الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80566
تحميل: 5057


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80566 / تحميل: 5057
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقط مراده به أنّهم يقولون بأنّ كلمة نسائنا أطلقت وأريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة أنفسنا عليّ فقط، وكأنّه فهمه ممّا يشتمل عليه بعض الروايات السابقة: قال جابر: نسائنا فاطمة وأنفسنا عليّ الخبر وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة وبلفظ أنفسنا عليّ بل المراد أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ لم يأت في مقام الامتثال إلّا بها وبه كشف ذلك أنّها هي المصداق الفرد لنسائنا وأنّه هو المصداق الوحيد لأنفسنا وأنّهما مصداق أبنائنا وكان المراد بالأبناء والنساء والأنفس في الآية هو الأهل فهم أهل بيت رسول الله وخاصّته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهم أنّه قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فإنّ معنى الجملة: أنّي لم أجد من أدعوه غير هؤلاء.

ويدلّ على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات: أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعليّ فإنّ اللفظ صريح في أنّ المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ.

ومنها: قوله ولكنّ واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإنّ كلمة نسائنا لا يقولها العربيّ ويريد بها بنته لا سيّما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا عليّ. وهذا المعنى العجيب الّذي توهّمه هو الّذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثمّ يطعن على رواتها وكلّ من تلقّاها بالقبول ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبّه لموقفه من تفسير الكتاب ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمّة البلاغة وأساتيذ البيان وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلّفاتهم من غير أيّ تردّد أو اعتراض.

فهذا صاحب الكشّاف - وهو الّذي ربّما خطّأ أئمّة القراءة في قراءتهم - يقول في ذيل تفسير الآية: وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنّه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف: أنّهم أجابوا إلى ذلك، انتهى.

فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الأدب أنّ هذه الأخبار

٢٦١

على كثرتها وتكرّرها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنّه يغلط في بيانه فيطلق النساء (وهو جمع) في مورد نفس واحدة؟!.

لا وعمري وإنّما التبس الأمر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهّم: أنّ الله عزّ اسمه لو قال لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ وصحّ أنّ المحاجّين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلاً على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء وصحّ أيضاً أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلّا عليّ وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أنّ معنى من حاجّ وفد نجران، ومعنى نسائنا المرأة الواحدة، ومعنى أنفسنا النفس الواحدة، وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع الوفد نساء ولا أبناء.

وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الأبناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإنّ استعمال الجمع في المفرد ربّما وجد في كلام المولّدين وإن لم يوجد في العربيّة الأصيلة إلّا في التكلّم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنّى مما لا مجوّز له أصلاً.

فهذا هو الّذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع، وليس الأمر كما توهّمه.

توضيح ذلك أنّ الكلام البليغ إنّما يتّبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهمّ كشفه فربّما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كلّ منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصّمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أنّ الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور واُناث وصغير وكبير فإنّما يقول: نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والأولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإنّ العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلّق بأن يبيّن للخصم أنّهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه، ولو قيل: نخاصمكم أو نقاتلكم

٢٦٢

بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخباراً بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجاً إلى عناية زائدة وتعرّفاً إلى الخصم لنكتة زائدة.

وأمّا عند المتعارفين والأصدقاء والأخلّة فربّما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال: سنقرؤكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا، وربّما يسترسل في التعرّف فيقال: سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيّين، ونحو ذلك.

فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم، ولواقع الأمر وخارج العين حكم، وربّما يختلفان، فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله، ويقضي به الطبع والعادة فيه ثمّ بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطاً في كلامه، ولا كاذباً في خبره، ولا لاغياً هازلاً في قوله.

والآية جارية على هذا المجرى فقوله: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الخ أريد به على ما تقدّم: اُدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصّتك من أهلك الّذين يشاركونك في الدعوى والعلم، ويحضروا بخاصّتهم من أهليهم. ثمّ وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أنّ لرسول الله في أهله رجالاً ونساءاً وأبناءاً ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال، وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم، أمّا واقع الأمر وحقيقته فهو أنّه لم يكن له (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الرجال والنساء والبنين إلّا نفس وبنت وابنان، ولم يكن لهم إلّا رجال من غير نساء ولا أبناء ولذلك لمّا أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبّهوه بالتلحين والتكذيب، ولا أنّهم اعتذروا عن الحضور بأنّك أمرت بإحضار النساء والأبناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ولا أنّ من قصّت عليه القصّة رماها بالوضع والتمويه.

ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله: ثمّ وفد نجران الّذين قالوا إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء.

ومنها: قوله وكلّ ما يفهم من الآية أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يدعو المحاجّين و

٢٦٣

المجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويجمع هو المؤمنين رجالاً ونسائاً وأطفالاً ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى - إلى قوله -: وأنّى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقّين والمبطلين في صعيد واحد متوجّهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأيّ جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟

وملخّصه أنّ الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثمّ الابتهال بالملاعنة. وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعوّ إليه؟

أهو اجتماع الفريقين كافّة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ(١) عرب ربيعة ومضر جلّهم أو كلّهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها، والنصارى وهم أهل نجران من اليمن، ونصارى الشام وسواحل البحر الأبيض وأهل الروم والإفرنج والإنجليز والنمسا وغيرهم.

وهؤلاء الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين، ولا يشكّ ذو لبّ أنّ من المتعذّر اجتماعهم في صعيد واحد فالأسباب العاديّة تأبى ذلك بجميع أركانها، ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال، وينيط ظهور حجّته وتبيّن الحقّ الّذي يدّعيه على ما لا يكون البتّة، وكان ذلك عذراً (ونعم العذر) للنصارى في عدم إجابتهم دعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المباهلة، وكان ذلك أضرّ لدعواه منه لدعواهم.

أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها، وأهل نجران ومن والاهم، وهذا وإن كان أقلّ وأخفّ شناعة من الوجه السابق لكنّه من حيث استحالة التحقّق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الّذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتّى النساء والذراري

____________________

(١) وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المورّخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعاً عن الاشكال على ما سيجئ في البحث الروائيّ عن الآيات التالية لهذه الآيات.

٢٦٤

منهم في صعيد للملاعنة، وهل هذه الدعوة إلّا تعليقاً بالمحال، واعترافاً بأنّ الحقّ متعذّر الظهور.

أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والحاضرين عنده من المؤمنين، ووفد نجران من النصارى، ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله: ثمّ إنّ وفد نجران الّذين قالوا، إنّ الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم، وكان ذلك وقوعاً فيما ذكره من المحذور.

ومنها: قوله: أمّا كون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين كانوا على يقين ممّا يعتقدون في عيسى (عليه السلام) فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقاديّة لا يراد به إلّا اليقين.

أقول: أمّا كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حقّ وأمّا كون الآية دالّة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى (عليه السلام) فليت شعري من أين له إثبات ذلك؟ والآية غير متعرّضة بلفظها (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك الخ) إلّا لشأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومقام التخاطب أيضاً لا يشمل غيره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من المؤمنين فإنّ الوفد من النصارى ما كان لهم همّ إلّا المحاجّة والخصام مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين، ولا كلّموهم بكلمة ولا كلّمهم المؤمنون بكلمة.

نعم لو دلّت الآية على حصول العلم لأحد غير النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لدلّ فيمن جيئ به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: من الكاذبين فيما تقدّم.

بل القرآن يدلّ على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى:( وما يؤمن أكثرهم بالله إلّا وهم مشركون ) يوسف - ١٠٦ فوصفهم بالشرك وكيف يجتمع الشرك مع اليقين، ويقول تعالى:( وإذ يقول المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلّا غروراً ) الأحزاب - ١٢ ويقول تعالى:( ويقول الّذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول

٢٦٥

معروف فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم - إلى أن قال -اُولئك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم ) محمّد - ٢٣. فاليقين لا يتحقّق به إلّا بعض أولي البصيرة من متّبعي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال تعالى:( فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ) آل عمران - ٢٠ وقال تعالى:( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعنى ) يوسف - ١٠٨.

ومنها: قوله: وفي قوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ وجهان: أحدهما: أنّ كلّ فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الأوّل وعدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أنّ الغرض كان مستوفى حاصلاً لو قيل: تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، وإنّما زيد عليه قوله: ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ليدلّ على لزوم إحضار كلّ من الفريقين عند المباهلة أعزّ الأشياء عنده وأحبّها إليه وهو الأبناء والنساء والأنفس (الأهل والخاصّة) وهذا إنّما يتمّ لو كان معنى الآية: ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم ثمّ نبتهل وأمّا لو كان المعنى: ندعو نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم، وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ثمّ نبتهل بطل الغرض المذكور.

على أنّ هذا المعنى في نفسه ممّا لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) النصارى على أبنائه ونسائه وسؤاله أن يسلّطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا فيتمّ الحضور والمباهلة مع تأتّي ذلك بدعوة كلّ فريق أهل نفسه لها؟

على أنّ هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه - كما تقدّم - منها. وإنّي لنا فهمه ؟ فالحقّ أنّ هذا الوجه ساقط وأنّ الوجه الآخر وهو أن يكون المراد دعوة كلّ أهل نفسه هو المتعيّن.

ومنها: قوله: ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس، وإنّما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص يريد بالإشكال

٢٦٦

ما اُورد على الآية من لزوم دعوة الإنسان نفسه، وهذا الإشكال غير مرتبط بشيئ من الوجهين أصلاً وإنّما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبيّة حيث ادّعى أحد الخصمين أنّ المراد بأنفسنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاُورد عليه بلزوم دعوة الإنسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدّم.

ومن هنا يظهر سقوط قوله: إنّما الإشكال فيه على قول الشيعة فإنّ قولهم على ما قدّمنا: أنّ المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم بحسب المصداق رسول الله وعليّ عليهما السلام ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضاً.

فلا إشكال عليهم حتّى على ما نسبه إليهم بزعمه: أنّ معنى أنفسنا عليّ فإنّه لا إشكال في دعوة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام).

وقال تلميذه في المنار بعد الإشارة إلى الروايات وأخرج ابن عساكر عن جعفر ابن محمّد عن أبيه:( قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ) الآية قال فجاء بأبي بكر و ولده، وعمر وولده، وعثمان وولده. قال: والظاهر أنّ الكلام في جماعة المؤمنين.

ثمّ قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقاً: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القوميّة والمناضلة الدينيّة، وهو مبنيّ على اعتبار المرأة كالرجل حتّى في الاُمور العامّة إلّا ما استثنى منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام.

أقول: أمّا ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذّة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسّرون. وهي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع، وهو جعله لكلّ من المذكورين فيه ولداً. ولا ولد يومئذ لجميعهم ألبتّة.

وكأنّه يريد بقوله: والظاهر أنّ الكلام في جماعة المؤمنين أن يستظهر

٢٦٧

من الرواية الدلالة على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله: فجاء بأبي بكر وولده إلخ كناية عن إحضاره عامّة المؤمنين، وكأنّه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى. وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والإعراض والمتن ثمّ في الدلالة على ما ذكره من المعنى.

وأمّا ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامّة فلو تمّ ما ذكره دلّ على مشاركة الأطفال أيضاً، وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره.

وقد قدّمنا الكلام في اشتراكهنّ معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب وسيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية.

٢٦٨

( سورة آل عمران الآيات ٦٤ - ٧٨)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلّا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ( ٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ٦٥) هَاأَنْتُمْ هؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيَما لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجّونَ فِيَما لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( ٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ٦٧) إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ( ٦٨) وَدّت طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلّونَكُمْ وَمَا يُضِلّونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ( ٦٩) يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ( ٧٠) يَاأَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( ٧١) وَقَالَت طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ( ٧٢) وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنّ الْهُدَى‏ هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى‏ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ قُلْ إِنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٧٣) يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ

٢٦٩

الْعَظِيمِ( ٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِليْكَ وَمِنْهُم مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمَاً ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمّيّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٥) بَلَى‏ مَنْ أَوْفَى‏ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى‏ فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ( ٧٦) إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٧٧) وإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى‏ اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ٧٨)

( بيان)

شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرّض لحال أهل الكتاب عامّة والنصارى خاصّة وما يلحق بذلك. فقد كانت الآيات فيما مرّ تعرّضت لحال أهل الكتاب عامّة بقوله:( إنّ الدين عند الله الإسلام ) آل عمران - ١٩ وبقوله:( ألم تر إلى الّذين اوتوا نصيباً من الكتاب ) آل عمران - ٢٣، ثمّ انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصّة بقوله:( إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً إلخ ) آل عمران - ٣٣ وتعرّضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله:( لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء ) آل عمران - ٢٨ فهذا في المرحلة البادئة.

ثمّ عادت إلى بيان ما ذكرته ثانياً بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرّضت لحال أهل الكتاب عامّة في هذه الآيات المنقولة آنفاً، وما سيلحق بذلك من متفرّقات بحسب مساس خصوصيّات البيانات بذلك كقوله:( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله إلخ ) آل عمران - ٩٨ وقوله:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن

٢٧٠

سبيل الله إلخ ) آل عمران - ٩٩ وتعرّضت لحال النصارى وما تدّعيه في أمر عيسى (عليه السلام) بقوله:( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلخ ) آل عمران - ٧٩ وتعرّضت لاُمور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الإسلام والاتّحاد والاتّقاء من ولاية الكفّار واتّخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرّقة.

قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) الخطاب لعامّة أهل الكتاب. والدعوة في قوله: تعالوا إلى كلمة إلخ بالحقيقة إنّما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به، وإنّما تنسب إلى الكلمة لتدلّ على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتّفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الإذعان والاعتراف والنشر والإشاعة. فالمعنى: تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه.

والسواء في الأصل مصدر، ويستعمل وصفاً بمعنى مساوي الطرفين، وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الأخذ والعمل بما توجبه، وعلي هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلّق وهو الأخذ والعمل، وقد عرفت أنّ العمل إنّما يتعلّق بمعنى الكلمة لا نفسها كما أنّ تعليق الاجتماع أيضاً على المعنى لا يخلو من عناية مجازيّة ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات: نسبة الاجتماع إلى المعنى ثمّ وضع الكلمة مكان المعنى ثمّ توصيف الكلمه بالسواء !

وربّما قيل: إنّ معنى كون الكلمة سواء أنّ القرآن والتوراة والإنجيل متّفقة في الدعوة إليها، وهي كلمة التوحيد. ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: أن لا نعبد إلّا الله الخ من قبيل وضع التفسير الحقّ موضع الكلمة المتّفق عليها والإعراض عمّا لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضيّ الّذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتّخاذ الابن والتثليث وعبادة الأحبار والقسّيسين والأساقفة. ويكون محصّل المعنى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهي التوحيد ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتّخاذ الأرباب من دون الله سبحانه.

٢٧١

والّذي تختم به الآية من قوله: فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون يؤيّد المعنى الأوّل فإنّ محصّل المعنى بالنظر إليه أنّه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلّا الله الخ لأنّها مقتضى الإسلام لله الّذى هو الدين عندالله، وإن كان الإسلام أيضاً لازماً من لوازم التوحيد لكنّ الدعوة في الآية إنّما هي إلى التوحيد العمليّ وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ) تفسير للكلمه السواء، وهي الّتي يوجبها الإسلام لله.

والمراد بقوله: أن لا نعبد إلّا الله نفى عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرّت الإشاره إليه في معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلّا الله): أنّ لازم كون إلّا الله بدلاً لا استثنائاً كون الكلام مسوقاً لبيان نفي الشريك دون إثبات الإله فإنّ القرآن يأخذ إثبات وجود الإله وحقّيّته مفروغاً عنه.

ولمّا كان الكلام مسوقاً لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادّة الشرك اللازم من اعتقاد البنوّة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله: ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ الخ فإنّ تسمية العبادة بعبادة الله لا تصيّر العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرّد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لأنّ العبادة حينئذ إنّما تكون عبادة إله له شريك، والعبادة الّتي يعبد بها أحد الشريكين وإن خصّ باسمه ووجّه نحوه ليست إلّا نابتة منبت التشريك لأنّها لا تعدو أن تكون سهماً يسهم له وحظّاً يقسّم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير.

وهذا الّذي يدعو إليه النبيّ بأمر الله سبحانه، وهو الّذي يدلّ عليه قوله: أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله هو الّذي يجمع عرض النبوّة في السيرة الّتي كانت الأنبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الإنسانيّ.

٢٧٢

فقد تقدّم عند الكلام على قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة ) البقرة - ٢١٣ أنّ النبوّة انبعاث إلهيّ ونهضة حقيقيّة يراد بها بسط كلمة الدين وأنّ حقيقة الدين تعديل المجتمع الإنسانيّ في سيره الحيويّ، ويتبعه تعديل حياة الإنسان الفرد فينزل بذلك الكلّ منزلته الّتي نزّله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرّيّة وسعادة التكامل الفطريّ على وجه العدل والقسط، وكذلك الفرد فهو فيه حرّ مطلق في الانتفاع من جهات الحياة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلّا ما يضرّ بحياة المجتمع وقد قيّد جميع ذلك بالعبوديّة والإسلام لله سبحانه، والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته.

وخلاصة ذلك أنّ الّذي كانت تندب إليه جماعة الأنبياء عليهم السلام أن يسير النوع الإنسانيّ فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد الّتي تقضي بوجوب تطبيق الأعمال الفرديّة والاجتماعيّة علي الإسلام لله، وبسط القسط والعدل أعني بسط التساوي في حقوق الحياة، والحرّيّة في الإرادة الصالحة والعمل الصالح.

ولا يتأتّى ذلك إلّا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحقّ واستخدام القوىّ واستعباده للضعيف وتحكّمه عليه وتعبّد الضعيف للقويّ فلا إله إلّا الله ولا ربّ إلّا الله ولا حكم إلّا لله سبحانه.

وهذا هو الّذى تدلّ عليه الآية:( أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله الآية ) وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف (عليه السلام):( يا صاحبي السجن أ أرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار ما تعبدون من دونه إلّا أسمائاً سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلّا لله أمر أن لا تعبدوا إلّا إيّاه ذلك الدين القيّم ) يوسف - ٤٠ وقال تعالى:( اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلّا هو ) التوبة - ٣١ إلى غير ذلك من الآيات.

٢٧٣

وفيما حكاه القرآن عن الأنبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام ممّا كلّموا به اُممهم شئ كثير من هذا القبيل كقول نوح:( ربّ إنّهم عصوني واتّبعوا من لم يزده ماله وولده إلّا خساراً ) نوح - ٢١ وقول هود لقومه:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبّارين ) الشعراء - ١٣٠ وقول صالح لقومه:( ولا تطيعوا أمر المسرفين ) الشعراء - ١٥١ وقول إبراهيم لأبيه وقومه:( ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) الأنبياء - ٥٤ وقوله تعالى لموسى وأخيه:( إذهبا إلى فرعون إنّه طغى - إلى أن قال -فأتياه فقولا إنّا رسولا ربّك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم ) طه - ٤٧ وقول عيسى لقومه:( ولاُبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه فاتّقوا الله وأطيعون ) الزخرف - ٦٣ فالدين الفطريّ هو الّذي ينفي البغي والفساد. وهذه المظالم والسلطات بغير الحقّ الهادمة لأساس السعادة والمخرّبة لبنيان الحقّ والحقيقة. وإلى ذلك يشير قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجّة الوداع: (وقد ذكره المسعوديّ في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب)( ألا وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ) وكأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الإسلام بينهم.

والكلام أعني قوله تعالى: أن لا نعبد إلّا الله الخ على كونه آخذاً بمجامع غرض النبوّة مفصح عن سبب الحكم وملاكه.

أمّا قوله: أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً فلأنّ الاُلوهيّة هي الّتي يأله إليه ويتولّه فيه كلّ شئ من كلّ وجه وهو أن يكون منشئاً لكلّ كمال في الأشياء على كثرتها وارتباطها واتّحادها في الحاجة وفيه كلّ كمال يفتاق إليه الأشياء وهذا المعنى لا يستقيم إلّا إذا كان واحداً غير كثير، ومالكاً إليه تدبير كلّ شئ فمن الواجب أن يعبد الله لأنّه إله واحد لا شريك له، ومن الواجب

٢٧٤

أن لا يتّخذ له شريك في عبادته. وبعبارة اُخرى هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصحّ ولا يجوز أن يخضع ويتصغّر إلّا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا ربّ لهم إلّا واحد إذ لا خالق لهم إلّا واحد.

وأمّا قوله تعالى: ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فمن حيث أفاد أنّ المجتمع الإنسانيّ على كثرة أفراده وتفرّق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والإيجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزّع بينهم على حدّ سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد وما تفاوت فيه أحوال الأفراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانيّة العامّة الّتي ظهرت في مظاهر خاصّة من هيهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الإنسانيّة لكن من حيث تسأله كما أنّ الازدواج والولادة والمعالجة مثلاً من مسائل الإنسانيّة العامّة لكنّ الّذي يعطي الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الاُنثى والولادة يعطاها الإنسان الاُنثى والعلاج يعطاه الإنسان المريض.

وبالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلّا أن يتحمّل ما يعادله، وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة وأمّا خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكلّ أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضيّة ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكّم بأن يؤخذ ربّاً متّبع المشيّة يحكم مطلق العنان، ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الإنسانيّة.

وأيضاً من حيث إنّ الربوبيّة ممّا يختصّ بالله لا ربّ سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرّف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتّخاذ ربّ من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.

فقد تبيّن أنّ قوله: ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله يفصح عن حجّتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضاً، والآخر كون الربوبيّة من خصائص الاُلوهيّة.

٢٧٥

قوله تعالى: ( فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) استشهاد بأنّهم (وهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن اتّبعه) على الدين المرضيّ عند الله تعالى وهو الإسلام. قال:( إنّ الدين عند الله الإسلام ) آل عمران - ١٩ فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجّة على الحقّ وأهله.

وفيه إشارة إلى أنّ التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.

قوله تعالى: ( يا أهل الكتاب لم تحاجّون في إبراهيم ) إلى آخر الآية الظاهر أنّه مقول القول الواقع في الآية السابقة وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن كان ظاهر سياق قوله: بعد آيتين: إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا الآية، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه.

ومحاجّتهم في إبراهيم (عليه السلام) بضمّ كلّ طائفة إيّاه إلى نفسها يشبه أن تكون أوّلاً بالمحاجّة لإظهار المحقّيّة كأن تقول اليهود: إنّ إبراهيم (عليه السلام) الّذي أثنى الله عليه في كتابه منّا فتقول النصارى: إنّ إبراهيم كان على الحقّ وقد ظهر الحقّ بظهور عيسى معه. ثمّ تتبدّل إلى اللجاج والعصبيّة فتدّعي اليهود أنّه كان يهوديّاً وتدّعي النصارى أنّه كان نصرانيّاً ومن المعلوم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة إنّما نشأتا جميعاً بعد نزول التوراة والإنجيل وقد نزلاً جميعاً بعد أبراهيم (عليه السلام). فكيف يمكن أن يكون (عليه السلام) يهوديّاً بمعنى المنتحل بالدين الّذي يختصّ بموسى (عليه السلام) ولا نصرانيّاً بمعنى المتعبّد بشريعة عيسى (عليه السلام) فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال: إنّه كان على الحقّ حنيفاً من الباطل إلى الحقّ مسلماً لله سبحانه، وهذه الآيات في مساق قوله تعالى:( أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من الله ) البقرة - ١٤٠.

قوله تعالى: ( ها أنتم هولاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم الآية ) . الآية تثبت لهم علماً في المحاجّة الّتي وقعت بينهم، وتنفي علماً وتثبته لله تعالى،

٢٧٦

ولذلك ذكر المفسّرون: أنّ المعنى: إنّكم حاججتم: في إبراهيم (عليه السلام) ولكم به علم ما كالعلم بوجوده ونبوّته فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديّاً أو نصرانيّاً والله يعلم وأنتم لا تعلمون. أو أنّ المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره، والمعنى أنّكم تحاجّون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجّون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً. هذا ما ذكروه.

وأنت تعلم أنّ شيئاً من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية: أمّا الأوّل فلأنّه لم تقع لهم محاجّة في وجود إبراهيم ونبوّته. وأمّا الثاني فلأنّ المحاجّة الّتي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في دعواهم فيه فكيف يمكن أن يسمّى محاجّة فيما لهم به علم وكلامه تعالى على أيّ حال يثبت منهم محاجّة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجّة فيما ليس لهم به علم، فما هذه المحاجّة الّتي هي فيما لهم به علم ؟ على أنّ ظاهر الآية أنّ هاتين إنّما جرتا جميعاً فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلّا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الّذي أهل الكتاب فيه على علم، وهو ظاهر.

والّذي ينبغي أن يقال - والله العالم - أنّ من المعلوم أنّ المحاجّة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف الّتي كانت بينهم، وعمدة ذلك نبوّة عيسى (عليه السلام) وما كانت تقوله النصارى في حقّه (إنّه الله، أو ابنه، أو التثليث) فكانت النصارى تحاجّ اليهود في بعثته ونبوّته وهم على علم منه وكانت اليهود تحاجّ النصارى، وتبطل اُلوهيّته ونبوّته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجّتهم فيما لهم به علم، وأمّا محاجّتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجّتهم في أمر إبراهيم أنّه كان يهوديّاً أو نصرانيّاً.

وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر، ولا ذهولهم عن أنّ السابق لا يكون تابعاً لللاحق فإنّه خلاف ما يدلّ عليه قوله تعالى: أفلا تعقلون فإنّه يدلّ على أنّ الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه، فهم عالمون بأنّه كان سابقاً على التوراة والإنجيل لكنّهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنّه لا يكون حينئذ يهوديّاً ولا نصرانيّاً بل على دين الله الّذي هو الإسلام لله.

٢٧٧

لكنّ اليهود مع ذلك قالوا: إنّ الدين الحقّ لا يكون إلّا واحداً وهو اليهوديّة فلا محالة كان إبراهيم يهوديّاً وقالت النصارى مثل ذلك فنصّرت إبراهيم وقد جهلوا في ذلك أمراً وليس بذهول وهو أنّ دين الله واحد وهو الإسلام لله وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرّجهم بالكمال واليهوديّة والنصرانيّة شعبتان من شعب كمال الإسلام الّذي هو أصل الدين والأنبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان لكلّ منهم موقعه فيما وضعه من الأساس وممّا بنا عليه من هذا البنيان الرفيع.

وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنّه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسّسا للإسلام وهو الدين الأصيل الحقّ ثمّ ظهور دين حقّ باسم اليهوديّة أو النصرانيّة وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً بل يكون مسلماً حنيفاً متلبّساً باسم الإسلام الّذي أسّسه وهو أصل اليهوديّة والنصرانيّة دون نفسهما، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.

وتسمية إبراهيم مسلماً لا يهوديّاً ولا نصرانيّاً غير عدّه تابعاً لدين النبيّ وشريعة القرآن ليرد الإشكال بأنّه كما كان متقدّماً على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغى أن يعدّ يهوديّاً أو نصرانيّاً كذلك كان متقدّماً على نزول القرآن وظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعدّ مسلماً (حذو النعل بالنعل).

وذلك أنّ الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمّديّ، والإسلام الّذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيّته فالإشكال غير متوجّه من أصله.

ولعلّ هذا الّذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل، وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرّجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى: والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديّاً الخ ويؤيّده قوله: إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه الآية، وقوله تعالى في ذيل الآيات:( قل آمنّا بالله وما اُنزل علينا وما اُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما اُوتى موسى وعيسى والنبيّون من

٢٧٨

ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه الآية ) آل عمران - ٨٥ على ما سيجيئ من البيان.

قوله تعالى: ( ما كان إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً ) إلى آخر الآية قد مرّ تفسيره فيما مرّ، وقد قيل: إنّ اليهود والنصارى كما كانوا يدّعون أنّ إبراهيم (عليه السلام) منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهليّة من الوثنيّة كانت تدّعي أنّهم على الدين الحنيف دين إبراهيم (عليه السلام) حتّى كان أهل الكتاب يسمّونهم الحنفاء، ويدعون بالحنيفيّة الوثنيّة.

ولمّا وصف الله سبحانه إبراهيم (عليه السلام) بقوله: ولكن كان حنيفاً وجب بيانه حتّى لا يتوهّم منه الوثنيّة فلذلك أردفه بقوله: مسلماً وما كان من المشركين أي كان على الدين المرضيّ عند الله تعالى وهو الإسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهليّة.

قوله تعالى: ( إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا ) الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحقّ في المقام والمعنى - والله العالم - أنّ هذا النبيّ المعظّم إبراهيم لو اُخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحقّ أن لا يعدّ تابعاً لمن بعده بل تعتبر الأولويّة به والأقربيّة منه والأقرب من النبيّ الّذي له شرع وكتاب هم الّذين يشاركونه في إتّباع الحقّ والتلبّس بالدين الّذي جاء به، والأولى بهذا المعنى بإبراهيم (عليه السلام) هذا النبيّ والّذين آمنوا لأنّهم (عليه السلام) الّذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كلّ من اتّبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحقّ بالباطل.

وفي قوله: للّذين اتّبعوه تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكنايه أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتّباعكم إيّاه في إسلامه لله.

وفي قوله: وهذا النبيّ والّذين آمنوا إفراد للنبىّ (عليه السلام) ومن اتّبعه من المؤمنين من الّذين اتّبعوا إبراهيم إجلالاً للنبيّ وصوناً لمقامه أن يطلق عليه الاتّباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى:( اُولئك الّذين هدى الله فبهداهم اقتده ) الأنعام - ٩٠ حيث لم يقل: فبهم اقتده.

٢٧٩

وقد تمّم التعليل والبيان بقوله: والله وليّ المؤمنين فإنّ ولاية إبراهيم (ولىّ الله) من ولاية الله، والله وليّ المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللّابسين الحقّ بالباطل.

قوله تعالى: ( ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يشعرون الطائفة الجماعة من الناس ) وكأنّ الأصل فيه أنّ الناس وخاصّه العرب كانوا أوّلاً يعيشون شعوباً وقبائل بدويّين يطوفون صيفاً وشتائاً بماشيتهم في طلب الماء والكلاء وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذّراً من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ثمّ اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعه.

وأمّا كون أهل الكتاب لا يضلّون إلّا أنفسهم فإن أوّل الفضائل الإنسانيّة الميل إلى الحقّ واتّباعه فحبّ صرف الناس عن الحقّ إلى الباطل من جهة أنّه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانيّة - وبئست الرذيلة - وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حقّ وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال فحبّهم لإضلال المؤمنين وهم على الحقّ إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون.

وكذا لو تمكّنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلّوه بذلك فإنّما يضلّون أوّلاً أنفسهم لأنّ الإنسان لا يفعل شيئاً من خير أو شرّ إلّا لنفسه كما قال تعالى:( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلّام للعبيد ) حم السجدة - ٤٦ وأمّا ضلال من ضلّ بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضالّ الغاوي وشآمة إرادته بإذن من الله. قال تعالى:( من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون ) الروم - ٤٤ وقال تعالى:( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض ومالكم من دون الله من ولىّ ولا نصير ) الشورى - ٣١ وقد مرّ شطر من الكلام في خواصّ الأعمال في الكلام على قوله تعالى:( حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ) البقرة - ٢١٧ في الجزء الثاني من الكتاب.

وهذا الّذي ذكرناه من المعارف القرآنيّة الّتي يفيدها التوحيد الأفعاليّ الّذي يتفرّع على شمول حكم الربوبيّة والملك وبه يوجّه ما يفيده قوله تعالى: وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يشعرون من الحصر.

٢٨٠