الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80614
تحميل: 5060


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80614 / تحميل: 5060
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مأخوذة من نظام الكون ثمّ نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلّا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم. فنظام الكون (وهو فعل الله سبحانه) هو العدل فافهم ذلك.

ولو كان هناك إله يغني منه في شئ من الاُمور لم يكن نظام التكوين عدلاً مطلقاً بل كان فعل كل إله عدلاً بالنسبه إليه وفي دائرة قضائه وعمله.

وبالجملة فالله سبحانه يشهد وهو شاهد عدل على أنّه لا إله إلّا هو يشهد لذلك بكلامه وهو قوله: شهد الله أنّه لا إله إلّا هو على ما هو ظاهر الآية الشريفة فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة: قوله تعالى:( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ) النساء - ١٦٦.

والملائكة يشهدون بأنّه لا إله إلّا هو فإنّ الله يخبر في آيات مكّيّة نازلة قبل هذه الآيات بأنّهم عباد مكرمون لا يعصون ربّهم ويعملون بأمره ويسبّحونه وفي تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره. قال تعالى:( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) الأنبياء - ٢٧ وقال تعالى:( والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ) الشورى - ٥

وأولوا العلم يشهدون أنّه لا إله إلّا هو يشاهدون من آياته الآفاقيّة والأنفسيّة وقد ملات مشاعرهم ورسخت في عقولهم.

وقد ظهر ممّا تقدّمأولا: أنّ المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل وإن كانت صحيحة حقّة في نفسها فإنّ عالم الوجود يشهد على وحدانيّته في الاُلوهيّة بالنظام الواحد المتّصل الجاري فيه، وبكلّ جزء من أجزائه الّتي هي أعيان الموجودات.

وثانياً: أنّ قوله تعالى: قائماً بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله والعامل فيه شهد وبعبارة اُخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى ولا للملائكة واُولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائماً بالقسط يشهد أن لا إله إلّا هو والملائكة واُولوا العلم يشهدون بالوحدانيّة كما هو ظاهر الآية حيث فرّقت بين قوله: لا إله

١٢١

إلّا هو وقوله: قائماً بالقسط بتوسيط قوله: والملائكة واُولوا العلم ولو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حقّ الكلام أن يقال: إنّه لا إله إلّا هو قائماً بالقسط والملائكة. ومن ذلك يظهر ما فيما ذكره عدّة من المفسّرين في تفسير الآية من الجهتين جميعاً كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.

ومن أردء الإشكال ما ذكره بعضهم: أنّ حمل الشهادة على الشهادة الكلاميّة كما مرّ يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقّفاً على صحّة الوحي فإنّ صدق هذه الشهادة يتوقّف على كون القرآن وحياً حقّاً وهو متوقّف عليه فيكون بياناً دوريّاً. ومن هنا ذكر بعضهم: أنّ المراد بالشهادة هنا معنى استعاريّ بدعوى أنّ دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة واتّصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه وإخباره تعالى بأنّه واحد لا إله غيره وكذا عبادة ملائكته له وإطاعتهم لأمره وكذا ما يشاهده اُولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيّته بمنزلة شهادتهم على وحدانيّته تعالى.

والجواب: أنّ فيه خلطاً ومغالطة فإنّ النقل إنّما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحسّ إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أمّا لو غرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلاً أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أنّ المتواتر من الخبر أقوى أثراً وأجلى صدقاً من القضيّة الّتي اُقيم عليها برهان مؤلّف من مقدّمات عقليّة نظريّة وإن كانت يقينيّة وأنتجت اليقين.

فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب والزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، والله سبحانه (وهو الله الّذي لا سبيل للنقص والباطل إليه) لا يتصوّر في حقّه الكذب فشهادته على وحدانيّة نفسه شهادة حقّ كما أنّ إخباره عن شهادة الملائكة واُولي العلم يثبت شهادتهم.

على أنّ من أثبت له شركاء كالأصنام وأربابها فإنّما يثبتها بعنوان أنّها شفعاء عند الله ووسائط بينه وبين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:( ما نعبدهم إلّا

١٢٢

ليقرّبونا إلى الله زلفى ) الزمر - ٣، وكذا من اتّخذ له شريكاً بالشرك الخفّي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنّما يتّخذه سبباً من الله غير أنّه مستقلّ بالتأثير بعد حصوله له وبالجملة ما اتّخذ له من شريك فإنّما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، وإذا شهد الله على أنّه لم يتّخذ لنفسه شريكاً أبطل ذلك دعوى من يدّعي له شريكاً، وجرى الكلام مجرى قوله:( قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) يونس - ١٨، فإنّه إبطال لدعوى وجود الشريك بأنّ الله لا يعلم به في السماوات والأرض ولا يخفى عليه شئ وبالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبيّة والعظمة كقوله:( سبحانه وتعالى عمّا يشركون ) يونس - ١٨ ونحو ذلك غير أنّه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبراً في مورد دعوى والمخبر به قائم بالقسط فكان شهادةً فعبّر بلفظ الشهادة تفنّناً في الكلام فيؤل المعنى إلى أنّه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثّرون في الخلق والتدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله وشهد به لكنّه يخبر أنّه ليس يعلم لنفسه شريكاً فلا شريك له ولعلم واعترف به الملائكة الكرام الّذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق والتدبير لكنّهم يشهدون أن لا شريك له ولعلم به وشهد أثره أولوا العلم لكنّهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.

فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانيّة ملك مؤثّر في شئون المملكة وإداره اُمورها غير الملك الّذي نعرفه لعلم به الملك وعرفه لأنّه من المحال أن لا يحسّ بوجوده وهو يشاركه ولعلم به القوى المجريه والعمّال المتوسّطون بين العرش والرعيّة وكيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده وهم يحملون أوامره ويجرون أحكامه بين ما في أيديهم من الأحكام والأوامر ؟ ولعلم به العقلاء من عامّة أهل المملكة، وكيف لا وهم يطيعون أوامره وعهوده ويعيشون في ملكه؟ لكنّ الملك ينكر وجوده وعمّال الدولة لا يعرفونه وعقلاء الرعيّة لا يشاهدون ما يدلّ على وجوده فليس.

قوله تعالى: ( لا إله إلّا هو العزيز الحكيم ) الجملة كالمعترضة الدخيلة في

١٢٣

الكلام لاستيفاء حقّ معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصوداً في الكلام أصالة. ومن أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جلّ شأنه في موارد يذكر أمره ذكراً يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى:( قالوا اتّخذا الله ولداً سبحانه ) يونس - ٦٨ فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقّه تعالى، ونظيره بوجه قوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم الآية ) المائدة - ٦٤.

وبالجملة لمّا اشتمل أوّل الآية على شهادة الله والملائكة واُولي العلم بنفي الشريك كان من حقّ الله سبحانه على من يحكي ويخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلّم (وهو في الآية هو الله سبحانه) وعلى من يسمع ذلك أن يوحّد الله بنفي الشريك عنه فيقول: لا إله إلّا هو. نظير ذلك قوله تعالى في قصّة الإفك:( ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ) النور - ١٦ فإنّ من حقّه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتاناً وأرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزّهوا الله قبله فإنّه تعالى أحقّ من يجب تنزيهه.

فموضع قوله: لا إله إلّا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حقّ تعظيمه ولذا تمّم بالاسمين العزيز الحكيم ولو كان في محلّ النتيجة من الشهادة لكان حقّ الكلام أن يتمّم بوصفي الوحدة والقيام بالقسط. فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيّته لأنّه المتفرّد بالعزّة الّتي يمنع جانبه أن يستذّل بوجود شريك له في مقام الاُلوهيّة والمتوحّد بالحكمة الّتي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره وما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.

وقد تبيّن بما مرّ من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية وكذا وجه تتميمها: بالاسمين: العزيز الحكيم، والله العالم.

١٢٤

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى: قل للّذين كفروا ستغلبون الآية روى محمّد بن إسحاق عن رجاله قال: لمّا أصاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم وقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمّد لا يغرّنّك أنّك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنّا والله لو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية.

أقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن إسحاق وابن جرير والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس، وروى ما يقرب منه القمّيّ في تفسيره. وقد عرفت ممّا تقدّم: أنّ سياق الآيات لا يلائم نزولها في حقّ اليهود كلّ الملائمة وأنّ الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة اُحد والله أعلم.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكبر لهم من لذّة النساء وهو قوله: زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين الآية ثمّ قال: وإنّ أهل الجنّة ما يتلذّذون بشئ من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام ولا شراب.

أقول: وقد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثمّ تقديم النساء على باقي المشتهيات ثمّ جعل هذه الشهوات متاع الدنيا وشهوات الجنّة خيراً منها.

ومراده (عليه السلام) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنّما هو الحصر الإضافيّ أي أنّ النكاح أكبر لذّة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلّقة بجسم الإنسان وأمّا غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ وليّ من أولياء الله تعالى بقرب ربّه ومشاهدة آياته الكبرى ولطائف رضوانه وإكرامه وغيرهما فذلك خارج عن

١٢٥

مورد كلامه (عليه السلام) وقد قامت البراهين العلميّة على أنّ أعظم اللذائذ التذاذ الشئ بنعمة وجوده واُخرى على أنّ التذاذ الأشياء بوجود ربّها أعظم من التذاذها بنفسها وهناك روايات كثيرة دالّة على أنّ التذاذ العبد بلذّة الحضور والقرب منه تعالى أكبر عنده من كلّ لذّة، وقد روي في الكافي عن الباقر (عليه السلام): كان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنّه يسخّي نفسي في سرعة الموت والقتل فينا قول الله تعالى:( أولم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) وهو ذهاب العلماء وسيجئ عدّة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.

وفي المجمع في قوله تعالى: القناطير المقنطرة عن الباقر والصادق (عليهما السلام) القنطار ملؤ مسك ثور ذهباً.

وفي تفسير القمّيّ قال (عليه السلام): الخيل المسوّمة المرعيّة.

وفي الفقيه والخصال عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله وأتوب إليه سبعين مرّة وهو قائم فواظب على ذلك حتّى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى.

أقول: وهذا المعنى مرويّ في روايات أخر عن أئمّة أهل البيت وهو من سنن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وروي ما يقرب منه في الدرّ المنثور أيضاً عن ابن جرير عن جعفر بن محمّد قال من صلّى من الليل ثمّ استغفر في آخر الليل سبعين مرّة كتب من المستغفرين. وقوله (عليه السلام): ووجبت له المغفرة من الله مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: فاغفر لنا ذنوبنا. فإنّ في الحكاية لدعائهم من غير ردّ إمضائاً للاستجابة.

١٢٦

( سورة آل عمران الآيات ١٩ - ٢٥)

إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الْإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ( ١٩) فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّهِ‏ِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُل لِلّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ( ٢٠) إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ٢١) أُولئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٢٢) أَلَمْ تَرَ إَلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى‏ كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى‏ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ( ٢٣) ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامَاً مَعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ( ٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَوُفّيَتْ كُلّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( ٢٥)

( بيان)

الآيات متعرّضة لحال أهل الكتاب وهم آخر الفرق الثلاث الّتي تقدّم أنّها عرضة للكلام في هذه السورة، وأهمّهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود والنصارى ففيهم وفي أمرهم نزل معظم السورة واليهم يعود.

قوله تعالى: ( إنّ الدين عند الله الإسلام ) قد مرّ معنى الإسلام بحسب اللغة وكأنّ هذا المعنى هو المراد هيهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم بغياً بينهم فيكون المعنى إنّ الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر

١٢٧

عباده إلّا به، ولم يبيّن لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلّا إيّاه، ولم ينصب الآيات الدالّة إلّا له وهو الإسلام الّذي هو التسليم للحقّ الّذي هو حقّ الاعتقاد وحقّ العمل وبعبارة اُخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام وهو وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمراً واحداً وإنّما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضادّ والتنافي والتفاضل بينها بالدرجات ويجمع الجميع أنّها تسليم وإطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله.

فهذا هو الدين الّذي أراده الله من عباده وبيّنه لهم ولازمه أن يأخذ الإنسان بما تبيّن له من معارفه حقّ التبيّن ويقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرّف فيها من عند نفسه وأمّا اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الدين مع نزول الكتاب الإلهيّ عليهم وبيانه تعالى لما هو عنده دين وهو الإسلام له فلم يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر وكون الدين واحداً بل كانوا عالمين بذلك وإنّما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفر منهم بآيات الله المبيّنة لهم حقّ الأمر وحقيقته لا بالله فإنّهم يعترفون به ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب، يحاسبه سريعاً في دنياه وآخرته: أمّا في الدنيا فبالخزي وسلب سعادة الحياة عنه، وأمّا في الآخرة فبأليم عذاب النار.

والدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا والآخرة قوله تعالى بعد آيتين: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.

وممّا تقدّم يظهرأولا: أنّ المراد بكون الدين عند الله وحضوره لديه سبحانه هو الحضور التشريعيّ بمعنى كونه شرعاً واحداً لا يختلف إلّا بالدرجات وبحسب استعدادات الاُمم المختلفة دون كونه واحداً بحسب التكوين بمعنى كونه واحداً مودعاً في الفطرة الإنسانيّة على وتيرة واحدة.

وثانياً: أنّ المراد بالآيات هو آيات الوحي والبيانات الإلهيّة الّتي ألقاها إلى أنبيائه دون الآيات التكوينيّة الدالّة على الوحدانيّة وما يزاملها من المعارف الإلهيّة.

١٢٨

والآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدلّ عليه بالبغي وهو الانتقام كما يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم الآية على تهديد المشركين والكفّار ولعلّ هذا هو السبب في أنّه جمع أهل الكتاب والمشركين معاً في الآية التالية في الخطاب بقوله: قل للّذين اُوتوا الكتاب والامّيّين أأسلمتم إلخ وفيه إشعار بالتهديد أيضاً.

قوله تعالى: ( فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) الضمير في حاجّوك راجع إلى أهل الكتاب وهو ظاهر والمراد به محاجّتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: أنّ اختلافنا ليس لبغى منّا بعد البيان بل إنّما هو شيئ ساقنا إليه عقولنا وأفهامنا واجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحقّ سبحانه وأن ما تراه وتدعو إليه يا محمّد من هذا القبيل أو يقولوا ما يشابه ذلك والدليل على ذلك قوله فقل: أسلمت وجهي لله وقوله: وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم فإنّ الجملتين حجّة سيقت لقطع خصامهم وحجاجهم لا إعراض عن المحاجّة معهم.

ومعناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: أنّ الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه كتب الله ولا يرتاب فيه سليم العقل، ويتفرّع عليه أن لا حجّة عليك في إسلامك وأنت مسلم فإن حاجّوك في أمر الدين فقل: أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن فهذا هو الدين ولا حجّة بعد الدين في أمر الدين ثمّ سلهم: أأسلموا فإن أسلموا فقد اهتدوا وليقبلوا ما أنزل الله عليك وعلى من قبلك ولا حجّة عليهم ولا مخاصمة بعد ذلك بينكم وإن تولّوا فلا تخاصمهم ولا تحاجّهم فلا ينبغي الخصام في أمر ضروريّ وهو أنّ الدين هو التسليم لله سبحانه وما عليك إلّا البلاغ.

وقد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب والاُمّيّين بقوله: وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم لكون الدين مشتركاً بينهم وإن اختلفوا في التوحيد و التشريك.

١٢٩

وقد علّق الإسلام على الوجه وهو ما يستقبلك من الشئ أو الوجه بالمعنى الأخصّ لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواسّ والمشاعر إسلاماً لجميع البدن ليدلّ على معنى الإقبال والخضوع لأمر الربّ تعالى. وعطف قوله: ومن اتّبعن حفظاً لمقام التبعيّة وتشريفاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( وقل للّذين اُوتوا الكتاب والاُمّيّين أأسلمتم ) إلى آخر الآية المراد باللاُمّيّين المشركين سمّوا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب وكذا كان أهل الكتاب يسمّونهم كما حكاه تعالى من قولهم:( ليس علينا في الاُمّيّين سبيل ) آل عمران - ٧٥ والاُمّيّ هو الّذي لا يكتب ولا يقرء.

وفي قوله تعالى: وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ والله بصير بالعباد دلالة

أولا: على النهي عن المراء والإلحاح في المحاجّة فإنّ المحاجّة مع من ينكر الضروريّ لا تكون إلّا مرائاً ولجاجاً في البحث.

وثانياً: على أنّ الحكم في حقّ الناس والأمر مطلقاً إلى الله سبحانه وليس للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا أنّه رسول مبلّغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى:( ليس لك من الأمر شئ ) آل عمران - ١٢٨ وقال تعالى:( لست عليهم بمسيطر ) الغاشية - ٢٣.

وثالثاً: على تهديد أهل الكتاب والمشركين فإنّ ختم الكلام بقوله: والله بصير بالعباد بعد قوله: فإنّما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك ويدلّ على ذلك ما وقع من التهديد في نظير الآية وهو قوله تعالى:( قولوا آمنّا بالله - إلى أن قال -ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) البقرة - ١٣٧ تذكر الآية أنّ أهل الكتاب إن تولّوا عن الإسلام فهم مصرّون على الخلاف ثمّ يهدّدهم بما يسلّي به النبيّ ويطيّب نفسه. فالآية أعني قوله: وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ كناية عن الأمر بتخلية ما بينهم وبين ربّهم وإرجاع أمرهم إليه وهو بصير بعباده يحكم فيهم بما تقتضيه حالهم ويسأله لسان استعدادهم.

١٣٠

ومن هنا يظهر: أنّ ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ في الآية دليلاً على حرّيّة الاعتقاد في أمر الدين وأن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإنّ الآية كما عرفت مسوقه لغير ذلك.

وفي قوله: بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبوديّة ولم يقل: بصير بهم أو بصير بالناس ونحو ذلك إشعار بأنّ حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنّهم عباده ومربوبون له أسلموا أو تولّوا.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين يكفرون بآيات الله ) إلى آخر الآية الكلام في الآية وإن كان مسوقاً سوق الاستيناف لكنّه مع ذلك لا يخلو عن إشعار وبيان للتهديد الّذي يشعر به آخر الآية السابقة فإنّ مضمونها منطبق على أهل الكتاب وخاصّة اليهود.

وقوله: يكفرون ويقتلون في موضعين للاستمرار ويدلّان على كون الكفر بآيات الله وهو الكفر بعد البيان بغياً وقتل الأنبياء وهو قتل من غير حقّ وقتل الّذين يدعون إلى القسط والعدل وينهون عن الظلم والبغي دأباً وعادة جارية فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود. فقد قتلوا جمعاً كثيراً وجمّاً غفيراً من أنبيائهم وعبّادهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكذا النصارى جروا مجريهم.

وقوله: فبشّرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب ونزول السخط. وليس هو العذاب الاُخرويّ فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة إلخ فهم مبشّرون بالعذاب الدنيويّ والاُخرويّ معاً أمّا الاُخرويّ فأليم عذاب النار وأمّا الدنيويّ فهو ما لقوه من التقتيل والإجلاء وذهاب الأموال والأنفس وما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة على ما تصرّح به آيات الكتاب العزيز.

وفي قوله تعالى: اُولئك الّذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين دلالةأولا: على حبط عمل من قتل رجلاً من جهة أمره بالمعروف

١٣١

أو نهيه عن المنكر.وثانياً على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: وما لهم من ناصرين.

قوله تعالى: ( ألم تر إلى الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب ) إلى آخر الآية يومي إلى تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم وأنّهم يبغون باتّخاذ الخلاف وإيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنّهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب الله بينهم لم يسلموا له وتولّوا وأعرضوا عنه وليس ذلك إلّا باغترارهم بقولهم لن تمسّنا الخ و باغترارهم بما افتروه على الله في دينهم.

والمراد بالّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أهل الكتاب وإنّما لم يقل: اُوتوا الكتاب وقيل: اُوتوا نصيباً من الكتاب ليدلّ على أنّ الّذي في أيديهم من الكتاب ليس إلّا نصيباً منه دون جميعه لأنّ تحريفهم له وتغييرهم وتصرّفهم في كتاب الله أذهب كثيراً من أجزائه كما يومي إليه قوله في آخر الآية التالية: وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون. وكيف كان فالمراد - والله أعلم - أنّهم يتولّون عن حكم كتاب الله اعتزازاً بما قالوا واغتراراً بما وضعوه من عند أنفسهم واستغنائاً به عن الكتاب.

قوله تعالى: ( ذلك بأنّهم قالوا لن تمسّنا النار ) الخ معناه واضح واغترارهم بفريتهم الّتي افترتها أنفسهم مع أنّ الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنّها خدعة باطلة إنّما هو لكون المغرورين غير المفترين وعلى هذا فنسبة الافتراء الّذي توسّل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم اُمّة واحدة يرضى بعضهم بفعال بعض.

وإمّا لأنّ الاغترار بغرور النفس والغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية باطلة وذكر المغرور أنّه هو الّذي افترى ما يغترّ به من الفرية ليس من أهل الكتاب ومن اليهود خاصّة ببعيد وقد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال تعالى:( وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلى بعضهم إلى

١٣٢

بعض قالوا أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ) البقرة - ٧٧.

على أنّ الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصّل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانيّة والصور الّتي زيّنتها ونمّقتها له نفسه دون الّذي حصل له العلم به كما أنّ المعتاد باستعمال المضرّات كالبنج والدخان وأكل التراب ونحوها يستعملها وهو يعلم أنّها مضرّة وأنّ استعمال المضرّ ممّا لا ينبغي إلّا أنّ إلهيّئة الحاصلة في نفسه ملذّة له جاذبة إيّاه إلى الاستعمال لا تدع له مجالاً للتفكّر والاجتناب ونظائر ذلك كثيرة.

فهم لاستحكام الكبر والبغي وحبّ الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارّة لهم في دينهم وهم مع ذلك كرّروا ذكر ما افتروه على الله سبحانه ولم يزالوا يكرّرونه ويلقّنونه أنفسهم حتّى أذعنوا به أي اطمأنّوا وركنوا إليه بالتلقين الّذي يؤثّر أثر العلم كما بيّنه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرّهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم لله والخضوع للحقّ الّذي أنزله في كتابه.

قوله تعالى: ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) إلى آخر الآية مدخول كيف مقدّر يدلّ عليه الكلام مثل يصنعون ونحوه. وفي الآية إيعاد لهؤلاء الّذين تولّوا إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم وهم معرضون غير أنّه لمّا اُريد بيان أنّهم غير معجزين لله سبحانه اُخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة وهم مستسلمون يومئذ ما يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله وهم غير مسلّمين له مستكبرون عنه ولهذا اُخذ بالمحاذاة بين الكلامين وعبّر عن ما يجري عليهم يوم القيامة بمثل قوله: إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الخ دون أن يقال: إذا أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.

والمعنى - والله أعلم - أنّهم يتولّون ويعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم

١٣٣

بينهم اغتراراً بما افتروه في دينهم واستكباراً عن الحقّ فكيف يصنعون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القضاء الفصل والحكم الحقّ ووفّيت كلّ نفس ما كسبت والحكم حكم عدل وهم لا يظلمون وإذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولّوا ويعرضوا مظهرين بذلك أنّهم معجزون لله غالبون على أمره فإنّ القدرة كلّه لله وما هي إلا أيّام مهلة وفتنة.

( بحث روائي)

 في تفسير العيّاشيّ عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن قوله: إنّ الدين عند الله الإسلام فقال: الّذي فيه الإيمان.

وعن ابن شهر آشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: إنّ الدين عند الله الإسلام الآية قال: التسليم لعليّ بن أبيطالب (عليه السلام) بالولاية.

أقول: وهو من الجري ولعلّ ذلك هو المراد أيضاً من الرواية السابقة.

وعنه أيضاً عن عليّ (عليه السلام) قال: لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، ولا ينسبها أحد بعدي: الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل. المؤمن أخذ دينه عن ربّه. إنّ المؤمن يعرف إيمانه في عمله، وإنّ الكافر يعرف كفره بإنكاره.

أيّها الناس! دينكم دينكم فإنّ السيّئة فيه خير من الحسنة في غيره إنّ السيّئة فيه تغفر، وإنّ الحسنة في غيره لا تقبل.

أقول: قوله (عليه السلام): لأنسبنّ الإسلام نسبة المراد بالنسبة التعريف كما سمّيت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الربّ والّذي عرّف به تعريف باللازم في غير الأوّل أعني قوله: الإسلام هو التسليم فإنّه تعريف لفظيّ عرّف فيه اللفظ بلفظ آخر أوضح منه. ويمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحيّ له وهو هذا الدين الّذي أتى به محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إشارة إلى قوله تعالى: إنّ الدين عند الله الإسلام

١٣٤

وبالتسليم الخضوع والانقياد ذاتاً وفعلاً فيعود الجميع إلى التعريف باللازم.

والمعنى: أنّ هذا الدين المسمّى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه ذاتاً وفعلاً ووضعه نفسه وأعماله تحت أمره وإرادته وهو التسليم والتسليم لله يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه واليقين يستتبع التصديق وإظهار صدق الدين والتصديق يستتبع الإقرار وهو الإذعان بقراره وكونه ثابتاً لا يتزلزل في مقرّه ولا يزول عن مكانه وإقراره يستتبع أدائه وأدائه يستتبع العمل.

وقوله (عليه السلام): وإنّ الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم الثواب بإزائه في الآخرة أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا بسعادة الحياة وفي الآخرة بنعيم الجنّة فلا ينافي ما ورد أنّ الكفّار يوجرون في مقابل حسناتهم بشئ من حسنات الدنيا. قال تعالى:( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ) الزلزال - ٧.

وفي المجمع عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيّاً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرء: الّذين يقتلون النبيّين بغير حقّ ويقتلون الّذين يأمرون بالقسط من الناس ثمّ قال: يا أباعبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً في ساعة فقام مأة رجل واثنا عشر رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً آخر النهار من ذلك اليوم وهو الّذي ذكره الله.

اقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيت المدراس على جماعه من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو وحرث بن زيد على أيّ دين أنت يا محمّد؟ قال: على ملّة إبراهيم ودينه. قالا: فإنّ ابراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله: ألم تر إلى الّذين

١٣٥

اُوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله: وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون.

أقول: وروى بعضهم: أنّ قوله تعالى: ألم تر نزل في قصّة الرجم وسيجئ ذكرها في ذيل الكلام على قوله تعالى:( يا أهل الكتاب قد جائكم رسولنا يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب الآية ) المائدة - ١٥ والروايتان من الآحاد وليستا بتلك القوّة.

١٣٦

( سورة آل عمران الآيات ٢٦ - ٢٧)

قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّن تَشَاءُ وَتُعِزّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنّكَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ٢٦) تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٢٧)

( بيان)

الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدّمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب وخاصّة اليهود لاشتماله على وعيدهم وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة، ومن العذاب ما سلب الله عنهم الملك وضرب عليهم الذلّ والمسكنة إلى يوم القيامة وأخذ أنفاسهم وذهب باستقلالهم في السودد.

على أنّ غرض السورة كما مرّ بيان أنّ الله سبحانه هو القائم على خلق العالم وتدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء ويعزّ من يشاء وبالجملة هو المعطي للخير لمن يشاء وهو الآخذ النازع للملك والعزّة ولكلّ خير عمّن يشاء فمضمون الآيتين غير خارج عن غرض السورة.

قوله تعالى: ( قل اللّهمّ مالك الملك ) أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الّذي بيده الخير على الإطلاق وله القدرة المطلقة ليتخلّص من هذه الدعاوي الوهميّة الّتي نشبت في قلوب المنافقين والمتمرّدين من الحقّ من المشركين وأهل الكتاب فضلّوا وهلكوا بما قدّروه لأنفسهم من الملك والعزّة والغنى من الله سبحانه ويعرض الملتجي نفسه على إفاضة مفيض الخير والرازق لمن يشاء بغير حساب.

والملك (بكسر الميم) ممّا نعرفه فيما بيننا ونعهده من غير ارتياب في أصله فمن الملك (بكسر الميم) ما هو حقيقيّ وهو كون شئ كالإنسان مثلاً بحيث يصحّ له أن

١٣٧

يتصرّف في شئ أيّ تصرّف أمكن بحسب التكوين والوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرّف في باصرته بإعمالها وإهمالها بأيّ نحو شاء وأراد وكذا في يده بالقبض والبسط والأخذ بها والترك ونحو ذلك ولا محالة بين المالك وملكه بهذا المعنى رابطة حقيقيّة غير قابلة التغيّر يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغنى عنه ولا يفارقه إلّا بالبطلان كالبصر واليد إذا فارقا الإنسان. ومن هذا القبيل ملكه تعالى (بكسر الميم) للعالم ولجميع أجزائه وشئونه على الإطلاق فله أن يتصرّف فيما شاء كيفما شاء.

ومن الملك (بكسر الميم) ما هو وضعيّ اعتباريّ وهو كون الشئ كالإنسان بحيث يصحّ له أن يتصرّف في شئ كيف شاء بحسب الرابطة الّتي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع لغرض نيل الغايات والأغراض الاجتماعيّة وإنّما هو محاذاة منهم لما عرفوه في الوجود من الملك الحقيقيّ وآثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع والدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان والأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك الحقيقيّ من ملكه الحقيقيّ التكوينيّ.

ولكون الرابطة بين المالك والمملوك في هذا النوع من الملك بالوضع والاعتبار نرى ما نرى فيه من جواز التغيّر والتحوّل فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من الملك من إنسان إلى آخر بالبيع والهبة وسائر أسباب النقل.

وأمّا الملك (بالضمّ) فهو وإن كان من سنخ الملك (بالكسر) إلّا أنّه ملك لما يملكه جماعة الناس فإنّ المليك مالك لما يملكه رعاياه له أن يتصرّف فيما يملكونه من غير أن يعارض تصرّفهم تصرّفه ولا أن يزاحم مشيّتهم مشيّته فهو في الحقيقة ملك على ملك وهو ما نصطلح عليه بالملك الطوليّ كملك المولى للعبد وما في يده. ولهذا كان للملك (بالضمّ) من الأقسام ما ذكرناه للملك (بالكسر).

والله سبحانه مالك كلّ شئ ملكاً مطلقاّ: أمّا أنّه مالك لكلّ شئ على الإطلاق فلأنّ له الربوبيّة المطلقة والقيمومة المطلقة على كلّ شئ فإنّه خالق كلّ شئ وإله كلّ شئ. قال تعالى:( ذلكم الله ربّكم خالق كلّ شئ لا إله إلّا هو ) المؤمن - ٦٢

١٣٨

وقال تعالى:( له ما في السماوات وما في الأرض ) البقرة - ٢٥٥ إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ كلّ ما يسمّى شيئاً فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا يستقلّ دونه فلا يمنعه فيما أراده منها وفيها شئ وهذا هو الملك (بالكسر) كما مرّ.

وأمّا أنّه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكاً للموجودات فإنّ الموجودات أنفسها يملك بعضها بعضاً كالأسباب حيث تملك مسبّباتها والأشياء تملك قواها الفعّالة والقوى الفعّالة تملك أفعالها كالإنسان يملك أعضائه وقواه الفعّالة من سمع وبصر وغير ذلك وهي تملك أفعالها وإذ كان الله سبحانه يملك كلّ شئ فهو يملك كلّ من يملك منها شيئاً ويملك ما يملكه و هذا هو الملك (بالضمّ) فهو مليك على الإطلاق. قال تعالى:( له الملك وله الحمد ) التغابن - ١ وقال تعالى:( عند مليك مقتدر ) القمر - ٥٥ إلى غير ذلك من الآيات هذا هو الحقيقيّ من الملك والملك.

وأمّا الاعتباريّ منها فإنّه تعالى مالك لأنّه هو المعطي لكلّ من يملك شيئاً من المال ولو لم يملك لم يصحّ منه ذلك ولكان معطياً لما لا يملك لمن لا يملك. قال تعالى:( وآتوهم من مال الله الّذي آتاكم ) النور - ٣٣.

وهو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنّه شارع حاكم يتصرّف بحكمه فيما يملكه الناس كما يتصرّف الملوك فيما عند رعاياهم من المال. قال تعالى:( قل أعوذ بربّ الناس ملك الناس ) الناس - ٢ وقال تعالى:( وآتاكم من كلّ ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) إبراهيم - ٣٤ وقال تعالى:( وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه ) الحديد - ٧ وقال تعالى:( وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ) الحديد - ١٠ وقال تعالى:( لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار ) المؤمن - ١٦ فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا ويملكه معنا وسيراه بعدنا عزّ ملكه.

ومن التأمّل فيما تقدّم يظهر أنّ قوله تعالى: اللّهمّ مالك الملك مسوق:

أوّلا لبيان مِلكه تعالى (بالكسر) لكلّ مُلك (بالضمّ) ومالكيّة المُلك (بالضمّ) هو المُلك على المُلك (بالضمّ فيهما) فهو ملك الملوك! الّذي هو المعطي

١٣٩

لكلّ ملك ملكه كما قال تعالى:( أن آتاه الله الملك ) البقرة - ٢٥٨ وقال تعالى:( وآتيناهم ملكاً عظيماً ) النساء - ٥٤.

وثانياً يدلّ بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنّه الله جلّت كبرياؤه وهو ظاهر.

وثالثاً أنّ المراد بالملك في الآية الشريفة (والله أعلم) ما هو أعمّ من الحقيقيّ والاعتباريّ فإنّ ما ذكر من أمره تعالى في الآية الاُولى أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء على ما سنوضحه من شؤون الملك الاعتباريّ وما ذكره في الآية الثانية من شؤون الملك الحقيقيّ فهو مالك الملك مطلقاً.

قوله تعالى: ( تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء ) الملك بإطلاقه شامل لكلّ ملك حقّاً أو باطلاً عدلاً أو جوراً فإنّ الملك (كما تقدّم بيانه في قوله:( أن آتاه الله الملك الآية ) البقرة - ٢٥٨) في نفسه موهبة من مواهب الله ونعمة يصلح لأن يترتّب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنسانيّ وقد جبّل الله النفوس على حبّه والرغبة فيه والملك الّذي تقلّده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنّه ملك وإنّما المذموم إمّا تقلّد من لا يليق بتقلّده كمن تقلّده جوراً وغصباً وإمّا سيرته الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة ويرجع هذا الثاني أيضاً بوجه إلى الأوّل.

وبوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه وبالنسبة إلى غير أهله نقمة وهو على كلّ حال منسوب إلى الله سبحانه وفتنة يمتحن به عباده.

وقد تقدّم: أنّ التعليق على المشيّة في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه وقوع الفعل جزافاً تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبراً في فعله ملزماً عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيّته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه وأنّ جرى فعله على المصلحة دائماً.

قوله تعالى: ( وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء ) العزّ كون الشئ بحيث يصعب

١٤٠