الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 406

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 406
المشاهدات: 102321
تحميل: 4599


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 406 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102321 / تحميل: 4599
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 10

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في حياته التالية وهى آخرته.

لكنّ البرهم لمّا كان ذاتا مطلقة محيطا بكلّ شئ غير محاط لشئ كان أعلى وأجلّ من أن يعرفه الإنسان إلّا بنوع من نفى النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرّب بالعبادة إلى أوليائه وأقوياء خلقه حتّى يكونوا شفعاء لنا عنده، وهؤلاء هم الآلهة الّذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، وهم على كثرتهم إمّا من الملائكة أو من الجنّ أو من أرواح المكمّلين من البراهمة، وإنّما يعبد الجنّ خوفاً من شرّهم، وغيرهم طمعا في رحمتهم وخوفا من سخطهم ومنهم الأزواج والبنون والبنات لله تعالى.

فهذه جمل ما تتضمّنه البرهميّة ويعلّمه علماء المذهب من البراهمة.

لكنّ الّذى يتحصّل من (اُوبانيشاد)(١) وهو القسم الرابع من كتاب (ويدا) المقدّس ربّما لم يوافق ما تقدّم من كلّيّات عقائدهم وإن أوّله علماء المذهب من البراهمة.

فإنّ الباحث الناقد يجد أنّ رسائل (اُوبانيشاد) المعلّمة للمعارف الإلهيّة وإن كانت تصف العالم الاُلوهىّ والشؤون المتعلّقة به من الأسماء والصفات والأفعال من إبداء وإعادة وخلق ورزق وإحياء وإماتة وغير ذلك بما يوصف به الاُمور الجسمانيّة المادّيّة كالانقسام والتبعّض والسكون والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد والعظم والصغر وسائر الأحوال الجسمانيّة المادّيّة إلّا أنّها تصرّح في مواضع منها أنّ برهم(٢) ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حدّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا من حياة وعلم وقدرة، منزّه عن نعوت النقص وأعراض المادّة، والجسم ليس كمثله شئ.

____________________

(١) اُوبانيشاد كالخاتمة لكتب (ويدا) المقدّسة وهى رسائل متفرّقة مأثورة من كبار رجال الدين من عرفائهم القدماء الاقدمين تحتوى جمل ما حصلوه من المعارف الإلهيّة بالكشف ويعتبرها البراهمة وحيّاً سماويّاً.

(٢) هذا كثير الورود يعثر عليه الراجع في أغلب فصول اُوبانيشاد.

٣٠١

وتصرّح(١) بأنّه تعالى أحدىّ الذات لم يولد من شئ ولم يلد شيئاً وليس له كفو ومثل البتّة.

وتصرّح(٢) بأنّ الحقّ أن لا يعبد غيره تعالى ولا يتقرّب إلى غيره بقربان بل الحرىّ بالعبادة هو وحده لا شريك له.

وتصرّح(٣) كثيراً بالقيامة وأنّه الأجل الّذى ينتهى إليه الخلقة، وتصف ثواب الأعمال وعقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعيّن حمله على التناسخ.

ولا خبر في هذه الأبحاث الإلهيّة الموردة فيها عن الأوثان والأصنام وتوجيه العبادات وتقديم القرابين إليها.

وهذه الّتى نقلناها من (اُوبانيشاد) - وما تركناه أكثر - حقائق سامية ومعارف حقّة تطمئنّ إليها الفطرة الإنسانيّة السليمة، وهى - كما ترى - تنفى جميع اُصول الوثنيّة الموردة في أوّل البحث.

والّذى يهدى إليه عميق النظر أنّها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثمّ أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنّهم تكلّموا غالبا بالرمز واستعملوا في تعاليمهم الأمثال.

ثمّ جعل ما اُخذ من هؤلاء أساساً تبتنى عليه سنّة الحياة الّتى هي الدين المجتمع عليه عامّة الناس، وهى معارف دقيقة لا يحتملها إلّا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحسّ والخيال للّذين هما حظّ العامّة من الإدراك وكمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدرّبة في المعارف الحقّة.

____________________

(١) ( لم يولد منه شئ ولم يتولد من شئ وليس له كفوا أحد ) اُوبانيشاد (شيت استر) ادهيا السادس آية ٨ ( السر الأكبر ).

(٢) قال شبت استر: ( اعمل الصالحات لتلك الذات النورانيّة إلى أي ملك اقدم القربان وأترك تلك الذات الظاهرة؟ ) اُوبانيشاد شيت استر. ادهيا الرابع آية ١٣.

(٣) وهذا كثير الورود في فصول اُوبانيشاد يعثر عليه المراجع.

٣٠٢

واختصاص نيلها بالأقلّين من الناس وحرمان الأكثرين من ذلك وهى دين إنسانيّ أوّل المحذور فإنّ الفطرة أنشأت العالم الإنسانيّ مغروزة على الاجتماع المدنىّ، وانفصال بعضهم عن بعض في سنّة الحياة وهى الدين إلغاء لسنّة الفطرة وطريقة الخلقة.

على أنّ في ذلك تركا لطريق العقل وهو أحد الطرق الثلاث: الوحى والكشف والعقل، وأعمّها وأهمّها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيويّة فالوحي لا يناله إلّا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، والكشف لا يكرم به إلّا الآحاد من أهل الإخلاص واليقين، الناس حتّى أهل الوحى والكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطى الحجّة العقليّة في جميع شؤون الحياة الدنيويّة ولا غنى لها عن ذلك، وفي إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباريّ على جميع شؤن المجتمع الحيويّة من اعتقادات وأخلاق وأعمال، وفي ذلك سقوط الإنسانيّة.

على أنّ في ذلك إنفاذاً لسنّة الاستعباد في المجتمع الإنسانيّ ويشهد بذلك التجارب التاريخيّ المديد في الاُمم البشريّة الّتى عاشت في دين الوثنيّة أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتّخاذ أرباب من دون الله.

٢ - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:

الأديان العامّة الاُخر على ما فيها من القول بتوحيد الاُلوهيّة لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنيّة البرهميّة من المحاذير الّتى أهمّها الثلاثة المتقدّمة.

أمّا البوذيّة والصابئة فذلك فيهم ظاهر والتاريخ يشهد بذلك، وقد تقدّم شئ ممّا يتعلّق بعقائدهم وأعمالهم.

وأمّا المجوس فهم يوحّدون (أهورامزدا) بالاُلوهيّة لكنّهم يخضعون بالتقديس ليزدان وأهريمن والملائكة الموكّلين بشؤون الربوبيّة وللشمس والنار وغير ذلك، والتاريخ يقصّ ما كانت تجرى فيهم من سنّة الاستعباد واختلاف الطبقات والتدبّر والاعتبار يقضى أنّه إنّما تسرّب ذلك كلّه إليهم من ناحية تحريف الدين

٣٠٣

الأصيل، وقد ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم:( أنّه كان لهم نبىّ فقتلوه وكتاب فأحرقوه) .

وأمّا اليهود فالقرآن يقصّ كثيراً من أعمالهم وتحريفهم كتاب الله واتّخاذهم العلماء أرباباً من دون الله، وما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة ورداءة السليقة.

وأمّا النصارى فقد فصّلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر والعمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع وإن شئت فطبّق مفتتح إنجيل يوحنّا ورسائل بولس على سائر الأناجيل وتمّمه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.

فالبحث العميق في ذلك كلّه ينتج أنّ المصائب العامّة في المجتمعات الدينيّة في العالم الإنسانيّ من مواريث الوثنيّة الاُولى الّتى أخذت المعارف الإلهيّة والحقائق العالية الحقّة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينيّة، وحملتها على الأفهام العامّة الّتى لا تأنس إلّا بالحسّ والمحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.

٣ - إصلاح الاسلام لهذه المفاسد:

أمّا الإسلام فإنّه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الّذى يصلح لهضم الأفهام الساذجة والعقول العاديّة فصارت تلامسها من وراء حجاب وتتناولها ملفوفة محفوفة، وهذا هو الّذى يصلح به حال العامّة وأمّا الخاصّة فإنّهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع وحسنها البديع آمنين مطمئنّين وهم في زمرة الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقا، قال الله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِين إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤، وقال:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة: ٧٩، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم) .

وعالج غائلة الشرك والوثنيّة في مرحلة التوحيد بنفى الاستقلال في الذات والصفات عن كلّ شئ إلّا الله سبحانه فهو تعالى القيّوم على كلّ شئ، وركز الأفهام في معرفة الاُلوهيّة بين التشبيه والتنزيه فوصفه تعالى بأنّ له حياة لكن لا كحياتنا، وعلما لا كعلمنا، وقدرة لا كقدرتنا وسمعا لا كسمعنا، وبصرا

٣٠٤

لا كبصرنا، وبالجملة ليس كمثله شئ وأنّه أكبر من أن يوصف، وأمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلّا عن علم، ولا يركنوا إلى اعتقاد إلّا عن حجّة عقليّة يهضمها عقولهم وأفهامهم.

فوفّق بذلك أوّلا لعرض الدين على العامّة والخاصّة شرعاً سواء، وثانياً أن استعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهيّة سدى لا ينتفع بها، وثالثاً أن قرّب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنسانيّ غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا ويحرم ذاك أو يقدّم واحداً ويؤخّر آخر قال تعالى:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٩٢ وقال:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات: ١٣.

وهذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرّقة تقدّمت في هذا الكتاب والله المستعان.

٤ - إشكال الاستشفاع والتبرّك في الإسلام : ربّما يظنّ أنّ ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبيّ و آله المعصومين صلوات الله عليهم ومسألته تعالى بحقّهم وزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم وتعظيم آثارهم من الشرك المنهىّ عنه وهو الشرك الوثنيّ محتجّا بأنّ هذا النوع من التوجّه العباديّ فيه إعطاء تأثير ربوبيّ لغيره تعالى وهو شرك وأصحاب الأوثان إنّما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إنّ هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، ولا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيّا أو وليّا أو جبّارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهىّ عنه.

وقد فاتهم أوّلا: أنّ ثبوت التأثير سواء كان مادّيّا أو غير مادّىّ في غيره تعالى ضروريّ لا سبيل إلى إنكاره، وقد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره، ونفى التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلّيّة والمعلوليّة العامّ الّذى هو الركن في جميع أدلّة التوحيد، وفيه هدم بنيان التوحيد. نعم المنفىّ من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير ولا كلام لأحد فيه، وأمّا نفى

٣٠٥

مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل والخروج عن الفطرة الإنسانيّة.

ومن يستشفع بأهل الشفاعة الّذين ذكرهم الله في مثل قوله:( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦ وقوله:( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) الأنبياء: ٢٨.

أو يسأل الله بجاههم ويقسمه بحقّهم الّذى جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣ وقوله:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: ٥١.

أو يعظّمهم ويظهر حبّهم بزيارة قبورهم وتقبيلها والتبرّك بتربتهم بما أنّهم آيات الله وشعائره تمسّكا بمثل قوله تعالى:( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، وآية القربى وغير ذلك من كتاب وسنّة.

فهو في جميع ذلك يبتغى بهم إلى الله الوسيلة وقد قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة: ٣٥ فشرع به ابتغاء الوسيلة، وجعلهم بما شرع من حبّهم وتعزيرهم وتعظيمهم وسائل إليه، ولا معنى لإيجاب حبّ شئ وتعظيمه وتحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرّب إلى الله بحبّهم وتعظيم أمرهم وما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسّل والاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير والعبادة البتّة.

وثانياً: أنّه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرّب إلى الله، وبين أن يعبدالله وحده مع الاستشفاع والتقرّب بهم إليه ففى الصورة الاُولى إعطاء الاستقلال وإخلاص العبادة لغيره تعالى وهو الشرك في العبوديّة والعبادة، وفي الصورة الثانية يتمحّض الاستقلال لله تعالى ويختصّ العبادة به وحده لا شريك له.

وإنّما ذمّ تعالى المشركين لقولهم:( إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى) حيث أعطوهم الاستقلال وقصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، ولو قالوا: إنّما نعبدالله وحده ونرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله وأولياؤه بإذنه أو نتوسّل

٣٠٦

إلى الله بتعظيم شعائره وحبّ أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة وليست بمعبودة، وإنّما يعبد بالتوجّه إليها الله.

وليت شعرى ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود وما شرع في الإسلام من استلامه وتقبيله؟ وكذا في الكعبة؟ فهل ذلك كلّه من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروريّ عقليّ لا يقبل تخصّصا ولا استثناء، أو أنّ ذلك من عبادة الله محضاً وللحجر حكم الطريق والجهة، وحينئذ فما الفرق بينه وبين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال وتمحيض العبادة، ومطلقات تعظيم شعائر الله وتعزير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّه ومودّته وحبّ أهل بيته ومودّتهم وغير ذلك في محلّها.

٣٠٧

( سورة هود آية ٥٠ - ٦٠)

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ( ٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ( ٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ( ٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( ٥٣) إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ( ٥٤) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ( ٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٥٦) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( ٥٧) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( ٥٨) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ( ٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ( ٦٠)

( بيان)

تذكر الآيات قصّة هود النبيّ وقومه وهم عاد الاُولى، وهوعليه‌السلام ، أوّل نبىّ يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوحعليه‌السلام ، ويشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقّة والانتهاض على الوثنيّة، ويعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدّة

٣٠٨

مواضع من كلامه:( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ) .

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) كان أخاهم في النسب لكونه منهم وأفراد القبيلة يسمّون إخوة لانتسابهم جميعاً إلى أب القبيلة، والجملة معطوفة على قوله تعالى سابقاً:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) والتقدير:( ولقد أرسلنا وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) ولعلّ حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ ) الخ، ولم يقل: وهودا إلى عاد مثلا كما قال:( نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ) لأنّ دلالة الظرف أعنى:( َإِلَىٰ عَادٍ ) على تقدير الإرسال أظهر وأوضح.

قوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) الكلام وارد مورد الجواب كأنّ السامع لمّا سمع قوله:( وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ) قال: فماذا قال لهم؟ فقيل:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ) الخ، ولذا جئ بالفصل من غير عطف.

وقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) في مقام الحصر أي اعبدوه ولا تعبدوا غيره من آلهة اتّخذتموها أرباباً من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى. والدليل على الحصر المذكور قوله بعد:( مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) حيث يدلّ على أنّهم كانوا قد اتّخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة والشفاعة.

قوله تعالى: ( يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع الفطر الشقّ عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، ومنه فطر الله الخلق لأنّه بمنزلة ما شقّ منه فظهر. انتهى، وقال الراغب: أصل الفطر الشقّ طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا وأفطر هو فطورا وانفطر انفطارا - إلى أن قال - وفطرالله الخلق وهو إيجاد الشئ وإبداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله الّتى فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع وركز في الناس من معرفته، وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوّته على معرفه الإيمان وهو المشار

٣٠٩

إليه بقوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله. انتهى.

والظاهر أنّ الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، والخصوصيّة المفهومة من مثل قوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) إنّما نشأت من بناء النوع الّذى تشتمل عليه فطرة وهى فعلة، وعلى هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، وإنّما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى:( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) المائدة: ١١٠.

والكلام مسوق لرفع التهمة والعبث والمعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجراً وجزاء حتّى تتّهموني أنّى أستدرّ به نفعاً يعود إلىّ وإن أضرّ بكم، ولست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتّى يكون عبثا من الفعل بل إنّما أطلب به جزاء من الله الّذى أوجدني وأبدعنى أفلا تعقلون عنّى ما أقوله لكم حتّى يتّضح لكم أنّى ناصح لكم في دعوتي، ما اُريد إلّا أن أحملكم على الحقّ.

قوله تعالى: ( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) إلى آخر الآية تقدّم الكلام في معنى قوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) في صدر السورة.

وقوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) في موقع الجزاء لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) الخ، أي إن تستغفروه وتتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً، والمراد بالسماء السحاب فإنّ كلّ ما علا وأظلّ فهو سماء، وقيل المطر وهو شائع في الاستعمال، والمدرار مبالغة من الدرّ، وأصل الدرّ اللبن ثمّ استعير للمطر ولكلّ فائدة ونفع فارسال السماء مدراراً إرسال سحب تمطر أمطاراً متتابعة نافعة تحيى بها الأرض وينبت الزرع والعشب، وتنضر بها الجنّات والبساتين.

وقوله:( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ) قيل المراد بها زيادة قوّة الإيمان على قوّة الأبدان وقد كان القوم اُولى قوّة وشدّة في أبدانهم ولو أنّهم آمنوا انضافت قوّة الإيمان على قوّة أبدانهم، وقيل المراد بها قوّة الأبدان كما قال نوح لقومه:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَ

٣١٠

بَنِينَ ) نوح: ١٢ ولعلّ التعميم أولى.

وقوله:( وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) بمنزلة التفسير لقوله:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) أي إنّ عبادتكم لما اتّخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم ومعصية توجب نزول السخط الإلهىّ عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم وارجعوا إليه بالإيمان حتّى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة وزيادة قوّة إلى قوّتكم.

وفي الآية( أوّلاً ) إشعار أو دلالة على أنّهم كانوا مبتلين بإمساك السماء والجدب والسنة كما ربّما أومأ إليه قوله:( يُرْسِلِ السَّمَاءَ ) وكذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر:( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الأحقاف: ٢٤.

وثانياً: أنّ هناك ارتباطا تامّا بين الأعمال الإنسانيّة وبين الحوادث الكونيّة الّتى تمسّه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات ونزول البركات، والأعمال الطالحة تستدعى تتابع البلايا والمحن، وتجلب النقمة والشقوة والهلكة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦، وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات ٩٤ - ١٠٢ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وفي أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

قوله تعالى: ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) سألهم هود في قوله:( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم ويعودوا إلى عبادة الله وحده وأن يؤمنوا به ويطيعوه فيما ينصح لهم فردّوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالاً وتفصيلاً:

أمّا إجمالاً فبقولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) يعنون أنّ دعوتك خالية عن الحجّة والآية المعجزة ولا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.

وأمّا تفصيلاً فقد أجابوا عن دعوته إيّاهم إلى رفض الشركاء بقولهم:( وَمَا

٣١١

نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ) وعن دعوته إيّاهم إلى الإيمان والطاعة بقولهم:( وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) فآيسوه في كلتا المسألتين.

ثمّ ذكروا له ما ارتاؤا فيه من الرأى لييأس من إجابتهم بالمرّة فقالوا:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) والاعتراء الاعتراض والإصابة يقولون: إنّما نعتقد في أمرك أنّ بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل والجنون لشتمك إيّاها وذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوّهت به في صورة الدعوة.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أجاب هودعليه‌السلام عن قولهم باظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثمّ التحدّي عليهم بأن يكيدوا به جميعاً ولا ينظروه.

فقوله:( إنّى برئ ممّا تشركون من دونه) إنشاء وليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبرّى، ولا ينافى ذلك كونه بريئا من أوّل أمره فإنّ التبرّز بالبراءة لا ينافى تحقّقها من قبل، وقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) أمر ونهى تعجيزيّان.

وإنّما أجابعليه‌السلام بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنّها لا تمسّهعليه‌السلام بسوء مع تبرّزه بالبراءة، ولو كانت آلهة ذات علم وقدرة لقهرته وانتقمت منه لنفسها كما ادّعوا أنّ بعض آلهتهم اعتراه بسوء وهذه حجّه بيّنة على أنّها ليست بآلهة وعلى أنّها لم تعتره بسوء كما ادّعوه، ثمّ يشاهدوا من أنفسهم أنّهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوى شدّة وقوّة لا يعادلهم غيرهم في الشدّة والبطش، ولو لا أنّه نبىّ من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربّه لقدروا عليه بكلّ ما أرادوه من عذاب أو دفع.

ومن هنا يظهر وجه إشهادهعليه‌السلام في تبرّيه ربّه سبحانه وقومه أمّا إشهاده الله فليكون تبرّيه على حقيقته وعن ظهر القلب من غير تزويق ونفاق، وأمّا إشهاده إيّاهم فليعلموا به ثمّ يشاهدوا ما يجرى عليه الأمر من سكوت آلهتهم وعجز أنفسهم من الانتقام منه ومن تنكيله.

٣١٢

وظهر أيضاً صحّة ما احتمله بعضهم أنّ هذا التعجيز هو معجزة هودعليه‌السلام ذلك أنّ ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الردّ في صورة الحجّة، وفيها قولهم:( مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ) ومن المستبعد جدّاً أن يهمل النبيّ هودعليه‌السلام في دعوته وحجّته التعرّض للجواب عنه مع كون هذا التحدّي والتعجيز صالحاً في نفسه لأن يتّخذ آية معجزة كما أنّ التبرّى من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله وعن أنّ بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.

فالحقّ أنّ قوله:( إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا ) إلى آخر الآيتين مشتمل على حجّة عقليّة على بطلان اُلوهيّة الشركاء، وعلى آية معجزة لصحّة رسالة هودعليه‌السلام .

وفي قوله( جَمِيعًا ) إشارة إلى أنّ مراده تعجيزهم وتعجيز آلهتهم جميعاً فيكون أتمّ دلالة على كونه على الحقّ وكونهم على الباطل.

قوله تعالى: ( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) إلى آخر الآية. لمّا كان الأمر الّذى في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم وعدم قدرته، وصالحاً لأن يصدر بداعي أنّ الآمر لا يخاف الخصم وإن كان الخصم قادراً على الإتيان بما يؤمر به لكنّه غير قادر على تخويفه وإكراهه على الطاعة وحمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون:( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) طه: ٧٢.

وكان قوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنّه لا يخافهم وإن فعلوا به ما فعلوا، عقّبه لدفع هذا الاحتمال بقوله:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فذكر أنّه متوكّل في أمره على الله الّذى هو يدبّر أمره وأمرهم ثمّ عقّبه بقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فذكر أنّه ناجح في توكّله هذا فإنّ الله محيط بهم جميعاً قاهر لهم يحكم على سنّة واحدة هي نصرة الحقّ وإظهاره على الباطل إذا تقابلا وتغالبا.

فتبرّيه من أصنامهم وتعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله:( فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ) ثمّ لبثه بينهم في عافية وسلامة لا يمسّونه بسوء ولا يستطيعون

٣١٣

أن ينالوه بشرّ آية معجزة وحجّة سماويّة على أنّه رسول الله إليهم.

وقوله:( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الدابّة كلّ ما يدبّ في الأرض من أصناف الحيوان، والأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة ونهاية القدرة، وكونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنّته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيّرة وهو تدبير الاُمور على منهاج العدل والحكمة فهو يحقّ الحقّ ويبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى إنّى توكّلت على الله ربّى وربّكم في نجاح حجّتى الّتى ألقيتها إليكم وهو التبرّز بالبراءة من آلهتكم وأنّكم وآلهتكم لا تضرّوننى شيئاً فإنّه المالك ذو السلطنة علىّ وعليكم وعلى كلّ دابّة، وسنّته العادلة ثابتة غير متغيّرة فسوف ينصر دينه ويحفظني من شرّكم.

ولم يقل:( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) على وزان قوله:( عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقّع أن يحفظه الله من شرّهم، وهو يأخذه تعالى ربّا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعدّه ربّا لنفسه ويستمسك برابطة العبوديّة الّتى بينه وبين ربّه حتّى ينجح طلبته، وهذا بخلاف مقام قوله:( تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ) فإنّه يريد هناك بيان عموم السلطة والاحاطة.

قوله تعالى: ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) وهذه الجملة من كلامهعليه‌السلام ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم:( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) الدالّ على أنّهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به ودائمون على الجحد، والمعنى إن تتولّوا وتعرضوا عن الإيمان بى والإطاعة لأمرى فقد أبلغتكم رسالة ربّى وتمّت عليكم الحجّة ولزمتكم البليّة.

قوله تعالى: ( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) هذا وعيد وإخبار بالتبعة الّتى يستتبعها إجرامهم، فإنّه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدراراً ويزيد قوّة إلى قوّتهم، ونهاهم أن يتولّوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

٣١٤

وقوله:( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإنّ الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: ٣٠، وقد كانعليه‌السلام بيّن لهم أنّهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه:( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ) الآية، الأعراف: ٦٩.

وظاهر السياق أنّ الجملة الخبريّة معطوفة على اُخرى مقدّرة، والتقدير: وسيذهب بكم ربّى ويستخلف قوما غيركم على حدّ قوله:( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ ) الأنعام: ١٣٣.

وقوله:( وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ) ظاهر السياق أنّه تتمّة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشئ من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أنّ تعذيبكم وإهلاككم يفوّت منه شيئاً ممّا يريده فإنّ ربّى على كلّ شئ حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت، وللمفسّرين في الآية وجوه اُخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) المراد بمجئ الأمر نزول العذاب وبوجه أدقّ صدور الأمر الإلهىّ الّذى يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول وبين قومه كما قال تعالى:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) المؤمن: ٧٨.

وقوله:( بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ) الظاهر أنّ المراد بها الرحمة الخاصّة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم وإنجاءهم من شمول الغضب الإلهىّ وعذاب الاستئصال، قال تعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) المؤمن: ٥١.

وقوله:( وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) ظاهر السياق أنّه العذاب الّذى شمل الكفّار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، وقيل: المراد به عذاب الآخرة وليس بشئ.

٣١٥

قوله تعالى: ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) الآية وما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصّة عاد فأوّل التلخيصين قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ - إلى قوله -وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يذكر فيه أنّهم جحدوا بآيات ربّهم من الحكمة والموعظة ولاية المعجزة الّتى أبانت لهم طريق الرشد وميّزت لهم الحقّ من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

وعصوا رسل ربّهم وهم هود ومن قبله من الرسل فإنّ عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلّهم يدعون إلى دين واحد فهم إنّما عصوا شخص هود وعصوا بعصيانه سائر رسل الله وهو ظاهر قوله في موضع آخر:( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ) الشعراء: ١٢٤. ويشعر به أيضاً قوله:( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) الأحقاف: ٢١، ومن الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود ونوحعليهما‌السلام لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

واتّبعوا أمر كلّ جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتّباع هود وما كان يدعو إليه، والجبّار العظيم الّذى يقهر الناس بإرادته ويكرههم على ما أراد والعنيد الكثير العناد الّذى لا يقبل الحقّ، فهذا ملخّص حالهم وهو الجحد بالآيات وعصيان الرسل وطاعة الجبابرة.

ثمّ ذكر الله وبال أمرهم بقوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي وأتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة وإبعادا من الرحمة، ومصداق هذا اللعن العذاب الّذى عقّبهم فلحق بهم، أو الآثام والسيّئات الّتى تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنّهم سنّوا سنّة الإشراك والكفر لمن بعدهم، قال تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس: ١٢.

وقيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كلّ من علم بحالهم من بعدهم، ومن أدرك آثارهم، وكلّ من بلّغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

وأمّا اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الّذى يلحق بهم يومئذ فإنّ

٣١٦

يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

وفي تعقيب قوله في الآية:( وَأُتْبِعُوا ) بقوله:( وَأُتْبِعُوا ) لطف ظاهر.

قوله تعالى: ( أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ) أي كفروا بربّهم فهو منصوب بنزع الخافض وهذا هو التلخيص الثاني الّذى أشرنا إليه لخصّ به التلخيص الأوّل فقوله:( أَلَا إِنَّ عَادًا ) الخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله:( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا ) الخ، وقوله:( أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ ) الخ، يحاذي به قوله:( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) الخ.

ويتأيّد من هذه الجملة أنّ المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهيّة دون لعن الناس، والأنسب به أحد الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة السابقة وخاصّة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ عن أبى عمرو السعدىّ قال: قال علىّ بن أبى طالبعليه‌السلام في قوله:( إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعنى أنّه على حقّ يجزى بالإحسان إحساناً، وبالسيّئ سيّئاً، ويعفو عمّن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى.

أقول: وقد تقدّم توضيحه، وقد ورد في الرواية عنهمعليهم‌السلام : أنّ عادا كانت بلادهم في البادية، وكان لهم زرع ونخيل كثيرة، ولهم أعمار طويلة وأجساد طويلة فعبدوا الأصنام، وبعث الله إليهم هوداً يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه فكفّت عنهم السماء سبع سنين حتّى قحطوا. الحديث.

وروى إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنّة عن الضحّاك أيضاً قال: اُمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود:( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ) فأبوا إلّا تماديا، وقد تقدّم أنّ الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

واعلم أنّ الروايات في قصّة هود وعاد كثيرة إلّا أنّها تشتمل على اُمور لا

٣١٧

سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب ولا إلى تأييدها بالاعتبار ولذلك طوينا ذكرها.

وورد أيضاً أخبار اُخر من طرق الشيعة وأهل السنّة في وصف جنّة عاد الّتى تنسب إلى شدّاد الملك وهى المذكورة في قوله تعالى:( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨، وسيأتى الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

( كلام في قصّة هود)

١ - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم وانمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلّا أقاصيص لا يطمئنّ إليها وليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

والّذى يذكره القرآن الكريم من قصّتهم هو أنّ عادا - وربّما يسمّيهم عادا الاُولى (النجم: ٥٠) وفيه إشارة إلى أنّ هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف(١) من شبه جزيرة العرب (الاحقاف: ٢١) بعد قوم نوح (الاعراف: ٦٩).

كانت لهم أجساد طويلة (القمر: ٢٠، الحاقّة: ٧) وكانوا ذوى بسطة في الخلق (الاعراف: ٦٩) اُولى قوّة وبطش شديد (حم السجدة: ١٥، الشعراء: ١٣٠) وكان لهم تقدّم ورقىّ في المدينة والحضارة، لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنّات ونخيل وزروع ومقام كريم (الشعراء وغيره)، وناهيك في رقيّهم وعظيم مدنيّتهم قوله تعالى في وصفهم:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) الفجر: ٨.

لم يزل القوم يتنعّمون بنعمة الله حتّى غيّروا ما بأنفسهم فتعرّقت فيهم الوثنيّة وبنوا بكلّ ريع آية يعبثون واتّخذوا مصانع لعلّهم يخلدون وأطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحقّ ويرشدهم إلى أن يعبدوا

____________________

(١) الأحقاف جمع حقف وهو الرمل المعوج، والأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان وأرض مهرة وقيل من عمان إلى حضر موت وهى رمال مشرقة على البحر بالشحر وقال الضحّاك: الأحقاف جبل بالشام (المراصد).

٣١٨

الله ويرفضوا الأوثان، ويعملوا بالعدل والرحمة (الشعراء: ١٣٠) فبالغ في وعظهم وبثّ النصيحة فيهم، وأنار الطريق وأوضح السبيل، وقطع عليهم العذر فقابلوه بالإباء والامتناع، وواجهوه بالجحد والإنكار ولم يؤمن به إلّا شرذمة منهم قليلون وأصرّ جمهورهم على البغى والعناد، ورموه بالسفه والجنون، وألحّوا عليه بأن ينزّل عليهم العذاب الّذى كان ينذرهم ويتوعّدهم به قال: إنّما العلم عند الله و اُبلّغكم ما اُرسلت به ولكنّي أراكم قوما تجهلون (الأحقاف: ٢٣).

فأنزل الله عليهم العذاب وأرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه إلّا جعلته كالرميم (الذاريات: ٤٢) ريحا صرصرا في أيّام نحسات سبع ليال وثمانية أيّام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: ٧) وكانت تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر (القمر: ٢٠).

وكانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا وقالوا: عارض ممطرنا وقد أخطأوا بل كان هو الّذى استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كلّ شئ بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم (الأحقاف: ٢٥) فأهلكهم الله عن آخرهم وأنجى هودا والّذين آمنوا معه برحمة منه (هود: ٥٨).

٢ - شخصيّة هود المعنويّة:

وأمّا هودعليه‌السلام فهو من قوم عاد وثاني الأنبياء الّذين انتهضوا للدفاع عن الحقّ ودحض الوثنيّة ممّن ذكر الله قصّته وما قاساه من المحنة والأذى في جنب الله سبحانه، وأثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام وأشركه بهم في جميل الذكرعليه سلام الله.

٣١٩

( سورة هود آية ٦١ - ٦٨)

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ( ٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( ٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ( ٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ( ٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ( ٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( ٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( ٦٧) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ( ٦٨)

( بيان)

تذكر الآيات الكريمة قصّة صالح النبيّعليه‌السلام وقومه وهم ثمود، وهوعليه‌السلام ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنيّة. دعا ثمود إلى التوحيد وتحمّل الأذى والمحنة في جنب الله حتّى قضى بينه وبين قومه بهلاكهم ونجاته ونجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ

٣٢٠