الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 102303
تحميل: 4597


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102303 / تحميل: 4597
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مردويه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرسالة والنبوّة قد انقطعت فلا رسول بعدى ولا نبىّ ولكنّ المبشّرات. قالوا: يا رسول الله وما المبشّرات قال: رؤيا المسلم وهى جزء من أجزاء النبوّة.

أقول: وروى ما في معناه عن أبى قتادة وعائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفيه أخرج ابن أبى شيبة ومسلم والترمذيّ وأبو داود وابن ماجه عن أبى هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستّة وأربعين جزءً من النبوّة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزّن والرؤيا ممّا يحدّث بها الرجل نفسه. وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدّث به الناس. الحديث.

وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن عوف بن مالك الأشجعىّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ومنه الأمر يحدّث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنه جزء من ستّة وأربعين جزءً من النبوّة.

أقول: أمّا انقسام الرؤيا إلى الأقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين وفي معناهما روآيات اُخرى من طرق أهل السنّة واُخرى من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فسيجئ توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى.

وأمّا كون الرؤيا الصالحة جزءً من ستّة وأربعين جزءً من النبوّة فقد وردت به روآيات كثيرة من طرق أهل السنّة رواها عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع من الصحابة كأبى هريرة وعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدرىّ وأبى رزين، وروى أنس وأبو قتادة و عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها من أجزاء النبوّة كما تقدّم.

وعن الصفدىّ أنّه وجّه الرواية بأنّ مدّة نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث وعشرون سنة دعا فيها إلى ربّه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وعشر سنين

١٠١

بعدها، وقد ورد أنّ الوحى كان يأتيه ستّة أشهر من أوّلها من طريق الرؤيا الصالحة حتّى نزل القرآن، والنسبة بين الستّة الأشهر وبين الثلاث وعشرين سنة نسبة الواحد إلى الستّة والأربعين.

وقد روى عن ابن عمر وأبى هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها جزء من سبعين جزءً من النبوّة فإن صحّت هذه الرواية كأن المراد بالتعداد مجرّد التكثير من غير خصوصيّة لعدد السبعين.

واعلم أنّ الرؤيا ربّما اُطلقت في لسان القرآن والحديث على ما يشاهده الرائى ما لا يشاهده غيره وإن لم ينم نومه الطبيعيّ، وقد نبّهنا عليه في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب وأحسن كلمة في تفسيرها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تنام عينى ولا ينام قلبى.

١٠٢

( سورة يونس آية ٧١ - ٧٤)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ( ٧١) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ( ٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ( ٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ( ٧٤)

( بيان)

تذكر الآيات إجمال قصّة نوحعليه‌السلام ومن بعده من الرسل إلى زمن موسى وهارونعليهما‌السلام ، وما عامل به الله سبحانه اُممهم المكذّبين لرسلهم حيث أهلكهم ونجّا رسله والمؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الاُمّة.

قوله تعالى: ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ) إلى آخر الآية المقام مصدر ميمىّ واسم زمان ومكان من القيام، والمراد به الأوّل أو الثالث أي قيامى بأمر الدعوة إلى توحيد الله أو مكانتي ومنزلتي وهى منزلة الرسالة، والإجماع العزم وربّما يتعدّى بعلى قال الراغب: وأجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعاً يتوسّل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم وشركاءكم.

١٠٣

والغمة هي الكربة والشدّة وفيه معنى التغطية كأنّ الهمّ يغطى القلب، ومنه الغمام للغيم سمّى به لتغطيته وجه السماء، والقضاء إلى الشئ إتمام أمره بقتل وإفناء ونحو ذلك.

ومعنى الآية:( وَاتْلُ ) يا محمّد( عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ) وخبره العظيم حيث واجه قومه وهو واحد يتكلّم عن نفسه، وهو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدّى عليهم بأن يفعلوا به ما بدالهم إن قدروا على ذلك، وأتمّ الحجّة على مكذّبيه في ذلك( إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي ) ونهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة( وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ ) وهو داعيكم لا محالة إلى قتلى وإيقاع ما تقدرون عليه من الشرّ بى لإراحة أنفسكم منّى( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) قبال ما يهدّدني من تحرّج صدوركم وضيق نفوسكم علىّ بإرجاع أمرى إليه وجعله وكيلا يتصرّف في شؤوني ومن غير أن أشتغل بالتدبير( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) الّذين تزعمون أنّهم ينصرونكم في الشدائد، واعزموا علىّ بما بدالكم، وهذا أمر تعجيزىّ( ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسّل إلى كلّ سبب في دفعي( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ) بدفعى وقتلى( وَلَا تُنظِرُونِ ) ولا تمهلونى.

وفي الآية تحدّيهعليه‌السلام على قومه بأن يفعلوا به ما بدالهم، وإظهار أنّ ربّه قدير على دفعهم عنه وإن أجمعوا عليه وانتصروا بشركائهم وآلهتهم.

قوله تعالى: ( فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ ) إلى آخر الآية. تفريع على توكّله بربّه، وقوله:( فَمَا سَأَلْتُكُم ) الخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبّب والتقدير فإن تولّيتم وأعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لى في ذلك فإنّى لا أتضرّر في إعراضكم شيئاً لأنّى إنّما كنت أتضرّر بإعراضكم عنّى لو كنت سألتكم أجراً على ذلك يفوت بالإعراض وما سألتكم عليه من أجر إن أجرى إلّا على الله.

وقوله:( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي الّذين يسلّمون الأمر إليه فيما

١٠٤

أراده لهم وعليهم، ولا يستكبرون عن أمره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتّى يخضعوا لها ويتوقّعوا به إيصال نفع أو دفع شرّ.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ ) إلى آخر الآية، الخلائف جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض والباقين من بعدهم يخلفون سلفهم ويقومون مقامهم، والباقى ظاهر.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ ) إلى آخر الآية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسىعليهم‌السلام . وظاهر السياق أنّ المراد بالبيّنات الآيات المعجزة الّتى اقترحتها الاُمم على أنبيائهم بعد مجيئهم ودعوتهم وتكذيبهم لهم فأتوا بها وكان فيها القضاء بينهم وبين اُممهم، ويؤيّده قوله بعده:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) الخ، فإنّ السابق إلى الذهن أنّهم جاؤوهم بالآيات البيّنات لكنّ الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانياً بما كذّبوا به أوّلاً.

ولازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجئ الرسل بتلك الآيات البيّنات فقد كانت الرسل بثّوا دعوتهم فيهم ودعوهم إلى توحيد الله فكذّبوا به وبهم ثمّ اقترحوا عليهم آية معجزة فجاؤوهم بها فلم يؤمنوا.

وقد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) الأعراف: ١٠١ في الجزء الثامن من الكتاب، وبيّنا هناك أنّ في الآية إشارة إلى عالم الذرّ غير أنّه لا ينافى إفادتها لما قدّمناه من المعنى آنفاً فليراجع.

١٠٥

( بحث روائي)

في الكافي عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمّد الجعفيّ وعقبة جميعاً عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ خلق الخلق فخلق من أحبّ ممّا أحبّ فكان ممّا(١) أحبّ أن خلقه من طين الجنّة وخلق من أبغض ممّا أبغض وكان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال، فقلت: وأىّ شئ الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلّك في الشمس شئ وليس بشئ.

ثمّ بعث منهم النبيّين فدعوهم إلى الإقرار بالله عزّوجلّ:( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيّين فأقرّ بعض وأنكر بعض، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها والله من أحبّ وأنكرها من أبغض، وهو قوله:( مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) . ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : كان التكذيب من قبل.

أقول: ورواه في العلل بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل عن صالح عن عبدالله وعقبه عنهعليه‌السلام ، ورواه العيّاشيّ عن الجعفيّ عنهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبى عبداللهعليهما‌السلام : خلق الخلق وهم أظلّة فأرسل رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمنهم من آمن به ومنهم من كذّبه ثمّ بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلّة وجحده من جحده يومئذ

فقال:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ) .

أقول: قد فصّلنا القول في ما يسمّى عالم الذرّ فى تفسير قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الآية. وأوضحنا هناك أنّ آيات الذرّ تثبت عالماً إنسانيّاً آخر غير هذا

____________________

(١) ما ظ.

١٠٦

العالم الإنسانيّ المادّىّ التدريجيّ المشوب بالآلام والمصائب والمعاصي والآثام المشهود لنا من طريق الحسّ.

وهو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعاً من المقارنة لكنّه غير محكوم بهذه الأحكام المادّيّة، وليس تقدّمه على عالمنا هذا تقدّماً بالزمان بل بنوع آخر من التقدّم نظير التقدّم المستفاد من قوله:( أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) يس: ٨٢ فإنّ( كُن ) و( يَكُونُ ) يحكيان عن مصداق واحد وهو وجود الشئ خارجاً لكنّ هذا الوجود بعينه بوجهه الّذى إلى الله متقدّم عليه بوجهه الآخر، وهو بوجهه الربّانىّ غير تدريجيّ ولا زمانيّ ولا غائب عن ربّه ولا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الّذى تقدّم هناك.

والّذى أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائيّ تشير إلى عالم الذرّ كالّذى مرّت سابقاً غير أنّها تختصّ بمزيّة وهى ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإنّ بإجادة التأمّل في هذا التعبير يتّضح المراد أحسن الإتّضاح فإنّ في الأشياء الكونيّة اُموراً هي كالظلال في أنّها لازمة لها حاكية لخصوصيّات وجودها، وآثار وجودها ومع ذلك فهى هي وليست هي.

فإنّا إذا نظرنا إلى الأشياء وجرّدنا النظر ومحضناه في كونها صنع الله وفعله المحض غير المنفكّ منه ولا المنفصل عنه - وهى نظرة حقّة واقعيّة - لم يتحقّق فيها إلّا التسليم لله والخضوع لإرادته والتذلّل لكبريائه والتعلّق برحمته وأمر ربوبيّته والإيمان بوحدانيّته وبما أرسل به رسله وأنزله إليهم من دينه.

وهذه الوجودات ظلال - أشياء وليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادّيّة، واُخذ العالم المادّىّ أصلاً مقيساً إليه وهو الّذى بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفاً لا محيص عنه مسؤولاً عنه يوم القيامة.

ولو اُخذت جهة الربّ تعالى أصلاً وقيس إليه هذا العالم المادّىّ بما فيه من الموجودات المادّيّة - وهو أيضاً نظر حقّ - كان هذا العالم هو الظلّ وكانت جهة

١٠٧

الربّ تعالى هو الأصل والشخص الّذى له الظلّ كما يشير إليه قوله تعالى:( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص: ٨٨، وقوله:( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ) الرحمن: ٢٧.

وأمّا ما رواه العيّاشيّ عن أبى بصير عن أبى عبداللهعليه‌السلام في قوله:( فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ) قال:( بعث الله الرسل إلى الخلق وهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء فمن صدّق حينئذ صدّق بعد ذلك، ومن كذّب حينئذ كذّب بعد ذلك) .

فظاهره أنّ للبعث تعلّقاً بالنطف الّتى في الأصلاب والأرحام. وهم أحياء عقلاء مكلّفون، وهذا ممّا يدفعه الضرورة كما تقدّم في الكلام على آية الذرّ اللّهمّ إلّا أن يحمل على أنّ المراد كون عالم الذرّ محيطاً بهذا العالم المادّىّ التدريجيّ الزمانىّ من جهة كونه غير زمانيّ فلا يتعلّق الوجود الذرّىّ بزمان دون زمان، وهو مع ذلك محمل بعيد.

١٠٨

( سورة يونس آية ٧٥ - ٩٣)

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ( ٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ( ٧٦) قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ( ٧٧) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ( ٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ( ٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ( ٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ( ٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ( ٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ( ٨٣) وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ( ٨٤) فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( ٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ٨٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( ٨٧) وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ( ٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ( ٨٩)

١٠٩

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ( ٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ( ٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ( ٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ( ٩٣)

( بيان)

ثمّ ساق الله سبحانه نبأ موسى وأخيه ووزيره هارون مع فرعون وملاه وقد أوجز في القصّة غير أنّه ساقها سوقاً ينطبق بفصولها على المحصّل من حديث بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته عتاة قومه والطواغيت من قريش وغيرهم، وعدم إيمانهم به إلّا ضعفاؤهم الّذين كانوا يفتنونهم حتّى التجؤوا إلى الهجرة فهاجر هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقّبه فراعنة هذه الاُمّة وملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم وبوّأ الله المؤمنين ببركة الإسلام مبوّأ صدق ورزقهم من الطيّبات ثمّ اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وسيقضى الله بينهم.

فكان ذلك كلّه تصديقاً لما أسرّ الله سبحانه إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات فيما سيستقبله وقومه من الحوادث، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب أصحابه واُمّته: لتتّبعنّ سنّة بنى إسرائيل حتّى أنّهم لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ ) الخ، أي ثمّ بعثنا من بعد

١١٠

نوح والرسل الّذين من بعده موسى وأخاه هارون بآياتنا إلى فرعون والجماعة الّذين يختصّون به من قومه وهم القبط فاستكبروا عن آياتنا وكانوا مستمرّين على الإجرام.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا ) الخ، الظاهر أنّ المراد بالحقّ هو الآية الحقّة كالثعبان واليد البيضاء، وقد جعلهما الله آية لرسالته بالحقّ فلمّا جاءهم الحقّ قالوا وأكّدوا القول: إنّ هذا - يشيرون إلى الحقّ من الآية - لسحر مبين واضح كونه سحراً، وإنّما سمّى الآية حقّا قبال تسميتهم إيّاها سحرا.

قوله تعالى: ( قَالَ مُوسَىٰ أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا ) الخ، أي فلمّا سمع مقالتهم تلك ورميهم الحقّ بأنّه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة الاستفهام:( أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ ) إنّه لسحر؟ ثمّ كرّر الإنكار مستفهماً بقوله:( أَسِحْرٌ هَذَا ) ؟ فمقول القول في الجملة الاستفهاميّة محذوف إيجازاً لدلالة الاستفهام الثاني عليه، وقوله:( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) يمكن أن يكون جملة حاليّة معلّلة للإنكار الّذى يدلّ عليه قوله:( أَسِحْرٌ هَذَا ) ، ويمكن أن يكون إخباراً مستقلّاً بياناً للواقع يبرّئ به نفسه من أن يقترف السحر لأنّه يرى لنفسه الفلاح وللساحرين أنّهم لا يفلحون.

قوله تعالى: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) الخ، اللفت هو الصرف عن الشئ، والمعنى: قال فرعون وملؤه لموسى معاتبين له:( أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ) وتصرفنا( عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) يريدون سنّة قدمائهم وطريقتهم( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنون الرئاسه والحكومه وانبساط القدرة ونفوذ الإرادة يؤمّون بذلك أنّكما اتّخذتما الدعوة الدينيّة وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرّة في الأرض، ووضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس وإيماننا بكما وطاعتنا لكما الكبرياء والعظمة في المملكة.

وبعبارة اُخرى إنّما جئتما لتبدّلا الدولة الفرعونيّة المتعرّقة في القبط إلى دولة إسرائيليّة تدار بإمامتكما وقيادتكما، وما نحن لكما بمؤمنين حتّى تنالا

١١١

بذلك اُمنيّتكما وتبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزوّرة.

قوله تعالى: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) كان يأمر به ملأه فيعأرض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصّل في سائر الآيات القاصّة للقصّة وتدلّ عليه الآيات التالية.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ أَلْقُوا ) الخ، أي لمّا جاؤوا وواجهوا موسى وتهيّؤوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال والعصىّ، وقد كانوا هيّؤوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيّات والثعابين بسحرهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ) ما قالهعليه‌السلام بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحقّ على يديه من صيرورة العصا ثعباناً يلقف ما ألقوه من الحبال والعصىّ وأظهروه في صور الحيّات و الثعابين بسحرهم.

والحقيقة الّتى بيّنها لهم أنّ الّذى جاؤوا به سحر والسحر شأنه إظهار ما ليس بحقّ واقع في صورة الحقّ الواقع لحواسّ الناس وأنظارهم، وإذ كان باطلاً في نفسه فإنّ الله سيبطله لأنّ السنّة الإلهيّة جارية على إقرار الحقّ وإحقاقه في التكوين وإزهاق الباطل وإبطاله فالدولة للحقّ وإن كانت للباطل جولة أحيانا.

ولذا علّل قوله:( إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ) بقوله:( إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) فإنّ الصلاح والفساد شأنان متقابلان، وقد جرت السنّة الإلهيّة أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد أي أن يرتّب على كلّ منهما أثره المناسب له المختصّ به وأثر العمل الصالح أن يناسب ويلائم سائر الحقائق الكونيّة في نظامها الّذى تجرى هي عليه، ويمتزج بها ويخالطها فيصلحه الله سبحانه ويجريه على ما كان من طباعه، وأثر العمل الفاسد أن لا يناسب ولا يلائم سائر الحقائق الكونيّة فيما تقتضيه بطباعها وتجرى عليه بجبلّتها فهو أمر استثنائيّ في نفسه، ولو أصلحه الله في فساده كان ذلك إفساداً للنظام الكونىّ.

فيعأرضه سائر الأسباب الكونيّة بما لها من القوى والوسائل المؤثّرة، و

١١٢

تعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن وإلّا أبطلته وأفنته ومحته عن صحيفة الوجود البتّة.

وهذه الحقيقة تستلزم أنّ السحر وكلّ باطل غيره لا يدوم في الوجود وقد قرّرها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) وقوله:( وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) وقوله:( إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) المؤمن: ٢٨، ومنها قوله في هذه الآية:( إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

وأكّده بتقريره في جانب الإثبات بقوله في الآية التالية:( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) كما سيأتي توضيحه.

قوله تعالى: ( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) لمّا كشف الله عن الحقيقة المتقدّمة في جانب النفى بقوله:( إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) أبان عنه في جانب الإثبات أيضاً في هذه الآية بقوله:( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) وقد جمع تعالى بين معنيى النفى والإثبات في قوله:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الانفال: ٨.

ومن هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية الإلهيّة في شؤون الأشياء الكونيّة الجارية على الحقّ فإنّ قضاء الله ماض وسنّته جارية أن يضرب الحقّ والباطل في نظام الكون ثمّ لا يلبث الباطل دون أن يفنى ويعفى أثره ويبقى الحقّ على جلائه، وذلك قوله تعالى:( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الرعد: ١٧، وسيجئ استيفاء البحث فيه في ذيل الآية إن شاء الله تعالى.

والحاصل أنّ موسىعليه‌السلام إنّما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنّة إلهيّة حقّة غفلوا عنها، وليهيّئ نفوسهم لما سيظهره عملاً من غلبة الآية المعجزة على السحر وظهور الحقّ على الباطل، ولذا بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا

١١٣

المعجزة، وألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصّله الله سبحانه في مواضع اُخرى من كلامه.

وقوله:( وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) ذكر الإجرام من بين أوصافهم لأنّ فيه معنى القطع فكأنّهم قطعوا سبيل الحقّ على أنفسهم وبنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحقّ، ولذلك نسب الله كراهة ظهور الحقّ إليهم بما هم مجرمون في قوله:( وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) وفي معناه قوله في أوّل الآيات:( فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين) .

قوله تعالى: ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ) إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسّرين أنّ الضمير في( قَوْمِهِ ) راجع إلى فرعون، والذرّيّة الّذين آمنوا من قومه كانت اُمّهاتهم من بنى إسرائيل وآباؤهم من القبط فتبعوا اُمّهاتهم في الإيمان بموسى، وقيل: الذرّيّة بعض أولاد القبط، وقيل: اُريد بها امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وقد ذكرا في القرآن وجارية وامرأة هي مشّاطة امرأة فرعون.

وذكر آخرون أنّ الضمير لموسىعليه‌السلام والمراد بالذرّيّة جماعة من بنى إسرائيل تعلّموا السحر وكانوا من أصحاب فرعون، وقيل: هم جميع بنى إسرائيل وكانوا ستّمائة ألف نسمة سمّاهم ذرّيّة لضعفهم، وقيل: ذرّيّة آل إسرائيل ممّن بعث إليهم موسى وقد هلكوا بطول العهد، وهذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شئ منها في الآيات من جهة اللفظ.

والّذى يفيده السياق وهو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعاً إلى موسى والمراد بالذرّيّة من قوم موسى بعض الضعفاء من بنى إسرائيل دون ملإهم الأقوياء والشرفاء، والاعتبار يساعد على ذلك فإنّهم جميعاً كانوا اُسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسّل الشرفاء و الأقوياء بأىّ وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعيّة وجاههم القوميّ، ويتقرّبوا إلى الجبّار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة ومراءاة

١١٤

النصح والتجنّب عمّا لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملإ من بنى اسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، ويتظاهروا بالإيمان به.

على أنّ قصص بنى اسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أنّ كثيراً من عتاة بنى إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده وإن كانوا يتسلّمون له ويطيعونه في عامّة أوامره الّتى كان يصدرها لبذل المساعى في سبيل نجاة بنى إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميّتهم وحرّيّة شعبهم ومنافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الاُمور أمر والإيمان بالله وما جاء به الرسول أمر آخر.

ويستقيم على هذا معنى قوله:( وَمَلَئِهِمْ ) بأن يكون الضمير إلى الذرّيّة ويفيد الكلام أنّ الذرّيّة الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ والأشراف من بنى إسرائيل فإنّهم ربّما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه ويطيّبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم وينقصوا من إيذائهم والتشديد عليهم.

وأمّا ما قيل: إنّ الضمير راجع إلى فرعون لأنّه ذو أصحاب أو للذرّيّة لأنّهم كانوا من القبط فممّا لا يصار إليه البتّة وخاصّة أوّل الوجهين.

وقوله:( أَن يَفْتِنَهُمْ ) أي يعذّبهم ليعودوا إلى ملّته، وقوله:( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ ) أي والظرف هذا الظرف وهو أنّ فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر.

فالمعنى - والله أعلم - فتفرّع على قصّة بعثهما واستكبار فرعون وملإه أنّه لم يؤمن بموسى إلّا ضعفاء من بنى اسرائيل وهم يخافون ملأهم ويخافون فرعون أن يعذّبهم لإيمانهم وكان ينبغى لهم ومن شأنهم أن يخافوا فإنّ فرعون كان يومئذ عالياً في الأرض مسلّطاً عليهم وإنّه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم ويجاوز الحدّ في الظلم والتعذيب.

ولو صحّ أن يراد بقومه كلّ من بعث إليهم موسى وبلّغهم الرسالة وهم القبط

١١٥

وبنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدّم من تكلّفاتهم.

قوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ) لمّا كان الإيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربّه ولو إجمالاً وأنّه سبب فوق الأسباب إليه ينتهى كلّ سبب، وهو المدبّر لكلّ أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه والتجنّب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبّب به من الأسباب فإنّه من الجهل، ولازم ذلك إرجاع الأمر إليه والتوكّل عليه، وقد أمرهم في الآية بالتوكّل على الله، علّقه أوّلا على الشرط الّذى هو الإيمان ثمّ تمّم الكلام بالشرط الّذى هو الإسلام.

فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله ومسلمين له فتوكّلوا عليه. وقد فرّق بين الشرطين ولعلّه لم يجمع بينهما فيقول:( إن كنتم آمنتم وأسلمتم فتوكّلوا) لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإيمان واقعاً محرزاً منهم، وأمّا الاسلام فهو من كمال الإيمان، وليس من الواجب الضرورىّ أن يكون كلّ مؤمن مسلماً بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإسلام.

فالتفريق بين الشرطين للإشعار بكون أحدهما واجباً واقعاً منهم، والآخر ممّا ينبغى لهم أن يتحقّقوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - وقد آمنتم - وكنتم مسلمين له - وينبغى أن تكونوا كذلك - فتوكّلوا على الله، ففى الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى.

قوله تعالى: ( فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) إلى آخر الآيتين، إنّما توكّلوا على الله لينجيهم من فرعون وملإه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم:( رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ) الخ، سؤال منهم نتيجة توكّلهم وهو أن ينزع الله منهم لباس الضعف والذلّة، وينجيهم من القوم الكافرين.

أمّا الأوّل فقد أشاروا إليه بقولهم:( رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وذلك أنّ الّذى يغرى الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم

١١٦

من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوىّ الظالم كما أنّ الأموال والأولاد بما عندها من جاذبة الحبّ فتنة للإنسان، قال تعالى:( أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن: ١٥. والدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربّهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف والذلّة بسلب الغرض منه وهو سلب الشئ بسلب سببه.

وأمّا الثاني أعنى التنجية فهو الّذى ذكره حكآية عنهم في الآية الثانية:( وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ) الخ، التبوّى أخذ المسكن والمنزل، ومصر بلد فرعون، والقبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة الّتى يحصل بها التقابل بين الشئ وغيره فهو مصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي جهة واحدة وكان الغرض أن يتمكّنا منهم بالتبليغ ويتمكّنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدلّ عليه أو يشعر به قوله بعده:( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) لوقوعه بعده.

وأمّا قوله:( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) فالسياق يدلّ على أنّ المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفاً:( رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ) إلى آخر الآيتين.

والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتّخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر - وكأنّهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلّا كهيئة البدويّين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها - واجعلا أنتما وقومكما بيوتكم متقابلة وفي جهة واحدة يتّصل بذلك بعضكم ببعض ويتمشّى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع في الصلوات، وأقيموا الصّلاة وبشّر يا موسى أنت المؤمنين بأنّ الله سينجّيهم من فرعون وقومه.

قوله تعالى: ( وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا ) الخ، الزينة بناء نوع من الزين وهى الهيئة الّتى تجذب النفس إلى الشئ، والنسبة بين الزينة والمال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه واعتدال القامة، وبعض المال ليس بزينة كالأنعام والأراضي، وبعض المال

١١٧

زينة كالحليّ والتقابل الواقع بين الزينة والمال يعطى أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى الماليّة كالحليّ والرياش والأثاث والأبنيه الفاخرة وغيرها.

وقوله:( رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ ) قيل اللّام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم أنّهم يضلّون عن سبيلك، ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنّا قد علمنا بالأدلّة الواضحة أنّ الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضاً منهم الضلال، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلّوا. انتهى.

وهو حقّ لكن في الإضلال الإبتدائيّ المستحيل عليه تعالى، وأمّا الإضلال بعنوان المجازاة ومقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، وقد كان فرعون وملؤه مصرّين على الاستكبار والإفساد ملحّين على الإجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة وأموالا ليضلّوا عن سبيله جزاء بما كسبوا.

وربّما قيل: إنّ اللّام في( لِيُضِلُّوا ) للدعاء، وربّما قيل: إنّ الكلام بتقدير لا أي لئلّا يضلّوا عن سبيلك، والسياق لا يساعد على شئ من الوجهين.

والطمس - كما قيل - تغيّر إلى الدثور والدروس فمعنى( اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ) غيّرها إلى الفناء والزوال، وقوله:( وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ) من الشدّ المقابل للحلّ أي أقس قلوبهم واربط عليها ربطا لا ينشرح للحقّ فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم فهو الطبع على القلوب، وقول بعضهم: إنّ المراد بالشدّ تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشدّ عليهم وآلم، وكذا قول آخرين: إنّه كناية عن إماتتهم وإهلاكهم من الوجوه البعيدة.

فمعنى الآية: وقال موسى - وكان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون وملئه ويقينه بأنّهم لا يدومون إلّا على الضلال والإضلال كما يدلّ عليه سياق كلامه في دعائه - ربّنا إنّك جازيت فرعون وملأه على كفرهم وعتوّهم جزاء السوء فآتيتهم زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا إرادة منك لأن يضلّوا من اتّبعهم عن سبيلك، وإرادتك

١١٨

لا تبطل وغرضك لا يلغو ربّنا أدم على سخطك عليهم واطمس على أموالهم وغيّرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، واجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتّى يقفوا موقفاً لا ينفعهم الإيمان وهو زمان يرون فيه العذاب الإلهىّ.

وهذا الدعاء من موسىعليه‌السلام على فرعون وملئه إنّما هو بعد يأسه التامّ من إيمانهم، وعلمه أنّه لا يترقّب منهم في الحياة إلّا أن يضلّوا ويضلّوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) نوح: ٢٧، وحاشا ساحة الأنبياءعليهم‌السلام أن يتكلّموا على الخرص والمظنّة في موقف يشافهون فيه ربّ العالمين جلّت كبرياؤه وعزّ شأنه.

قوله تعالى: ( قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) الخطاب - على ما يدلّ عليه السياق - لموسى وهارون ولم يحك الدعاء في الآية السابقة إلّا عن موسى، وهذا يؤيّد ما ذكره المفسّرون: أنّ موسىعليه‌السلام كان يدعو، وكان هارون يؤمّن له وآمين دعاء فقد كانا معاً يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسىعليه‌السلام وحده.

والاستقامة هو الثبات على الأمر، وهو منهماعليهما‌السلام الثبات على الدعوة إلى الله وعلى إحياء كلمة الحقّ، والمراد بالّذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل وقد وصفهم موسىعليه‌السلام بالجهل كما في قوله:( قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) الأعراف: ١٣٨.

والمعنى:( قَالَ ) الله مخاطباً لموسى هارون( قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ) من سؤال العذاب الأليم لفرعون وملئه، والطمس على أموالهم والشدّ على قلوبهم( فَاسْتَقِيمَا ) واثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإحياء كلمة الحقّ( وَلَا تَتَّبِعَانِّ ) البتّة( سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم ودواعى شهواتهم، وفيه نوع تلويح إلى أنّهم سيسألون اُموراً فيها إحياء سنّتهم القوميّة وسيرتهم الجاهليّة.

١١٩

وبالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمّنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإيمان ووعدهما بذلك، ولذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيّته الّتى فيه.

ولم يكن في الدعاء ما يدلّ على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب وعلى ذلك جرى أيضاً سياق الآية الدالّة على القبول والإجابة وكذا الآية المخبرة عن كيفيّة إنجازه، وقد نقل في المجمع عن ابن جريح أنّ فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة قال: وروى ذلك عن أبى عبداللهعليه‌السلام ، ورواه عنهعليه‌السلام في الاحتجاج وكذا في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن هشام بن سالم عنهعليه‌السلام وفي تفسير القمّىّ عن أبيه عن النوفليّ عن السكونيّ عنهعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ) إلى آخر الآية، البغى والعدو كالعدوان الظلم وإدراك الشئ اللحوق به والتسلّط عليه كما أنّ اتّباع الشئ طلب اللحوق به.

وقوله:( آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) أي آمنت بأنّه. وقد وصف الله بالّذى آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم وهو مجاوزة البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضاً جمع بين الإيمان والإسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصرّ عليه من المعصية وهو الشرك بالله والإستكبار على الله، والباقى ظاهر.

قوله تعالى: ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) الآن بالمدّ أصله ءالآن أي أتؤمن بالله الآن وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كلّ مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيّامك في معصيته، ولم تقدّم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته وهذا هو الّذى كان موسى وهارون سألاه ربّهما أن يأخذه بعذاب أليم ويسدّ سبيله إلى الإيمان إلّا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان ولا تغنى عنه التوبة شيئاً.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ

١٢٠