الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٣

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 418

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 418
المشاهدات: 89312
تحميل: 4943


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 418 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89312 / تحميل: 4943
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 3

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها فقد أغضبني(١)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(٢)

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّاً بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرِّه ويكون ذلك إرضاءً لإبنته، على أنّ إمتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلى الله عليه وآله وسلم على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به، فلماذا كان يأخذ صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليٍّ في الملأ الصحابيِّ تارةً ويقول: إنَّ هذا أوَّل من آمن بي، وهذا أوَّل من يصافحني يوم القيامة؟ ولِما ذا كان يخاطب أصحابه أُخرى بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان فطفقوا يمدحونه عليه السلام بهذه الأثارة كما يروى عن سلمان الفارسي. أنس بن مالك. زيد بن أرقم. عبد الله بن عبّاس. عبد الله بن حجل. هاشم بن عتبة. مالك الأشتر. عبد الله بن هاشم. محمد بن أبي بكر. عمرو بن الحمق. أبو عمرة عديّ بن حاتم. أبو رافع. بريدة. جندب بن زهير. أُمّ الخير بنت الحريش(٣)

وهل القول بقلَّة إلتفات النبيِّ إلى عليٍّ يساعده القرآن الناطق بأنَّه نفس النبيِّ الطاهر؟! أو جعل مودَّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الطير المشويِّ الصحيح المرويِّ في الصحاح والمسانيد: أللّهمّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعايشة: إنَّ عليّاً أحبّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقَّه وأكرمي مثواه؟!(٤)

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحبّ الناس إليَّ من الرجال عليٌّ؟!(٥)

_____________________

١ - صحيح البخاري، خصايص النسائي ص ٣٥.

٢ - مسند أحمد ٤ ص ٣٢٣، ٣٣٢، الصواعق ١١٢.

٣ - سيأتي في هذا الجزء نصّ كلماتهم.

٤ - أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض ٢ ص ١٦١، وذخاير العقبى ٦٢.

٥ - وفي لفظ: أحب أهلي. من حديث أسامة.

٢١

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير من أتركه بعدي؟!(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خير رجالكم عليُّ بن أبي طالب، وخير نساءكم فاطمة بنت محمد؟!(٢) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ خير البشر فمن أبى فقد كفر؟!(٣) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يقل عليٌّ خير الناس فقد كفر؟(٤) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: في حديث الراية المتَّفق عليه: لاُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله؟

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي بمنزلة الرأس (رأسي) من بدني أو جسدي؟(٥) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منَّي بمنزلتي من ربّي؟(٦) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ أحبّهم إليَّ وأحبّهم إلى الله(٧) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ: أنا منك وأنت منّي. أو: أنت منّي وأنا منك؟(٨) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: عليٌّ منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي؟(٩) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على صحَّته: لا يذهب بها إلّا رجلٌ منّي وأنا منه(١٠)

_____________________

١ - مواقف الأيجي ٣ ص ٢٧٦، مجمع الزوائد ٩ ص ١١٣.

٢ - تاريخ بغداد للخطيب ٤ ص ٣٩٢.

٣ - تاريخ الخطيب عن جابر، كنوز الحقايق هامش الجامع الصغير ٢ ص ١٦، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٤ - تاريخ الخطيب البغدادي ٣ ص ١٩٢ عن ابن مسعود، كنز العمال ٦ ص ١٥٩.

٥ - تاريخ الخطيب ٧ ص ١٢، الرياض النضرة ٢ ص ١٦٢، الصواعق ٧٥ م الجامع الصغير للسيوطي، شرح العزيزي ٢ ص ٤١٧، فيض الغدير ٤ ص ٣٥٧)، نور الأبصار ٨٠. مصباح الظلام ٢ ص ٥٦.

٦ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٣، السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩١.

٧ - تاريخ الخطيب ١ ص ١٦٠.

٨ - مسند أحمد ٥ ص ٢٠٤، خصايص النسائي ٣٦ و ٥١.

٩ - مسند أحمد ٥ ص ٣٥٦ وأخرجه جمع من الحفاظ بإسناد صحيح يأتي.

١٠ - خصايص النسائي ٨، راجع ج ١ ص ٤٨ من كتابنا.

٢٢

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لحمك لحمي ودمك دمي والحقُّ معك؟(١) .

أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبيّ إلّا وله نظير في أُمَّته وعليٌّ نظيري؟(٢) .

أو ما صحَّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أُمّ سلمة قالت: كان رسول الله إذا أغضب لم يجترئ أحدٌ أن يكلّمه غير عليّ؟(٣) .

أو قول عايشة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته؟(٤) .

أو قول بريدة وأُبيّ: أحبُّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النساء فاطمة ومن الرِّجال عليٌّ؟!(٥) .

أو حديث جُميع بن عُمير؟ قال: دخلت مع عمَّتي على عايشة فسألت أيَّ الناس أحبَّ إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرِّجال؟ قالت زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوّاماً(٦) .

وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُقدِّم الغير على عليٍّ في الإلتفات إليه؟! وهو أوَّل رجل إختاره الله بعده من أهل الأرض لَمّا اطَّلع عليهم كما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بقوله: إنَّ الله اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباكِ فبعثه نبيّاً، ثمَّ اطَّلع الثانية فاختار بعلكِ فأوحى إليَّ فأنكحته واتّخذته وصيّاً(٧)

_____________________

١ - المحاسن والمساوي ١ ص ٣١، كفاية الطالب؟ ١٣٥، مناقب الخوارزمي ٧٦، ٨٣، ٨٧، فرايد السمطين في الباب ٢ و ٢٧.

٢ - الرياض النضرة ٢ ص ١٦٤.

٣ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٠، الصواعق ٧٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ١١٦.

٤ - مستدرك الحاكم ٣ ص، ١٥٤ وصححه، العقد الفريد ٢ ص ٢٧٥، خصائص النسائي ٢٩، الرياض النضرة ٢ ص ١٦١.

٥ - خصايص النسائي ٢٩، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٥ صححه هو والذهبي، جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧.

٦ - جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧ ط هند، مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٧، وجمع آخر

٧ - أخرجه الطبراني عن أبي أيوب الأنصاري كما في إكمال كنز العمال ٦ ص ١٥٣، و أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ ص ١٦٥ عن علي الهلالي.

٢٣

وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوكِ والآخر زوجكِ(١)

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل: وكان صهرا النبيِّ الأمويّان. إلخ: وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول الله لَمّا شهد دفن رقيَّة إبنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة: أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال إبن بطّال: أراد النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنَّه كان بعلها وفقد منها علقاً لا عوض منه لأنَّه حين قال عليه السلام: أيّكم لم يُقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل: أنا. لأنَّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه، ولم يشغله الهمُّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّاً له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّنٌ في معنى الحديث ولعلّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئاً لأنَّه فعل فعلاً حلالاً غير أنَّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغاً يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح. (الروض الأنف ٢ ص ١٠٧)

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيَّة، واُسر مع المشركين مرَّتين، وفرَّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ستَّ سنين، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه، ولم ترد قطّ بعد إسلامه كلمة تُعرب عن صلته مع النبيِّ ومداراته له فضلاً عن مقايسته بعليٍّ. أبي ذرّيَّته وسيِّد عترته.

وقد اتَّهم الرَّجل نبيَّ الإسلام بعدم العمل على سعادة إبنته الطاهرة المطهَّرة بنصِّ الكتاب العزيز، ويقذف عليّاً بالتألّم من ذلك، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصبح أتى باب عليٍّ وفاطمة وهو يقول: يرحمكم الله إنّما يُريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا. وكان لم يزل يقول: فاطمة أحبّ الناس إليَّ.

ويقول: أحبُّ الناس إليَّ من النساء فاطمة.

ويقول: أحبُّ أهلي إليَّ فاطمة.

_____________________

١ - المواقف للأيجي ص ٨ راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣١٨ ط ٢.

٢٤

وكان عمر يقول لفاطمة: والله ما رأيت أحداً أحبَّ إلى رسول الله منكِ(١)

وما أقبح الرجل في تقوُّله على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدِّه لعليٍّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلِّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه، فصار بذلك له نفساً وأخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً ووارثاً ووليّاً بعده، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه، وهو ذلك الملقَّب بقائد الغرِّ المحجَّلين وحياً من الله العزيز في ليلة أسرى بنبيِّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى(٢)

وأسوء من ذلك كلّه عدُّ الرَّجل أزواج النبيّ عدوّات عليٍّ وفاطمة وقد ذكر تنازع عايشة معهما وأُمّ سلمة وبسط القول في ذلك بنقل حادثةٍ موضوعةٍ، وشكّل هناك حزبين منهنَّ: (دمقراطي) و(رستو دمقراطي)، وتقوَّل بما يمسُّ ناموس النبيِّ وكرامة أزواجه أُمَّهات المؤمنين، ويُمثِّل آل الله بكلِّ جلافة وسلافة.

ليت شعري كيف يروق المترجم عدُّ عايشة عدوَّةً لفاطمة وهي تقول: ما رأيت أحداً قطّ أفضل من فاطمة غير أبيها م - أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح على شرط الشيخين كما في شرح المواهب ٣ ص ٢٠٢ و] الشرف المؤبَّد ص ٥٨.

وهي كانت تقبِّل رأس فاطمة وتقول: يا ليتني شعرة في رأسكِ (نزهة المجالس ٢ ص ٢٢٧).

وكيف يرتضي قومه نشر هذه القارصة والقرآن أوجب على الأُمَّة مودَّة العترة النبويَّة(٣) ومن المتسالم عليه بين المسلمين إنَّ آية الإيمان والنَّفاق في شرعة النبيِّ المحبوب حبُّ عليّ وبغضه كما يأتي حديثه. وقد اتَّفقت الأُمَّة على ما مرَّ في حديث الغدير من قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في عليٍّ: اللهمَّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه. وصحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: من أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني،

_____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٥٠ وصححه.

٢ - مستدرك الحاكم ٣ ص ١٣٨ وصححه، الرياض النضرة ٢ ص ١٧٧، شمس الأخبار ٣٩، أسد الغابة ١ ص ٦٩، مجمع الزوايد ٩ ص ١٢١.

٣ - راجع من كتابنا ج ٢ ص ٣٠٦ - ٣١١ ط ثاني.

٢٥

ومن آذى عليّاً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله(١) وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل أنَّه أخبره بأنَّ السعيد كلّ السعيد من أحبَّ عليّاً في حياتي وبعد مماتي، ألا وإنَّ الشقيِّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّاً في حياتي وبعد مماتي(٢)

وكيف خفي على هذا الرجل أنَّ عزو عداء سيِّد العترة وسيِّدتها إلى زوجات النبيِّ قذفٌ مقذعٌ، وسبُّ شائنٌ إن عُرض على محكمة العدل الإسلاميِّ وأُخذ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته: لا يُحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيِّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدِّ ردئ الولادة(٣) أو بما ورد من طريق الثقات من: أنَّ عليّاً لا يبغضه أحدٌ قطُّ إلّا وقد شارك إبليس أباه في رحم أُمِّه(٤)

أو بما أخرجه الحافظ الجزري عن عبادة الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبِّ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإذا رأينا أحدهم لا يحبُّ عليَّ بن أبي طالب علمنا أنَّه ليس منّا وإنَّه لغير رشده. ثمَّ قال الحافظ: وهذا مشهورٌ من قديم وإلى اليوم أنَّه ما يُبغض عليّاً رضي الله عنه إلّا ولد زنا. (أسنى المطالب ص ٨)

هذه نبذٌ من مخاريق كتاب (حياة محمد) وكم لها من نظير حول القرآن وتحريفه، وهناك قذف الشيعة بما هي بريئةٌ منه، والعجب أنَّ عادل زعيتر يحسب نفسه معذوراً في بثِّ هذه الأباطيل المضلّة في المجتمع بقوله في مقدِّمة الكتاب: وقد كنت أودُّ أن أُعلِّق عليها بعض حواش لو لم أر أنَّ ذلك يخرجني عن دائرة الترجمة

أمن العدل سقاية روح الملأ الدينيِّ بهذه السموم القتّالة والإعتذار بمثل هذا التافه؟! أهكذا خلق الإنسان جهولا؟!

( إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُوا

لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ )

سورة النور ١٩

_____________________

١ - الاستيعاب ٢ ص ٤٦١، ذخاير العقبى ٦٥، الإصابة ٣ ص ١٠٣، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٢ - الرياض النضرة ٣ ص ٢١٥، الفصول المهمة ١٢٤، مجمع الزوائد ٩ ص ١٣٢، كنز العمال ٦ ص ٤٠٠، نزهة المجالس ٢ ص ٢٠٧.

٣ - الرياض ٢ ص ١٨٩.

٤ - تاريخ الخطيب ٣ ص ٢٨٩.

٢٦

حادث شَّوه صحايف التأليف

هناك فكرةٌ غير صالحة، وإن شئتَ قلت: بدعةٌ سيِّئةٌ فتَحت على الأُمَّة باب التقوُّل بمصراعيه، وعنها تتشعَّب شجنة الإفك في الحديث، وينبعث القول المزوَّر: وإليها يستند كلُّ بهرجة وسفسطة. ألا وهي: هذه الخطَّة الحديثة في التأليف، واتِّخاذ هذا الأُسلوب الحديث الذي يروق بسطاء الأُمَّة ويسمّونه تحليلاً، ويرونه حُسناً في الكتابة.

هذه الفكرة هي التي خفَّت بها وطأة التأليف، وطأة حزونته، وكثر بذلك المؤلِّفون فجاء لفيفٌ من النّاس يؤلِّف وكلٌّ منهم سلك وادي تضلّل(١) ولا يخفق على جرَّته(٢) ويرمي القول على عواهنه، وينشر في الملأ ما ليس للمجتمع فيه درك، فيتحكَّم في آراءه، ويكذب في حديثه، ويخون في نقله، ويحرِّف الكلم عن مواضعه، و يقذف من خالف نحلته، وينسبه إلى ما شائه هواه، ويسلقه بالبذاء، ولا يكفِّف عنه لغبه.

هذه الفكرة هي التي جرَّت على الأُمَّة شية العار، ووصمة الشنار، ورمتها بثالثة الأثافي، ومدَّت يد الفحشآء على التأليف، وأبدت في صفحاته وصمات سوء، فراح شرف الإسلام، وأدب الدين، وأمانة النقل، ومكانة الصدق، ضحيَّة الميول والشهوات، ضحيَّة الأهواء والنزعات الباطلة، ضحيَّة الأقلام المستأجرة.

هذه الفكرة هي التي شوَّهت وجه التأليف، وجنت بها الأقلام، وولدت في القلوب ضغاين، فجاء المفسِّر يأوّل القرآن برأيه، والمحدِّث يختلق حديثاً يوافق ذوقه، و المتكلّم يذكر فرقاً مفتعلة، والفقيه يُفتي بما يحبِّذه، والمؤرِّخ يضع في التاريخ ما يرتضيه، كلّ ذلك قولاً بلا دليل، وتحكّماً بلا بيِّنة، وتكلّماً بلا مأخذ، ودعوىً بلا برهان، وتقوّلاً بلا مصدر، وكذباً بلا مبالاة، وإفكاً بلا تحاشي، فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون.

_____________________

١ - مثل يضرب لمن عمل شيئا فأخطأ فيه.

٢ - مثل يضرب لمن يعجز عن كتمان ما في نفسه.

٢٧

والقارئ يجد مثال هذه كلّها نصب عينيه في طيِّ كتاب الصراع بين الإسلام و الوثنيَّة، والوشيعة في الردّ على الشيعة، وفجر الإسلام وضحاه وظهره، والجولة في ربوع الشرق الأدنى، والمحاضرات للخضري، والسنَّة والشيعة، والإسلام الصحيح، والعقيدة في الإسلام، وخلفاء محمد، وحياة محمد لهيكل، وفي مقدَّمها كتاب «حياة محمد» لأميل در منغم.

فخلوُّ تأليف الشرقيِّ المسلم عن ذكر المصادر نسايةٌ للكتاب والسنَّة، وإضاعةٌ لأُصول العلم، وجنايةٌ على السلف؛ وتفويتٌ لمآثر الإسلام، وعملٌ مخدجٌ، وسعيٌ أبترٌ، وليس من صالح الأُمَّة، ولا من صلاح المجتمع الإسلاميِّ، وسيأتيه يومٌ وهو يقرع سنَّ نادم.

وإنّ تأليفاً هو هكذا لا يمثِّل في علومه ومعارفه إلّا نفسيَّة مؤلِّفه وأنظاره ولا يراه القارئ إلّا كرواية لا تقوم إلّا بقائلها.

خذ إليك في موضوع واحد كتابين هما مثالان لأكثر ما ارتأينا في هذا البحث ألا وهما:

١ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ أبي نصر عمر.

٢ - كتاب الإمام عليّ تأليف الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.

فهما على وحدة الموضوع والنزعة والبيئة والدراسة والهوى السائد طالما اختلفا في الأبحاث والنظريّات، فهذا الأستاذ أبو نصر أخذ آراء الخضري الأمويَّة ومن يضاهيه فيها، وصبَّها في بوتقة تأليفه، فجاء في كتابه بكلِّ شنئاء شوهاء إلتقت بها حلقة البطان.

وأمّا الأستاذ عبد الفتّاح فإنّه جدَّ وثابر على جهود جبّارة، وأخذ زبدة المخض من الحقايق الناصعة، غير أنَّه ضيَّع أتعابه بإهمال المصادر، فلم يأت كتابه إلّا كنظريَّة شخصيَّة، ولو ازدان تأليفه بذكر هافي التعاليق وأرداف ذلك النقل الواضح بما ارتئاه من الرأي السديد لكان أبلغ في تمثيل أفكار الجامعة، والإعراب عن نظريّات الملأ الدينيِّ، وإن كان ما ثابره الآن مشفوعاً بشكر جزيل.

( وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ

وَأَشَدُّ تَثْبِيتاً )

سورة النساء ٦٦

٢٨

١٣ - ابن الرومي

المتوفّى ٢٨٣

يا هند لم أعشق ومثلي لا يرى

عشق النساء ديانةً وتحرُّجا

لكنّ حبّي للوصيِّ مخيَّمٌ

في الصدر يسرح في الفؤاد تولّجا

فهو السِّراج المستنير ومَن به

سبب النجاة من العذاب لمن نجا

وإذا تركت له المحبَّة لم أجد

يوم القيامة من ذنوبي مخرجا

قل لي: أأترك مستقيم طريقه

جهلاً وأتَّبع الطريق الأعوجا؟!

وأراه كالتبر المصفّى جوهراً

وأرى سواه لناقديه مبهرجا

ومحلّه من كلِّ فضل بيِّن

عال محلّ الشمس أو بدر الدجا

قال النبيُّ له مقالاً لم يكن

يوم «الغدير» لسامعيه ممجمجا

: من كنت مولاهُ فذا مولى له

مثلي وأصبح بالفخار متوَّجا

وكذاك إذ منع البتول جماعة

خطبوا وأكرمه بها إذ زوَّجا

وله عجائب يوم سار بجيشه

يبغي لقصر النهروان المخرجا

رُدَّت عليه الشمس بعد غروبها

بيضاء تلمع وقدةً وتأجّجا(١)

(الشاعر)

أبو الحسن عليّ بن عبّاس بن جريح(٢) مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر البغدادي الشهير بابن الرومي. مفخرةٌ من مفاخر الشيعة، وعبقريٌّ من عباقرة الأُمَّة، وشعره الذهبيُّ الكثير الطافح برونق البلاغة قد أربى على سبائك التبر حسناً وبهائا، وعلى

_____________________

١ - مناقب إبن شهر آشوب ١ ص ٥٣١ ط ايران.

٢ - كذا في فهرست ابن النديم، وتاريخ الخطيب، وكثير من المعاجم. وفي مروج الذهب: سريج. وفي معجم المرزباني: جورجس. وفي تاريخ ابن خلكان: قبل: جور جيس. وفي بعض المعاجم: جرجيس.

٢٩

كثر النجوم عدداً ونورا، برع في المديح والهجاء والوصف والغزل من فنون الشعر فقصر عن مَداه الطامحون؛ وشخصت إليه الأبصار، فجلَّ عن الندِّ كما قصر عن مزاياه العدُّ.

وله في مودَّة ذوي القربى من آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم أشواط بعيدة، واختصاصه بهم ومدائحه لهم ودفاعه عنهم من أظهر الحقايق الجليَّة، وقد عدَّه إبن الصبّاغ المالكي المتوفّى ٨٥٥ في فصوله المهمّة ص ٣٠٢، والشبلنجي في نور الأبصار ١٦٦ من شعراء الإمام الحسن العسكري صلوات الله عليه.

وكان مجموع شعره غير مرتّب على الحروف: رواه عنه المسيِّبي عليُّ بن عبيد الله ابن المسيِّب، ومثقال غلام إبن الرومي في مائة ورقة، ورواه عن مثقال أبو الحسن عليُّ بن العصب الملحي، وكتب أحمد بن أبي قسر الكاتب من شعره مائة ورقة، وخالد الكاتب كذلك، فرتَّبه الصولي على الحروف في مائتي ورقة، جمع شعره أبو الطيب ورَّاق بن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كلّ نسخة ممّا هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.

وللخالديَّين: أبي بكر محمد وأبي عثمان سعيد كتابٌ في أخبار شعر المترجم(١) وانتخب إبن سينا ديوانه وشرح مشكلات شعره كما في «كشف الظنون» ١ ص ٤٩٨، وعن إبن سينا: أنَّ ممّا كلّفني استادي في الأدب حفظ ديوان إبن الرومي فحفظته مع عدَّة كتب في ستَّة أيّام ونصف يوماً.

ويروي بعض شعره أبو الحسين عليُّ بن جعفر الحمداني، وإسماعيل بن عليّ الخزاعيّ، وأبو الحسن جحظة الذي مدحه إبن الرومي بقصيدة توجد في ديوانه ١٦٨.

تجد ذكره والثناء عليه في فهرست إبن النديم ٢٣٥، تاريخ بغداد ١٢ ص ٢٣، معجم الشعراء ٢٨٩، ٤٥٣، أمالي الشريف المرتضى ٢ ص ١٠١، مروج الذهب ٢ ص ٤٩٥، العمدة لابن رشيق ١ ص ٥٦، ٦١، ٩١، معالم العلماء لإبن شهر آشوب، وفيات الأعيان ١ ص ٣٨٥، مرآة الجنان لليافعي ٢ ص ١٩٨، شذرات الذهب ٢ ص ١٨٨، معاهد التنصيص ١ ص ٣٨، كشف الظنون ١ ص ٤٩٨، روضات الجنّات ٤٧٣، نسمة السحر فيمن تشيَّع وشعر، دائرة المعارف للبستاني ١ ص ٤٩٤، دائرة المعارف الإسلاميَّة

_____________________

١ - راجع فهرست ابن النديم ص ٢٣٥ و ٢٤١.

٣٠

١ ص ١٨١، الأعلام للزركلي ٢ ص ٦٧٥، الشيعة وفنون الإسلام ١٠٥، مجلّة الهدى العراقيّة الجزء السادس ص ٢٢٣ - ٢٢٧.

وعني بجمع آثاره وكتابة أخباره وروايتها جمعٌ منهم:

١ - أبو العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمّار المتوفّى ٣١٩، قال إبن المسيِّب لَمّا مات إبن الرومي عمل كتاباً(١) في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على الناس. كما في فهرست ابن النديم ٢١٢، ومعجم الأدباء ١ ص ٢٢٧.

٢ - أبو عثمان الناجم، ترجمه في كتاب مقصور عليه.

٣ - أبو الحسن عليّ بن عبّاس النوبختيّ المتوفّى ٣٢٧، جمع أخباره في كتاب مفرد كما في معجم المرزباني ٢٩٥، ومعجم الأُدباء ٢٢٩٥.

وأفرد من كتّاب المتأخِّرين الأُستاذ عبّاس محمود العقّاد كتاباً في ترجمته في ٣٩٢ صفحة ونحن نأخذ منه ما هو المهمّ ملخّصاً بلفظه قال:

قد أدرك إبن الرومي في حياته ثمانية خلفاءهم: الواثق. المتوكِّل. المنتصر. المستعين. المعتز. المهتدي. المعتمد. المعتضد المتوفّى بعد إبن الرومي.

أثنى عليه العميدي صاحب «الإبانة» وإبن رشيق صاحب «العمدة» وقال: أكثر المولَّدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذّاق: أبو تمام وإبن الرومي. وأطراه إبن سعيد المغربي المتوفّى ٦٧٣ في كتابه: عنوان المرقصات والمطربات.

ويظهر أنَّ أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من أدباء القرن الرابع توسّع في ترجمته إمّا في كتابه: حماسة المحدثين. أو في كتاب مقصور عليه. ولكن أخباره هذه ذهبت كلّها ولم تبق منها أثر إلّا متفرِّقات في الكتب لا تفني في ترجمة وافية ولا شبيهة بالوافية فنحن ننقلها كما هي:

ولد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب ٢٢١ ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة(٢) ودرب الختليَّة في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن منصور(٣) .

_____________________

١ - ينقل الحموي عنه ترجمة أحمد بن محمد بن عمار في معجم الأدباء.

٢ - في معجم الشعراء: في الجانب الغربي بالعتيقة. وهذا هو الصحيح.

٣ - أخذه من أبي عثمان الخالدي.

٣١

كان إبن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى ولا يشكّ أنَّه روميُّ الأصل فإنَّه يذكره ويؤكّده في مواضع من ديوانه واسم جدِّه مع هذا: جريح. أو: جرجيس. اسمٌ يونانيٌّ لا شبهة فيه، فلا ينبغي الإلتفات إلى من قال: إنَّه سمِّي بابن الرومي لجماله في صباه.

وكان أبوه صديقاً لبعض العلماء والأُدباء منهم: محمد بن حبيب الرواية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصّه لما يراه من ذكاءه وحدَّة ذهنه، وحدَّث الشاعر عنه فقال: إنَّه كان إذا مرَّ به شيءٌ يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.

وقد علمنا أنَّ أُمّه كانت فارسيَّة من قوله: الفرس خؤلي والرّوم أعمامي. وقوله: فلم يلدني أبو السواس ساسان. بعد أن رفع نسبه إلى يونان من جهة أبيه، وربما كانت أُمّه من أصل فارسيّ ولم تكن فارسيَّة قحّاً لأبيها وأُمِّها وهذا هو الأرجح لأنَّ علمه بالفارسيَّة لم يكن علم رجل نشأ في حجر أُمّ تتكلّم هذه اللغة ولا تحسن الكلام بغيرها، وماتت أُمّه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:

أقول: وقد قالوا: أتبكي لفاقد

رضاعاً وأين الكهل من راضع الحلم؟!

هي الأمّ يا للناس جزّعت فقدها

ومن يبك أُمّاً لم تذم قطُّ لا يُذم

وكانت أُمّه تقيّة صالحة رحيمة كما يُؤخذ من أبياته في رثائها.

*(قال الأميني)*: أُمّه حسنة بنت عبد الله السجزي كما في معجم المرزباني، وسجز بلدةٌ من بلاد الفرس من أرباض خراسان فهي فارسيَّة قحّ.

أخوه وشقيقه محمد المكنّى بأبي جعفر وهو أكبر من المترجَم وتوفّي قبله وكان تتفجّع بذكراه ورثاه، ومات أخوه وهو يعمل في خدمة عُبيد الله بن عبد الله بن طاهر أحد أركان بيت بني طاهر، ويظهر من ديوان المترجم إنَّه كان أديباً كاتباً أيضاً.

ولم يبق لابن الرومي بعد موت أخيه أحدٌ يعوِّل عليه من أهله أو من يحسبون في حكم أهله إلّا أناسٌ من مواليه الهاشميِّين العباسيِّين كانوا يبرّونه حيناً ويتناسونه أحياناً، و كان لعهد الهاشميِّين الطالبيِّين أحفظ منه لعهد الهاشميِّين العبّاسيِّين كما يظهر ممّا يلي. أمّا إبن عمِّه الذي أشار إليه في قوله:

٣٢

لي ابن عمّ يجرُّ الشرَّ مجتهداً

إليَّ قدماً ولا يصلي له نارا

يجني فاصلي بما يجني فيخذلني

وكلّما كان زنداً كنت مسعارا

فلا ندري أهو إبن عمّ لحّ؟! أو إبن عمّ كلالة؟! ومبلغ ما بينهما من صلة المودَّة ظاهرٌ من البيتين.

أولاده

رُزق إبن الرومي ثلاثةُ أبناء وهم: هبة الله. محمد. وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه. ماتوا جميعاً في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والدٌ أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فرثاه بداليَّةٍ مشهورةٍ يقول فيها:

توخّى حمام الموت أوسط صبيتي

فللّه كيف أختار واسطة العقدِ؟!

على حين شُمت الخير في لمحاته

وآنست من أفعاله آية الرشدِ

ومنها في وصف مرضه:

لقد قلَّ بين المهد واللحد لبثه

فلم ينس عهد المهد أو ضمّ في اللحدِ

ألحَّ عليه النزف حتّى أحاله

إلى صفرة الجاديِّ(١) عن حمرة الوردِ

وظلَّ على الأيدي تُساقط نفسه

ويذوي كما يذوي القضيب من الرندِ(٢)

ويذكر فيها أخويه الآخرين:

محمد؟ ما شيئ توهّم سلوة

لقلبيَ إلّا زاد قلبي من الوجدِ

أرى أخويك الباقيين كليهما

يكونان للأحزان أورى من الزندِ

إذا لعبا في ملعب لك لذّعا

فؤادي بمثل النّار عن غير ما عمدِ

فما فيهما لي سلوةٌ بل حزازةٌ

يُهيجانها دوني وأشقى بها وحدي

أمّا إبنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثاءه:

يا حسرتا فارقتني فنناً

غضّاً ولم يثمر ليَ الفننُ

أبُنيَّ؟ إنَّك والعزاء معاً

بالأمس لُفَّ عليكما كفنُ

_____________________

١ - الجادي: الزعفران.

م (٢) يذوى من ذوى النبات وذوى: ذبل ونشف ماؤه. الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس.

٣٣

وفي الديوان أبيات يرثي بها إبناً لم يذكر اسمه وهي:

حماه الكرى همٌّ سرى فتأوَّبا

فبات يراعي النجم حتّى تصوَّبا

أعينيَّ جودا لي فقد جدتُ للثرى

بأكثر ممّا تمنعان وأطيبا

بُنيّ الذي أهديته أمس للثرى

فللّه ما أقوى قناتي وأصلبا

فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى

إذا فترت عنه الدموع تلهّبا

وهي على الأرجح رثاؤه لأصغر أبناءه الَّذي لم يذكر اسمه ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده؟! ولكن يخيَّل إلينا من المقابلة بين هذه المراثي أنّ الأبيات البائيَّة كانت آخر ما رثى به ولداً لأنَّها تنمُّ عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتّى جمدت عيناه ولم يبق عنده من البكاء إلّا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلّا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكلِّ هذه الفجايع، وقد كان رثاؤه لإبنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورةٌ لاعجةٌ تحسّ من خلل الأبيات، ثمَّ حلَّ الألم المرير محلَّ الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثمَّ كانت الخاتمة فهو مستسلمٌ يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحسّ وقدة المصاب في نفسه ولا يحسّه في عينيه، ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلّها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه جميعاً فتمَّت بها مصائبه وكبر عليه الأمر. إلخ.

تعليمه

ذلك كلّ ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله ولا فائدة من البحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيّام صباه وتعليمه ومن حضر عليهم و تتلمَّذ لهم من العلماء والرُّواة فإنَّ هذه المصادر خلوٌ ممّا يُفيد في هذا المقام إلّا ما جاء عرضاً في الجزء السادس من «الأغاني» حيث يروي إبن الرومي عن أبي العبّاس ثعلب عن حمّاد بن المبارك عن الحسين بن الضحّاك. وحيث يروي في موضع آخر عن قتيبة عن عمر السكوني بالكوفة عن أبيه عن الحسين بن الضحّاك، فيصحّ أن تكون الرِّواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ، لأنّ ثعلباً ولد سنة مائتين فهو أكبر من الشاعر بإحدى و عشرين سنة، أمّا قتيبة (والمفهوم أنّه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدِّث العالم المشهور) فجائزٌ أن يكون ممَّن أملوا عليه وعلَّموه لأنَّه مات وإبن الرومي

٣٤

يُناهز العشرين.

وقد مرَّ بنا أنَّه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسّابة الكبير، وسنرى هنا أنَّه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغويَّة فيذكر شرحها في ديوانه معتمداً عليه قال بعد قوله:

وأصدق المدح مدح ذي حسدٍ

ملآءن من بغضه ومن شنفِ

قال لي محمد بن حبيب: الشنف ما ظهر من البغضة في العينين وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:

بانوا فبان جميل الصبر بعدهمُ

فللدموع من العينين عينانُ

إذا فسّر كلمة «عينان» فروى عن إبن حبيب أنَّه قال: عان الماء يعين عيناً وعيناناً إذا ساح. فهؤلاء ثلاثة من أساتذة إبن الرومي على هذا الإعتبار ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه وحسبنا مع هذا أنَّ الرجل - كيفما كان تعليمه وأيّاً كان معلّموه - قد نشأ على نصيبٍ وافٍ من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسطٍ وافرٍ في شعره فلو لم يقل المعرِّي: إنَّه كان يتعاطى الفلسفة. والمسعودي: إنّ الشعر كان أقلّ آلاته. لعلمنا ذلك من شواهد شتّى في كلامه، فهي هناك كثيرةٌ متكرّرةٌ لا يلمُّ المتصفِّح ببعضها إلّا جزم باطِّلاع قائلها على الفلسفة ومصاحبة أهلها واشتغاله بها، حتّى سرت في أُسلوبه وتفكيره، وما كان متعلِّم الفلسفة في تلك الأيّام يصنع أكثر من ذلك ليتعلّمها أو ليعدّ من متعلّميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملمّ بالفلسفة والقياس المنطقيِّ والنجوم كلاما كهذا الكلام.

لِما تؤذن الدنيا به من صروفها

يكون بكاء الطفل ساعة يولدُ

وإلّا فما يُبكيه منها وأنَّها

لأرحب ممّا كان فيه وأرغدُ؟!

وذكر شواهد كثيرة على إلمامه بالعلوم ومعرفته بمصطلحاتها غضضنا الطرف عنها اختصاراً.

رسائل ابن الرومي

وقد وردت في أبياته الهمزيَّة إشارة إلى حذقه في الكتابة ومشاركته في البلاغة المنثورة تعزِّزها إشارة مثلها في هذا البيت:

٣٥

ألم تجدوني آل وهب لمدحكم

بشعري ونثري أخطلاً ثمَّ جاحضا؟!

فلا بدَّ أنَّه كان يكتب ويمارس الصناعة النثريَّة إلّا ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذاً معدودةً موجزةً، منها: رسالةٌ إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصِّلاً.

١ - ترفع عن ظلمي إن كنت بريئاً، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئاً، فوالله إنّي لأُطالب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة ممّا لا أعرفه، لتزداد تطوّلاً وازداد تذلّلاً، وأنا أُعيذ حالي عندك بكرمك من واشٍ يكيدها، وأحرسها بوفاءك من باغٍ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظّي منك بقدر ودّي لك ومحلّي من رجائك بحيث أستحقُّ منك. والسَّلام.

٢ - رسالةٌ كتبها يعود صديقاً: أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجَّه وفد السَّلامة إليك، وجعل علَّتك ماحيةً لذنوبك، مضاعفةً لثوابك.

٣ - كتب إلى صديق له قَدِم من «سيراف»(١) فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه: أطال الله بقاءك وأدام عزَّك وسعادتك وجعلني فداءك، لولا أنَّني في حيرة من أمري وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي علم الله فغالبٌ، وظمأي فشديدٌ، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبَّة أنَّه قادرٌ جوادٌ.

ومكاننا من جميل رأيك أيَّدك الله يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يُشجِّعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطوَّلت به من الأيناس يؤنسنا بك و يبسطنا إليك، وآثار يديك تدلّنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك؛ والله يُطيل بقاءك و يديم لنا فيك وبك السعادة.

وبلغني أدام الله عزَّك أنّ سحائب تفضّلك أمطرت منذ أيّام مطراً عمّ إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدُّك ويعتقدك وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظنِّ برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظّ من لطفك، فرأيت مداوات قلبي من ظنِّه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الودِّ بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: (ويبقى

_____________________

١ - سيراف: مدينة جليلة على ساحل بحر فارس، منها إلى شيراز ستون فرسخاً.

٣٦

الودّ ما بقي العتابٌ) وفيما عاتبت كفايةٌ عند من له أُذنك الواعية وعينك الراعية.

٤ - وقال في تفضيل النرجس على الورد: النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود، والأعين والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفةٌ لأنَّه لونٌ والنرجس يضارعه في هذا الإسم، لأن النرجس هو الريحان الوارد أعني أنَّه أبداً في الماء، والورد خجل، والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبهاً بالعيون فهو أفضل.

هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليقٌ بمن يكتب بهذا الأُسلوب أن يُعدَّ في بُلغاء الكتّاب وإن لم يُعدَّ في أبلغهم، على أنّ إبن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلّا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف، فإنَّه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب إبن أبي الإصبع:

ونحن معاشر الشعراء تنمى

إلى نسب من الكتّاب دانِ

وإن كانوا أحقَّ بكلِّ فضل

وأبلغ باللسان وبالبيان

أبونا عند نسبتنا أبوهم

عطاردُ السماويُّ المكانِ

أمّا حظّه من علوم العربيَّة والدين فمن المفضول أن نتعرَّض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه، لأنَّه أبين من أن يحتاج إلى تبيين. وندر في قصائده المطوَّلة أو الموجزة قصيدةٌ تقرأها ولا تخرج منها وأنت موقنٌ باستبحار ناظمها في اللغة وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها وأوزان إشتقاقها وتصريفها وموقع أمثالها وأسماء مشاهرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعر العربيَّة مَن تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقَّة غير شاعرين إثنين: أحد هما صاحبنا والثاني المعرّي، وقد كان يمدح الرؤساء والأُدباء أمثال عبيد الله بن عبد الله، وعليّ بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل فيفسِّر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصايده كأنَّه كان يشفق أن تفوتهم دقايق لفظه وأسرار لغته ثمَّ يعود إلى الإعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغيّر.

لم أُفسِّر غريبها لك لكن

لامرئٍ يجهل الغريب سواكا

لغيرك لا لك التفسير أنّى

يُفسِّر لابن بجدتها الغريبُ

٣٧

وكانوا لشهرته باللغة وعلم أسرارها ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصَّة «الجرامض» إحدى هذه المعابثات التي تدلّ على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟! فارتجل مجيباً:

وسألت عن خبر الجرا

مض طالباً علم الجرامضْ

وهو الخزا كل والغوا

مض قد تفسّر بالغوامضْ

وهو السلجكل شئت إذ

لك أم أبيت بفرض فارضْ

وكلّها كلمات من مادَّة الجرامض لا معنى لها ولا وجود، وإذا صحَّ إستقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة فضلاً عن الأُستاذيَّة الثابتة لابن حبيب فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، هؤلاء كلّهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيّما إذا أعانهم تلميذٌ ذو فطنة متوقِّدة الفهم وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مرَّ بك أنَّه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة فهب في الرِّواية بعض مبالغة التي تتعرَّض لها أمثال هذه الرِّوايات فهو بعدُ سريع الحفظ وهذا ممّا يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات.

عاش إبن الرومي حياته كلّها في بغداد لا يفارقها قليلاً حتّى يعود سريعاً وقد نازعه إليها الشوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع، و كان صاحب صنيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة منها قدح زعم أنَّه كان للرشيد ووصفه في شعره لَمّا أهداه إلى عليّ بن المنجم يحيى.

قدحٌ كان للرشيد اصطفاهُ

خلفٌ من ذكوره غير خلفِ

كفم الحبِّ في الحلاوة بل أحلـ

ـى وإن كان لا يناغي بحرفِ

صيغ من جوهر مصفَّى طباعاً

لا علاجاً بكيمياء مصفِّ

تنفذ العين فيه حتّى تراها

أخطأته من رقَّة المستشفِّ

كهواه بلا هباءٍ مشوب

بضياء أرقق بذاك وأصفِ

ثمَّ استوعب الكلام في البحث عن مزاجه وأخلاقه ومعيشته وما كانت تملكه يده وذكرى مطايباته ومفاكهاته وهجاؤه وفشله وطيرته من ص ١٠٢ - ٢٠٣ فشرع

٣٨

في بيان عقيدته (وهناك مواقع للنظر) وقال:

عقيدته

تقدَّم في الكلام عن الحالة الدينيَّة في القرن الثالث للهجرة أنَّه كان عصراً كثرت فيه النحل والمذاهب وقلَّ فيه من لا يرى في العقايد رأياً يفسِّر به إسلامه و ويخلصه بين جماعة الدارسين وقرّاء العلوم الحديثة.

فإبن الرّومي واحدٌ من هؤلاء القرّاء لا ننتظر أن تمرَّ به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلماً صادق الإسلام، ولكنَّه كان شيعيّاً معتزليّاً قدريّاً يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شايعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.

وقد قال المعرّي في رسالة الغفران: إنّ البغداديِّين يدَّعون أنَّه متشيِّع و يستشهدون على ذلك بقصيدته الجيميّة ثمَّ عقب على ذلك فقال: ما أراه إلّا على مذهب غيره من الشعراء.

ولا ندري لِماذا شكَّ المعرّي في تشيّعه لأنَّه على مذهب غيره من الشعراء، فإنَّ الشعراء إذا تشيَّعوا كانوا شيعة حقّاً كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامّة المتشيِّعين، وإنَّما نعتقد أنَّ المعرّي لم يطَّلع على شعره كلّه فخفيت عنه حقيقة مذهبه ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.

على أنَّ القصيدة الجيميَّة وحدها كافيةٌ في إظهار التشيّع الذي لا شكَّ فيه، لأنَّ الشاعر نظمها بغير داعٍ يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر وناحية الخلفاء، فقد رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين إبن زيد بن علي الثائر في وجه الخلافة ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العبّاس ويذكر (ولاة السوء) من أبناء طاهر:

أجنوا بني العبّاس من شنآئكم

وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا

وخلّوا ولاة السوء منكم وغيَّهم

فأحرى بهم أن يغرقوا حيث لجَّجوا

نظار لكم أن يرجع الحق راجعٌ

إلى أهله يوماً فتشجوا كما شجوا

على حين لا عذري لمعتذريكمُ

ولا لكمُ من حجَّة الله مخرجُ

٣٩

فلا تلحقوا الآن الضغاين بينكم

وبينهمُ إنَّ اللواقح تنتجُ

غررتم لئن صدّقتمُ أنّ حالة

تدوم لكم والدهر لونان أخرجُ

لعلَّ لهم في منطوى الغيب ثائراً

سيسمو لكم والصبح في الليل مولجُ

فماذا يقول الشيعيُّ لبني العبّاس أقسى وأصرح في التربّص بدولتهم وانتظار دولة العلويِّين من هذا الكلام؟! فقد أنذر بني العبّاس بزوال الملك وكاد يتمنّى - أو تمنّى - لبني عليّ يوماً يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقَّهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهرٌ من العلويِّين لا مداجاة فيه كهوى كلِّ شيعيّ في هذا المقام. على أنَّه كان أظهر من هذا في النونيَّة التي تمنّى فيها هلاك أعدائهم ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:

إن يوالي الدهر أعداءً لكم

فلهم فيه كمينٌ قد كمنْ

خلعوا فيه عذار المعتدي

وغدوا بين اعتراضٍ وأرنْ

فاصبروا يهلكهم الله لكم

مثل ما أهلك أذواء اليمنْ

قرب النصر فلا تستبطئوا

قرب النصر يقيناً غير ظنْ

ومن التقصير صوني مهجتي

فعل من أضحى إلى الدنيا ركنْ

لا دمي يُسفك في نصرتكم

لا ولا عرضيَ فيكم يمتهنْ

غير أنّي باذلٌ نفسي وإن

حقن الله دمي فيما حقنْ

ليت إنّي غرضٌ من دونكم

ذاك أو درعٌ يقيكم ومجنْ

أتلقّى بجبيني مَن رمي

وبنحري وبصدري من طعنْ

إنَّ مبتاع الرضي من ربِّه

فيكمُ بالنفس لا يخشى الغبنْ

وليس يجوز الشكُّ في تشيّع من يقول هذا القول ويشعر هذا الشعور، فإنَّه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبّاً لبني عليٍّ وغضباً لهم وإشهاراً لهم لعاطفة لا تفيده و لا تفيدهم؛ وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلّا بلقب الشهيد كما ذكره في القصيدة الجيميَّة وفي خاطرة أُخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:

كسته القنا حلة من دم

فأضحت لدى الله من ارجوان

جزته معانقة الدار عـ

ـين معانقة القاصرات الحسان

٤٠