الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 102376
تحميل: 4602


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102376 / تحميل: 4602
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أفعاله يجرى في التفكّر والاستدلال أعنى القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.

وهو مع ذلك لا يستقرّ في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علّة هذا العالم المشهود الّذى هو أحد أجزائه بشئ من الإثبات والنفى لما يرى أنّ سعادة حياته الّتى لا بغية عنده أحبّ منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلّة الفاعلة المسمّاة بالإله عزّ اسمه ونفيه اختلافاً جوهريّاً فمن البيّن أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتألّه الّذى يثبت للعالم إلهاً حيّاً عليماً قديراً لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجرى على ما يحبّه ويرضاه، وبين حياة الإنسان الّذى يرى العالم سدى لا مبدء له ولا غاية، وليس فيه للإنسان إلّا الحياة المحدودة الّتى تفنى بالموت وتبطل بالفوت، ولا موقف للإنسانيّة فيه إلّا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.

فهذه نزعة فكريّة اُولى للإنسان إلى الحكم بأنّه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهى القضاء الفطريّ بالإثبات، والحكم بأنّ للعالم إلها خلق كلّ شئ بقدرته وأجرى النظام العامّ بربوبيّته فهدى كلّ شئ إلى غايته وكمال وجوده بمشيّته وسيعود كلّ إلى ربّه كما بدئ. هذا.

ثم إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادّة وإخلاده إلى الأرض عوّده أن يمثّل كلّ ما يعقله ويتصوّره تمثيلاً حسّيّاً وإن كان ممّا لا طريق للحسّ والخيال إليه البتّة كالكلّيّات والحقائق المنزّهة عن المادّة على أنّ الإنسان إنّما ينتقل الى المعقولات من طريق الإحساس والتخيّل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال.

وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خياليّة على حسب ما يألفه من الاُمور المادّيّة المحسوسة حتّى أنّ أكثر الموحّدين ممّن يرى تنزّه ساحة ربّ العالمين تعالى وتقدّس عن الجسميّة وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خياليّة معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجّه إليه في مسألة أو حدّث عنه بحديث غير أنّ التعليم الدينىّ أصلح ذلك بما قرّر من الجمع بين النفى والاثبات

٢٨١

والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحّد المسلم: إنّه تعالى شئ ليس كمثله شئ له قدرة لا كقدرة خلقه، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.

وقلّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة، وما أشذّ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلّق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانيّة، قال تعالى:( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، وقال حكاية عن إبليس:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

وبالجملة الإنسان شديد الولع بتخيّل الاُمور غير المحسوسة في صورة الاُمور المحسوسة فإذا سمع أنّ وراء الطبيعة الجسميّة ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنّه فعّال فيها محيط بها أقدم منها مدبّر لها حاكم فيها لا يوجد شئ إلّا بأمره ولا يتحوّل عن حال إلى حال إلّا بإرادته ومشيّته لم يتلقّ من جميع ذلك إلّا ما يضاهى أوصاف الجسمانيّات وما يتحصّل من قياس بعضها إلى بعض.

وكثيراً مّا حاكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبّر أمر العالم بالتفكّر ويتمّمه بالإرادة والمشيّة والأمر والنهى، وقد صرّحت التوراة الموجودة بأنّ الله سبحانه كذلك، وأنّه تعالى خلق الإنسان على صورته، وظاهر الأناجيل أيضاً ذلك.

فقد تحصّل أنّ الأقرب إلى طبع الإنسان وخاصّة الإنسان الأوّلىّ الساذج أن يصنع لربّه المنزّه عن الشبه والمثل صورة يضاهى بها الذوات الجسمانيّة وتناسب الأوصاف والنعوت الّتى يصفها بها كما يمثّل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأنّ كلّا من النعوت العامّة وجه للربّ يواجه به خلقه.

٢ - الاقبال إلى الله بالعبادة : إذا قضى الإنسان أنّ للعالم إلهاً خلقه بعلمه وقدرته لم يكن له بدّ من أن يخضع له خضوع عبادة اتّباعاً للناموس العالمّ الكونىّ وهو خضوع الضعيف للقوىّ ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنّه ناموس عامّ جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثّر

٢٨٢

الأسباب في مسبّباتها وتتأثّر المسبّبات عن أسبابها.

وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان كان مبدءً للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوىّ كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوّة القوىّ آئساً من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.

وظهوره في العالم الإنسانيّ أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك وخصيصة الفكر فهو متفنّن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله جلباً للنفع أو دفعاً للضرر كخضوع الرعيّة للسلطان والفقير للغنىّ والمرؤس للرئيس والمأمور للآمر والخادم للمخدوم والمتعلّم للعالم والمحبّ للمحبوب والمحتاج للمستغنى والعبد للسيّد والمربوب للربّ.

وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلّل وهوان نفسانيّ قبال عزّة وقهر مشهود، والعمل البدنيّ الّذى يظهر هذا التذلّل والهوان هي العبادة أيّاً ما كانت؟ وممّن ولمن تحقّقت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للربّ تعالى وبينه إذا تحقّق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعيّة بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغنى أو غير ذلك فالجميع عبادة.

وعلى أيّ حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطرىّ ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلّا أن يتبيّن له أنّ الّذى كان يظنّه قويّاً ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنّه بل هما سواء مثلاً.

ومن هنا ما نرى أنّ الإسلام لم ينه عن اتّخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلّا بعد ما بيّن للناس أنّهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأنّ العزّة والقوّة لله جميعاً قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) الأعراف: ١٩٤ وقال:( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) الأعراف: ١٩٨ وقال تعالى:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا

٢٨٣

بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤ ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة: ١٦٥، وقال:( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء: ١٣٩ وقال:( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) ألم السجدة: ٤ إلى غير ذلك من الآيات.

فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممّن دونه إلّا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ - إلى أن قال -فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: ١٥٧، وقال:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله -وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: ٥٥، وقال:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: ٧١، وقال:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢. فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلّا ما يرجع إليه تعالى ويقصد به.

٣ - كيف نشأت الوثنية؟ وبما ذا بدأت؟ اتّضح في الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّة من تجسيم الاُمور المعنويّة وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أيّ قوّة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.

ولذا كانت روح الشرك والوثنيّة سارية في المجتمع الإنسانيّ سراية تكاد لا تقبل التحرّز والاجتناب حتّى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنيّة على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنيّة العهود الاُولى والإنسان الأوّلىّ. على أنّ اليوم من الوثنيّة على ظهر الأرض ما يبلغ مآت الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنيّة مبتدئة بين الناس باتّخاذ

٢٨٤

تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وقد ورد في روايات أئمّة أهل البيت ما يؤيّد ذلك ففى تفسير القمّىّ مضمر أو في علل الشرائع مسنداً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) الآية، قال: كانوا يعبدون الله عزّوجلّ فماتوا فضجّ قومهم وشقّ ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتّخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعد لهم أصناماً على مثالهم فكانوا يعبدون الله عزّوجلّ وينظرون إلى تلك الأصنام، فلمّا جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت.

فلم يزالوا يعبدون الله عزّوجلّ حتّى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا: إنّ آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عزّوجلّ فذلك قول الله تبارك وتعالى:( وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا ) الآية.

وكان ربّ البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيمعليه‌السلام الّذى حاجّه في ربّه، وفرعون موسى.

وهوذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.

واتّخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وأنّ أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادة وأشدّ تأثيراً لما أنّها خلصت من شوب المادّة ونجت من التأثّرات الجسمانيّة والانفعالات الجرمانيّة، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى:( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف: ١٢٧.

٤ - اتّخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم : كأنّ اتّخاذ تماثيل

٢٨٥

الرجال هو الّذى نبّه الناس على اتّخاذ صنم الإله إلّا أنّه لم يعهد منهم أن يتّخذوا تمثالاً لله سبحانه المتعالى أن يحيط به حدّ أو يناله وهم، وكأنّ هذا هو الّذى صرفهم عن اتّخاذ صنمه بل تفرّقوا في ذلك فأخذ كلّ ما يهمّه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسّلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكلّه إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنىّ بها بزعمهم.

فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا ربّ البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان، وسكّان الأودية ربّ الوادي، وأهل الحرب ربّ الحرب، وهكذا.

ولم يلبثوا دون أن اتّخذ كلّ منهم ما يهواه من إله فيما يتوهّمه من الصورة والشكل، وممّا يختاره من فلزّ أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتّى روى أنّ بنى حنيفة من اليمامة اتّخذوا لهم صنما من أقط ثمّ أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.

وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجراً حسناً وهواه عبده، وكانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطّخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاؤا بها إليه فمسحوها به، وكانوا يتّخذون كثيراً من الأشجار أرباباً فيتبرّكون بها من غير أن يمسّوها بقطع أو كسر ويتقرّبون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.

وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتّى لا يكاد يضبطها ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أنّ الغالب في معتقداتهم أنّهم يتّخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشرّ، وربّما أخذها بعض عامّتهم معبودة لنفسها مستقلّة بالاُلوهيّة من غير أن تكون شفعاء، وربّما كانوا يتّخذونها شفعاء ويقدّمونها أو يفضّلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى:( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ) الآية، الأنعام: ١٣٦.

٢٨٦

وكان بعضهم يعبد الملائكة، وآخرون يعبدون الجنّ، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعري، وطائفة تتّخذ بعض السيّارات إلها - وقد اُشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهىّ - كلّ ذلك طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها.

وقلّ أن يتّخذ إله من دون الله ولا يتّخذ له صنم يتوجّه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتّخذوا شيئاً من الأشياء إلهاً شفيعاً عملوا له صنماً من خشب أو حجر أو فلزّ، ومثلوا به ما يتوهّمونه عليه من صورة الحياة فيسوّونه في صورة إنسان أو حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير إلهيأة الّتى حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيّارة وإله العلم والحبّ والرزق والحرب ونحوها.

وكان الوجه في اتّخاذ أصنام الشركاء قولهم: إنّ الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادّيّة أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الّذى يتحوّل من طلوع الغروب يصعب التوجّه إليه كلّما اُريد بالتوجّه فمن الواجب أن يتّخذ له صنم يمثّله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلّما اُريد.

٥ - الوثنيّة الصابئة . الوثنيّة وإن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد هو اتّخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها، ولعلّها استولت على الأرض وشملت العالم البشرىّ مراراً كما يحكيه القرآن الكريم عن الاُمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسىعليه‌السلام إلّا أنّ اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتّت واتّباع الأهواء والخرافات مبلغاً كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتنى على اُصول متقرّرة وقواعد منتظمة متلائمة.

وممّا يمكن أن يعدّ منها مذهباً قريباً من الانتظام والتحصّل مذهب الصابئة والوثنيّة البرهميّة والبوذيّة:

أمّا الوثنيّة الصابئة فهى تبتنى على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضىّ إلى الأجرام العلويّة كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومرّيخ والمشترى

٢٨٧

وزحل وأنّها بما لها من الروحانيّات المتعلّقة بها هي المدبّرة للنظام المشهود يدبّر كلّ منها ما يتعلّق به من الحوادث على ما يصفه فنّ أحكام النجوم، ويتكرّر بتكرّر دوراتها الأدوار والأكوار من غير أن تقف أو تنتهى إلى أمد.

فهى وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرّب عبادتها الإنسان منه تعالى ثمّ من الواجب أن يتّخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرّب إليها بعبادة تلك الأصنام والتماثيل.

وذكر المورّخون أنّ الّذى أسّس بنيانها وهذّب اُصولها وفروعها هو (يوذاسف) المنجّم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، ودعا إلى مذهب الصابئة فاتّبعه خلق كثير، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها، وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب، ولهم أحكام وشرائع وذبائح وقرابين يتولّاها كهنتهم. وربّما ينسب إليهم ذبح الناس.

وهؤلاء يوحّدون الله في اُلوهيّته لا في عبادته، وينزّهونه عن النقائص والقبائح، ويصفونه بالنفى لا بالإثبات كقولهم: لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور، ويسمّون ذلك بالأسماء الحسنى مجازاً وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدّمنا شيئاً من تاريخهم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ ) الآية، البقرة: ٦٢ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

٦ - الوثنيّة البرهميّة : والبرهميّة - على ما تقدّم - من مذاهب الوثنيّة المتأصّلة، ولعلّها أقدمها بين الناس فإنّ المدنيّة الهنديّة من أقدم المدنيّات الإنسانيّة لا يضبط بدء تاريخيّ لها على التحقيق، ولا يضبط بدء تاريخيّ لوثنيّة الهند غير أنّ بعض المورّخين كالمسعوديّ وغيره ذكروا أنّ برهمن اسم أوّل ملوك الهند الّذى عمّر بلادها وأسّس قواعد المدنيّة فيها وبسط العدل بين أهلها.

ولعلّ البرهميّة نشأت بعده باسمه فكثيرا مّا كانت الاُمم الماضية يعبدون ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنّهم ذووا سلطة غيبيّة وأنّ اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، ويؤيّده بعض التأييد أنّ الظاهر من (ويدا) وهو كتابهم المقدّس

٢٨٨

أنّه مجموع من رسائل ومقالات شتّى ألّف كلّ شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورّثوها من بعدهم فجمعت وألّفت كتاباً يشير إلى دين ذى نظام وقد صرّح به علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهميّة كغيرها من مذاهب الوثنيّة مبتدئة من أفكار عامّيّة غير قيّمة، متطوّرة في مراحل التكامل حتّى بلغت حظّها من الكمال.

ذكر البستانىّ في دائرة المعارف ما ملخّصه:

برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء) هو المعبود الأوّل والأكبر عند الهنود، وهو عندهم أصل كلّ الموجودات واحد غير متغيّر وغير مدرك أزلىّ مطلق سابق كلّ مخلوق خلق العالم كلّه بمجرّد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوم أي كن.

وحكاية برهم تشبه من كلّ وجه حكاية (أي بوذة) فليس الفرق إلّا في الاسم والصفات وكثيراً مّا يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلّف منها ثالوث الهنود، وهى: (برهما ووشنو وسيوا) ويقال لعبدة برهم: البرهميّون أو البراهمة.

وأمّا برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم) وهو الاُقنوم الأوّل من الثالوث الهنديّ أي إنّ برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كلّ مرّة في اُقنوم فالاُقنوم الأوّل الّذى يظهر به أوّل مرّة هو برهما، والثانى وشنو، والثالث سيوا.

فلمّا انبثق برهما لبث مدّة طويلة جالساً على سدرة تسمّى بالهنديّة (كمالا) وبالسنسكريتية بدما، وكان ينظر من كلّ جهة، وكان له أربعة رؤس بثماني أعين فلم ير إلّا فضاء واسعاً مظلماً مملوءً ماءً فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سرّ أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأمّلات.

فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق اُذنيه بغتة ونبّهه من سباته وأشار عليه أن يفزع إلى (باغادان) وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما وجعل يسبّحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف

٢٨٩

الظلمات، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدّرة وأعطاه القوّة لإخراجها من هذا الخمول.

فبقى برهما يتأمّل في ذلك مائة سنة إلهيّة وهى عبارة عن ستّة و ثلاثين ألف سنة شمسيّة ثمّ ابتدأ بالعمل فأبدع أوّلا سبع السماوات المسمّاة عندهم (سُوَرغة) وأنارها بالأجرام المسمّاة (ديقانة) ثمّ أبدع (مريثلوكا) أي مقرّ الموت ثمّ الأرض وقمرها، ثمّ المساكن السبعة السفلى المسمّاة بتالة، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة على رؤس ثمانى حيّات.

فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهنديّه.

ثمّ خلق الأزواج السبعة لكى تعيّنه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها وهى (مونى) والريشة التسعة الّتى منها (ناريدا أو نوردام) واقتصرت على التأمّلات الدنيويّة فتزوّج حينئذ اُخته (ساراسواتى) وأولدها مائة ولد، وكان البكر اسمه (دكشا) فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوّجت ثلث عشرة منهنّ (كاسيابا) الّذى يسمّونه أحيانا برهمان الأوّل، وهو الّذى ولد لبرهما ولدا يسمّى (مارتشى).

وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها (أديتى) الأرواح المنيرة المسمّاة (ديقانة) وهى الّتى تفعل الخير وتسكن السماوات، وأمّا اُختها (ديتي) فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسمّاة (داتينة) أو (اسورة) وهى سكّان الظلام وفاعلة كلّ شرّ في العالم.

وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكّان فقال بعضهم: إنّ برهما أخرج من نفسه (مانوسويامبوقا) الّذى يقول الآخرون: إنّه سابق له وأنّه نفس برهم المعبود الواحد ثمّ إنّ برهما زوّجه (ساتاروبا) وقال لهما أن يكثرا وينميا.

وقال آخرون: إنّ برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا وسودارا فالأوّل خرج من فمه، والثانى من ذراعه اليمنى، والثالث من فخذه اليمنى

٢٩٠

والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع اُرومات لأربع فرق أصليّة.

وتزوّج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضاً خرجت واحدة من ذراعه اليمنى والثانية من فخذه اليسرى، والثالثة من رجله اليسرى، وسمّين باسم بعولتهنّ بزيادة علامة التأنيث وهى (نى)، وتزوّج برهمان أيضاً زوجة من أبيه، ولكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفيّة خلق العالم.

ثمّ إنّ برهما بعد إن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الاُقنوم الثاني وسيوا الاُقنوم الثالث وذلك أنّه انتفخ بالكبرياء والعجب، وظنّ نفسه نظير العلىّ فسقط في ناراك أي الجحيم، ولم ينل العفو إلّا بشرط أن يتجسّد مرّة في كلّ من الأجيال الأربعة، فتجسّد أوّل مرّة بصورة غراب شاعر اسمه (كاكابوسندا) وفي الثانية بصورة (بارباقلميكى) فكان أوّلا لصّا ثمّ رجلاً عبوساً رزينا نادما ثمّ ترجمانا مشهورا للفيداس ومؤلّفا للراميانا، وفي المرّة الثالثة بصورة (قياسا) وهو شاعر ومؤلّف (المهابارانا) والبغاقة وعدّة بورانات، وفي المرّة الرابعة وهو العصر الحالىّ المسمّى (كالى يوغ) بصورة (كاليداسا) الشاعر التشخيصىّ العظيم ومؤلّف (ساكنتالا) ومنقّح مؤلّفات (قلميكى).

ثمّ إنّ برهما ظهر في ثلاث أحوال، ففى الحال الاُولى كان الواحد الصمد والكلّ الأعظم العلىّ، وفي الحال الثانية ظهر منبثقا من الأوّل أي شارعا في العمل وفي الحال الثالثة ظهر متجسّدا بصورة إنسان وحكيم.

وليس لبرهما عبادة عامّة في الهند، وله هناك هيكل واحد فقطّ غير أنّ البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، ويدعونه مساء وصباحا، وهم يرمون الماء ثلاث مرّات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس، ويجدّدون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، وفي تقديس النار يقدّمون له سمنا مصفّى كما يقدّمون لإله النار، وهذا التقديس أهمّ وأقدس من كلّ ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب.

ويمثّل برهما بصورة رجل ذى لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات و

٢٩١

بالاُخرى الإناء الّذى فيه ماء الحياة السماويّ راكباً الهمسا وهو الطير الإلهىّ الّذى يشبه اللقلق والنسر.

وأمّا برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدّم، وجعل نصيبه أربعة الكتب المقدّسة المسمّاة (فيداس) كناية عن الكلمات الأربع الّتى نطق بها بأفواهه الأربعة.

فلمّا أراد برهمان أن يتزوّج نظير إخوته قال له برهما: إنّك ولدت للدرس والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسديّة فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما وزوّجه بواحدة من جنّيّات الشرّ المسمّاة أسورة، ومن هذا ولد البراهمة وهم الكهنة المقدّسون الّذين خصّوا بتفسير الفيداس، وكانوا يتولّون أمر كلّ التقدّمات الّتى يقدّمها الهنود للآلهة.

وولد كشتريا صنف الحربيّين من البراهمة، وقايسيا صنف أهل الزراعة منهم، وسودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعه أصناف، انتهى ملخّصا من دائرة المعارف للبستانيّ.

وذكر غيره أنّ البرهميّة منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب) والحربيّون والزرّاع والتجّار، ولا يعبؤ بغيرهم كالنساء والعبيد، وقد نقلنا في ذيل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ) الآية، المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب في بحث علميّ عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيرونىّ شيئاً من وظائف البراهمة وعباداتهم، وكذا عن الملل والنحل للشهرستانيّ شطراً من شرائع الصابئين.

والمذاهب الوثنيّة الهنديّة وكان الصابئين مثلهم أيضاً مطبقون على القول بالتناسخ وهو أنّ العوالم غير متناهية من ناحيتى الأزل والأبد ولكلّ منها حظّا من البقاء مؤجّلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولّد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث وهكذا، والنفوس الإنسانيّة المتعلّقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدء حياة جديدة لها فإنّها تتعلّق بأبدان اُخر تعيش فيها

٢٩٢

عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانيّة وعملت عملاً صالحاً، وعيشة شقيّة إن تلبّست بالرذائل واقترفت السيّئات إلّا الكاملون في معرفة البرهم (الله سبحانه) فإنّهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولّد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.

٧ - الوثنيّة البوذيّة:

وقد اُصلحت الوثنيّة البرهميّة(١) بالبوذيّة منسوبة إلى بوذا (سقيامونى) المتوفّى سنة خمسمائة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلانىّ وقيل غير ذلك حتّى أنّ الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفى سنة، ولذلك ربّما ظنّ أنّه شخص خرافيّ لا حقيقة له لكنّ الحفريّات الأخيرة الّتى وقعت في غايا الحديثة وآثارا اُخرى في بطنة دلّت على صحّة وجوده، وقد انكشفت بها آثار اُخرى من تاريخ حياته وتعاليمه الّتى ألقاها إلى تلامذته وأتباعه.

وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى (سوذودانا) فعزفت نفسه الدنيا وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبّا على التزهّد والارتياض حتّى تنّورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن ستّ وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلّص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة الكبرى والحياة السماويّة الأبديّة السرمديّة، ووعظهم وحثّهم على التمسّك بذيل شريعته بالتخلّق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل.

وكان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهميّة: (أنا(٢) متسوّل، ولا توجد إلّا شريعة واحدة للجميع، وهى العقاب الشديد للمجرمين والثواب العظيم للصالحين، وشريعتي شريعة نعمة للجميع، وفيها كالسماء مكان

____________________

(١) ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.

(٢) أي تصيبني التسويلات والوساوس النفسانيّة وفى كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة البرهميّة القاضى بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينيّة وتحريم بعضهم كالنساء والصبيان منها.

٢٩٣

للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنّه يعسر على الغنىّ أن يسلك طريقها).

وكان تعليمه على ما عند البوذيّين: أنّ الطبيعة ذات فراغ وأنّها وهميّة خدّاعة وأنّ العدم يوجد في كلّ مكان وكلّ زمان، وهو مملوء من الغشّ، ونفس هذا العدم يزيل كلّ الحواجز بين أصناف الناس وجنسيّاتهم وأحوالهم الدنيويّة، ويجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيّين.

وهم يعتقدون أنّ آخر عبارة نطق بها سقيامونى هي (كلّ مركّب فان) والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كلّ ألم وغرور، وأنّ دور التناسخ الّذى لا نهاية له ينتهى أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، ويتوصّل إلى ذلك بتطهيرها حتّى من رغبة الوجود.

فهذه القواعد الأساسيّة للبوذيّة موجودة صريحاً في أقدم تعليمها المدرّج في (الأريانى ستيانس) وهى أربع حقائق سامية تنسب إلى سقيامونى ذكرها في عظته الاُولى الّتى قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.

وتلك الحقائق الأربع تتعلّق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدّية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة والسنّ والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز عمّا يرام، وأسباب الألم الشهوات النفسانيّة والجسديّة والأهواء، وملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، ولطريقة الملاشاة أيضاً ثمانية أقسام وهى: نظر صحيح وحسّ صحيح، ونطق صحيح، وفعل صحيح، ومركز صحيح، وجدّ صحيح وذكر صحيح، وتأمّل صحيح، فهذه صورة الإيمان عندهم وقد وجدت محفورة على أبنية كثيرة ومدّونة في عدّة كتب.

وأمّا خلاصة الأدب البوذىّ فهى اجتناب كلّ شئ ردىّ، وعمل كلّ شئ صالح وتهذيب العقل.

فهذا هو الّذى سلّموه من تعليم بوذا، وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار اُمور اُضيفت إليه بكرور الأيّام ومرور الدهور،

٢٩٤

وهى تشتمل على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك.

وممّا يقال إنّ بوذا لم يتكلّم عن الإله قطّ، غير أنّ ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدء الوجود ولا لإنكار بل لأنّ الرجل كان يبذل كلّ جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارّة.

٨ - وثنيّة العرب . وهم أوّل من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهليّة بدويّين وأهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند، ومنها السنن الدينيّة.

وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين الوثنيّة كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين وعن أهل سبأ في قصّة سليمان والهدهد، حتّى أن جاء إبراهيمعليه‌السلام بابنه إسماعيل واُمّه هاجر إلى أرض مكّة وهى واد غير ذى زرع وبها قبيلة جرهم، وأسكنهما هناك فنشأ إسماعيلعليه‌السلام وبنيت بلدة مكّة، وبنى إبراهيمعليه‌السلام الكعبة البيت الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الإسلام فاستجيب له في الحجاز وما والاها وشرع لهم الحجّ كما يدلّ على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن:( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) ، الحجّ: ٢٧ ثمّ تهوّد بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز، وتسربت النصرانيّة إلى بعض أقطار الجزيرة، والمجوسيّة إلى بعضها الآخر.

ثمّ وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكّة حتّى آل إلى غلبة آل إسماعيل وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لّحىّ على مكّة وما والاها.

ثمّ إنّه مرض مرضاً شديداً فقيل له: إنّ البلقاء من أرض الشام حمّة لو استحممت بها برئت فقصدها واستحمّ بها فبرئ، ورأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها

٢٩٥

فقالوا: هذه أرباب اتّخذناها على شكل الهياكل العلويّة والأشخاص البشريّة نستنصر بها فننصر ونستسقى بها فنسقى فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكّة ووضعه على الكعبة، وكان معه إساف ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل والنحل - أو شابّين - كما في غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروّج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم وقد كانوا يسمّون حنفاء لاتّباعهم ملّة إبراهيمعليه‌السلام فبقى عليهم الاسم وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسما للوثنيّين(١) منهم.

وكان ممّا يقرّبهم إلى الوثنيّة أنّ الكعبة المشرّفة كان يعظّمها اليهود والنصارى والمجوس والوثنيّة جميعاً فكان لا يظعن من مكّة ظاعن إلّا حمل معه شيئاً من حجارة الحرم تبرّكا وصبابة، وحيثما حلّوا وضعوه وطافوا به تيمّنا وحبّا للكعبة والحرم.

وعن هذه الأسباب شاعت الوثنيّة بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من أهل التوحيد بينهم إلّا آحاد لا يذكرون، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل وإساف ونائلة، وهى الّتى أتى بها عمرو بن لُحىّ ودعا إليها الناس، واللّات والعزّى ومناة وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.

وروى في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمان بن الأشلّ بيّاع الأنماط عن الصادقعليه‌السلام أنّ يغوث كان موضوعاً قبالة باب الكعبة، وكان يعوق عن يمين الكعبة ونسر عن يسارها.

وفي الرواية أيضاً أنّ هبل كان على سطح الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة.

وفي تفسير القمّىّ قال: كانت ودّ لكلب، وكانت سواع لهذيل ويغوث لمراد، وكانت يعوق لهمدان، وكانت نسر لحصين.

____________________

(١) ولعلّ هذا هو الوجه في اصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف والإسلام بالحنيفيّة.

٢٩٦

وكانت في الوثنيّة الّتى عندهم آثار من وثنيّة الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره.

وفيها آثار من البرهميّة كالقول بالأنواء والقول بالدهر كما تقدّم عن وثنيّة بوذه قال تعالى:( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) الجاثية: ٢٤ وإن ذكر بعضهم أنّه قول المادّيّين المنكرين لوجود الصانع.

وفيها شئ من الدين الحنيف وهو إسلام إبراهيمعليه‌السلام كالختنة والحجّ إلّا أنّهم خلطوه بسنن وثنيّة كالتمسّح بالأصنام الّتى حول الكعبة والطواف عريانا، والتلبية بقولهم: لبّيك لبّيك اللّهمّ لبّيك لا شريك لك، إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك.

وعندهم اُمور اُخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والقول بالصدى والهام والأنصاب والأزلام واُمور اُخر مذكورة في التواريخ وقد تقدّم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية ١٠٣ وكذا ذكر الأزلام والأنصاب في ذيل آية ٣ وآية ٩٠.

٩ - دفاع الاسلام عن التوحيد و منازلته الوثنيّة . لم تزل الدعوة الإلهيّة تخاصم الوثنيّة وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصّه من دعوة الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسىعليهم‌السلام ، واُشير إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونسعليهم‌السلام .

وقد اُجمل القول في ذلك في قوله تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥.

وقد بدأ النبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته العامّة بدعاء الوثنيّين من قومه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة والجدال بالّتى هي أحسن فلم يجيبوه إلّا بالاستهزاء والأذى وفتنة من آمن به منهم وتعذيبه أشدّ العذاب حتّى اضطرّ جمع من المسلمين إلى ترك مكّة والهجرة إلى الحبشة، ثمّ مكروا لقتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهاجر إلى المدينة ثمّ هاجر إليها بعده عدّة من المؤمنين.

ولم يلبثوا حتّى تعلّقوا به بالقتال، وقاتلوه ببدر واُحد والخندق وفي غزوات

٢٩٧

اُخرى كثيرة حتّى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكّة فطهّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت والحرم من أوثانهم، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرّفة، وكان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليّاعليه‌السلام إليه فرماه إلى الأرض وكان - على ما يقال - أعظم أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد.

والإسلام شديد العناية بحسم مادّة الوثنيّة وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها وصرف النفوس حتّى عن الحومان حولها والإشراف عليها، وذلك مشهود ممّا ندب إليه من المعارف الأصليّة والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعيّة فتراه يعدّ الاعتقاد الحقّ أنّه لا إله إلّا الله له الأسماء الحسنى يملك كلّ شئ، له الوجود الأصيل الّذى يستقلّ بذاته وهو الغنىّ عن العالمين، وكلّ ما هو غيره منه يبتدئ واليه يعود، وإليه يفتقر في جميع شؤون ذاته حدوثا وبقاء فمن أسند إلى شئ شيئاً من الاستقلال بالقياس إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شئ من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.

وتراه يأمر بالتوكّل على الله، والثقة بالله، والدخول تحت ولآية الله، والحبّ في الله، والبغض في الله، وإخلاص العمل لله، و ينهى عن الاعتماد بغير الله، والركون إلى غيره، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه، والعجب والكبر إلى غير ذلك ممّا يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به.

وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، وينهى عن اتّخاذ التماثيل ذوات الأظلال وعن تصوير ذوى الأرواح، وينهى عن طاعة غير الله والإصغاء إليه فيما يأمر وينهى إلّا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمّة الدين، وينهى عن البدعة واتّباعها وعن اتّباع خطوات الشيطان.

والأخبار المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام متظافرة في أنّ الشرك ينقسم إلى جلىّ وخفىّ، وأنّ الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلّا المخلصون، وأنّه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وقد روى في الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ

٢٩٨

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، القلب السليم الّذى يلقى ربّه ليس فيه أحد سواه. قال: وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.

وورد أيضاً أنّ عبادته تعالى طمعا في الجنّة عبادة الاجراء، وعبادته خوفاً من النار عبادة العبيد، وحقّ العبادة أن يعبد تعالى حبّاً له وتلك عبادة الكرام، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون وقد تقدّمت عدّة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.

١٠ - بناء سيرة النبيّ على التوحيد ونفى الشركاء : أجمل تعالى سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتى أمره باتّخاذها والسير بها في المجتمع البشرىّ في قوله:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤، وقال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنيّة:( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) المائدة: ٧٧.

وقال أيضاً يذمّ أهل الكتاب:( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة: ٣١.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام والحدود وقارب بين طبقات المجتمع كالحاكم والمحكوم، والرئيس والمرؤس، والخادم والمخدوم، والغنىّ والفقير، والرجل والمرأة، والشريف والوضيع فلا كرامة ولا فخر ولا تحكّم لأحد على أحد إلّا كرامة التقوى والحساب إلى الله والحكم إليه.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم بالسويّة، وينهى عن تظاهر القوىّ بقوّته بما يتأثّر وينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، والحكّام والرؤساء بشوكتهم على الرعيّة.

٢٩٩

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك، وقد تقدّم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.

( كلام آخر ملحق بالكلام السابق)

نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، و أوستا، والتوراة، والإنجيل على نحو الإجمال والكلّيّة في فصول وهذا بحث تحليليّ شريف.

١ - التناسخ عند الوثنيّين:

من الاُصول الأوّليّة الّتى تبتنى عليها البرهميّة ومثلها البوذيّة والصابئيّة هو التناسخ وهو أنّ العالم محكوم بالكون والفساد دائماً فهذا العالم المشهود لنا وكذا ما فيه من الأجزاء مكوّن عن عالم مثله سابق عليه وهكذا إلى غير النهاية، وسيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه ويتكوّن منه عالم آخر وهكذا إلى غير النهاية، والإنسان يعيش في كلّ من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحاً واكتسب ملكة حسنة فستتعلّق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد ويعيش على السعادة، وهو ثوابه، ومن أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقىّ ويقاسي فيه أنواع العذاب إلّا من عرف البرهم واتّحد به فإنّه ينجو من الولادة الثانية ويعود ذاتاً أزليّة أبديّة هي عين البهاء والسرور والحياة والقدرة والعلم لا سبيل للفناء والبطلان إليها.

ولذلك كان من الواجب الدينىّ على الإنسان أن يؤمن بالبرهم (وهو الله أصل كلّ شئ) ويتقرّب إليه بالقرابين والعبادات، ويتحلّى بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا وتخلّق بكرائم الأخلاق وتحلّى بصوالح الأعمال وعرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا واتّحد بالبرهم وصار هو هو، وهو السعادة الكبرى والحياة البحتة، وإلّا فليؤمن بالبرهم وليعمل صالحاً حتّى يسعد

٣٠٠