:

٭﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُون(٤) .

٭﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(٥) .

٭ عدد جيش ابن سعد قياساً لجيش الإمام الحسين عليه السلام

التمييز بين النمو الطبيعي و النمو الورمي:

مقارنة بين أصحاب علي عليه السلام الذين تخلوا عنه في ساحات الصراع والمواجهة وأصحاب الحسين عليه السلام الذين بذلوا مهجهم دونه.

٭مثال: قادة جيش الإمام علي عليه السلام في صفين حيث تحول أكثرهم إلى قادة في جيش عمر بن سعد (الأشعث ـ عمر بن سعد ـ شبث بن ربعي..)

١٢

بعض خصائص طريق الحق:

١ ـ أنه مؤيد من الله

٭﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(٦) .

٢ ـ أنه موعود بالغلبة والنصر

٭﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٍ﴾(٧) .

٭انتصار موسى على فرعون بعد دخوله عليه بعصاه فقط.

٭بداية الدعوة إلى الإسلام بدأت بثلاثة أشخاص فقط.

أهمية الثبات على طريق الحق:

٭عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن سلكَ الناس كلهم واديً وسلكَ عليٌ وادياً فاسلك وادي علي وخلِّ عن الناس يا عمار"(٨)

الوحشة في طريق الحق:

٭ عن أمير المؤمنين عليه السلام: " أيها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه"(٩) .

١٣

٭ عن الإمام السجاد عليه السلام في دعاء عرفة: " ويا أُنسي في كل وحشة ويا ثقتي في كل شديدة".

٭ ما يرفع وحشة الطريق أنه طريق الحق.

الخلاصة:

تعزيز الارتباط بالله بشكل دائم تحسباً لأي تحدٍ.

١٤

ـــــــــــــــــ

٣- الواقعة،١٠ـ ١٣

٤- الأنعام،١١٦

٥- الزخرف،٧٨

٦- الحج،٣٨

٧- الحج،٤٠

٨- بحار الأنوار ج٣٣ ص١٧

٩- مستدرك الوسائل ج١٢ ص١٩٤

١٥

الليلة الثانية

الاستجابة للحسين عليه السلام ـ لنبدأ التغيير

الهدف:

إيجاد دوافع الإصلاح النفسي وتغيير السلوكيات السيئة.

تصدير الموضوع:

" لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة في حظيرة القدس، تقربهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى"(١) .

محاور الموضوع:

خطبة الحسين عليه السلام الأولى في مكة.

وجوب نصرة الحسين عليه السلام

في كل مجلس وزيارة نكرر القول للامام الحسين عليه السلام: " يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً" وفي زيارتنا لأصحابه نقول: " طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزا

١٦

اعظيما يا ليتني كنت معكم فأفوز معكم في الجنان مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"(٢) .

كيف نكون مع الحسين عليه السلام لنفوز؟

أ- الجهاد و التواجد في ساحات الجهاد بكل أقسامه (العسكري ـ السياسي) وعدم التهرب من تحمل المسؤوليات ومن المشاركة فيما يقتضيه العمل السياسي والجهادي..

ب- الاستجابة لندائه

٭ "هل من ذابٍ يذبُ عن حرم رسول الله ؟ هل من موحدٍ يخاف الله فينا ؟ هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا ؟"(٣) .

ج- تحقيق أهدافه (الإصلاح)

٭ "وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي علي بن أبي طالب عليه السلام، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر(٤) .

الإصلاح له مصداقان:

١- عام (إصلاح المجتمع) عبر القيام بواجب الأمر

١٧

بالمعروف والنهي عن المنكر.

٭ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

وصية الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبيل خروجه من مكة

٭ لماذا: " ألا ترون أن الحق لا يعمل به! وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة! والحياة مع الظالمين إلا برما!(٥) .

٢- خاص (إصلاح النفس)

أ- ترك وهجر الفساد

ب- العزم على التوبة

ج- العمل على تربية النفس وتهذيبها

د- الاستعداد للتضحيات

٣- اغتنام الفرص:

٭ الحسين عليه السلام دعانا الى مجالسه لنسمع سيرته وكلماته فهذه فرصة

٭ هل نحن جادون بقولنا " يا ليتنا كنا معكم" و" لبيك يا حسين"

٭ لقد أحسنا بمجيئنا الى مأتم الحسين عليه السلام لكن لنكمل هذا العمل ونتمه بالبدء بعملية تغيير أنفسنا

١٨

﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(٦) .

ــــــــــــــــــــ

١- خطبة الحسين عليه السلام الأولى في مكة.

٢- إقبال الأعمال، ص٣٣٥ ـ زيارة عرفة

٣- رحلة الشهادة ص١٥٣

٤- وصية الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبيل خروجه من مكة

٥- من خطبته الأولى مع أصحابه

٦- الرعد، ١١.

١٩

الليلة الثالثة

نصرةُ الله

الهدف:

إيجاد دوافع للجهاد وإعداد النفس أخلاقياً وسلوكياً وروحياً لذلك وتمتين الارتباط بولي الأمر.

تصدير الموضوع:

" السلام عليكم يا أصفياء الله وأوداءه السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيه وأنصار أمير المؤمنين وأنصار فاطمة سيدة نساء العالمين السلام عليكم يا أنصار أبي محمد الحسن الولي الناصح السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله الحسين الشهيد المظلوم صلوات الله عليهم أجمعين"(١) .

محاور الموضوع:

هل يحتاج الله إلى نصرنا له؟

الله تعالى قوي وعزيز وغني عن نصرنا له:

٭ ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ٭ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) .

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ... كان إنسان ما قبل التّاريخ، ما قبل النّبوّات يحيا في وحدة فطرية قائمة على أساس وحدة المصالح ووحدة الدّم من جهة، وعلى عامل سلبي من جهة أخرى هو عدم وجود ما يُهدّد حالة السكون والخمود الّتي تميّز هذه الحياة نظراً لبساطة الحاجات وتوفّر ما يُلبِّيها ويُشْبِعُهَا في الطبيعة دون حاجة إلى مغالبة وصراع.

ولكنّ حركة الحياة النامية المتصاعدة، وتزايد عدد أفراد النوع، وتفاوت القدرات العقليّة والجسميّة... كلّ ذلك وما يشبهه من عوامل الانقسام والتعقيد أدّى إلى نشوء خلافات داخل الجماعة البشريّة النامية، ومغالبة وصراع بين أفرادها وفئاتها... وربّما كان من مظاهر ذلك أو أوّل مظهر من مظاهر ذلك خلفّيات الجريمة الأولى بين ابنَي آدم حيث قتل أحدهما أخاه، وقد قصّ اللّه تعالى نبأهما في القرآن الكريم (٢) ، وتردّدنا في أنّ هذه الجريمة هي من مظاهر ذلك أو أنّها أوّل مظهر من مظاهر ذلك ناشئ من وجود احتمال أنّ (آدم) القرآني لا يمثّل بداية الجنس البشري على الأرض، وإنّما يمثّل بداية النسل البشري الموجود الآن، ويكون - على هذا - قد وجد نسل سابق على النسل الموجود الآن من بداية يمثّلها آدم سابق على آدم القرآني، واللّه تعالى أعلم، وعلى هذا تكون آية سورة البقرة (٢١٣) موضوع البحث تُؤرِّخ لفترةٍ من عمر البشريّة، سابقة على الفترة التي بدأت بآدم القرآني.

وعلى أيّ حال، ففي هذه المرحلة من نموّ الإنسان:

- لم تَعُد وحدة الدم كافية لتكوين وحدة المجتمع.

- ولم تَعُد ثمّة مصالح واحدة أو متّفقة.

- ولم تَعُد النفس الإنسانيّة عذراء، ساذجة، بدائية... ويستحيل على النوع الإنساني في أنْ ينمو - كما أراد اللّه في أوضاع كهذه تقوده فيها غرائزه فقط، ولا مرجّح له في خصوماته ومراعاته إلاّ غرائزه... في هذه

____________________

١ - سورة البقرة: (مدنيّة / ٢) الآية: ٢١٣.

٢ - سورة المائدة: (مدنيّة / ٥) الآيات: ٢٧ - ٣١.

٦١

المرحلة من نمو الإنسان قضتْ حكمة اللّه ورحمته بإرسال الأنبياء، حاملين إلى الإنسانيّة منهاج هدايتها الّذي يخرجها من عهد الغريزة إلى عهد العقل، ومن منطق الصراع الّذي مرجعه الغريزة والقوّة إلى منطق النظام ومرجعيّة القانون.

وقد حقّق الإنسان، بإشراق عهد النبوّات، قفزة نوعيّة عظيمة وحاسمة في تطوّره نحو الأعلى وتكامله، فقد خرج المجتمع البشري بالنبوّات عن كونه تكويناً حيوانيّاً - بيولوجياً إلى كونه ظاهرة عقليّة - روحية.. لقد عَقْلَنَتْ النبوّات المجتمع الإنساني وَرَوْحَنَتْهُ.

وحقّقت النّبوّات للإنسان مشروعَ وحدةٍ أَرْقى من وحدته الدّمويّة البيولوجيّة الّتي كانت سائدة قبل عهد الخلافات والانقسامات والصراع... وهي الوحدة القائمة على أساس المعتقد، وبذلك تطوّرت العلاقات الإنسانيّة، مرتفعةً من علاقات المادّة إلى علاقات المعاني... بعهد النبوّات بدأ عهد الإنسان...

وتمضي الآية الكريمة، بعد التأريخ لهذه المرحلة، في بيان أنّ الاختلافات الّتي نشأتْ في النوع الإنساني، بعد إشراق عهد النّبوّات، غدتْ اختلافات في المعنى اختلافات في الدّين والمعتقد، إذ أنّ أسباب الصّراع والبغي من بعض الناس على بعض، واستغلال الأقوياء للضعفاء لم تُلْغَ بالدين الّذي جاءتْ به النبوّات، بل استمرّت وتنوّعتْ، ولكن المرجع لم يَعُد الغريزة وإنّما غدا القانون هو المرجع، وإذا كان من المستحيل على الإنسانيّة أنْ تجد قاعدة لوحدتها وتعاونها عن طريق الغرائز، وعلاقات المادّة، فإنّ من الممكن لها أنْ تجد قاعدة ثابتة لوحدتها وتعاونها وتكاملها، عن طريق القانون الذي يتضمّنه الدّين، وغير القانون، من تربية الدّين وإغنائه لروحيّة الإنسان وأخلاقيّته، وذلك حين يستبدل الإنسان علاقات المادّة بعلاقات المعنى. وعدم بلوغ الإنسانيّة إلى هذا المُرْتَقَى ليس ناشئاً في عهد النّبوّات من فقدان الوسائل، وإنّما هو ناشئ من سوء الاختيار البشري، ومن سوء استخدام الحرِّيّة المعطاة.

لقد أفضْنا في الحديث عن بعض جوانب الآية الكريمة لنضيء بها الفكرة التي عبّر عنها الإمام (عليه السّلام) في شأن النبوّات وبداية العصر التاريخي للإنسان إذ قال:

٦٢

(.. واصطَفى سُبحانَهُ... أنبياءَ أخذَ علَى الوحِي مِيثاقهُم، وعلى تبِليِغ الرسالةِ أمانتهُم، لمّا بدَّل أكثر خلقِهِ عهد اللهِ إليهم، فجهِلُوا حقَّه، واتخذُوا الأندادَ معهُ، واجتالتْهُمُ (١) الشياطِينُ عن معرِفته، واقْتَطَعَتْهُم عن عِبادتِهِ، فبعثَ فيِهمُ رُسُلَه، وواترَ (٢) إليهم أنبياءَه،... ولم يُخلِ اللهُ سُبحانهُ خلقَهُ مَن نبيٍّ مُرسَلٍ أو كِتابٍ مُنزَلٍ، أو حُجَّةٍ لازِمةٍ أو محجَّةٍ (٣) قائمةٍ: رُسُل لا تُقَصِّر بِهم قِلّةُ عددِهِم، ولا كثرةُ المُكذِّبين لهُم مِن سابقٍ سُمِّي لهُ مَن بعدهُ، أو غابرٍ عرَّفهُ مَن قبلهُ، على ذلِك نسلتِ القُرونُ، ومضتِ الدّهُورُ، وسلفتِ الآباء، وخلفتِ الأبناءُ) (٤) .

وهكذا يعبّر الإمام عن جوانب من أفق الآية الكريمة، فحين تعقّدت الحياة البشرية نتيجةً لنمو المجتمع وتشابك العلاقات فيه، وحين أدّى ذلك إلى تصادم بين ما تقضي به الحياة الاجتماعيّة من تعاون وما تدفع إليه الغريزة والروح الفرديّة من استئثار. وحين ترافق هذا مع الانحراف عن مقتضيات الفطرة المستقيمة العذراء - وإنْ تكن في ذلك الحين ساذجة - في إدراك الخالق سبحانه وتعالى... حين حدث في حياة الإنسانيّة كلّ هذا اقتضى لطف اللّه ورحمته إرسال الأنبياء؛ ليضيئوا عقول الناس، ويرتفعوا بالمجتمع من علاقات المادّة - البيولوجيا - إلى علاقات المعنى والقانون.

***

وقد تواترت حركة النّبوّات في تاريخ البشرية:

- تضيء عقولها.

- وتصوغ مفاهيمها.

- تغني حياتها.

- وتضعها رويداً رويداً على طريق التكامل...

تواترت هذه الحركة في خطّ تصاعدي نحو الأكمل والأفضل والأجمل، مستجيبةً في كلّ مرحلة من مراحل التاريخ البشري لحاجات تلك المرحلة، بَاذِرَة فيها بذور نموّ آخر في المستقبل يُهيِّئ لمرحلة - من التقدّم والتكامل - جديدةٍ.. إلى أنْ بلغت حركة النبوّات ذروتها في الرسالة الخاتمة الجامعة: رسالة الإسلام على لسان خاتم النبيّين محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم).

____________________

١ - اجْتَالَتْهُم: صرفتْهم عن اللّه.

٢ - وَاتَر: تابع.. أرسل الأنبياء يَتْبَع أحدهم الآخر.

٣ - المَحَجّة: الطريق المستقيمة الواضحة، يريد هنا الشّريعة الّتي تُتَّبَع.

٤ - نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

٦٣

قال عليه السلام:

(... إلى أن بعث اللّه سُبحانهُ مُحمّداً رسُولَ اللّه صلَّى اللّه عليِه وآلهِ وسلَّمَ لإنجازِ عِدتِهِ، وإتمامِ نُبوَّتهِ، مأخُوذاً على النّبيِّين مِثاقُهُ، مشهورةً سِماتُهُ (١) ، كريماً مِيلادُهُ) (٢) .

وقال في خطبة أخرى:

(.. بل تعاهدهُم - النّاسَ - بِالحُججِ على ألسُنِ الخِيرّة مِن أنبيائهِ ومُتحمِّلِي ودائِع رِسالاتِهِ قَرناً فقرناً، حتَّى تمّت بِنَبِيِّنَا مُحمَّدٍ صلَّى اللّه عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ حُجَّتُهُ، وبلغَ المقطعَ (٣) عُذرُهُ ونُذُرُهُ..) (٤) .

ب - وظيفة النّبوّة:

ما وظيفة النبوّة في المجتمع البشري؟

إنّها فيما نفهم من كلمات أمير المؤمنين تتلخّص في هدفَين كبيرَين:

الأول:

وهو أهمّهما، إحياء الفطرة الإنسانيّة الصافية المستقيمة، هذه الفطرة الّتي يهتدي بها الإنسان إلى الإيمان الصحيح باللّه سبحانه وتعالى، ويدرك بها كونه مخلوقاً للّه، ومن ثمّ يدرك موقعه في الكون. ويترتّب على هذا الإيمان الواعي تصحيح المسار الإنساني في طريق التكامل، بجعل حركة الإنسان التاريخيّة وثيقة الصّلة بعقيدة التوحيد ومُتَفَرِّعَاتِها.

الثاني:

وهو، من بعض الوجوه نتيجة للأوّل، تكوين الحوافز الروحيّة والنّفسيّة

____________________

١ - السّمة: العلامة، والمراد علامات النّبيّ محمّدٍ الّتي بشّر بها الأنبياء السابقون.

٢ - نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

٣ - المقطع: النّهاية الّتي ليس عليها مزيد. أي أنّ أعذار اللّه وإنذاره تَلَقَّيَا نهايتهما برسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله).

٤ - نهج البلاغة: خطبة الأشباح / رقم: ٩١.

٦٤

والاجتماعيّة لإنجاز عمليّة التقدّم العقلي والمادّي والاجتماعي في الحياة في صيغةٍ تضمن التوازن بين النموّ الرّوحي الأخلاقي - والنموّ المادّي. وهذه الصّيغة الّتي توازن بين اتجاهَي النموّ والنّشاط الإنساني هي الدّين.

وهذه هي وظيفة النبوّة كما تفهم من القرآن الكريم والسُنّة الشّريفة.

فالنّبيّ يُخرِج الناس من الظلمات إلى النّور في عقائدهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة، ويُصحّح نظرتهم إلى موقعهم في الكون، ومِن ثمّ يوجد الإنسان الصّالح الّذي يسعى نحو التكامل فيحقّق لنفسه التقدّم المتوازِن في الشكل والمضمون، في الرّوح والمادّة.

وليس النّبيّ مخترعاً كبيراً ومُخطِّطاً عظيماً يبدع الآلات والمؤسّسات، وليستْ النبوّة مركزاً للأبحاث والدّراسات وما إلى ذلك.

إنّ الّذي يخترع الآلات ويُنشئ المؤسّسات ويبتكر الخُطَط هو عقل الإنسان بعد أنْ تتوفّر له دواعي النموّ والانطلاق. فإذا تآخت معها قيم الروح والأخلاق حقّق الإنسان إنجازات مادّيّة وتنظيميّة تتّفق مع مُقتضيات الإيمان، وتَوفّر للإنسان حياة سعيدة طيّبة، ورضوان اللّه والنجاة في الآخرة. وإذا لم تتآخ قِيَم الروح والأخلاق مع دواعي النموّ والانطلاق في التعامل مع الكون المادّي، حقّق الإنسان إنجازات مادّيّة وتنظيميّة تُوفّرُ له القوّة واللّذّة والرّخاء دون أنْ توفّر له السّعادة وطيب بالحياة.

***

وفَهْمُنَا لوظيفة النبوّة - كما تعكسها نصوص نهج البلاغة - مستفاد من النصوص الّتي تحدّث فيها الإمام عن حالة العالَم عَشِيّة بعثة النبي محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)؛ ذلك لأنّ النصوص الّتي تؤرِّخ للنّبوّات السابقة لنبوّة محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) نادرة من جهة، وتشبه - من جهة أخرى - أنْ تكون في معظمها مجرّد إشارات يغلب عليها طابع الإجمال.

ولكن هذا لا يُؤثِّر شيئاً على سلامة فَهْمنا لوظيفة النّبوّة، فإنّها وظيفة واحدة منذ بداية حركة النبوّات في فجر التاريخ الإنساني إلى ختام النبوّات بنبّوة محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) ورسالة الإسلام. ولا توجد اختلافات جوهريّة بين النبوّات من حيث وظيفتها

٦٥

الأساسيّة، والاختلاف الأساسي الوحيد فيما بينها هو في درجة الشّمول والاتّساع من حيث مساحة شمول التشريع للنشاط البشري من جهة، ومن حيث عُموم الرسالات بالنسبة إلى الشّعوب من جهة أخرى.

***

قال عليه السّلام:

(... فَبعثَ فيِهم رُسُلَهُ، وواترَ إليهم أنبياءهُ لِيستأدُوهُم مِيثاق فِطرتِه، ويُذكِّروهُم منسِيَّ نِعمتِهِ، ويحتجُّوا عليِهم بِالتّبليغ، ويُثيروا لهُم دفائنَ العُقولِ، ويُرُوهُم آياتِ المقدِرةِ: مِن سقفٍ فوقهُم مرفُوعٍ، ومِهادٍ تحتهُم موضُوعٍ، ومعايِش تُحييهِم، وآجالٍ تُفنِيهِم وأوصابٍ (١) تُهرِمُهم، وأحداثٍ تتابعُ عليهِم...) (٢) .

* احتوى هذا النّص الّذي يؤرِّخ للنّبوّات السّابقة على القضايا التّالية في معرض بيان الغاية من إرسال الأنبياء:

١ - ميثاق الفطرة:

وهذه القضيّة تعني مسألة الإيمان باللّه تعالى، وما يتفرّع عن هذا الإيمان من قضايا أساسيّة تنبع منه وتَتّصل بكافّة شؤون الحياة.

وما عبّر عنه الإمام هنا - وفي مواضع أخرى - من خطب وتوجيهات هو تعبير عن حقيقة كبرى من الحقائق القرآنيّة، ورد التنبيه عليها أو الإشارة إليها في عدّة آيات منها قوله تعالى:

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (٣) .

____________________

١ - الأوصاب: المتاعِب.

٢ - نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

٣ - سورة الأعراف: (مكِّيّة / ٧) الآية: ١٧٢ - ١٧٣.

٦٦

وقد تكرّر ذكر هذه القضية الإيمانيّة الكبرى في جميع النصوص التي أرّخ فيها الإمام للنبوّات.

٢ - إثارة دفائن العقول:

وهذه القضيّة تعني بعث القوى العقليّة والنّفسيّة في الإنسان؛ لإنجاز عمليّة التقدّم الصحيح والتغيير الإيجابي في المجتمع، عن طريق الحركة التاريخيّة المُستبطِنة للوعي الإيماني المستقيم.

٣ - جعل الطّبيعة موضوعاً للبحث والنظرة:

هذه القضيّة دلّ عليها قوله:

(... وَيُرُوهُم آياتِ المَقدِرَةِ...).

وهذه القضيّة تخدم القضيَّتَين الأوْلَيَيْن، فإنّ مراقبة الطبيعة لِفَهْمِهَا، والتعامل معها واكتشافها، تعزّز قضيّة الإيمان؛ لأنّها تُقدِّم مزيداً من الأدلّة التجريبيّة على ما أدركتْه الفطرةُ السليمة من قضايا الألوهة. كذلك يُعيِّن التعامل مع الطبيعة بصورة مباشرة على إنجاز عمليّة التقدّم، بل شرط أساسي لإنجاز التقدّم المادّي، وإذ تتّخذ قضيّة الإيمان في ذات الإنسان مع حركته التاريخيّة في الطّبيعة والمجتمع فيكون تقدّم على هدى الإيمان وأخلاقيّات الروح والعقل، ويكون إيمان يستجيب للحياة الدنيا ولا يقف منها موقف الرفض والعداء.

***

في نص آخر أرّخ الإمام للعالَم حين بعثة النبي محمّد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم)، فقال:

(... إلى أنْ بَعثَ اللّه سُبحانَهُ مُحمّداً صلّى اللّه عليه وآله وَأَهلُ الأرِض يومئذٍ مِلَلٌ مُتفرِّقة، وأهواء مُنتَشِرة، وطرائقُ مُتَشتِّتَة، بينَ مُشَبِّهٍ للّه بِخلقِهِ أو مُلُحِدٍ فِي اسمِهِ، أو مُشِيرٍ إلى غيرِهِ، فهداهُم بِهِ مِن الضّلالَةِ، وأَنقذَهُم بِمَكانِهِ مِنَ الجهالَةِ...) (١) .

وقال في نصّ ثانٍ:

____________________

١ - نهج البلاغة: الخطبة الأولى.

٦٧

٢ - وَعْي التّاريخ:

من المؤكَّد أنّ الإنسان العربي الجاهلي - قبيل الإسلام - كان يعوزه الوعي التاريخي بالمعنى الّذي عرفتْه الشعوب المتحضِّرة ذات الثقافة المدوّنة، وذات المؤسّسات السياسيّة والإداريّة الرّاسخة العريقة، هذا فضلاً عن أنْ يكون الوعي التاريخي بالمعنى الّذي عرفه إنسانُ العصور الحديثة قد وُجد لدى الإنسان العربي الجاهلي قُبَيْل الإسلام.

وهذا الحكم ينطبق بوجه خاص على عرب الشّمال، وإنْ لم يكن عرب الجنوب - كما سنرى - أفضل حالاً منهم بكثير.

فقد كان العربي الجاهلي - قُبيل الإسلام - يعيش حياة البداوة بما يلزمها من تنقّل وارتحال؛ طلباً للكلأ وللماء، ومِن ثمّ لم يكن لدى العربي مؤسّسات ثابتة، ونُظُم سياسيّة وإداريّة.

وكانت الأُمِّيَّة غالبة على هذا المجتمع، ومِن ثمّ فلم يُنشئ ثقافة مدوّنة بأيّ نحو من الأنحاء إلاّ نقوشاً نادرة لا تبلغ أنْ تكون ثقافة مدوّنة تسهم في تكوين الشخصيّة الثقافيّة للإنسان، لا نستثني من ذلك عرب الجنوب الّذين كانوا قد فقدوا قُبيل الإسلام - بانهيار نظام الرّي عندهم - الكثير من سماتهم كشعب متحضِّر له ماضٍ عريق، وغدوا أقرب إلى البداوة والأُمِّيَّة.

وكانت الحياة من البساطة والسذاجة بحيث إنّ أحداثها البارِزَة كانت نادرةً جدّاً، ومحدودة المدى جغرافيّاً وبشريّاً، وهذه الأحداث هي الّتي شكّلت مادّة ما يُسمّى (أيّام العرب) الّتي سنعرض للحديث عنها بعد قليل.

كما لم يكن لدى العربي الجاهلي شعور بالزمن المستمر كمفهوم حضاري، كان

٦٨

الزمن عنده مجرّد تعاقب للظواهر الفلكية والفصول، ومن المعلوم أنّه لم يكن لدى العربي الجاهلي تقويم.

ونتيجةً لكلّ هذه العوامل لم تتكوّن لدى العربي أيّة خبرات تاريخيّة ماضية ذات شأن، ناشئة من وقوع الأحداث نفسها من ناحية، والشعور بها من ناحية أخرى، لا أحداث مشتَّتة غير مترابطة، بل في نطاق نظام للتعاقب الزّمني وللعلاقات الداخليّة فيما بينها.

وبعبارة أخرى:

لم يكن لدى العربي الجاهلي شعور باستمرار الأحداث وديمومتها، وتفاعلها الداخلي، وعلاقاتها بحاضره، وإمكانات تأثيرها في المستقبل، على النحو الذي يصحّ أنْ يسمّى وعياً تاريخيّاً. لقد كان وعي الماضي على هذا النحو لدى العربي الجاهلي قُبيل الإسلام معدوماً.

نعم، لقد كان ثمّة وَمِيْض من الشّعور بالماضي لدى العربي الجاهلي.

كانت الذّاكرة تحمل صوراً غامضة، هلاميّة الشّكل ومشوّهة لهذا الماضي، ناشئة من القصص الّتي كانت تسمّى (الأيّام) ، ومن العناية بالأنساب. لقد كانت (الأيّام) والأنساب كما (البعد التّاريخي) للإنسان العربي.

إنّ هذا الوميض من الشّعور بالماضي لا يرقى - بالتأكيد - إلى أنْ يكون وعياً تاريخيّاً بالمعنى الّذي نفهمه الآن.

فقصص الأيّام نادراً ما تملأها الأحداث الكبرى ذات الشّأن السّياسي والإنساني، وهو ما يعطي التاريخ حقيقته ومعناه، وغالب أحداثها يتكوّن من معارك صغيرة بين مجموعات قبليّة، ويعطيها الخيال الشعري والنصوص الشعريّة المرافِقَة لها وهجاً وحجماً غير واقعيَّين.

كما أنّها تفقد عنصر الترابط فيما بينها، ولا تأخذ في جميع الأحوال بنظر الاعتبار عنصر السببيّة، ولا تقوم بينها علاقات داخليّة.

وهي خالية من عنصر الزمن؛ وخلوّها من عنصر الزمن ليس ناشئاً من إهمال، بل ناشئ من عدم إدراك العربي الجاهلي لعامل الزمن التاريخي كما أشرنا آنفاً.

٦٩

وكانت قصص الأيّام في حلقات السّمر الّتي تُعقد أمام الأخبية والخيام للتسلية والمتعة، وللمفاخرة في بعض الحالات، ولم تكن تُتَداوَل كمادّة علميّة، والرأي الراجح أنّها لم تُدَوَّن على الإطلاق.

والأنساب وإنْ كانت تدلّ على شعور بالماضي من خلال وعي الانتماء إلى الآباء الّذين تشتمل على ذكرهم شجرة النسب القبليّة، إلاّ أنّ علمنا بأنّ شجرات الأنساب كانت تقتصر على مجرّد ذكر الأسماء فقط دون أنْ تحتوي على أيّة مادّة تاريخيّة، عِلْمُنَا بهذا الوضع لشجرات الأنساب التي كانت تُتَداول عن طريق الرّوايات الشّفويّة يجعل قيمتها كمصدر لتكوين الوعي التاريخي معدومة.

ومن المؤكّد أنّ شجرات الأنساب في العصر الجاهلي لم تعرف أيّ شكل من أشكال التدوين ليتيح فرصة إضافة مادّة تاريخيّة إليها، ولم تُدَوَّن شجرات الأنساب في كتب إِلاّ في عصر إسلامي متأخّر نسبيّاً.

ويظهر لنا هذا الوميض من الشعور بالماضي لدى العربي الجاهلي في الشعور الّذي يصوّر مواقف أخلاقيّة للشاعر في مجالات (الحرب، والكرم، والوفاء) ، وما إلى ذلك، حيث تدفع الشاعر خشيته من (أحاديث الغد) الّتي تعكس مسلكيّة غير نبيلة، إلى أنْ يجعل سلوكه منسجماً مع قِيَم النبالة كما تقضي بها أخلاقيّات المجتمع الجاهلي فيكون وفيّاً، وشجاعاً حتّى الموت، وكريماً...

هذا الشعور يمكن أنْ يكون نواة للوعي التاريخي، ولكنّه لا يرقى - بطبيعة الحال - إلى أنْ يكون وعياً تاريخيّاً بالمعنى الّذي حدّدناه آنفاً، إنّه وعي ناشئ عن قِيَم أخلاقيّة بدويّة الطابع، وليس عن وجود تاريخ يستوعبه الشعور والوجدان، وهو مقصور على حالات فرديّة لم تبلغ أنْ تكون وعياً عامّاً، وهو شعور بالخَشْية من تصرّف شخصي أو موقف شخصي قد يدفع الآخرين إلى إدانته، وليس شعوراً بإنجازات الآخرين وتفاعلاً معها.

***

كان هذا حال العربي الجاهلي

٧٠

ولكنّ الحال تغيّر بعد ظهور الإسلام تغيّراً كاملاً:

إنّ القرآن الكريم والسُنّة الشريفة قد كشفا للعربي تدريجاً عن عمقه في الزمان باعتباره مسلماً، وغدا القرآن والسُنّة يُغذِّيان على مَهْل وعي المسلم بعمقه التاريخي من خلال القصص الّتي تؤرّخ للأمم الماضية، وأنبيائها، ومواقفها منهم باعتبارهم أنبياء، وحالات ازدهارها، وانحطاطها، وفنائها.

ومن خلال هذا الوعي أدرك المسلم أنّه بإسلامه، وجهاده اليومي - بالسيف والكلمة - في داخل الجماعة الإسلاميّة الّتي تبني نفسها بعين اللّه وعلى يد رسول اللّه، وفي مواجهة المشركين... أدرك بوضوح كامل أنّه بعمله اليومي هذا يصنع تاريخاً موصولاً بما وعاه من تاريخ الأمم الماضية، كما تعلّمه من الكتاب والسُنّة. وهكذا وجد الوعي التاريخَ لدى الإنسان المسلم.

***

وللتّاريخ وظيفة تتعدّى شعورنا بالاستمرار والديمومة. وهذه الوظيفة تربويّة أخلاقيّة، لا يعني هذا أنّ التاريخ يتحوّل إلى مادّة وَعْظيّة فقط، فإنّ البحث والنقد غرضان من أغراض التاريخ بلا شكّ، ولكنّ الوظيفة النهائيّة بعدهما هي - كما قلنا - تربويّة أخلاقيّة.

وهذه الوظيفة تستمدّ معالمها وطبيعتها من طبيعة النهج الّذي تسلكه الأمّة في بناء نفسها، ومن طبيعة الدور الّذي تَعُدّ نفسها للقيام به في محيطها الإقليمي أو على المستوى العالمي، ولذا نرى أنّ كلّ أمّة ذات نهج فكري مميّز لشخصيّتها تجعل التاريخ مادّة بانية لهذا النهج الّذي ارتضتْه.

وهذا لا يعني - بطبيعة الحال - أنْ يُحرَّف التاريخ ليكون أداة دعائيّة وسياسيّة، إنّ الأمانة للحقيقة يجب أنْ تكون دائماً مرعيّة، وإنّما يعني أنّ التاريخ ليس مادّة تَرَف فكري وتسلية، إنّه مادّة شديدة الخطورة، إذا تولّى استعمالها - في الشأن العام - رجال لا يقيمون للأخلاق وزناً ولا تحرّكهم روح رساليّة، وأجهزة كذلك...، رجال وأجهزة يحرّكهم التعصب والغرور القومي والعنصري...، في هذه الحالة قد يوجّه التاريخ

٧١

ليكون مبرّراً نظريّاً وعاملاً نفسيّاً لدى الجماهير يخدم الطّغيان والاتّجاهات العدوانيّة لدى السّياسيّين ورجال الحرب ضدّ أُمّة أخرى، وفي هذه الحالة يعرض التّاريخ للتّزوير والتّحريف.

والتّاريخ حافل بأمثلة عن تسخير التاريخ لغايات غير أخلاقيّة وغير رساليّة في العصور القديمة وفي العصر الحديث.

وللتاريخ في الإسلام - انطلاقاً من هذا الفهم - وظيفة تتّصل بطبيعة الإنسان المسلم وطبيعة المجتمع الإسلامي.

إنّ الإنسان المسلم إنسان أخلاقي يعتنق رسالة عالميّة، والمجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي وذو رسالة عالميّة.

وإذن فالتاريخ ينبغي أنْ يخدم الرّساليّة والأخلاقيّة في علاقات المسلم الداخليّة والخارجيّة، كما ينبغي أنْ يخدم الرّسالة والرّوح الرّساليّة في العالم.

وكلّما حدث في سلوك المسلم أو سلوك الجماعة الإسلاميّة انحراف عن الأخلاقيّة أو انحراف عن الرّوح الرّساليّة في ممارسة الحياة والتعامل مع الآخرين، فإنّ التاريخ يُستعمل - إلى جانب الوسائل التربويّة الأخرى والتنظيميّة - لتصحيح النظرة الخاطئة، وتقويم مسار الفرد والمجتمع.

والقرآن الكريم حافل بالشواهد على هذه الحقيقة نذكر منها شاهداً مميّزاً؛ لأنّه يتضمّن تعبيراً غَدَا مصطلحاً إسلاميّاً في الشّأن التاريخي، هو مصطلح (أيّام اللّه) الّذي يعني الأحداث الكبرى في تاريخ كلّ أمّة، سواء أكانت نجاحات كبرى وانتصارات باهرة أو نكبات عظمى وانهيارات مأساويّة.

وقد ورد هذا التعبير (أيّام اللّه) في القرآن الكريم مرّة واحدة فقط، ذلك في سياق الآيات الكريمة الّتي تضمّنت بيان تربية وتوجيه نبيّ اللّه (موسى بن عمران) سلام اللّه عليه لبني إسرائيل وهدايتهم إلى الإيمان الصحيح، ورفْع مستوى إدراكهم من حالة الجهالة والبدائيّة والمادِّيّة إلى المستوى الإيماني - الحضاري. قال اللّه تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ

٧٢

فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (١) .

وورد ذكر هذا المصطلح في نهج البلاغة في موضعين:

أحدهما:

في كلام للإمام عند تلاوته قوله تعالى:

( ... يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... ) (٢) .

قال في وصفهم:

(... وما برحَ لِلهِ عِباد ناجاهُم (٣) فِي فِكرِهِم، وكلَّمهُم فِي ذاتِ عُقُولِهم، فاستصبحُوا (٤) بِنُورِ يقظةٍ في الأبصارِ والأسماعِ والأفئدةِ، يُذكِّرُون بِأيَّامِ اللهِ، ويُخوِّفُون مقامه...) (٥) .

وثانيهما:

في كتابٍ له إلى عامله على مكّة (قثم بن العبّاس) (٦) ، قال فيه:

(أمَّا بعدُ، فأَقِم لِلناسِ الحجَّ، وذكِّرهُم بِأيَّامِ اللهِ) (٧) .

***

من هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس كان الإمام (عليه السّلام) يتعامل في توجيهه الفكري، وفي وَعْظه، وفي تعليمه وتوجيهه السّياسي مع التاريخ، وكان يوجّه المسلمين إلى أنْ يعُوا التاريخ على هذا الأساس، وأنْ يتعاملوا مع التاريخ من هذا المنطلق الّذي يخدم الأخلاقيّة والرّساليّة.

ولعلّ الخطبة القاصعة (٨) أفضل مثال على طريقة تعامل الإمام علي مع التاريخ بهدف التربية وتقويم سلوك المجتمع أخلاقيّاً، وتوعيته بمسؤوليّته الرّساليّة، وسندرس في

____________________

١ - سورة إبراهيم: (مكِّيّة / ١٤) الآية: ٥.

٢ - سورة النّور: (مدنيّة / ٢٤) الآية: ٣٦ و٣٧.

٣ - ناجاهم: خاطبهم بالإلهام.

٤ - استصبح: أضاء مصباحه.

٥ - نهج البلاغة: رقم النص ٢٢٢.

٦ - قثم بن العباس بن عبد المطلب: كان من مساعدي الإمام علي (عليه السلام) في تجهيز رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ودَفْنه، وهو آخِر مَن خرج من القبر الشريف، ولاّهُ أمير المؤمنين على مكّة، فلم يزل والياً عليها إلى أنْ استشهد الإمام، واستشهد (قثم) بـ (سمرقند) ، كان خرج إليها مع (سعيد بن عثمان بن عفّان) زمن معاوية، وقبره في سمرقند مشهور. وقد زرناه أثناء مشاركتنا في المؤتمر الدّيني.

٧ - نهج البلاغة: (باب الكتب) رقم النص ٦٧.

٨ - الخطبة القاصعة: رقمها في نهج البلاغة: ١٩٢.

٧٣

فصل آتٍ جوانب من هذه الخطبة.

ويمكن أنْ نُكوّن فكرة مقاربة للحقيقة عن جهود الإمام الفكريّة في حقل التوعية بالتاريخ، إذا لاحظنا أنّ الكثير ممّا ورد في نهج البلاغة - وهو قليل من كثير من كلام الإمام وخطبه - إنْ لم يكن أكثر ما ورد في كلامه في النهج من المواد التالية:

( و. ع. ظ / ح. ذ. ر / ز. ج. ر / ع. ب. ر ) ...

كان الإمام قد خاطب به الناس في حالات شتّى وأزمان شتّى، موجِّهاً تفكيرهم نحو التاريخ بهدف التربية وتقويم السّلوك الفردي والاجتماعي في شؤون الحياة عامّة من روحيّة واجتماعيّة وسياسيّة. ولا يختصّ ما رُوي عنه في هذا الشأن بالوعظ وحده كما ربّما يتوهّم البعض.

ومن أمثلة ما أشرنا إليه آنفاً قوله (عليه السّلام) في مواضع من نهج البلاغة:

(وعظتم بِمَنْ كان قبلكم...) (... فاتّعِظُوا عبادَ اللّه بالصبر النّوافع...) (... واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المَثُلاَت بسوء الأفعال وَذَمِيْم الأعْمَال، فَتَذَكَّرُوا فِي الخَيْرِ والشَرِّ أَحْوَالَهُم، وَاحْذَرُوا أنْ تَكُوْنُوا أَمْثَالَهُم) (... واتَّعِظّوا فِيها بِالّذِين قالُوا:

( من أشدُّ مِنّا قُوَّةً ) ) (١) .

إلى أمثال هذه العبارات الّتي ورد كثير منها في خطبه وكتبه.

فقد كان الإمام يُقاتل بكلّ سلاح نزعة الشرّ والانحراف، وتيّار الفتنة الّتي بدأت تجتاح المجتمع الإسلامي. وكانت توعية المجتمع بالتّاريخ أحد هذه الأسلحة.

____________________

١ - سورة فصّلت: (مكّيّة / ٤١) الآية: ١٥.

( فأمَّا عاد فاستكبرُوا فِي الأرضِ بِغيرِ الحقِّ وقالُوا مَن أشدُّ مِنَّا قُوَّةً... ) .

٧٤

٣ - التّاريخ يُعيد نفسَه:

* هل يعيد التاريخ نفسه؟

من البديهي أنّ التّاريخ لا يعود مرّة أخرى إلى ساحة الحاضر أو المستقبل، إذا أردنا من هذه القضيّة عودة تفاصيله وجزئيّات أحداثه، فالأحداث ليست أشياء مجرّدة تقع في الفراغ دون أنْ تكون لها صِلَة بالبشر، وإنّما الأحداث بما هي صُنْع البشر تحمل السّمات الشخصيّة الخاصّة لصانعيها، تحمل طابع مصالحهم الآنيّة، وأَمْزِجَتهم وعواطفهم، وأخلاقيّاتهم وطريقة فَهْمهم للحياة... وقد تنعدم هذه السمات الشخصيّة المميّزة مع أصحابها، ولنْ تعودَ على الإطلاق. وإذن، فالتاريخ بهذا المعنى لا يعود ولا يتكرّر.

إنّ ما حدث في الماضي قد حدث مرّة واحدة، ولنْ يحدث مرّة أُخرى، لنْ يتكرّر على الإطلاق.

أمّا إذا أردنا من هذه القضيّة عودة نمط الحركة التّاريخيّة ومظاهره العامّة وآثارها النّفسيّة والاجتماعيّة في المجتمع، فإنّ التاريخ يعود بالتأكيد حين تتوفّر في الحاضر... في نسيجه الاجتماعي وعلاقاته الإنسانيّة الأسباب الموضوعيّة الّتي أدّت إلى نشوء نمط الحركة التاريخيّة في الماضي.

إنّ الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان.

إنّه يتحرّك في الزّمان والمكان مدفوعاً - فرداً، وجماعةً، ومجتمعاً - بمصالحه وعلاقاته وعواطفه، والعقائد والشرائع والمُثُل والقِيَم الأخلاقيّة والرّوحيّة إذا تأصّلت فيه وتعمّقت في وجدانه وكيّفتْ نظرته إلى الكون والحياة والإنسان فإنها تكون قادرة على

٧٥

أنْ تُدْخِل تغييراً عميقاً على عواطفه ومصالحه وعلاقاته في المجتمع والعالم، ومِن ثمّ فإنّها تكون قادرة على تغيير تاريخه ونَقْله إلى مسار جديد، ما دامت لا تواجه عقبات تشلّ فاعليّتها وتأثيرها.

أمّا إذا فشلتْ العقائد والشرائع والمُثُل والقِيَم الأخلاقيّة والرّوحيّة في إدخال التغيير المناسب لها على تكوين الإنسان النفسي وعلى تقديره لمصالحه؛ لأنّها لم تتأصّل في أعماقه ولم تُغيّر نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، فإنّ تاريخه في هذه الحالة سيتكرّر.

إنّ هذا التاريخ الجديد لنْ يحمل نفس السّمات والخصائص الماضية في الغالب، ولكنّه يحمل نفس الروح، ويخلّف في المجتمع نفس الآثار الّتي كانت في الماضي تحمل أسماء جديدة، وتقدّم نفسها بمبرّرات جديدة لا تعدو أنْ تكون مجرّد قشرة خادعة يستطيع المؤرّخ الباحث أنْ يكتشف ما وراءها، فيتجاوزها إلى العمق ليجد الواقع القديم تحت الأشكال الجديدة (١) .

***

في أوّل خطبة خطبها أمير المؤمنين عليّ بعد أنْ بُويِع بالخلافة في المدينة، نرى أنّه قد لاحظ عودة الأشكال القديمة للانقسامات القبليّة والفئويّة داخل المجتمع العربي الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي في عهد عثمان وبعد مقتله، بكلّ ما كانت تحتويه هذه الأشكال من روح قبليّة وعنصريّة، وأخلاقيّات جاهليّة رجعيّة.

وقد كانت عودة هذه الأشكال القديمة حاملة مضمونها الرجعي؛ نتيجةً لضمور المُثُل العليا والقِيَم المؤثِّرة في حركة التاريخ الإسلامي، ونتيجةً لضعف مؤسّسة الخلافة في عهد عثمان، هذا الضعف الّذي مكّن القوى القديمة والقِيَم القديمة - الّتي لم تكن قد ماتت بعد، وإنّما كانت تعاني من حالة خمود وضمور - مكّنها من أنْ تستعيد فاعليّتها، وتعود إلى التأثير في حركة التاريخ تحت شعارات مناسبة تنسجم مع الإسلام في

____________________

١ - من الظواهر الهامّة الّتي نقدّر أنّها تستحقّ من المفكِّرين والمؤرِّخين بحثاً معمّقاً، ظاهرة الانقسامات الإقليميّة في العالم العربي، فإنّنا نقدّر أنّها تعبير جديد عن القبليّة، تحت أسماء جديدة وبمبرّرات تلائم المناخ الثقافي الحاضر والوعي السياسي السائد. ونقدّر أنّ فشل فكرة الوحدة العربيّة لا يرجع فقط إلى عمل الاستعمار التخريبي، وإنّما نشأ من وجود استعداد للتَشَرْذُم، أعان الاستعمار على رسم سياساته وإنجاحها في هذا المجال، ولولا ذلك لَمَا وُفِّق الاستعمار إلى بلوغ غايته.

٧٦

الشكل الخارجي.

لقد عادت إلى الظهور والفاعليّة تلك القِيَم والمُثُل الجاهليّة القديمة، الّتي كانت تقود حركة التاريخ في المجتمع العربي، وترسم ملامح هذا المجتمع وتُوَجِّه خُطاه قبل بعثة الرّسول الأكرم وانتصار الإسلام.

وقد رأى أمير المؤمنين عليّ هذه القِيَم البائدة العائدة من خلال رصْده للظواهر الجديدة الّتي تبدو في حركة الجماعات داخل المجتمع الإسلامي، وحركة القيادات الّتي توجّه هذه الجماعات سرّاً وعلانيةً.

وقد رأى مع ذلك الأفاعيل التي ستنجم عن هذه الحركة الرجعيّة للتاريخ في الإسلام، والمآسي الكبرى الّتي ستنزل بالمسلم فرداً، وجماعةً، ومجتمعاً، ودولةً، ومؤسّساتٍ؛ نتيجةً لانبعاث هذه الرّوح الشّريرة من جديد.

قال عليه السلام:

(ذِمَّتِي بِما أقُولُ رهِينة (١) وأنا بِهِ زعِيم (٢) . إنَّ من صرَّحت لهُ العِبرُ عمّا بين يديهِ مِن المثُلاتِ (٣) حجزتْهُ التّقوى عن تقحُّمِ الشُّبُهاتِ (٤) ، أَلاَ وإنّ بلِيَّتكُم قد عادت كهيئتِها (٥) يوم بعثَ اللهُ نبِيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم. والّذي بعثهُ بِالحقِّ لتُبلبلُنَّ (٦) بلبلةً، ولتُغربلُنَّ (٧) غربلةً، ولتُساطُنَّ سوط القِدرِ (٨) حتّى يعُودَ أسفلُكُم أعلاكُم، وأعلاكُم أسفلكُم...) (٩) .

____________________

١ - رهينة: من الرهن. جعل ذمّته رهناً على ما يقول.

٢ - زعيم: كفيل، بصدق ما يقول.

٣ - العبر: ما أصاب النّاس من مثلات: (عقوبات) إذا دعاها الإنسان على سبيل الاعتبار، فيتّعظ بتجربة الّذين أصابتْهم العقوبات من قبله.

٤ - الشّبهات: الأفعال والمواقف الغامضة، الّتي لم يبت في الشرع الرخصة في فعلها. يريد أنّ العبرة بالماضين تحجر الإنسان عن الوقوع فيما وقعوا فيه من أخطاء.

٥ - رجعت البلية كما كانت في الماضي الجاهلي.

٦ - البلبلة: الاختلاط، كنايةً عن الأزمات الاجتماعيّة والثّورات.

٧ - الغربلة: من الغربال: يريد أنّ التجارب الآتية ستميّز المواقف، وتكشف الأشخاص على حقيقتهم.

٨ - السوط: الخلط. سوط القدر: كما تمزج مواد الطبخ في القدر، وتختلط وتغلي سيكون المجتمع نتيجة للثّورات والأزمات الاجتماعيّة.

٩ - نهج البلاغة: رقم الخطبة: ١٦.

٧٧

يقول لهم:

إنّ البليّة (الفساد الاجتماعي، والانحطاط الأخلاقي والحضاري) الّتي كانت تَسِم الحياة العربيّة في الجاهليّة؛ نتيجةً لسيادة قِيَم الجاهليّة ونظرة الجاهليّة إلى الكون والحياة والإنسان، هذه البليّة قد عادت كما كانت عشيّة بعثة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ القِيَم الّتي ولّدت هذه البليّة في الماضي الجاهلي قد دبّت فيها الحياة من جديد على حساب القِيَم الجديدة الّتي جاء بها الإسلام، هذه القِيَم الّتي تقلّص نفوذها وتأثيرها، بسبب عوامل متنوّعة، على الإنسان المسلم، وأدّى ذلك إلى حدوث ثغرات نفذت منها القِيَم القديمة فعادت من جديد.

ثمّ أنذر الإمام علي مجتمعه بأنّ هذه البليّة الّتي عادت ستكون لها آثار مأساوية على المجتمع الإسلامي.

ستنجم عن هذه البليّة الأزمات الاجتماعيّة والثورات الّتي ستلقي بالمجتمع في غِمَار حروب أهليّة مدمِّرة، ولا بدّ أنْ تكون هذه الأزمات والحروب الأهليّة أضرس، وأعم شراً، وأشدّ فَتْكاً مِمّا كان يحدث في الجاهليّة.

ستكون في المجتمع؛ نتيجةً لعودة هذه البليّة بلبلة (اختلاط وتداخل) وشد وجذب، ينتج عن الأزمات والثورات ويولّدها.

وسيكون حال المجتمع - نتيجة لهذه البليّة العائدة - حال القِدْر التي تغلي على النار وتختلط فيها المواد، ولا يستقر على حال، ولا ينعم بالطمأنينة، وإنّما هو في قلق دائم، واضطراب مستمرّ.

سيؤدّي ذلك إلى الغربلة، وتمييز مواقف الرجال والجماعات؛ لأنّ المحن والأزمات تفرز الفئات الاجتماعيّة، وتحدّد سماتها.

ولكن كلّ ما سيحدث لنْ يتضمّن شيئاً من الخير، بل سيعود على المجتمع بالشّرور، وسيؤدّي بالمجتمع إلى التمزق الّذي يشلّ الفاعليّة، ويعطّل الطاقات الإيجابيّة، بل يهدِّدها، ويعوق حركة التقدّم.

ستكون جاهليّة تتغشّى بشعارات الإسلام، جاهليّة بعثتْها القِيَم الجاهليّة الّتي عادت إلى الحياة، فكانت هي - بدل القِيَم الإسلاميّة الجديدة - الأسباب الموضوعيّة

٧٨

لتحريك الإنسان المسلم في الزّمان والمكان.

هكذا يصوّر الإمام عودة التّاريخ.

***

وفي خطبة أخرى خطبها الإمام بذي قار (١) وهو في طريقه من المدينة إلى البصرة بعد أنْ خرج عليه (الزبير بن العوام، وطلحة بن خويلد، وأمّ المؤمنين عائشة) فاتحين بخروجهم أبواب الفتنة الّتي عصفتْ بالمسلمين، والحرب الأهليّة الّتي مزّقت وحدتهم... هذه الفتنة الّتي ولّدتْها القِيَم الجاهليّة الّتي تَنَبّأ الإمام بها في خطبته الأولى... في هذه الخطبة بيّن الإمام (عليه السّلام) أنّ مسيره لمواجهة المظهر الأوّل للفتْنة هو كمسيره مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) لمواجهة قوى الجاهلية، وأنّ الروح المحرِّكة واحدة في الحالَين رغم اختلاف المظهر الخارجي الّذي قد يوحي للساذجين بخلاف ذلك، ولكنّه لا يخدع الخبير.

قال عليه السلام:

(... أَمَا واللّه إنْ كُنتُ لفِي ساقتِها (٢) حتّى تولَّت بِحذافيرِها (٣) ما عجزتُ ولا جبُنتُ. وإنَّ مسيرِي هذا لِمِثلِها، فلأَنقُبنَّ (٤) الباطِل حتَّى يخرُج الحقُّ مِن جنبِهِ. مالي ولِقُريش!! واللّه لقد قاتلتُهم كافرِين، ولأُقاتِلنَّهُم مفتُونين، وإنّي لصاحِبُهُم بِالأمسِ كما أنا صاحِبُهُمُ اليومَ) (٥) .

كان الإمام يتحدّث عن شأن الجاهلية في مواجهة الإسلام، وعن كفاحه مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) ضد الجاهلية. ثمّ بيّن أنّ مسيره هذا إلى البصرة لمثل ما كان يكافحه من مظاهر عناد الجاهليّة في حياة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله).

إنّ التاريخ قد عاد، ولكن تحت شعارات جديدة.

____________________

١ - ذو قار: موضع قريب من (البصرة) . اشتهر في التاريخ باعتباره الميدان الّذي جَرَتْ فيه، أوّل ظهور الإسلام، في سنة (٦١٠ م) معركة بين الفرس والعرب، حيث هاجم ثلاثة آلاف عربي من قبيلة (بكر بن وائل) المنطقة الفراتيّة، وهزموا الفرس هزيمة حاسمة في ذي قار.

٢ - السّاقة: مؤخّرة الجيش الّتي تسوقه. شبّه الجاهلية بجيش مهزوم يطرده ويلاحقه.

٣ - ولّت بحذافيرها: ذهبتْ وطُردت بأسرها (الجاهليّة).

٤ - النقب: الثقب.

٥ - نهج البلاغة: رقم الخطبة ٣٣.

٧٩

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا النص:

(وشبّه - عليه السّلام - أمر الجاهليّة إمّا بعجاجة ثائرة، أو بكتيبة مُقْبِلَة للحرب، فقال:

إني طردتُها، فولّت بين يديّ، ولم أزل فِي ساقتِها أنا أطردها وهي تنطرد أمامي، حتَّى تولَّت بِأسرِها، ولم يبق مِنها شيء، ما عجزتُ عنها، ولا جبُنتُ مِنها).

(ثمّ قال:

وإنّ مسيري هذا لِمِثلِها، فلأنقُبنّ الباطِل:

كأنّه قد جعل الباطل كشيء قد اشتمل على الحق واحتوى عليه، وصار الحق في طيّه، كالشيء الكامن المستتر فيه، فأقْسَمَ لينقُبنّ ذلك الباطل إلى أنْ يخرج الحق من جنبِه) (١) .

وهكذا يصوّر الإمام عودة التاريخ حين تنشط الأسباب القديمة الّتي أَنْتَجَتْ الأحداث والمواقف القديمة، فتؤدّي إلى تكرار المواقف والاتّجاهات ولكن تحت شعارات جديدة تتناسب مع الثقافة السائدة في المجتمع.

وثمّة نصوص أُخرى - غير ما ذكرنا - منثورة في نهج البلاغة، تتضمّن الدّلالة على هذه الحقيقة.

____________________

١ - (ابن أبي الحديد): شرح نهج البلاغة بتحقيق (محمّد أبو الفضل إبراهيم) / دار إحياء الكتب العربيّة / القاهرة / الطبعة الأولى: ١٣٧٨ هجري = ١٩٥٩ م / ج ٢ / ص ١٨٥ - ١٨٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181