الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80601
تحميل: 5058


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80601 / تحميل: 5058
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فضيلة دنيويّة أو اُخرويّة على من دونهم من الناس، ولو نافى تفضيلهم على الناس تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعنى آدم ونوح وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافى بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، وهو ظاهر.

ولا أنّ تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافى وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضّل الله النبيّين على سائر العالمين وفضلّ بعضهم على بعض قال تعالى:( وكلّاً فضّلنا على العالمين ) الأنعام - ٨٦ وقال أيضاً:( ولقد فضّلنا بعض النبيّين على بعض ) أسرى - ٥٥.

وأمّا آل عمران فالظاهر أنّ المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين الآيتين بالآيات الّتى تذكر قصّة امرأة عمران ومريم ابنت عمران، وقد تكرّر ذكر عمران أبى مريم باسمه في القرآن الكريم، ولم يرد ذكر عمران أبى موسى حتّى في موضع واحد يتعيّن فيه كونه هو المراد بعينه، وهذا يؤيّد كون المراد بعمران في الآية أبا مريم عليها السلام، وعلى هذا فالمراد بآل عمران هو مريم وعيسى عليهما السلام أو هما وزوجة عمران.

وأمّا ما يذكر أنّ النصارى غير معترفين بكون اسم أبى مريم عمران فالقرآن غير تابع لهواهم.

قوله تعالى: ( ذرّيّة بعضها من بعض ) الذرّيّة في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا ثمّ استعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية، وهى منصوبة عطف بيان.

وفي قوله: بعضها من بعض دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهى من البعض الآخر وإليه. ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته. وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّيّة لا يفترقون في صفات الفضيلة الّتى اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف ولا لعب

١٨١

في الأفعال الإلهيّة، ومنها الاصطفاء الّذى هو منشأ خيرات هامّة في العالم.

قوله تعالى: ( والله سميع عليم ) أي سميع بأقوالهم الدالّة على باطن ضمائرهم، عليم بباطن ضمائرهم وما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم كما أنّ قوله: ذرّيّة بعضها من بعض بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة. فالمحصّل من الكلام: أنّ الله اصطفى هؤلاء على العالمين، وإنّما سرى الاصطفاء إلى جميعهم لأنّهم ذرّيّة متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب وثبات القول بالحقّ. وإنّما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنّه سميع عليم يسمع أقوالهم ويعلم ما في قلوبهم.

( بحث روائي)

في العيون في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون: هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في قوله: إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرّيّة بعضها من بعض، الحديث.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أحمد بن محمّد عن الرضا عن أبى جعفر عليهما السلام: من زعم أنّه فرغ من الأمر فقد كذب لأنّ المشيّة لله في خلقه، يريد ما يشاء ويفعل ما يريد، قال الله: ذرّيّة بعضها من بعض والله سميع عليم، آخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا اُخبرتم بشئ منها بعينه أنّه كائن وكان في غيره منه فقد وقع الخبر على ما اُخبرتم عنه.

أقول: وفيه دلالة على ما تقدّم في البيان السابق من معنى قوله: ذرّيّة بعضها من بعض الآية.

وفيه أيضاً عن الباقر (عليه السلام): أنّه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة.

١٨٢

أقول: قوله (عليه السلام) ونحن بقيّة تلك العترة العترة بحسب الأصل في معناها الأصل الّذى يعتمد عليه الشئ، ومنه العترة للأولاد والأقارب الأدنين ممّن مضى، وبعبارة اُخرى العمود المحفوظ في العشيرة.ومنه يظهر أنّه (عليه السلام) استفاد من قوله تعالى ذرّيّة بعضها من بعض أنّها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم وآل عمران. ومن هنا يظهر النكتة في ذكر آدم ونوح مع آل إبراهيم وعمران فهى إشارة إلى اتّصال السلسلة في الاصطفاء.

١٨٣

( سورة آل عمران الآيات ٣٥ - ٤١)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّراً فَتَقَبّلْ مِنّي إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٥) فَلَمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى‏ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى‏ وَإِنّي سَمّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ( ٣٦) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفّلَهَا زَكَرِيّا كُلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا الْمَحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنّى‏ لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( ٣٧) هُنالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً إِنّكَ سَمِيعُ الدّعَاءِ( ٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمَحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى‏ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصّالِحِينَ( ٣٩) قَالَ رَبّ أَنّى‏ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ( ٤٠) قَالَ رَبّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلّا تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ إِلّا رَمْزَاً وَاذْكُر رَبّكَ كَثِيرَاً وَسَبّحْ بِالعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ( ٤١)

( بيان)

قوله تعالى: ( إذ قالت أمرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّى إنّك أنت السميع العليم ) النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب. و التحرير

١٨٤

هو الإطلاق عن وثاق، ومنه تحرير العبد عن الرقّيّة وتحرير الكتاب كأنّه إطلاق للمعانى عن محفظة الذهن والفكر والتقبّل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبّل الهديّة وتقبّل الدعاء ونحو ذلك.

وفي قوله: قالت امرأة عمران ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني دلالة على أنّها إنّما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً، وأنّ حملها كان من عمران، ولا يخلو الكلام من إشعار بأنّ زوجها عمران لم يكن حيّاً عندئذ وإلّا لم يكن لها أن تستقلّ بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم الآية ) آل عمران - ٤٤ على ما سيجئ من البيان.

ومن المعلوم أنّ تحرير الأب أو الأمّ للولد ليس تحريراً عن الرقّيّة وإنّما هو تحرير عن قيد الولاية الّتى للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلّط أبويه عليه في استخدامه، وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصّة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لو لا التحرير، وقد قيل: إنّهم كانوا يحرّرون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما: ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر بين الإقامة والرواح فإن أحبّ أن يقيم أقام، وإن أحبّ الرواح ذهب لشأنه.

وفي الكلام دلالة على أنّها كانت تعتقد أنّ ما في بطنها ذكر لا أناث حيث إنّها تناجى ربّها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني محرّراً من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.

وليس تذكير قوله: محرّراً من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة الّتى يستوى فيه المذكّر والمؤنّث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو اُنثى لم يكن وجه لما قالتها تحزّناً وتحسّراً لما وضعتها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى

١٨٥

ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالاُنثى على ما سيجئ بيانه.

وفي حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أنّ اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسيّة الّتى تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكلّ ذلك ظنّ والظنّ لا يغنى من الحقّ شيئاً وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلّا مع إبطاله. وقد قال تعالى:( الله يعلم ما تحمل كلّ اُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الرعد - ٨ وقال تعالى:( عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) لقمان - ٣٤ فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختصّ به تعالى وقال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى ) الجنّ - ٢٧ فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحى فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختصّ علمه بالله سبحانه يدلّ على أنّ علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهى بوجه إلى الوحى ولذلك لما تبيّنت أنّ الولد اُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرّيّة ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.

ومفعول قولها: فتقبّل منّى وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنّه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرّر لكن قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرّر.

قوله تعالى: ( فلمّا وضعتها قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى ) في وضع الضمير المؤنّث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف، والمعنى فلمّا وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنّه اُنثى قالت: ربّ إنّى وضعتها اُنثى وهو خبر اُريد به التحسّر والتحزّن دون الإخبار وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ) جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران ولا أنّ الثانية مقولة لها والاُولى

١٨٦

مقولة لله.

أمّا الاُولى فهى ظاهرة لكن لمّا كانت قولها: ربّ إنّى وضعتها اُنثى مسوقاً لإظهار التحسّر كان ظاهر قوله: والله أعلم بما وضعت أنّه مسوق لبيان أنّا نعلم أنّها اُنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمنّاه بأحسن وجه وأرضى طريق. ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها اُنثى لم تتحسّر ولم تحزن ذاك التحسّر والتحزّن والحال أنّ الذكر الّذى كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الاُنثى الّتى وهبناها لها، ويترتّب عليه ما يترتّب على خلق هذه الاُنثى فإنّ غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبيّاً مبرئاً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى لكنّ هذه الاُنثى ستتمّ به كلمة الله وتلد ولداً بغير أب، وتجعل هي وابنها آية للعالمين، ويكلّم الناس في المهد، ويكون روحاً وكلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى مقول له تعالى لا لامرأة عمران. ولو كان مقولاً لها لكان حقّ الكلام أن يقال: وليس الاُنثى كالذكر لا بالعكس وهو ظاهر فإنّ من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثمّ رزق ما هو أخسّ منه وأردء إنّما يقول عند التحسّر: ليس هذا الّذى وجدته هو الّذى كنت أطلبه وأبتغيه، أو ليس ما رزقته كالّذى كنت أرجوه. ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الّذى رزقته البتّة، وظهر من ذلك أنّ اللام في الذكر والاُنثى معاً أو في الاُنثى فقط للعهد.

وقد أخذ أكثر المفسّرين قوله: وليس الذكر كالاُنثى تتمّة قول امرأة عمران، وتكلّفوا في توجيه تقديم الذكر على الاُنثى بما لا يرجع إلى محصّل. من أراده فليرجع إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( وإنّى سمّيتها مريم وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم ) معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل. ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع، ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنّها لمّا أيست من كون الولد ذكراً محرّراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدّتها

١٨٧

بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: وإنّى سمّيتها مريم بمنزلة أن تقول: إنّى جعلت ما وضعتها محرّرة لك. والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً الآية.

ثمّ أعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمّى.

والكلام في قولها: وذرّيّتها من حيث أنّه قول مطلق من شرط وقيد لا يصحّ التفوّه به في حضرة التخاطب ممّن لا علم له به مع أنّ مستقبل حال الإنسان من الغيب الّذى لا يعلمه إلّا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها: ربّ إنّى نذرت لك ما في بطني محرّراً على ما تقدّم بيانه فليس إلّا أنّها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً ثمّ لمّا حملت وتوفّى عمران لم تشكّ أنّ ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود ثمّ لمّا وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنّها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحوّلت نذرها من الابن إلى البنت وسمّتها مريم (العابدة، الخادمة) وأعاذتها وذرّيّتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبّر في كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( فتقبّلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً ) القبول إذا قيّد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبّل الّذى معناه القبول عن الرضا فالكلام في معنى قولنا: فتقبّلها ربّها تقبّلاً فإنّما حلّل التقبّل إلى القبول الحسن ليدلّ على أنّ حسن القبول مقصود في الكلام، ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.

وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعنى قوله: فتقبّلها إلى قوله: حسناً الجملتان في قولها: وإنّى سمّيتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: فتقبّلها ربّها بقبول حسن قبولاً لقولها وإنّى سمّيتها مريم، وقوله: وأنبتها نباتاً حسناً قبولاً وإجابة لقولها: وإنّى اُعيذها بك وذرّيّتها من الشيطان الرجيم،

١٨٨

فالمراد بتقبّلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرّب امرأة عمران بالنذر، وإعطاء الثواب الاُخروي لعملها فإنّ القبول إنّما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر بل قبول البنت بما أنّها مسمّاة بمريم ومحرّرة فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أنّ معنى الاصطفاء هو التسليم التامّ لله سبحانه) فافهم ذلك.

والمراد بإنباتها نباتاً حسناً أعطاء الرشد والزكاة لها ولذرّيّتها وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرّيّة حياة لا يمسّها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته، وهو الطهارة.

وهذان أعنى القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما الّذان يشير اليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك الآية وسنوضحه بياناً إنشاء الله العزيز.

فقد تبيّن أنّ اصطفاء مريم وتطهيرها إنّما هما استجابة لدعوة اُمّها كما أنّ اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى، وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: وليس الذكر كالاُنثى.

قوله تعالى: ( وكفّلها زكريّا ) وإنّما كفّلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفّلها ثمّ تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريّا كما يدلّ عليه قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون الآية.

قوله تعالى: ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً ) الخ المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت قال الراغب: ومحراب المسجد، قيل: سمّى بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمّى بذلك لكون حقّ إنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزّع الخاطر. وقيل الأصل فيه أنّ محراب البيت صدر المجلس ثمّ اتّخذت المساجد فسمّى صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خصّ به صدر المجلس فسمّى صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد، وكأنّ هذا أصحّ، قال عزّوجلّ: يعملون له ما يشاء من محاريب

١٨٩

وتماثيل. انتهى.

وذكر بعضهم أنّ المحراب هنا هو ما يعبّر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلّم ذى درجات قليلة، ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.

أقول: واليه ينتهى اتّخاذ المقصورة في الإسلام.

وفي تنكير قوله: رزقاً إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنّه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف، في الشتاء، ويؤيّده أنّه لو كان من الرزق المعهود وكان تنكيره يفيد أنّه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريّا بقولها: هو من عند الله إنّ الله يرزق الخ في جواب قوله: يا مريم أنّى لك هذا لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممّن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيّئ.

على أنّ قوله تعالى: هنالك دعا زكريّا ربّه الخ يدلّ على أنّ زكريّا تلقّى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهيّة خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرّيّة طيّبة فقد كان الرزق رزقاً يدلّ بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة. وممّا يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم الخ على ما سيجئ من البيان.

وقوله: قال يا مريم أنّى لك الخ فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد عندها رزقاً يدلّ على أنّه (عليه السلام) إنّما قال لها ذلك مرّة واحدة فأجابت بما قنع به واستيقن أنّ ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربّه ذرّيّة طيّبة.

قوله تعالى: ( هنالك دعا زكريّا ربّه قال ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة ) الخ طيب الشئ ملائمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيّب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك قال تعالى:( والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه ) الأعراف - ٥٨. والعيشة الطيّبة والحياة الطيّبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكيّ فالذرّيّة الطيّبة هو الولد

١٩٠

الصالح لأبيه مثلاً الّذى يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والاُمنيّة فقول زكريّا (عليه السلام) ربّ هب لى من لدنك ذرّيّة طيّبة لمّا كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة. فكون ذرّيّته طيّبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصيّة في نفسها ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام، وأجمع الناس لما عند عيسى واُمّه مريم الصدّيقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سمّاه تعالى بيحيى وجعله مصدّقاً بكلمة من الله وسيّداً وحصوراً ونبيّاً من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلّى في المحراب أنّ الله يبشّرك بيحيى ) إلى آخر الآية ضمائر الغيبة والخطاب لزكريّا والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

وقوله: أنّ الله يبشّرك بيحيى دليل على أنّ تسميته بيحيى إنّما هو من جانب الله سبحانه كما تدلّ عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم قال تعالى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً ) مريم - ٧.

وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريّا قبل تولّد يحيى وخلقه يؤيّد ما ذكرناه آنفاً: أنّ الّذى طلبه زكريّا من ربّه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى:( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء - ٩١.

فروعي في يحيى ما روعى فيهما من عند الله سبحانه. وقد روعى في عيسى كمال ما روعى في مريم فالمرعىّ في يحيى هو الشبه التامّ والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كلّه التقدّم التامّ لأنّ وجوده كان مقدّراً قبل استجابة دعوة زكريّا في حقّ يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من اولى

١٩١

العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنّهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبّر فيما ذكر الله تعالى من قصّتهما في سورة مريم فقال في يحيى:( يا زكريّا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً - إلى أن قال -يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبيّاً وحناناً من لدنّا وزكاة وكان تقيّاً وبرّاً بوالديه ولم يكن جبّاراً عصيّاً وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً ) مريم - ١٥، وقال في عيسى (عليه السلام):( فأرسلنا إليها روحنا - إلى أن قال -إنّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً - إلى أن قال -قال ربّك هو علىّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا - إلى أن قال -فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّا قال إنّى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً والسلام علىّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً ) مريم - ٣٣. ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة الّتى نحن فيها عند التطبيق.

و بالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى (يعيش) على ما قيل وجعله مصدّقاً بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى:( بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ) وآتاه الحكم وعلّمه الكتاب صبيّاً كما فعل بعيسى، وعدّه حناناً من لدنه وزكاة وبرّاً بوالديه غير جبّار كما كان عيسى كذلك، وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى، وعدّه سيّداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده، وجعله حصوراً ونبيّاً ومن الصالحين مثل عيسى، كلّ ذلك استجابة لمسألة زكريّا ودعوته حيث سأل ذرّيّة طيّبة ووليّاً رضيّاً عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.

وفي قوله: مصدّقاً بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

١٩٢

والسيّد هو الّذى يتولّى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثمّ غلب استعماله في شريف القوم لما أنّ التولّى المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة اُخرى.

والحصور هو الّذى لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهداً.

قوله تعالى: ( قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر ) استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأنّ الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنّه ذكر هذين الوصفين اللّذين جعلهما منشأ للتعجّب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:( ربّ إنّى وهن العظم منّى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك ربّ شقيّاً وإنّى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لى من لدنك وليّاً ) مريم - ٥.

لكنّ المقام يمثّل معنى آخر فكأنّه (عليه السلام) لمّا انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكّر انقطاع عقبه لم يشعر إلّا وقد سأل ربّه ما سأل وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثّره وتحزّنه وهو بلوغ الكبر، وكون امرأته عاقراً فلمّا استجيبت دعوته وبشّر بالولد كأنّه صحا وأفاق ممّا كان عليه من الحال، وأخذ يتعجّب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيّره إلى نظرة التعجّب المشوب بالسرور.

على أنّ ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفيّة رفع واحد واحد منها إنّما هو طلب تفهّم خصوصيّات الإفاضة والأنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرّيّة قال تعالى:( ونبّئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنّا منكم وجلون قالوا لا توجل إنّا نبشّرك بغلام عليم قال أبشّرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشّرون قالوا بشّرناك بالحقّ فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالّون ) الحجر - ٥٦

١٩٣

فذكر في جواب نهى الملائكة إيّاه عن القنوط أنّ استفهامه لم يكن عن قنوط كيف وهو غير ضالّ والقنوط ضلالة بل السيّد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والاُنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذّذه من كلّ حديث وتمتّعه في كلّ باب.

وفي قوله: وقد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنّه كناية عن أنّه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً فإنّ ذلك ظاهر قوله: وكانت امرأتي عاقراً ولم يقل: وامرأتي عاقر.

قوله تعالى: ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الّذين كانوا ينادونه فالقول على أيّ حال قوله تعالى لكنّ الظاهر أنّه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنّه بأمره والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصّة:( قال كذلك قال ربّك هو علي هيّن وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ) مريم - ٩.

ومنه يظهرأوّلا: أنّه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أوّلاًوثانياً: أنّ قوله: كذلك خبر لمبتدء محذوف والتقدير: الأمر كذلك أي الّذي بشّرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الّذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:( قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن - إلى أن قال -وكان أمراً مقضيّاً ) مريم - ٢١وثالثاً: أنّ قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك.

قوله تعالى: ( قال ربّ اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزاً ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الرمز الإيماء بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء

١٩٤

بالحاجب والعين واليد، والأوّل أغلب، انتهى. والعشيّ الطرف المؤخّر من النهار وكأنّه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة. والإبكار صدر النهار والطرف المقدّم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنّها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولّده:( فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّاً ) مريم - ٢٦.

وسؤاله (عليه السلام) من ربّه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالّة على الشئ - هل هو ليستدلّ به على أنّ البشارة إنّما هي من قبل ربّه، وبعبارة اُخرى هو خطاب رحمانيّ ملكيّ لا شيطانيّ ؟ أو لأنّه أراد أن يستدلّ بها على حمل امرأته، ويعلم وقت الحمل ؟ خلاف بين المفسّرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصّة لكن الّذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أوّل الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أنّ الخطاب رحمانيّ هو ما ذكروه: أنّ الأنبياء لعصمتهم لا بدّ أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتّى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حقّ لكن يجب أن يعلم أنّ تعرّفهم إنّما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرّف زكريّا من ربّه أن يجعل له آية يعرف به ذلك ؟ وأيّ محذور في ذلك ؟ نعم لو لم يستجب دعاؤه ولم يجعل الله له آية كان الإشكال في محلّه.

على أنّ خصوصيّة نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيّام - تؤيّد بل تدلّ على ذلك فإنّ الشيطان وإن أمكن أن يمسّ الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف

١٩٥

أعداء الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وأذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسنّي الشيطان بنصب وعذاب ) ص - ٤١، وقوله تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته الآية ) الحجّ - ٥٢، وقوله تعالى:( فإنّي نسيت الحوت وما إنسانيّه إلّا الشيطان ) الكهف - ٦٣.

لكنّ هذه وأمثالها من مسّ الشيطان وتعرّضه لا تنتج إلّا إيذاء النبيّ وأمّا مسّه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك وقد مرّ في ما تقدّم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.

والّذي جعله الله تعالى آيه لزكريّا على ما يدلّ عليه قوله: آيتك أن لا تكلّم الناس ثلثه أيّام إلّا رمزاً واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشي والإبكار هو أنّه كان لا يقدر ثلثه أيّام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلّا بذكر الله وتسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبيّ ولسانه وتصرّف خاصّ فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلّا رحمانيّاً. وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأوّل دون الوجه الثاني.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: قال ربّ أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإنّ ظاهره أنّه خاطب ربّه وسأله ما سأل ثمّ اُجيب بما اُجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكّاً في أمر النداء ؟ ولو لم يكن شاكّاً عندئذ فما معنى سؤال التمييز ؟

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنّت نفسه على كون النداء رحمانيّاً من جانب الله ثمّ يسأل ربّه من كيفيّة الولادة الّتي كانت تتعجّب منه نفسه الشريفة كما مرّ فيجاب بنداء آخر ملكيّ تطمئنّ إليه نفسه ثمّ يسأل ربّه آية توجب اليقين بأنّه كان رحمانيّاً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.

وممّا يؤيّد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة فإنّ النداء إنّما يكون من

١٩٦

بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريّا:( إذ نادى ربّه ندائاً خفيّاً ) مريم - ٣ فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلّل. زكريّا وتواضعه قبال تعزّز الله سبحانه وترفّعه وتعاليه ثمّ وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريّا لم ير الملك نفسه، وإنّما سمع صوتاً يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلثة أيّام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه. قال: الصواب أنّ زكريّا أحبّ بمقتضى الطبيعة البشريّة أن يتعيّن لديه الزمن الّذي ينال به تلك المنحة الإلهيّة ليطمئنّ قلبه ويبشّر أهله فسأل عن الكيفيّة، ولمّا اُجيب بما اُجيب به سأل ربّه أن يخصّه بعبادة يتعجّل بها شكره، ويكون إتمامه إيّاها آية وعلامة على حصول المقصود فأمره بأن لا يكلّم الناس ثلاثه أيّام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مسائاً صباحاً مدّة ثلاثه أيّام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيمائاً على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضيّ الثلاث الليال. انتهى.

وأنت خبير بأنّه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة، وانتهائها إلى حصول المقصود، وكون انتهائها هو الآية، وكون قوله: أن لا تكلّم مسوقاً للنهي التشريعيّ وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.

( كلام في الخواطر الملكيّة والشيطانيّة وما يلحق بها من التكليم)

قد مرّ كراراً أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأنّ القول أو الكلام مثلاً إنّما يسمّى به الصوت لإفادته معنى مقصوداً يصحّ السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعدّدةً مؤلّفةً أو غير صوت كالإيماء والرمز، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً وإن لم يخرج عن شقّ فم، وكذلك في تسمية الإيماء

١٩٧

قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضاً يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان:( ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ) النساء - ١١٩ وقال:( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) الحشر - ١٦ وقال:( يوسوس في صدور الناس ) الناس - ٥ وقال:( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ) الأنعام - ١١٢ وقال أيضاً حكاية عن إبليس:( إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم ) إبراهيم - ٢٢ وقال:( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) البقرة - ٢٦٩. ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، وسمّيت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد، وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شقّ فم ولا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أنّ ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة من الشيطان، وقد سمّاه تعالى الحكمة، ومثلها قوله تعالى:( ويجعل لكم نوراً تمشون به ) الحديد - ٢٨ وقوله:( هو الّذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض ) الفتح - ٤ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى:( فيه سكينة من ربّكم ) البقرة - ٢٤٨، وكذا قوله:( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كإنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون ) الأنعام - ١٢٥. وقد سمّى الوسوسة رجزاً فقال:( رجز الشيطان ) الأنفال - ١١ فمن جميع ذلك يظهر أنّ الشياطين والملائكة يكلّمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختصّ به تعالى كما ذكره بقوله:( وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحياً أو من وراء حجاب الآية ) الشورى - ٥١ فسمّاه تكليماً وقسمّه إلى الوحي، وهو الّذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلّم، وإلى التكليم

١٩٨

من وراء حجاب. هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.

أمّا كلام الله سبحانه المسمّى بالوحي فهو متميّز متعيّن بذاته فإنّ الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان وبين ربّه، ومن المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر. وأمّا غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأمّا الكلام الملكي والشيطانيّ فالآيات المذكورة آنفاً تكفي في التمييز بينها فإنّ الخاطر الملكيّ يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل، وينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبيّن في كتابه وسنّة نبيّه، والخاطر الشيطانيّ يلازم تضيّق الصدر وشحّ النفس ويدعو إلى متابعة الهوى، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء وبالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسنّة، ويخالف الفطرة.

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميّز، وأمّا مع عدم المشاهدة فلا بدّ من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ الله أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ذكراً سويّاً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل. فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك وهي اُمّ مريم فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى، وليس الذكر كالاُنثى لا تكون البنت رسولاً. يقول الله: والله أعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الّذي بشّر به

١٩٩

عمران ووعده إيّاه فإذا قلنا في الرجل منّا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.

أقول: وروى قريباً منه في الكافي عنه (عليه السلام) وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام).

وفي تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادق (عليه السلام): أنّ المحرّر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها اُنثى وليس الذكر كالاُنثى إنّ الاُنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرّر لا يخرج من المسجد.

وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العبّاد، وليس الذكر كالاُنثى في الخدمة. قال: فشبّت وكانت تخدمهم وتناولهم حتّى بلغت فأمر زكريّا أن تتّخذ لها حجاباً دون العبّاد.

أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدّمناه في البيان السابق إلّا أنّ ظاهرها: أنّ قوله: وليس الذكر كالاُنثى كلام لامرأة عمران لا له تعالى، ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الاُنثى في الجملة، مع أنّ مقتضى القواعد العربيّة خلافه. وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، وقد مرّ أنّه في معنى التحرير إلّا أن يفرّق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمّل.

وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيّاً يوحي إليه، ويدلّ عليه ما في البحار عن أبي بصير قال سألت أباجعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبيّاً ؟ فقال نعم كان نبيّاً مرسلاً إلى قومه، الحديث.

وتدلّ الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنّة، وهو المشهور، وفي بعض الروايات: مرثار. ولا يهمّنا البحث عن ذلك.

وفي تفسير القمّيّ في ذيل الرواية السابقة: فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريّا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنّى لك هذا فتقول: هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

٢٠٠