الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 102351
تحميل: 4599


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102351 / تحميل: 4599
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أقول: وفي تفسير البرهان عن تفسير الثعلبيّ بإسناده عن الشعبىّ يرفعه إلى علىّعليه‌السلام مثله وفيه عن ابن المغازلىّ يرفعه إلى عبّاد بن عبدالله عن علىّعليه‌السلام مثله وكذا عن كنوز الرموز للرسعنىّ مثله.

وفيه أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علىّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ) أنا( وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) قال: علىّ.

أقول: وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلىّ في تفسير الآية عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله.

وفي تفسير البرهان عن ابن المغازلىّ بإسناده عن علىّ بن حابس قال: دخلت أنا وأبو مريم: على عبدالله بن عطاء قال أبو مريم: حدّث علينا الحديث الّذى حدّثتني به عن أبى جعفر قال: كنت عند أبى جعفر جالسا إذ مرّ علينا ابن عبدالله بن سلام قلت: جعلت فداك هذا ابن الّذى عنده علم الكتاب، قال: لا ولكنّه صاحبكم علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام الّذى نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى:( مَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

وفيه عن ابن شهراشوب عن الحافظ أبى نعيم بثلاثة طرق عن ابن عبّاس قال: قال: سمعت عليّا يقول: قول الله تعالى:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيّنة وأنا الشاهد.

وفيه أيضاً عن موفق بن أحمد قال: قوله تعالى:( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) قال ابن عبّاس: هو علىّ يشهد للنبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو منه.

أقول: ورواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عبّاس( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) علىّ خاصّة.

٢٠١

أقول: قال صاحب المنارفى تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: ومنها: أنّه علىّعليه‌السلام ترويه الشيعة ويفسّرونه بالإمامة، وروى: أنّه كرّم الله وجهه سئل عنه فأنكره وفسّره بأنّه لسانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا: إنّه أبوبكر، وهما من التفسير بالهوى. انتهى أمّا قوله:( إنّ الشيعة ترويه) فقد عرفت أنّ رواته من أهل السنّة أكثر من الشيعة، وأمّا قوله:( إنّه مثل تفسيره بأبى بكر من التفسير بالهوى) فيكفيك في ذلك ما تقدّم في معنى الآية فراجع.

وفي الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: إنّ عندنا رجلاً يقال له: كليب فلا يجئ عنكم شئ إلّا قال: أنا اُسلّم فسمّيناه كليب تسليم قال: فترحّم عليه ثمّ قال: أتدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو والله الإخبات قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ) .

أقول: وروى مثله العيّاشيّ في تفسيره والكشّىّ وكذا صاحب البصائر عن أبى اُسامة زيد الشحّام عنهعليه‌السلام .

٢٠٢

( سورة هود آية ٢٥ - ٣٥)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ( ٢٥) أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ( ٢٦) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ( ٢٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ( ٢٨) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ( ٢٩) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ( ٣٠) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ( ٣١) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( ٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ( ٣٣) وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( ٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ( ٣٥)

( بيان)

شروع في قصص الأنبياءعليهم‌السلام وقد بدأ بنوح وعقّبه بجماعة ممّن بعده كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسىعليهم‌السلام . وقد قسّم قصّة نوح إلى فصول

٢٠٣

أوّلها احتجاجهعليه‌السلام على قومه في التوحيد فهوعليه‌السلام أوّل الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنيّة على ما ذكره الله تعالى في كتابه، وأكثر ما قصّ من إحتجاجهعليه‌السلام مع قومه من المجادلة بالّتى هي أحسن وبعضه من الموعظة وقليل منه من الحكمة وهو الّذى يناسب تفكّر البشر الأوّلىّ والإنسان القديم الساذج، وخاصّة تفكّرهم الاجتماعيّ الّذى لا ظهور فيه إلّا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسّطين في الفهم.

قوله تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) القراءة المعروفة( إِنِّي ) بكسر الهمزة على تقدير القول وقرئ أنّى بفتح الهمزة بنزع الخافض والتقدير بأنّى لكم نذير مبين، والجملة أعنى قوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) على أيّ حال بيان إجماليّ لما اُرسل به فإنّ جميع ما بلّغه قومه عن ربّه واُرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.

فكما أنّه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بياناً لجميع ما اُرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إنّى لكم نذير مبين بيان لذلك بالإجمال غير أنّه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه وهى أنّه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، وليس له من الأمر شئ أزيد من أنّه واسطة يحمل الرسالة.

قوله تعالى: ( أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) . بيان ثان لما اُرسل به أو بيان لقوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) ومال الوجهين واحد، وأن على أيّ حال مفسّرة، والمعنى أنّ محصّل رسالته النهى عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار والتخويف.

وذكر بعض المفسّرين أنّ الجملة أعنى قوله:( أَن لَّا تَعْبُدُوا ) الخ، بدل من قوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) أو مفعول لقوله مبين. ولعلّ السياق يؤيّد ما قدّمناه.

والظاهر أنّ المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعمّ من العذابين يدلّ على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم:( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ

٢٠٤

اللهُ إِن شَاءَ ) الآية فإنّه ظاهر في عذاب الاستئصال.

فهوعليه‌السلام كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان ويخوّفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مولم ونسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله:( عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.

وبما تقدّم يندفع ما ربّما قيل: إنّ تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفهعليه‌السلام من تعذيبهم المقطوع؟ والخوف إنّما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.

وبالجملة كانعليه‌السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، وإنّما كان يخوّفهم لأنّهم كانوا يعبدون الأوثان خوفاً من سخطهم فقابلهم نوحعليه‌السلام بأنّ الله سبحانه هو الّذى خلقهم ودبّر شؤون حياتهم واُمور معاشهم بخلق السماوات والأرض وإشراق الشمس والقمر وإنزال الأمطار وإنبات الأرض وإنشاء الجنّات وشقّ الأنهار على ما يحكيه تعالى عنهعليه‌السلام في سورة نوح.

وإذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربّهم لا ربّ سواه فليخافوا عذابه وليعبدوه وحده.

وهذه الحجّة في الحقيقة حجّة برهانيّة مبنيّة على اليقين لكنّهم إنّما كانوا يتلقّونها حجّة جدليّة مبنيّة على الظنّ لأنّهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقّعون سخط الربّ وعذابه على المخالفة لأنّهم يرونه وليّاً لأمرهم مصلحاً لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الّذين يجب الخضوع لمقامهم والتسليم لإرادتهم ولو استكبر عن الخضوع لهم والتسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم وعاقبوهم بما أجرموا وتمرّدوا.

وعلى هذا القياس يجب إرضاء الربّ أو الأرباب الّذين يرجع إليهم أمر الكون وولآية النظام الجارى فيه فيجب إرضاؤه وإخماد نار غضبه بالخضوع له والتقرّب إليه بتقديم القرابين والتضحية وسائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون وهو مبنىّ على الظنّ.

٢٠٥

لكنّ مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى والاستكبار عن التسليم والخضوع لساحة الربوبيّة مسألة حقيقيّة يقينيّة فإنّ من النواميس الكلّيّة الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوىّ والمتأثّر المقهور للمؤثّر القاهر فما قولك في الله الواحد القهّار الّذى إليه مصير الاُمور.

وقد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون وربط بعضها ببعض ثمّ أجرى الحوادث على نظام الأسباب وعلى ذلك يجرى كلّ شئ في نظام وجوده فلو انحرف عمّا يخطّه له سائر الأسباب من الخطّ أدّى ذلك إلى اختلال نظامها وكان ذلك منازعة منه لها وعند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونيّة من أجزاء الوجود لتعديل أمره وإرجاعه إلى خطّ يلائمها تدفع بذلك الشرّ عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطّه المخطوط له فهو وإلّا حطمتها حاطمات الأسباب ونازلات النوائب والبلايا، وهذا أيضاً من النواميس الكلّيّة.

والإنسان الّذى هو أحد أجزاء الكون له في حياته خطّ خطّه له الصنع والإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته ووافق بذلك سائر أجزاء الكون وفتحت له أبواب السماء ببركاتها وسمحت له الأرض بكنوز خيراتها، وهذا هو الإسلام الّذى هو الدين عند الله تعالى المدعوّ إليه بدعوة نوح ومن بعده من الأنبياء والرسلعليهم‌السلام .

وإن تخطّاه وانحرف عنه فقد نازع أسباب الكون وأجزاء الوجود في نظامها الجارى وزاحمها في شؤون حياتها فليتوقّع مرّ البلاء ولينتظر العذاب والعناء فإن استقام في أمره وخضع لإرادة الله سبحانه وهى ما تحطمه من الأسباب العامّة فمن المرجوّ أنّ تتجدّد له النعمة بعد النقمة وإلّا فهو الهلاك والفناء وإنّ الله لغنىّ عن العالمين، وقد تقدّم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة.

قوله تعالى: ( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ) إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوحعليه‌السلام ، وفيه إشارة إلى أنّهم بادروه بالردّ والإنكار من دون أن يفكّروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم.

٢٠٦

والمجيبون هم الملأ من قومه والأشراف والكبراء الّذين كفروا به ولم يتعرّضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجّة التوحيد بل إنّما اشتغلوا بنفى رسالته والاستكبار عن طاعته فإنّ قوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) إلى آخر الآيتين، كان مشتملاً على دعوى الرسالة وملوّحاً إلى وجوب الاتّباع وقد صرّح به فيما حكى عنه في موضع آخر، قال تعالى:( قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ) نوح: ٣.

ومحصّل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنّه لا دليل على لزوم اتّباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجّتان منظومتان على طريق الاضراب والترقّى ولذلك أخّر قولهم:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) .

والحجّة الاُولى الّتى مدلوها عدم الدليل على وجوب اتّباعه مبيّنة بطرق ثلاث هي قوله:( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا ) الخ، وقوله:( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ ) الخ، وقوله:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا ) . الخ.

والحجّة بجميع أجزائها مبنيّة على إنكار ما وراء الحسّ كما سنبيّن ولذلك كرّروا فيه قولهم: ما نراك وما نرى.

فقوله:( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ) أوّل جوابهم عمّا يدّعيه نوحعليه‌السلام من الرسالة، وقد تمسّكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الاُمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه وتقريره: أنّك مثلنا في البشريّة ولو كنت رسولاً إلينا من عند الله لم تكن كذلك ولا نشاهد منك إلّا أنّك بشر مثلنا، وإذ كنت بشراً مثلنا لم يكن هناك موجب لاتّباعك.

ففى الكلام تكذيب لرسالتهعليه‌السلام بأنّه ليس إلّا بشراً مثلهم ثمّ استنتاج من ذلك أنّه لا دليل على لزوم اتّباعه، والدليل على ما ذكرنا قول نوحعليه‌السلام فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه:( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) الخ.

وقد اشتبه الأمر على بعض المفسّرين فقرّر قولهم:( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ) بأنّهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعيّة واستنتجوا منها أنّه لا وجه لاتّباعهم له،

٢٠٧

قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة: إحداها: أنّه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، وهذا يدلّ على أنّهعليه‌السلام كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته وفي شخصه وهكذا كان كلّ رسول من وسط قومه، ووجه الجواب أنّ المساواة تنافى دعوى تفوّق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعاً طائعاً والآخر متبوعاً مطاعاً لأنّه ترجيح بغير مرجّح. انتهى.

ولو كان المعنى ما ذكره لكان من حقّ الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلّا بشراً مثلنا فيذكر أنّه بشر ولا حاجة إلى الإشارة إلى بشريّته، ولكان معنى الكلام عائداً إلى المراد من قولهم بعد: وما نرى لكم علينا من فضل، وكان فضلا من الكلام.

ومن العجب استفادته من الكلام مساواتهعليه‌السلام لهم في البيت والشخصيّة ثمّ قوله:( وهكذا كان كلّ رسول من وسط قومه) وفي الرسل مثل إبراهيم وسليمان وأيوبعليهم‌السلام .

وقوله:( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) قال في المفردات: الرذل - بفتح الراء - والرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته قال تعالى:( وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) وقال:( إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) وقال:( قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) جمع الأرذل.

وقال في المجمع: الرذل الخسيس الحقير من كلّ شئ والجمع أرذل ثمّ يجمع على أراذل كقولك: كلب وأكلب وأكالب، ويجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر.

وقال: والرأى الرؤية من قوله:( يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي رؤية العين والرأى أيضاً ما يراه الإنسان في الأمر وجمعه آراء. انتهى.

وقال في المفردات: وقوله:( بادئ الرأى ) أي ما يبدء من الرأى وهو الرأى الفطير، وقرئ: بادى بغير همزة أي الّذى يظهر من الرأى ولم يتروّ فيه. انتهى.

٢٠٨

وقوله:( بَادِيَ الرَّأْيِ ) يحتمل أن يكون قيدا لقوله:( هُمْ أَرَاذِلُنَا ) أي كونهم أراذل وسفلة فينا معلوم في ظاهر الرأى والنظر أو في أوّل نظرة.

ويحتمل كونه قيداً لقوله:( َاتَّبَعَكَ ) أي اتّبعوك في ظاهر الرأى أو في أوّله من غير تعمّق وتفكّر ولو تفكّروا قليلا وقلّبوا أمرك ظهراً لبطن ما اتّبعوك، وهذا الاحتمال لا يستغنى عن تكرار الفعل ثانياً والتقدير: اتّبعوك بادى الأمر وإلّا اختلّ المعنى لو لم يتكرّر وقيل: ما نراك اتّبعك في بادى الرأى إلّا الّذين هم أراذلنا.

وبالجملة معنى الآية: أنّا نشاهد أنّ متّبعيك هم الأراذل والأخسّاء من القوم ولو اتّبعناك ساويناهم ودخلنا في زمرتهم وهذا ينافى شرافتنا ويحطّ قدرنا في المجتمع، وفي الكلام إيماء إلى بطلان رسالتهعليه‌السلام بدلالة الالتزام فإنّ من معتقدات العامّة أنّ القول لو كان حقّاً نافعاً لتبعه الشرفاء والعظماء واُولوا القوّة والطول فلو استنكفوا عنه أو اتّبعه الأخسّاء والضعفاء كالعبيد والمساكين والفقراء ممّن لا حظّ له من مال أو جاه ولا مكانة له عند العامّة فلا خير فيه.

وقوله:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ) المراد نفى مطلق الفضل من متاع دنيوىّ يختصّون بالتنعّم به أو شئ من الاُمور الغيبيّة كعلم الغيب أو التأيّد بقوّة ملكوتيّة وذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفى فتفيد العموم.

وقد أشركوا أتباع نوحعليه‌السلام والمؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا ) ولم يقولوا:( ولا نرى لك ) لأنّهم كانوا يحثّونهم ويرغّبونهم في اتّباع ما اتّبعوه من الطريقة.

والمعنى أنّ دعوتكم إيّانا - وعندنا ما نتمتّع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال والبنين والعلم والقوّة - إنّما يستقيم ويؤثّر أثره لو كان لكم شئ من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوّة من الملكوت حتّى يوجب ذلك خضوعا منّا لكم ولا نرى شيئاً من ذلك عندكم فأىّ موجب يوجب علينا اتّباعكم؟

٢٠٩

وإنّما عمّمنا الفضل في كلامهم للفضل من حيث الجهات المادّيّة وغيره كعلم الغيب والقوّة الملكوتيّة خلافاً لأكثر المفسّرين حيث فسّروا الفضل بالفضل المادّىّ كالمال والكثرة وغيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفى.

مضافاً إلى أنّ ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوحعليه‌السلام يدلّ على ذلك وهو قوله:( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) الخ على ما سيأتي.

وقوله تعالى:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إضراب في الاحتجاج كما تقدّمت الإشارة إليه فمحصّله أنّا لا نرى معكم أمرا يوجب اتّباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتّباع وهو أنّا نظنّكم كاذبين.

ومعناه على ما يعطيه السياق - والله اعلم - أنّه لمّا لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحّة دعوتكم وإنّكم تلحّون علينا بالسمع والطاعة وأنتم صفر الأيدى من مزايا الحياة من مال وجاه وهذه الحال تستدعى الظنّ بأنّكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أمانيّ الحياة بهذه الوسيلة وبالجملة هذه أمارة توجب عادة الظنّ بأنّها اُكذوبة يتوسّل بها إلى اقتناء الأموال والقبض على ثروة الناس والاستعلاء عليهم بالحكم والرئاسة، وهذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصّة إذ قال:( فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ) المؤمنون: ٢٤. وبهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظنّ دون الجزم، وأنّ المراد بالكذب الكذب المخبرىّ دون الخبرىّ.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوحعليه‌السلام عن حجّتهم إلى تمام أربع آيات، والتعمية الإخفاء فمعنى عمّيت عليكم بالبناء للمفعول اُخفيت عليكم من ناحية جهلكم وكراهتكم للحقّ. وقرئ: عميت بالتخفيف والبناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.

لمّا كانت حجّتهم مبنيّة على الحسّ ونفى ما وراءه وقدا ستنتجوا منها أوّلاً

٢١٠

عدم الدليل على وجوب طاعته واتّباعه ثمّ أضربوا عنه بالترقّى إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهمعليه‌السلام بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته وما يتبعه، ونفى ما حاولوا إثباته باتّهامه واتّهام أتباعه بالكذب غير أنّه استعطفهم بخطاب يا قوم - بالإضافة إلى ضمير التكلّم - مرّة بعد مرّة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم.

وقد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجّتهعليه‌السلام في جوابهم فقطّعت حجّتهم فصلا فصلا وأجابت عن كلّ فصل بوجهيه أعنى من جهة إنتاجه أنّ لا دليل على اتّباعهعليه‌السلام وأنّ الدليل على خلافه وذلك قوله:( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ) الخ، وقوله:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ) الخ، وقوله:( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ ) الخ، ثمّ أخذت من كلّ حجّة سابقة شيئاً يجرى مجرى التلخيص فأضافته إلى الحجّة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجّة بالحجّة على ما لكلّ منها من الاستقلال والتمام.

فتمّت الحجج ثلاثاً كلّ واحدة منها مبدوّة بالخطاب وهى قوله:( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ ) الخ، وقوله:( وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ) الخ، وقوله:( وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ) الخ، فتدبّر فيها.

فقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) جواب عن قولهم:( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ) يريدون به أنّه ليس معه إلّا البشريّة الّتى يماثلهم فيها ويماثلونه فبأىّ شئ يدّعى وجوب اتّباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدّعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم ويترأس عليهم.

وإذ كان هذا القول منهم متضمّنا لنفى رسالته وسندهم في ذلك أنّه بشر لا أثر ظاهر معه يدلّ على الرسالة والاتّصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة وهو الآية المعجزة الدالّة على صدق الرسول في دعوى الرسالة فإنّ الرسالة نوع من الاتّصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحقّقه إلّا بوقوع أمر غيبيّ آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقاً في

٢١١

دعواه الرسالة، ولذلك أشارعليه‌السلام بقوله:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) إلى أنّ معه بيّنة من الله وآية معجزة تدلّ على صدقه في دعواه.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبيّنة الآية المعجزة الّتى تدلّ على ثبوت الرسالة لأنّ ذلك هو الّذى يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالبيّنة في الآية العلم الضرورىّ الّذى يعلم به النبيّ أنّه نبىّ وذلك لكونه معنى أجنبيّاً عن السياق.

وقوله:( وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) الظاهر أنّهعليه‌السلام يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب والعلم، وقد تكرّر في القرآن الكريم تسمية الكتاب وكذا تسمية العلم بالله وآياته رحمة قال تعالى:( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ) هود: ١٧، وقال:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) النحل: ٨٩، وقال:( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ) الكهف: ٦٥، وقال:( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ) آل عمران: ٨.

وأمّا قوله:( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) فالظاهر أنّ ضميره راجع إلى الرحمة، والمراد أنّ ما عندي من العلم والمعرفة أخفاها عليكم جهلكم وكراهتكم للحقّ بعد ما ذكّرتكم به وبثثته فيكم.

وقوله:( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) الإلزام جعل الشئ مع الشئ بحيث لا يفارقه ولا ينفكّ منه، والمراد بإلزامهم الرحمة وهم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله وآياته والتلبّس بما يستدعيه المعارف الإلهيّة من النور والبصيرة.

ومعنى الآية - والله أعلم - أخبروني إن كنت عندي آية معجزة تصدّق رسالّتي مع كونى بشرا مثلكم وكانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب وعلم يهديكم إلى الحقّ لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم واستكباركم أيجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته

٢١٢

وقد أوقفتكم عليه لكنّكم لا تؤمنون به طغياناً واستكباراً وليس علىّ أن اُجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.

ففى الكلام تعريض لهم أنّه قد تمّت عليهم الحجّة وبانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا لكنّهم مع ذلك يريدون أمراً يؤمنون لأجله وليس إلّا الإجبار والإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلّا بشراً مثلنا، لا يريدون إلّا الإجبار، ولا إجبار في دين الله.

والآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدلّ على أنّ ذلك من الأحكام الدينيّة المشرّعة في أقدم الشرائع وهى شريعة نوحعليه‌السلام وهو باق على اعتباره حتّى اليوم من غير نسخ.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية، أعني قوله:( يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ ) الخ، جواب عن قولهم:( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا ) ويظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنّه جواب عن قولهم:( بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) وقول آخرين: إنّه جواب عن قولهم:( مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) وقول طائفة اُخرى إنّه جواب عن قولهم:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ) ولا نطيل الكلام بالتعرّض لتوضيحها وردّها.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) يريد به الجواب عمّا اتّهموه به من الكذب و لازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم وأخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنّه إذا لم يسألهم شيئاً من أموالهم لم يكن لهم أن يتّهموه بذلك.

قوله تعالى: ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) جواب عن قولهم:( ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) وقد بدّل لفظة الأراذل - وهى لفظة إرزاء وتحقير - من قوله: الّذين آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم وإشارة إلى ارتباطهم بربّهم.

نفى في جوابه أن يكون يطردهم وعلّل ذلك بقوله:( إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) إيذانا بأنّ لهم يوماً يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه

٢١٣

من خير أو شرّ فحسابهم على ربّهم وليس لغيره من الأمر شئ، فليس على نوحعليه‌السلام أن يحاسبهم فيجازيهم بشئ لكنّ القوم لجهالتهم يتوقّعون على الفقراء والمساكين والضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير ويسلبوا النعمة والشرافة والكرامة.

فظهر أنّ المراد بقوله:( إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه إيّاهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى:( وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنعام: ٥٧.

وأمّا قول من قال: إنّ معنى قوله:( إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ ) أنّه لا يطردهم لأنّهم ملاقوا ربّهم فيجازى من ظلمهم وطردهم، أو أنّهم ملاقوا ثواب ربّهم فكيف يكونون أراذل وكيف يجوز طردهم وهم لا يستحقّون ذلك، فبعيد عن الفهم. على أنّ أوّل المعنيين يجعل الآية التالية أعنى قوله:( وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ ) الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.

وظهر أيضاً أنّ المراد بقوله:( وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) جهلهم بأمر المعاد وأنّ الحساب والجزاء إلى الله لا إلى غيره، وأمّا ما ذكره بعضهم أنّ المراد به الجهالة المضادّة للعقل والحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنّكم تجهلون أنّ حقيقة الإمتياز بين إنسان وإنسان باتّباع الحقّ وعمل البرّ والتحلّى بالفضائل لا بالمال والجاه كما تظنّون فهو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) النصر مضمّن معنى المنع أو الإنجاء ونحوهما والمعنى من يمنعنى أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أفلا تتذكّرون أنّه ظلم، والله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم وينتقم منه، والعقل جازم بأنّ الله سبحانه لا يساوى بين الظالم والمظلوم، ولا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه ويشفى به غليل صدر المظلوم والله عزيز ذو انتقام.

٢١٤

قوله تعالى: ( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) جواب عن قولهم:( وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ) يردّ عليهم قولهم بأنّى لست أدّعى شيئاً من الفضل الّذى تتوقّعون منّى أن أدّعيه بما أنّى أدّعى الرسالة فإنّكم تزعمون أنّ على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهيّة فيستقلّ بإغناء الفقير وشفاء العليل وإحياء الموتى والتصرّف في السماء والأرض وسائر أجزاء الكون بما شاء وكيف شاء.

وأن يملك علم الغيب فيحصل على كلّ خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، ويدفع كلّ شرّ مستقبل كامن عن نفسه وبالجملة يستكثر من الخيرات ويصان من المكاره.

وأن يرتفع عن درجة البشريّة إلى مقام الملكيّة أي يكون ملكا منزّها من ألواث الطبيعة ومبرّي من حوائج البشريّة ونقائصها فلا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا يقع في تعب اكتساب الرزق واقتناء لوازم الحياة وأمتعتها.

فهذه هي جهات الفضل الّتى تزعمون أنّ الرسول يجب أن يؤتاها ويمتلكها فيستقلّ بها، وقد أخطأتم فليس للرسول إلّا الرسالة وإنّى لست أدّعى شيئاً من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّى ملك، وبالجملة لست أدّعى شيئاً من الفضل الّذى تتوقّعونه حتّى تكذّبوني بفقده، وإنّما أقول إنّى على بيّنة من ربّى تصدّق رسالّتي وآتاني رحمة من عنده.

والمراد بقوله:( خَزَائِنُ اللهِ ) جميع الذخائر والكنوز الغيبيّة الّتى ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم وبقائهم ويستعينون به على تتميم نقائصهم وتكميلها.

فهاتيك هي الّتى تزعم العامّة أنّ الأنبياء والأولياء يؤتون مفاتيحها ويمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاؤن ويحكمون ما يريدون كما اقترح على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد حكاه الله تعالى إذ يقول:( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ

٢١٥

السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) أسرى: ٩٣.

وإنّما قال:( ولا أعلم الغيب ) ولم يقل: ولا أقول إنّى أعلم الغيب لأنّ هذا النوع من العلم لمّا كان ممّا يضنّ به ولا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول إنّى أعلم الغيب نافياً لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفى بخلاف قوله:( وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ ) وقوله:( وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ) ، ولم يكرّر قوله:( لَكُمْ ) لحصول الكفآية بالواحدة.

وقد أمر الله سبحانه نبيّه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب قومه بما خاطب به نوحعليه‌السلام قومه ثمّ ذيله بما يظهر به المراد إذ قال:( قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ) الأنعام: ٥٠.

اُنظر إلى قوله:( لَّا أَقُولُ لَكُمْ ) الخ، ثمّ إلى قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) ثمّ إلى قوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ) الخ، فهو ينفى أوّلاً الفضل الّذى يتوقّعه عامّة الناس من نبيّهم ثمّ يثبت للرسول الرسالة فحسب ثمّ يبادر إلى إثبات الفضل من جهة اُخرى غير الجهة الّتى يتوقّعها الناس وهو أنّه بصير بإبصار الله تعالى وأنّ غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير وهذا هو الموجب لاتّباعهم له كما يتّبع الأعمى البصير، وهو المجوّز له أن يدعوهم إلى اتّباعه.

( كلام في قدرة الأنبياء والأولياء فلسفي قرآني)

الناس في جهل بمقام ربّهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانيّة إلى وجوده وأحديّته يسوقهم الابتلاء بعالم المادّة والطبيعة والتوغّل في الأحكام والقوانين الطبيعيّة ثمّ السنن والنواميس الاجتماعيّة والاُنس

٢١٦

بالكثرة والبينونة إلى قياس العالم الربوبىّ بما ألفوا من عالم المادّة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبّار من جبابرة البشر مع عبيده ورعيّته.

فهناك فرد من الإنسان نسمّيه مثلاً ملكاً أو جبّاراً دونه وزراء واُمراء والجنديّون والجلاوزة يُجرون ما يأمر به أو ينهى انه وله عطايا ومواهب لمن شاء وإرادة وكراهة وأخذ وردّ وقبض وإطلاق ورحمة وسخط وقضاء ونسخ إلى غير ذلك.

كلّ من الملك وخدمه وأياديه العمّالة ورعاياه وما يدور بأيديهم من النعم وأمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقلّ الوجود منفصلة عن غيره إنّما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام وقوانين وسنن اصطلاحيّة لا موطن لها سوى ذهن الذاهن واعتقاد المعتقد.

وقد طبقوا العالم الربوبىّ أعنى ما يخبر به النبوّة من مقام الربّ تعالى وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله على هذا النظام فهو تعالى يريد ويكره ويعطى ويمنع ويدبّر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منّا المسمّى ملكا، وهو محدود الوجود منعزل الكون وكلّ من ملائكته وسائر خليقته مستقلّ الوجود يملك ما عنده من الوجود والنعم الموهوبة دون الله سبحانه، وقد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شئ معه من خلقه ثمّ أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.

فقد أثبتوا - كما ترى - موجوداً محدوداً منطبق الوجود على الزمان غير أنّ وجوده الزمانىّ دائميّ، وله قدرة على كلّ شئ، وعلم بكلّ شئ، وإرادة لا تنكسر وقضاء لا تردّ، يستقلّ بما عنده من الصفات والأعمال كما يستقلّ الواحد منّا فيملك ما عنده من الحياة والعلم والقدرة وغير ذلك فحياته حياة له وليست لله، وعلمه علمه لا علم الله، وقدرته قدرته لا قدره الله وهكذا، وإنّما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا إنّها لله كما يقال لما عند الرعيّة من النعمة إنّها للملك بمعنى أنّها كانت عنده فأخرجها من عنده ووضعها عندنا نتصرّف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم على أساس المحدوديّة والانعزال.

لكنّ البراهين اليقينيّة تقضى بفساد ذلك كلّه فإنّها تحكم بسريان الفقر

٢١٧

والحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق إذ لو فرض استقلال لشئ منه تعالى في وجوده أو شئ من آثار وجوده - بأىّ وجه فرض في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة وهو محال.

فكلّ ممكن غير مستقلّ في شئ من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الّذى يستقلّ في ذاته وهو الغنىّ الّذى لا يفتقر في شئ ولا يفقد شيئاً من الوجود و كمال الوجود كالحياة والقدرة والعلم فلا حدّ له يتحدّد به.

وقد تقدّم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى:( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ) المائدة: ٧٣.

وعلى ما تقدّم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلّق الوجود به تعالى غير مستقلّ منه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكلّ شئ أو قدرة على كلّ شئ أو حياة دائمة ما دام غير مستقلّ الوجود عن الله سبحانه ولا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقّق الممكن مع وجود موقّت ذى أمد أو علم أو قدرة متعلّقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانيّة ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.

وأمّا من جهة النقل فالكتاب الإلهىّ وإن كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات والإحياء والإماتة والخلق كما في قوله:( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) الانعام: ٥٩، وقوله:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) النجم: ٤٤، وقوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) الزمر: ٤٢، وقوله:( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر: ٦٢، إلى غير ذلك من الآيات لكنّها جميعاً مفسّرة بآيات اُخر كقوله:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول) الجنّ: ٢٧، وقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ) الم السجدة: ١١، وقوله عن عيسىعليه‌السلام :( وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ) آل عمران: ٤٩، وقوله:( و

٢١٨

إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ) المائدة: ١١٠ إلى غير ذلك من الآيات.

وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكّا في أنّ المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الاُمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال والمراد بالآيات المثبتة إمكان تحقّقها في غيره تعالى بنحو التبعيّة وعدم الاستقلال.

فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون أو القدرة الغيبيّة أعنى العلم من غير طريق الفكر والقدرة من غير مجراها العادىّ الطبيعيّ لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار ونفى معه الأصالة والاستقلال بأن يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى وإنّما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه.

ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامّيّ وإن أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلوّ وكان مشمولا لمثل قوله:( لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ) النساء: ١٧١.

قوله تعالى: ( وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) قال في المفردات: زريت عليه عبته وأزريت به قصدت به وكذلك ازدريت به وأصله افتعلت قال: تزدرى أعينكم أي تستقلّهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلّهم وتستهين بهم. انتهى.

وهذا الفصل من كلامهعليه‌السلام إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الّذين كفروا من قومه وبنوا عليه سنّة الأشرافيّة وطريقة السيادة، وهو أنّ أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء والضعفاء، أمّا الأقوياء فهم اُولوا الطول وأرباب القدرة المعتضدون بالمال والعدّة، وأمّا الضعفاء فهم الباقون. والأقوياء هم السادة في المجتمع الإنسانيّ لهم النعمة والكرامة، ولأجلهم انعقاد المجتمع، وغيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحى منافعهم كالرعيّة بالنسبة إلى كرسىّ

٢١٩

الحكومة المستبدّة، والعبيد بالنسبة إلى الموالى، و الخدم والعملة بالنسبة إلى المخدومين والنساء بالنسبة إلى الرجال، وبالآخرة كلّ ضعيف بالنسبة إلى القوىّ المستعلى عليه.

وبالجملة كان معتقدهم أنّ الضعيف في المجتمع إنسان منحطّ أو حيوان في صورة إنسان إنّما يرد داخل المجتمع ويشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله وينتفع من كدّ يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آئس من الرحمة والعناية.

فهذا هو الّذى كانوا يرونه وكان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، وقد ردّ نوحعليه‌السلام ذلك إليهم بقوله:( وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا ) .

ثمّ بيّن خطأهم في معتقدهم بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ) أي إنّ أعينكم إنّما تزدريهم وتستحقرهم وتستهين أمرهم لما تحسّ ظاهر ضعفهم وهوانهم، وليس هو الملاك في إحراز الخير ونيل الكرامة بل الملاك في ذلك وخاصّة الكرامات والمثوبات الإلهيّة أمر النفس وتحلّيها بحلىّ الفضيلة والمنقبة المعنويّة، ولا طريق لى ولا لكم إلى العلم ببواطن النفوس وخبايا القلوب إلّا لله سبحانه فليس لى ولا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير والسعادة.

ثمّ بين بقوله:( إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) السبب في تحاشيه عن هذا القول ومعناه أنّه قول بغير علم، وتحريم الخير على من يمكن أن يستحقّه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغى أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.

وهذا المعنى هو الّذى يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطاباً لهؤلاء الطاغين إذ يقول:( وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) الاعراف: ٤٩.

وفي الكلام أعنى قول نوحعليه‌السلام :( وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ) الخ، تعريض لهم أنّهم كما كانوا يحرّمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيويّة الاجتماعيّة

٢٢٠