الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 418
المشاهدات: 89470
تحميل: 4980


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89470 / تحميل: 4980
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنّ جمهور المحدِّثين ثمَّ يذكروا أنَّ أبا بكر أسلم إلّا بعد عدَّة من الرِّجال منهم: عليّ بن أبي طالب، وجعفر أخوه، وزيد بن حارثة، وأبو ذرّ الغفاري، وعمرو بن عنبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص، وخباب بن الأرت، وإذا تأمَّلنا الرِّوايات الصحيحة والأسانيد القويَّة الوثيقة وجدناها كلّها ناطقةً بأنَّ عليّاً عليه السلام أوَّل من أسلم.

فأمّا الرِّواية عن إبن عباس: أنّ أبا بكر أوَّلهم إسلاماً. فقد روي عن إبن عبّاس خلاف ذلك بأكثر ممّا رووا وأشهر فمن ذلك ما رواه يحيى بن حمّاد (ثمَّ ذكر أحاديث صحيحة ممّا مرَّ عن إبن عبّاس) فقال: فهذا قول إبن عبّاس في سبق عليّ عليه السلام إلى الإسلام وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر، على أنَّه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث أبي بكر الهذلي. ثمَّ ذكر حديثه وأحاديث أُخرى ممّا ذكر نقلاً عن الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها(١) هذا. ومن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً أو كذَّب بالحقِّ لما جاءه.

لفت نظر

لعلَّ الباحث يرى خلافاً بين كلمات أمير المؤمنين المذكورة ص ٢٢١ - ٢٢٤ في سني عبادته وصلاته مع رسول الله بين ثلث. وخمس. وسبع. وتسع سنين فنقول: أمّا ثلث سنين فلعلَّ المراد منه ما بين أوَّل البعثة إلى إظهار الدعوة من المدَّة وهي ثلث سنين(٢) فقد أقام صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكَّة ثلاث سنين من أوَّل نبوَّته مستخفياً ثمَّ أعلن في الرابعة.

وأمّا خمس سنين فلعلَّ المراد منها سنتا(٣) فترة الوحي من يوم نزول إقرأ باسم ربِّك الذي خلق إلى نزول يا أيّها المدَّثِّر. وثلث سنين من أوَّل بعثته بعد الفترة إلى نزول قوله:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) . وقوله:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) . سني الدعوة الخفيَّة التي لم يكن فيها معه صلّى الله عليه وآله إلّا خديجة وعليّ. و

_____________________

١ - مرّت بقية الكلام ج ٢ ص ٢٨٧. وللإسكافي في المقام كلمات ضافية نحيل الحيطة بها إلى رسالته في الردّ على الجاحظ.

٢ - تاريخ الطبري ٢ ص ٢١٦، ٢١٨. سيرة إبن هشام ١ ص ٢٧٤. طبقات إبن سعد ٢٠٠. الامتاع ١٥، ٢١.

٣ - عدهما المقريزي أحد الأقوال في أيّام فترة الوحي في الامتاع ص ١٤.

٢٤١

أحسب أنَّ هذا مراد من قال: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان مُستخفياً أمره خمس سنين كما في الإمتاع ص ٤٤.

وأمّا سبع سنين فإنَّها مضافاً إلى كثرة طرقها وصحَّة أسانيدها معتضدةٌ بالنبويَّة المذكورة ص ٢٢٠ وبحديث أبي رافع المذكور ص ٢٢٧ وهي سني الدَّعوة النبويَّة من أوَّل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم إلى فرض الصَّلاة المكتوبة.

وذلك أنَّ الصَّلاة فُرضت بلا خلاف ليلة الإسراء وكان الإسراء كما قال محمد ابن شهاب الزهري قبل الهجرة بثلاث سنين، وقد أقام صلّى الله عليه وآله في مكّة عشر سنين فكان أمير المؤمنين خلال هذه المدَّة السنين السبع يعبد الله ويُصلّي معه صلّى الله عليه وآله فكانا يخرجان ردحاً من الزَّمن إلى الشعب وإلى حِراء للعبادة ومكثا على هذا ما شاء الله أن يمكثا(١) حتّى نزل قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) . وقوله:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) . وذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه الشريف، فتظاهر عليه السلام بإجابة الدَّعوة في منتدى الهاشميِّين المعقود لها ولم يلبِّها غيره، ومن يوم ذاك إتَّخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله أخاً ووصيّاً وخليفةً ووزيراً(٢) ثمَّ لم يُلبّ الدعوة إلى مدّة إلّا آحادهم بالنسبة إلى عامَّة قريش والناس المرتطمين في تمرُّدهم في حيِّز العدم.

على أنَّ إيمان من آمن وقتئذ لم يكن معرفةً تامَّةً بحدود العبادات حتّى تدرَّجوا في المعرفة والتهذيب، وإنَّما كان خضوعاً للإسلام وتلفّظاً بالشَّهادتين ورفضاً لعبادة الأوثان. لكن أمير المؤمنين خلال هذه المدَّة كان مقتصّاً أثر الرَّسول من أوَّل يومه فيشاهده كيف يتعبَّد، ويتعلّم منه حدود الفرايض ويقيمها على ما هي عليه، فمن الحقِّ الصحيح إذن توحيده في باب العبادة الكاملة، والقول بأنَّه عبد الله وصلّى قبل الناس بسبع سنين.

ويحتمل أن يراد السنين الواردة في حديث إبن عبّاس قال: إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أقام بمكّة خمس عشرة سنة سبع سنين يرى الضوء والنور ويسمع الصوت، و

_____________________

١ - تاريخ الطبري ٢ ص ٢١٣. سيرة إبن هشام ١ ص ٢٦٥. راجع ص ٢٣٥ من هذا الجزء.

٢ - راجع الجزء الثاني من كتابنا ص ٢٧٨ - ٢٨٤.

٢٤٢

ثماني سنين يوحى إليه(١) وأمير المؤمنين كان معه من أوَّل يومه يرى ما يراه صلى الله عليه وآله وسلم و يسمع ما يسمع إلّا أنَّه ليس بنبيٍّ كما مرَّ في ص ٢٤٠.

فإن تعجب فعجبٌ قول الذهبي في تلخيص المستدرك ٣ ص ١١٢: إنَّ النبيَّ من أوَّل ما أوحي إليه آمن به خديجة وأبو بكر وبلال وزيد مع عليّ قبله بساعات أو بعده بساعات وعبدوا الله مع نبيِّه فأين السبع السنين؟!

*(قال الأميني)*: هذه السنين السبع، ولكن أين تلك الساعات المزعومة عند الذهبي؟ ومَن ذا الذي يقولها؟ ومتى خُلق قائلها؟ وأين هو؟ وأيُّ مصدر ينصُّ عليها؟ وأيُّ راوٍ رواها؟ بل نتنازل معه ونرضى بقصِّيص يقصّها، غير ما في علبة مفكّرة الذهبي، أو عيبة أو هامه، ومتى كان أبو بكر من تلك الطبقة؟ وقد مرَّ في صحيحة الطبري ص ٢٤٠: إنَّه أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً. فكأنَّ الرَّجل قرويٌّ من البعداء عن تاريخ الإسلام، أو أنِّه عارفُ به غير أنَّه يروقه الإفك والزور. وأمّا تسع سنين فيمكن أن يُراد منها سنتا الفترة والسنين السبع من البعثة إلى فرض الصَّلوات المكتوبة. والمبنيُّ في هذه كلّها على التقريب لا على الدقَّة والتحقيق كما هو المطَّرد في المحاورات، فالكلُّ صحيحٌ لا خلاف بينها ولا تعارض هناك.

٥ - ذكر في ج ٧ ص ٣٥٧ حديث تصدُّق أمير المؤمنين خاتمه في الصَّلاة و هو راكعٌ ونزول آية:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) . الآية. من طريق أبي سعيد الأشجّ الذي أسلفناه ص ١٥٧ ثمَّ أردفه بقوله: وهذا لا يصحُّ بوجهٍ من الوجوه لضعف أسانيده، ولم ينزل في عليٍّ شيءٌ من القرآن بخصوصيَّته وكلّ ما يريدونه(٢) في قوله تعالى:( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) . وقوله:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) . وقوله:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في أنَّها نزلت في عليٍّ لا يصحُّ شيءٌ منها.

ج - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلّا كَذبا. كيف يحكم الرَّجل

_____________________

١ - طبقات إبن سعد ص ٢٠٩ ط مصر.

٢ - كذا في النسخة ولعله: يروونه.

٢٤٣

بعدم صحّة نزول آية( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ) في عليّ عليه السلام ويستدلُّ بضعف أسانيده وهو بنفسه يرويه في تفسيره ٢ ص ٧١ من طريق إبن مردويه عن الكلبي ويقول: قال: هذا إسنادٌ لا يُقدح به؟! ونحن أوقفناك ص ١٥٧: على أنَّ حديث أبي سعيد الأشجّ الذي ذكره صحيحٌ رجاله ثقاتٌ.

ثمَّ إن كان ما ورد في هذه الآيات وغيرها من الآيات الكريمة المتكثِّرة من نزولها في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، أنَّها مأوّلة به، أو أنَّه عليه السلام أحد المصاديق الظاهرة لعمومها كما حسبه المغفَّل ممّا لا يصحُّ شيءٌ منها؟ فمن واجب الباحث أن يشطب على هذه التفاسير المعتمدة عليها والصحاح والمسانيد ومدوَّنات الحديث المعتبرة بقلمٍ عريض يمحو ما سطروه فيها، وما تكون عندئذ قيمة هاتيك الكتب المشحونة بما لا يصحّ؟! وما غناء هؤلاء العلماء الذين يعتمدون على الأباطيل؟! وهم يقضون أعمارهم في جمعها، ويدَّخرونها للأُمَّة لتعمل بها وتخبت إلى مفادها، وإذا ذهب هذه ضحيَّة هوى إبن كثير فأيُّ كتاب يحقُّ أن يكون مرجعاً لرُوّاد العلم، وموئلاً يقصده الباحث؟!؟!.

نعم: هذه الكتب هي المصدر والموئل لا غيرها وإبن كثير نفسه لا يرد إلّا إليها، ولا يصدر إلّا منها في كلِّ مورد، إلّا في باب فضايل أمير المؤمنين فعندها تغلي مراجل حقده فيأمّها بلسانٍ بذيّ وقلم جريء.

ونحن قد أوقفناك على مصادر نزول هذه الآيات الكريمة في كتابنا هذا ج ٢ ص ٥٢ - ٥٥ وج ٣ ص ١٠٦ - ١١١ و١٥٦ - ١٦٣ وسنوقفك على حقِّ القول في قوله تعالى:( إِنّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ ) . فإلى الملتقى.

٦ - ذكر في ج ٧ ص ٣٥٦ عن الإمام أحمد عن وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثيع عن أبي بكر حديث البراءة ثمَّ أردفه بقوله: وفيه نكارةٌ من جهة أمره بردِّ الصدِّيق فإنَّ الصدِّيق لم يرجع بل كان هو أمير الحجّ. إلخ.

ج - إقرأ واضحك من هذا الإجتهاد البارد في مقابل النصِّ الثابت الصحيح المجمع على صحَّته، وسيوافيك الحديث بطرقه المتكثِّرة.

٧ - ذكر في ج ٧ ص ٣٤٣ من طريق الإمام أحمد عن إبن نُمير عن الأجلح الكندي عن عبد الله بن بُريدة حديثاً فيه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقع في عليٍّ فإنَّه منّي و

٢٤٤

أنا منه وهو وليّكم بعدي. ثمَّ أردفه بقوله: هذه اللفظة منكرةٌ والأجلح شيعيٌّ، و مثله لا يُقبل إذا تفرَّد بمثلها. وقد تابعه فيها مَن هو أضعف منه والله أعلم، والمحفوظ في هذا رواية أحمد عن وكيع عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَن كنت مولاه فعليٌّ وليّه.

ج - هل يرى عربيٌّ غير أمويّ في هذه اللفظة نُكراً؟! وهو ذلك القول العربيُّ المبين السهل الممتنع. أو هل يرى عربيٌّ - لم يُشبِهُ عوامل العصبيَّة - في معناه شيئاً منكراً؟ وهو ذلك المعنى الصحيح الثابت الصادر عن مصدر الوحي بأسانيد صحيحة المدعوم بما في معناه من الأحاديث الكثيرة الصِّحاح(١) وهل النكر الَّذي حسبه إبن كثير في إسناده إلى قائله صلّى الله عليه وسلّم؟ وهو لا يفتأ يشيد بأمثال هذا الذِّكر الحكيم. أم في المقول فيه صلوات الله عليه؟ فيراه غير لائق بمثل هذه الكلمة، إذن فما ذا يصنع إبن كثير بأمثالها المتكثِّرة التي ملأت بين المشرق والمغرب؟! وهي لا تدافع بغمز في إسناد أو بوقيعةٍ في دلالة.

وهل سمعتْ أُذناك من محدِّث دينيٍّ ردَّ ما أخرجه أئمَّة الحديث في الصِّحاح والمسانيد وفي مقدَّمها الصحيحان إذا تفرَّد به شيعيٌّ؟ وما ذنب شيعيٍّ إذا كان ثقةً عند أئمَّة الحديث؟ كأجلح فقد وثَّقه مثل إبن معين.

والحديث أخرجه أحمد في المسند ٥ ص ٣٥٥ بالإسناد المذكور. والترمذي باختصار. والنسائي في الخصايص ٢٤. وإبن أبي شيبة كما في كنز العمّال ٦ ص ١٥٤. ومحبُّ الدين الطبري في الرِّياض النضرة ٢ ص ١٧١. والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ ص ١٢٨ وغيرهم، وإسناد أحمد المذكور صحيحٌ رجاله رجال الصحيح إلّا الأجلح و هو ثقةٌ كما سمعت.

وقول الرَّجل: والمحفوظ في هذا رواية أحمد. إلخ. يكشف عن قصور باعه في الحديث، وحسبانه الحديثين واحد الانتهاء سندهما إلى بريدة، وإفادة كليها الولاية، وعدم معرفته بأنَّ حديث (لا تقع) قضيَّةٌ في واقعة شخصيَّة لدة قصَّة عمران بن الحصين المذكورة ص ٢١٥ وأمّا (مَن كنت مولاه) فهو لفظ حديث الغدير العامّ، وليس هو محفوظ

_____________________

١ - راجع حديث الغدير في الجزء الأوّل من كتابنا وفي هذا الجزء ص ٢١٥، ٢١٦.

٢٤٥

هذه القضيَّة كما لا يخفى على النابه البصير.

٨ - يعزو إلى الشيعة في ٢ ص ١٩٦ مشفوعاً ذلك بالتكذيب منه أنَّ منهم من زعم أنَّ الإبل البخاتي إنَّما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم (يوم سبي عقايل بيت الوحي يوم كربلا) لتستّر عوراتهنَّ من قُبلهنَّ ودُبرهن.

ج - لا أحسب أنَّ في الشيعة معتوهاً يزعم أنَّ الأسنمة الموجودة في الإبل بخاتيّها وعرابيّها منذ كُوّنت حدثت بعد واقعة الطفّ، الشيعة لا يقول ذلك وإنَّما يأفك بهم من أفك، وهو يريد الوقيعة فيهم بإسناد التافهات إليهم، ولا يعتقد الشيعيُّ أنّ حرائر النبوَّة وإن سلبن الحليّ، والحلل، والأزر، والأخمرة، مضين في السبي عراة، و استقبلهنّ شيءٌ من مظاهر الخزي، فإنَّ عطف المولى لهنَّ كان يأبى ذلك كلّه.

نعم: إنتابتهنَّ محنٌ ونوائب وكوارث وشدايد في سبيل جهادهنَّ كما انتابت رجالهنَّ في سبيل جهادهم، وكلّما ينتاب المجاهد بعين الله وفي سبيله فهي مأثرةٌ له لا مخزاة فإنَّهن شاركن الرِّجال في تلك النهضة المقدَّسة التي أسفرت عن فضيحة الأمويِّين ومكائدهم ونواياهم السيِّئة على الدين والمسلمين، وإضمارهم إرجاع الملأ الدينيِّ إلى الجاهليَّة الأولى.

لكن حسين الدين والهدى، المفوَّض إليه كلائة دين جدِّه عن عادية أعدائه، الناظر إلى هاتيك الأحوال من أمم، وقف هو وآله وأصحابه ونساؤه ذلك الموقف الرَّهيب، فأنهوا إلى الجامعة الدينيَّة مقاصد القوم، وأبصروهم المعاول الهدّامة لتدمير الشريعة في أيدي آل أُميَّة، وإنَّ ذلك المقعي على أنقاض الخلافة الإسلاميَّة لا صلة له برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نصيب له من الخلافة عنه، ولم يزل عليه السلام يتلو هاتيك الصحيفة السوداء لبني صخر حتّى لفظ نفسه الأخير في مشهد يوم الطفّ؛ وحتّى انتهى السير بنساؤه وذراريه إلى الشام.

هنالك مجَّت النفوس آل حرب وأشياعهم، وتعاقبت عليهم الثورات، حتّى اكتسح الله سبحانه معرَّتهم عن أديم الأرض أيّام مروان الحمار، ذلك بما كَسَبتْ أيديهم وما الله بظلّامٍ لِلعبيد. وهذا مغزى ما يُقال: من أنَّ دين الإسلام كما أنَّه محمَّديُّ الحدوث فهو حسينيُّ البقاء.

٢٤٦

هذه حقيقةٌ راهنةٌ مدعمةٌ بالبراهين لكن إبن كثير ونظرائه من حملة الرّوح الأمويَّة لا ينقطعون عن تحاملهم على شيعة الحسين عليه السلام بنسبة الأكاذيب إليهم، وقذفهم بالقوارص.

هذه نماذج يسيرة من جنابات إبن كثير على العلم وودائع الإسلام، وتمويهه على الحقايق، ولا يسعنا استيعاب ما أودع في طيِّ كتابه من عُجره وبُجره، ولو أردنا أن نسرد كلَّ ما فيه أو جلَّه من المخاريق والتافهات والإضافات المفتعلة إلى الأبرياء، والسباب المقذع لرجال الشيعة عند ذكر تاريخهم من دون أيِّ مبرِّر، والتحامل عليهم بما يستقبحه الوجدان والعقل السليم، لجاء منه كتابٌ حافلٌ، لكنّا نمرُّ عليها كراما.

( وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى‏ وَيَتّبِعْ

غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى‏ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ

وَسَاءَتْ مَصِيراً )

النساء ١١٥

٢٤٧

قال الأميني:

هذه نماذج ممّا في الكتب من التافهات ولم نقصد استقصاءها لأنه يكلفنا تأليف مجلدات ضخمة، وإنما أردنا إيقاظ شعور الأمة إلى عوامل الحقد والإحن الممتزجين بنفسيات ناصبي العداوة لأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، حتى لا تكبو بتلك المدونات المزخرفة تجاه هذه الطائفة الكبيرة (شيعة آل الله) مثل ما كبوا أولئك المهملجون إلى البهرجة والضلال.

وإذا عرف القارئ هذه النزعة منهم ففي وسعه أن يتفحص عن بقية ما هنالك من المخازي والطامات والقذائف، و يحرى بنا الآن أن نوعز إلى شيئ ممّا جاء به متأخروا القوم من مؤلفي اليوم ممن اقتصوا إثر قدمائهم في العصبية العمياء التي فرقت الكلم، وشتت جمع الأمم، وأحدثت في القلوب ضغاين، وأورثت في الأفئدة نار العداء، وأثمرت الفتن، و أوجدت الكوارث، وجرت على الأمة كل سوء، وفتحت عليها باب الضعة بمصراعيه، وألبستها شية العار، ووسمة الشنار، فأصبحت والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلّا المتقين، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء والله يدعو إلى دار السلام.

( يَا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَافّةً وَلاَ تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيَطانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ

إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ )

٢٤٨

٨

محاضرات

تاريخ الأمم الإسلامية

تأليف الشيخ محمد الخضري

لقد أخرج الرجل هذا الكتاب بصفة التاريخ لكنه لم يجر على بساطته، وإنما أودع فيه نزعاته الأموية فترى في كل ثنية منه هملجة، وفي كل فجوة منه تركاضاً، فلا هو كتاب تاريخ يسكن إلى نقله، ولا كتاب عقيدة ينظر في نقده، وإنما هو هياج ولغط يعكر الصفو، ويقلق الطمأنينة، فكان الأحرى بنا الاعراض عنه و عن أغلاطه، لكن لم نجد بداً من لفت القارئ إلى نزر من سقطاته.

١ - قال في ج ٢ ص ٦٧: وممّا يُزيد الأسف أنّ هذه الحرب (صفِّين) لم يكن المراد منها الوصول إلى تقرير مبدأ دينيٍّ أو رفع حيفٍ حلَّ بالأُمَّة، وإنَّما كانت لنصرة شخص على شخصٍ، فشيعة عليٍّ تنصره لأنَّه إبن عمِّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحقُّ النّاس بولاية الأمر، وشيعة معاوية تنصره لأنَّه وليّ عثمان وأحقُّ النّاس بطلب دمه المسفوك ظلماً، ولا يرون أنَّه ينبغي لهم مبايعة من آوى إليه قتلته.

ج - ليت الرَّجل بيّن لنا المبادئ الدينيَّة عنده حتّى ننظر في إنطباقها على هذه الحرب، وحيث لم يبيِّن فنحن نقول: أيُّ مبدأ دينيٍّ هو أقوى من أن تكون الحرب والمناصرة لتنفيذ كلمة رسول الله يوم أمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتال القاسطين - وهم أصحاب معاوية - وأمر أصحابه بمناصرته يومئذ(١) ورأى من واجبهم جهاد مقاتليه وقال: سيكون بعدي قومٌ يُقاتلون عليّاً على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شيءٌ(٢) .

وأيّ مبدأ دينيٍّ هو أقوى من نصرة الرَّجل مَن يراه أولى الناس بالأمر كما

_____________________

١ - راجع ص ١٨٨ - ١٩٥.

٢ - أخرجه الطبراني وإبن مردويه وأبو نعيم كما مرّ في ص ١٩٠.

٢٤٩

يلهج به الخضري نفسه؟! وأيّ مبدأٍ دينيٍّ هو أقوى من مناصرة أمير المؤمنين الذي قال رسول الله فيه وفي آله وذويه: حربكم حربي(١) ؟! وقال له: يا عليُّ ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحقِّ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس منّي(٢) وهل يسع المسلم التقاعد عن نصرته عليه السلام بعد ما سمع قول نبيِّه صلى الله عليه وآله؟!

وأيّ مبدأٍ دينيٍّ هو أقوى من مقاتلة الفئة الباغية بنصٍّ من الرَّسول الأمين يوم قال لعمّار: تقتلك الفئة الباغية(٣) ويوم قال: ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النّار(٤)

وأيّ مبدأٍ دينيٍّ هو أقوى من المقاتلة تحت راية خليفة الوقت الذي إنعقدت له بيعة أهل الحلِّ والعقد، وتمَّت شروطها عند من يرى الخلافة بالإختيار، وثبت له النصُّ الجليُّ وتواتر عند من لا يختار إلّا المنصوص عليه، وبطبع الحال أنَّ الخارج عليه خارجٌ على إمام الوقت باغٍ عليه يجب مقاتلته بنصٍّ من الكتاب المبين حيث قال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى‏ فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتّى‏ تَفِي‏ءَ إِلَى‏ أَمْرِ اللّهِ ) (٥) .

وليت شعري أيّ حيف يحلّ بالأُمَّة أعظم من تغلّب مثل معاوية على بيضة الإسلام ورياسة أهله، واستحوازه الخلافة التي ليست له لا بنصٍّ ولا بيعة ممَّن تقرِّر بيعته الخليفة؟ فلم يعقد له إجماعٌ، ولا أثبتته شورى أو وصيَّة، ولا هو وليُّ دم عثمان حتّى ينهض بثاره إن لم نقل: هو المثبِّط جند الشام والمتثاقل عن نصره حتّى قُتل، و لم يكن له سابقةٌ في الإسلام تُشرِّفه، ولا علمٌ يُسدّده، ولا تقوى يكبحه عن مساقط

_____________________

١ - راجع الجزء الأوّل من كتابنا ص ٣٣٦.

٢ - راجع ص ١٩٣ من هذا الجزء.

٣ - راجع الجزء الأول ص ٣٢٩، ٣٣١، قال السيوطي في الخصايص ٢ ص ١٤٠: هذا الحديث متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر كما بينت ذلك في الأحاديث المتواترة. وستوافيك في الجزء التاسع من كتابنا هذا ألفاظه وطرقه وهي خمسة وعشرون طريقاً.

٤ - قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب ١ ص ٣٦٦: رواه البخاري في بعض نسخه و مسلم والترمذي وغيرهم. ويوجد في تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٧.

٥ - سورة الحجرات: ٨.

٢٥٠

الشهوات، وإنّما هي ملوكيّةٌ إرتادها ليملك الأزمّة، وتُلقى عنده الأعنّة، ويحتنك أمر الأُمّة، وفي الأخير تمَّ له ذلك تحت رواعد الإرهاب، ولوائح الأطماع في منتئىً عن الدين والإصلاح، فثبت عرش ملوكيّته بين مهراق الدِّماء ومنتهك الشرايع، ومضلّات الفتن، ولو لم يكن له بائقةٌ إلّا استخلاف يزيد الفجور على الأُمّة بالترهيب والإطماع لكفاه حيفاً يجب أن يكتسح عن مستوى الإسلام وبلاد المسلمين.

٢ - قال: أمّا معاوية فإنَّه بدون ريب يرى نفسه عظيماً من عظماء قريش لأنّه إبن شيخها أبي سفيان بن حرب وأكبر وُلد أُميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف، كما أنَّ عليّاً أكبر ولد هاشم بن عبد مناف، فهما سيّان في الرفعة النسبيّة (ج ٢ ص ٦٧)

ج - ماذا أقول لمغفَّل؟! يرى عنصر النبوَّة، وآصرة القداسة المنتقلة بين أسلابٍ طاهرة، وأرحامٍ زكيَّة، من نبيّ إلى وصيٍّ إلى وليٍّ إلى حكيمٍ إلى عظيمٍ إلى شريفٍ إلى خاتم الرِّسالة إلى وصيِّه صاحب الولاية الكبرى، لدة العنصر الأبشميِّ، ويراهما في الرفعة والشرف سيّان، وشتّان بين الشجرتين:( شَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّماءِ ) .( شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ ) . وما أبعد ما بين الشجرتين:( شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ) ،( الشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (١) بتأويل من النبيِّ الأعظم(٢) بلا اختلاف بين إثنين في أنَّهم هم المراد من الشجرة الملعونة كما في تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٦.

وكيف يراهما الرَّجل سيّان؟! والنَّبيُّ الأعظم يقول: إنَّ الله اختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، وأختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم(٣) .

وكيف يراهما سيّان؟! وقد استاء رسول الله صلّى الله عليه وآله من ثمار هذه الشجرة الملعونة طيلة حياته فما رؤي ضاحكاً من يوم رأى في منامه أنَّهم ينزون على منبره نزو

_____________________

١ - سورة الإسراء: ٦٠.

٢ - تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٦، تاريخ الخطيب ٣ ص ٣٤٣، تفسير القرطبي ١٠ ص ٢٨٦، تفسير النيسابوري ١٥ ص ٥٥ هامش تفسير الطبري.

٣ - أخرجه البيهقي، إبن عدي، الحكيم، الطبراني، إبن عساكر، راجع كنز العمال ٦ ص ٢٠٤.

٢٥١

القردة والخنازير.(١) فأنزل الله:( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لّلنّاسِ ) .

وكيف يراهما سيّان؟! وبنو أُميَّة هم الذين اتَّخذوا عباد الله خولا، ومال الله نحلا، وكتاب الله دغلا. كما أخبر به النبيُّ الصّادق الأمين(٢) .

وكيف يرى أبا سفيان شيخ قريش؟! وهو عارها وشنارها وهو الملعون بنصِّ النبيِّ الأعظم بقوله: أللهمَّ؟ العن التابع والمتبوع، أللّهمَّ، عليك بالأُقيعس(٣) يوم رأى أبا سفيان ومعه معاوية. وبقوله: أللّهمّ العن القائد والسائق والراكب. يوم نظر إليه وهو راكبٌ ومعه معاوية وأخوه أحدهما قائدٌ والآخر سائق(٤) .

وكيف يراه شيخ قريش لدة شيخ الأبطح؟! وفيه قال علقمة:

إنَّ أبا سفيان من قبله

لم يك مثل العُصبة المسلمهْ

لكنَّه نافق في دينه

من خشية القتل على المرغمهْ

بُعداً لصخرٍ مع أشياعه

في جاحم النّار لدى المضرمهْ(٥)

وليت الخضري يقرأ كلمة المقريزي في النزاع والتخاصم ص ٢٨ وهي: أبو سفيان قائد الأحزاب الذي قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أُحد، وقتل من خيار أصحابه سبعين ما بين مهاجريٍّ وأنصاريٍّ منهم: أسد الله حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، وقاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم الخندق أيضاً وكتب إليه:

باسمك اللهمّ أحلف باللّات والعزّى وساف ونائلة وهبَل، لقد سرت إليك أُريد استئصالكم. فأراك قد اعتصمت بالخندق فكرهت لقائي ولك منّي كيوم أُحد.

وبعث بالكتاب مع أبي سلمة الجشمي فقرأه النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أُبيّ بن كعب رضي الله عنه فكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (قد أتاني كتابك وقديماً غرَّك يا أحمق بني غالب وسفيههم

_____________________

١ - تفسير الطبري ١٥ ص ٧٧، تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٦، تاريخ الخطيب ٩ ص ٤٤ ج ٨ ص ٢٨٠، تفسير النيسابوري هامش الطبري ١٥ ص ٥٥، تفسير القرطبي ١٠ ص ٢٨٣، النزاع والتخاصم ص ٥٢، أسد الغابة ٣ ص ١٤ من طريق الترمذي، الخصايص الكبرى ٢ ص ١١٨ عن الترمذي والحاكم والبيهقي، تفسير الخازن ٣ ص ١٧٧.

٢ - النزاع والتخاصم ص ٥٢، ٥٤، الخصايص الكبرى ٢ ص ١١٨.

٣ - قال البراء بن عازب: يعني معاوية.

٤ - كتاب نصر بن مزاحم في حرب صفين ٢٤٤، ١٤٨، تاريخ الطبري ١١ ص ٣٥٧.

٥ - كتاب نصر ص ٢١٩.

٢٥٢

بالله الغرور وسيحول الله بينك وبين ما تُريد، ويجعل لنا العاقبة، وليأتينَّ عليك يومٌ أكسر فيه اللّات والعزّى وساف ونائلة وهبَل يا سفيه بني غالب).

ولم يزل يُحادُّ الله ورسوله حتّى سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفتح مكّة فأتى به العبّاس إبن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أردفه، وذلك أنَّه كان صديقه و نديمه في الجاهليَّة، فلمّا دخل به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأله أن يؤمنه فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: ويلك يا أبا سفيان؟ ألم يأن لك أن تعلمَ أن لا إله إلّا الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأجملك وأكرمك، والله لقد ظننت أنَّه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّي شيئاً. فقال يا أبا سفيان؟ ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأجملك وأكرمك، أمّا هذه ففي النفس منها شيءٌ. فقال له العبّاس: ويلك؟ إشهد لشهادة الحقّ قبل أن تُضرب عنقك. فشهد وأسلم. فهذا حديث إسلامه كما ترى، واختلف في حسن إسلامه فقيل: إنَّه شهد حُنيناً مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت الأزلام معه يستقسم بها، وكان كهفاً للمنافقين، وإنّه كان في الجاهليَّة زنديقاً، وفي خبر عبد الله بن زبير إنَّه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:

وبنو الأصفر الملوك ملوك الرّ

وم لم يبق منهمُ مذكورُ(١)

فحدَّث به الزبير أباه فلمّا فتح الله على المسلمين فقال الزبير: قاتله الله يأبى إلّا نفاقاً، أو لسنا خيراً من بني الأصفر؟.

وذكر المدايني عن أبي زكريّا العجلاني عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: حجَّ أبو بكر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب فكلّم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته فقال: أبو قحافة اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب. فقال: أبو بكر يا أبا قحافة إنَّ الله بنى بالإسلام بيوتاً كانت غير مبنيَّة، وهدم به بيوتاً كانت في الجاهليَّة مبنيَّة وبيت أبي سفيان ممّا هدم. اهـ.

وكان يوم بويع أبو بكر يثير الفتن ويقول: إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلّا دم، يا آل عبد مناف؟ فيمَ أبو بكر من أُموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذّلان عليٌّ و

_____________________

١ - هذا البيت من جملة أبيات للنعمان بن امرئ القيس.

٢٥٣

عبّاسٌ؟ ما بال هذا الأمر في أقلِّ حيٍّ من قريش؟ ثمَّ قال لعليّ: أبسط يدك أُبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً، فأبى عليٌّ عليه السلام عليه فتمثل بشعر المتلمس(١) :

ولن يُقيم على خسف يُراد به

إلّا الأذلّان غير الحيِّ والوتدُ

هذا على الخسف مربوطٌ برمَّته

وذا يشجُّ فلا يبكي له أحدُ

فزجره عليٌّ وقال: والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصحك(٢) وجعل يطوف في أزقَّة المدينة ويقول:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكمُ

ولا سيّما تيم بن مرَّة أو عدي

فما الأمر إلّا فيكمُ وإليكمُ

وليس لها إلّا أبو حسن علي

فقال عمر لأبي بكر: إنَّ هذا قد قدم وهو فاعلٌ شرّاً، وقد كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يستألفه على الإسلام فدع له ما بيده من الصَّدقة. ففعل فرضي أبو سفيان وبايعه(٣)

وقد سبق الخضري في رأيه هذا معاوية فقال فيما كتب إلى عليٍّ أمير المؤمنين: نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضلٌ. فأجاب عنه أمير المؤمنين بقوله: لعمري إنّا بنو أبٍ واحدٍ ولكن ليس أُميَّة كهاشم. ولا حربٌ كعبد المطلب. ولا أبو سفيان كأبي طالب. ولا المهاجرُ كالطَّليق. ولا الصَّريح كاللصيق. ولا المحقُّ كالمبطل. ولا المؤمنُ كالمدغل. ولبئس الخلف خلَفٌ يتبع سلفاً هوى في نار جهنَّم، وفي أيدينا بعدُ فضل النبوَّة(٤) .

(قال الأميني) ألم يأتهم نبأ الَّذين من قبلهم؟! قل: هو نبأ عظيمٌ أنتم عنه معرضون.

٣ - قال: نقول إنَّ فكر معاوية في اختيار الخليفة بعده حسنٌ جميلٌ، وإنَّه

_____________________

م ١ - هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبية، توجد ترجمته في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة، و«معجم الشعراء».

٢ - الكامل لابن الأثير ٢ ص ١٣٥.

٣ - العقد الفريد ٢ ص ٢٤٩.

٤ - كتاب صفين لابن مزاحم ٥٣٨، ٥٣٩، الإمامة والسياسة ١ ص ١٠٠، مروج الذهب ٢ ص ٦١، نهج البلاغة ٢ ص ١٢، شرح بن أبي الحديد ٣ ص ٤٢٤، م - ربيع الأبرار للزمخشري باب ٦٦).

٢٥٤

ما دام لم توضع قاعدةٌ لانتخاب الخلفاء، ولم يعيِّن أهل الحلِّ والعقد الَّذين يُرجع إليهم، فأحسن ما يُفعل هو أن يختار الخليفة وليّ عهد قبل أن يموت، لأنَّ ذلك يبعد الإختلاف الذي هو شرٌّ على الأُمّة من جور إمامها. ص ١١٩.

وقال: وممّا انتقد الناس معاوية أنّه اختار ابنه للخلافة وبذلك سنَّ في الإسلام سنَّة الملك المنحصر في أُسرةٍ معيَّنة بعد أن كان أساسه الشورى ويختار من عامّة قريش وقالوا: إنَّ هذه الطريقة التي سنّها معاوية تدعوا في الغالب إلى انتخاب غير الأفضل الأليق من الأُمّة، وتجعل في أُسرة الخلافة الترف والانغماس في الشهوات والملاذ والرفعة على سائر الناس.

أمّا رأينا في ذلك فإنَّ هذا الإنحصار كان أمراً حتماً لا بدَّ منه لصلاح أمر المسلمين وأُلفتهم ولمِّ شعثهم، فإنّه كلّما اتَّسعت الدائرة التي منها يُختار الخليفة كثر الذين يرشِّحون أنفسهم لنيل الخلافة، وإذا انضمَّ إلى ذلك اتِّساع المملكة الإسلاميَّة، وصعوبة المواصلات بين أطرافها، وعدم وجود قوم معيَّنين يرجع إليهم الإنتخاب، فإنَّ الإنتخاب واقع، ونحن نشاهد أنّه مع تفوُّق بني عبد مناف على سائر قريش؛ واعتراف الناس لهم بذلك وهم جزءٌ صغيرٌ من قريش فإنَّهم تنافسوا الأمر وأهلكوا الأُمّة بينهم، فلو رضي الناس عن أُسرةٍ ودانوا لها بالطاعة واعترفوا باستحقاق الولاية لكان هذا خير ما يُفعل لضمِّ شعث المسلمين ص ١٢٤.

إنَّ أعظمٍ مَن ينتقد معاوية في تولية إبنه هم الشيعة مع أنَّهم يرون إنحصار ولاية الأمر في آل عليّ، ويسوقون الخلافة في بنيه، بتركها الأب منهم للإبن، وبنو العبّاس أنفسهم ساروا على هذه الخطّة.

ج - لم ينتقد معاوية مَن ينتقده لمحض اختياره وإنّما انتقده من ناحيتين: الأولى عدم لياقته للتفرُّد وهو كما قال أمير المؤمنين في كلام له: لم يجعل الله عزَّ وجلَّ له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق إبن طليق، حزبٌ من هذه الأحزاب لم يزل لله عزَّ وجلَّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمسلمين عدوّاً هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام كارهين(١) وفي الأُمّة أهل الحلِّ والعقد الذين اختاروا خلافة أبي بكر، ثمَّ وافقوا

_____________________

١ - تاريخ الطبري ٦ ص ٤.

٢٥٥

على الوصيَّة إلى عمر وأقرّوها، وأصفقوا مع أهل الشورى على خلافة عثمان، وأطبقوا على البيعة طوعاً ورغبةً لمولانا أمير المؤمنين فثبتت خلافته، ووجبت طاعته، ولزمت معاوية بيعته، فكان هؤلاء موجودين بأعيانهم أو بنظرائهم وهم الَّذين نقموا على معاوية ذلك العقد المشوم.

الثانية: عدم لياقة من عيَّنه من بعده وهو ذلك الماجن المتخلّع المتظاهر بالفجور إن لم نقل بالكفر والإلحاد.

أمّا عدم تعيين أهل الإختيار فإن أراد عدم تعيّنهم فذلك بهتانٌ عظيمٌ لإنَّ الموجودين في الصدر الأوّل في عاصمة الإسلام المدينة المنوَّرة الذين تصدَّوا لتعيين الخليفة هم أهل الحلِّ والعقد، وكان أكثرهم موجودين إلى ذلك العهد، وأمّا من توفي منهم فقد قيَّضت الظروف من بعدهم مَن يسدُّ مسدَّهم، فإن يكن هؤلاء مفوَّضاً إليهم أمر الخلافة بادء بدء فهم المفوَّض إليهم أمرها مهما تناقلت الخلافة، فليس لأحد أن يختار من دون رضاً منهم، وإنَّ هؤلاء القوم تُعيِّنهم الظروف والأحوال والمقتضيات المكتنفة بهم، ولا يُعيِّنهم نصٌّ من الكتاب أو السنَّة.

وإن أراد عدم تعيين هؤلاء الخليفة من بعد معاوية فإنَّ ظرف التعيين ساعة موت الخليفة لا قبله. نعم: قد تنعقد الضمائر على انتخاب من يرون له الأهليَّة في أبّان الإنتخاب، وما أدرى معاوية أنَّهم سوف يهملون أمر الأُمَّة ساعة هلاكه؟ ولماذا تفرَّد بالإنتخاب من دون رضىً منهم؟ ولماذا خضَّع أفراداً من القوم بالتخويف وآخرين بالتطميع؟ ومتى أبعد إنتخابه الإختلاف الذي هو شرٌّ على الأُمَّة؟ وفي الملأ الدينيِّ أُممٌ ينقمون منه ذلك، وجموعٌ ينتقدونه، وشراذم يضمرون السخط ويتظاهرون به حذار بادرته. نعم: هناك زعانفةٌ اشتروا رضى المخلوق بسخط الخالق، وأعمتهم الصرر والبدر، فأبدوا الرضا.

ولو كانت هذه الفكرة حسنةً جميلةً فلماذا فاتت رسول الله صلّى الله عليه وآله حين دنت منه الوفاة؟ فلم يرحض عن أُمَّته معرَّة الخلاف، وترك المراجل تغلي حتّى اليوم. وهل ترى لو كان أوصى إلى معيَّن من أُمَّته بالخلافة يوجد هناك لأحد مطمع غير المنصوص عليه؟ ودعى سعد بن عبادة إلى نفسه؟ وقال قائل الأنصار منّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ؟ وهتف

٢٥٦

هاتفٌ أنا جُذيلها المحكّك وعُذيقها المرجَّب؟ وازدلف المهاجرون إلى أبي بكر؟ واجتمع ناسٌ إلى العبّاس؟ وبنو هاشم ومن يمتُّ بهم وينتمي إليهم يقولون: إنَّها لأمير المؤمنين صلوات الله عليه؟ هذه أسئلةٌ حافلةٌ ليس للخضري عنها جوابٌ إلّا أن يدَّعي أنَّ معاوية كان أشفق بالأُمَّة من رسول الله صلى الله عليه وآله.

وأيّ خلاف رفعه تعيين يزيد وعلى عهده كانت واقعة الطفِّ، وتلاها فاجعةُ الحرّة، وأعقبهما أمر ابن الزبير، وقصّة البيت المعظّم؟! كلُّ ذلك من جرّاء ذلك الإختيار، وثمرة تلك الفكرة الفاسدة، وفي الناقمين سبط النبوّة حسين العظمة صلوات الله. عليه وبقيَّة بني عبد مناف وعامّة المهاجرين والأنصار في المدينة المنوَّرة.

ثمَّ إن كان معاوية لم يجد بُدّاً من الإختيار فلماذا لم يختر صالحاً من صلحاء الصِّحابة؟ وفي مقدَّمهم سبط رسول الله الإمام الطاهر، ولا معدل عنه في حنكة أو علم أو تقوى أو شرف.

وكيف راق «الخضري» أن يرى هذا الإختيار حسناً جميلاً صالح الأمّة ولم يره حيفاً وجنايةً عليها وعلى إسلامها ورسولها وكتابها وسنّتها؟! ورسول الله صلّى الله عليه وآله يوقظ شعور أُمّته قبل ذلك بأعوام بقوله: إنَّ أوّل من يُبدِّل سنّتي رجلٌ من بني أُميّة(١) وقوله: لا يزال هذا الأمر معتدلاً قائماً بالقسط حتّى يثلمه رجلٌ من بني أُميّة يقال له يزيد(٢) .

م - وأخرج إبن أبي شيبة وأبو يعلى: إنَّ يزيد لما كان أبوه أمير الشام غزا المسلمون فحصل لرجل جارية نفيسة فأخذها منه يزيد فاستعان الرجل بأبي ذرّ فمشى معه إليه وأمره بردِّها ثلاث مرّات وهو يتلكّأ فقال: أما والله لئن فعلت فقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أوَّل من يُبدِّل سنَّتي لرجل من بني أُميّة: ثمَّ ولّى، فتبعه يزيد فقال: أذكرك بالله أنا هو؟ فقال: لا أدري، وردَّها يزيد.

قال إبن حجر في تطهير الجنان هامش الصواعق ص ١٤٥: لا يُنافي هذا الحديث

_____________________

١ - الخصايص الكبرى ٢ ص ١٣٩، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص ١٤٥

٢ - الخصايص الكبرى ٢ ص ١٣٩، تطهير الجنان في هامش الصواعق ص ١٤٥ وقال: مسند؟ رجاله رجال الصحيح إلّا أن فيه انقطاعاً.

٢٥٧

المذكور المصرِّح بيزيد إمّا لأنّه بفرض كلام أبي ذر على حقيقته لكون أبي ذر لم يعلم بذلك المبهم، فقوله: لا أدري. أي في علمي وقد بيّن إبهامه في الرِّواية الأولى، و المفسِّر يقضي على المبهم. وإمّا لأنَّ أبا ذر علم أنَّه يزيد ولكنه لم يصرِّح له بذلك خشية الفتنة، لا سيّما وأبو ذر كان بينه وبين بني أميَّة أُمورٌ تحملهم على أنَّهم ينسبونه إلى التحامل عليهم].

وأمّا رأيه في حصر الخلافة باُسرة فإنّا لا نناقشه إلّا من عدم جدارة الأُسرة التي يجنح إليها «الخضري» للخلافة. نعم: لا بأس به إذا حصرت باُسرةٍ كريمةٍ تتحلّى باللباقة والحذق من النّاحية الدينيَّة والسياسيَّة، ونحن لا نقول بلزوم الحصر المذكور مع عدم اللياقة، فإنَّه غير وافٍ لقمِّ جذور الفساد، وقمع حذوم الإختلاف، فالأُمَّة متى وجدت من خليفتها الحيف والجنف تثور عليه وتخلعه، وبطبع الحال يطمع في الخلافة عندئذ من هو أزكى منه نفساً، وأطيب أُرومةً، وأكرم خلقاً، وحتّى مَن يُساويه في الغرائز، فأيّ مفسدةٍ اكتسحها حصر الخلافة والحالة هذه؟!

جير: إذا حصرت بمن ذكرناه وشاهدت الأُمَّة منهم التأهّل، فإنَّ فيه منقطع أطماع الخارجين عن الأُسرة من ناحية خروجهم عن البيت المعيَّن لها، ودحض معاذير الثوّار والمشاغبين من ناحية عدم وجود أحداث توجب الثورة والخروج، وعندئذ تتأكّد خضوع الأُمَّة لخليفة شأنه ما ذكرناه، فتعظم شوكته، وتتَّسق أُموره، وتمتثل أوامره، فلا يدع معرَّة إلّا اكتسحها، ولا صلاحاً إلّا بثّه، والشيعة لا تقول بحصر الخلافة في آل عليٍّ عليهم السلام إلّا بعد إخباتها إلى سريان ناموس العصمة في رجالات بيتهم المعيّنين للخلافة المدعومة بالنصوص النبويَّة المتواترة راجع ص ٧٩ - ٨٢ من هذا الجزء.

٤ - قال: وعلى الجملة فإنَّ الحسين أخطأ خطأً في خروجه هذا الذي جرَّ على الأُمَّة وبال الفرقة والإختلاف، وزعزع عماد أُلفتها إلى يومنا هذا، وقد أكثر الناس من الكتابة في هذه الحادثة لا يُريدون بذلك إلّا أن تشتعل النيران في القلوب فيشتدُّ تباعدها، غاية ما في الأمر أنَّ الرجل طلب أمراً لم يُهيَّأ له، ولم يعدّ له عدَّته، فحيل بينه وبين ما يشتهي وقُتل دونه، وقبل ذلك قُتل أبوه، فلم يجد من

٢٥٨

أقلام الكاتبين ومن يبشع أمر قتله ويزيد به نار العداوة تأجيجاً، وقد ذهب الجميع إلى ربِّهم يُحاسبهم على ما فعلوا؟ والتاريخ يأخذ من ذلك عبرةً وهي: أنَّه لا ينبغي لمن يُريد عظائم الأُمور أن يسير إليها بغير عدَّتها الطبيعيَّة، فلا يرفع سيفه إلّا إذا كان معه من القوَّة ما يكفل النجاح أو يقرب من ذلك، كما أنَّه لا بدَّ أن تكون هناك أسباب حقيقيَّة لمصلحة الأُمَّة، بأن يكون جورٌ ظاهرٌ لا يحتمل، وعسفٌ شديدٌ ينوء الناس بحمله، أمّا الحسين فإنَّه خالف يزيد وقد بايعه الناس، ولم يظهر منه ذلك الجور ولا العسف عند إظهار هذا الخلاف ١٢٩ - ١٣٠. وقبل هذه الجمل يبرِّر ساحة يزيد عن الظلم والجور ويراه قرَّب عليَّ بن الحسين إليه وأكرمه ونعَّمه.

ج - ليت الرَّجل كتب ما كتب بعد الحيطة بشئون الخلافة الإسلاميَّة و شروطها، وما يجب أن يكتنفه الخليفة من حنكةٍ لتدبير الشئون، وملكةٍ لتهذيب النفوس، ونزاهةٍ عن الرذائل ليكون قدوةً للأُمَّة، ولا ينقض ما يدعو إليه ببوائقه، إلى أمثالها من غرائز يجب أن يكون حامل ذلك العبء الثقيل متحلّياً بها، لكنَّه كتب وهو يجهل ذلك كلّه، وكتبه على حين أنه لم يحمل إلّا نفساً ضئيلة تقتنع بما يحسبه دعةً تحت نير الإضطهاد، وعلى حين أنَّ ضعف الرأي ودقَّة الخطر يُحبِّذان له راحةً مزعومةً في ظلِّ الإستعباد، فلا نفس كبيرة تدفعه إلى الهرَب من حياة الذلِّ، ولا عقلٌ سليمٌ يُعرِّفه مناخ الضِّعة، ولا إحاطة بتعاليم الإسلام تُلقِّنه دروس الآباء والشهامة، ولا معرفة بعناصر الرِّجال ليعلم من نفسيّاتهم الكمَّ والكيف، فلا عرف يزيد الطاغية حتّى يعلم أنّه لا مقيل له في مستوى الخلافة. ولاعرف حسين السؤدد والشرف والإباء و والشهامة، حسين المجد والإمامة، حسين الدين واليقين، حسين الفضل والعظمة، حسين الحقِّ والحقيقة، حتّى يخبت إلى أنَّ مَن يحمل نفساً كنفسه لا يمكنه البخوع ليزيد الخلاعة والمجون، يزيد الإستهتار والفسوق، يزيد النهمة والشره، يزيد الكفر والإلحاد.

لم ينهض بضعة المصطفى إلّا بواجبه الدينيِّ، فإنَّ كلّ معتنقٍ للحنيفيّة البيضاء يرى في أوَّل فرايضه أن يُدافع عن الدين بجهاد مَن يريد أن يعبث بنواميسه، ويعيث في طقوسه، ويُبدِّل تعاليمه، ويُعطِّل أحكامه، وإنَّ أظهر مصاديق كلّي ينطبق عليه هذه الجمل هو: يزيد الجور والفجور والخمور، الذي كان يُعرف بها على عهد أبيه كما قال مولانا الحسين

٢٥٩

عليه السلام لمعاوية لما أراد أخذ البيعة له: تريد أن توهم الناس؟! كأنَّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تُخبر عمّا كان ممّا أحتويته بعلم خاصّ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ يزيد فيما أخذ به من إستقرائه الكلاب المهارشة(١) عند التحارش، والحمام السبّق لأترابهنَّ، والقينات ذوات المعازف(٢) وضروب الملاهي، تجده ناصراً، دع عنك ما تُحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه(٣)

وقال عليه السلام لمعاوية أيضاً: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: وأمّا ما ذكرت من: أنَّك خيرٌ من يزيد نفساً. فيزيد والله خيرٌ لأُمَّة محمَّد منك. فقال الحسين: هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خيرٌ منّي؟(٤)

وفي كتاب المعتضد الذي تُلي على رؤوس الأشهاد في أيّامه ما نصّه: ومنه: إيثاره (يعني معاوية) بدين الله، ودعاؤه عباد الله إلى ابنه يزيد المتكبِّر الخمِّير صاحب الديوك والفهود والقرود، وأخذه البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدّد والرهبة، وهو يعلم سفهه، ويطَّلع على خبثه ورهقه، ويُعاين سكرانه وفجوره وكفره، فلمّا تمكّن منه ما مكّنه منه ووطَّأه له وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فأوقع بأهل الحرَّة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش ممّا ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عَبد نفسه وغليله، وظنَّ أن قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله فقال مجاهراً بكفره ومظهراً لشركه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدلْ

فأهلًوا واستهلّوا فرحاً

ثمَّ قالوا: يا يزيدُ لا تشلْ

لستُ من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ

_____________________

١ - المهارشة، تحريش بعضها على بعض.

٢ - المعازف ج معزف: آلات يضرب بها كالعود.

٣ - الإمامة والسياسة ١ ص ١٥٣.

٤ - الإمامة والسياسة ١ ص ١٥٥.

٢٦٠