الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80558
تحميل: 5056


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80558 / تحميل: 5056
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من اليهود في أرض له، وفي بعضها أنّها نزلت في رجل من الكفّار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلاً من المسلمين فنزلت الآية.

وقد عرفت في البيان السابق أنّ ظاهر الآية أنّها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها. فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصّة دون النزول بالمعنى المعهود منه.

٣٠١

( سورة آل عمران الآيات ٧٩ - ٨٠)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِن دُونِ اللّهِ وَلكِن كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ( ٧٩) وَلاَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيِنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُركُمْ بالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُم مُسْلِمُونَ( ٨٠)

( بيان)

وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى (عليه السلام) يفيد أنّها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح ممّا يعتقده في حقّه أهل الكتاب من النصارى والكلام بمنزلة قولنا: إنّه ليس كما تزعمون فلا هو ربّ ولا أنّه ادّعى لنفسه الربوبيّة. أمّا الأوّل: فلأنّه مخلوق بشريّ حملته اُمّه ووضعته وربّته في المهد غير أنّه لا أب له كآدم عليهما السلام فمثله عند الله كمثل آدم. وأمّا الثاني: فلأنّه كان نبيّاً اُوتي الكتاب والحكم والنبوّة، والنبيّ الّذي هذا شأنه لا يعدو طور العبوديّة ولا يتعرّى عن زيّ الرقيّة فكيف يتأتّى أن يقول للناس اتّخذوني ربّاً وكونوا عباداً لي من دون الله، أو يجوّز ذلك في حقّ غيره من عباد الله من ملك أو نبيّ فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحقّ، أو ينفي عن نبيّ من الأنبياء ما أثبت الله في حقّه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحقّ.

قوله تعالى: ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) البشر مرادف للإنسان، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أنّ الجماعة منه بشر.

٣٠٢

وقوله: ما كان لبشر اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحقّ كقوله تعالى:( ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا ) النور - ١٦ وقوله:( وما كان لنبيّ أن يغلّ ) آل عمران - ١٦١.

وقوله تعالى: أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة اسم كان إلّا أنّه توطئة لما يتبعه من قوله: ثمّ يقول للناس. وذكر هذه التوطئة مع صحّة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله: ما كان لبشر فإنّه لو قيل: ما كان لبشر أن يقول للناس كان معناه أنّه لم يشرّع له هذا الحقّ وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتوّاً ولكنّه إذا قيل: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول كان معناه أنّ إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربّانيّة لا يدعه أن يعدو طور العبوديّة، ولا يوسّع له أن يتصرّف فيما لا يملكه ولا يحقّ له كما يحكيه تعالى عن عيسى (عليه السلام) في قوله:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ ) المائدة - ١١٦.

ومن هنا تظهر النكتة في قوله: أن يؤتيه الله الخ دون أن يقال: ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول الخ فإنّ العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدّم بخلاف قوله: أن يؤتيه الله الخ فإنّه يفيد أنّ ذلك غير ممكن البتّة أي أنّ التربية الربّانيّة والهداية الإلهيّة لا تتخلّف عن مقصدها كما قال تعالى:( اُولئك الّذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة فإن يكفر بها هؤلاء (يعني قوم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم))فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ) الأنعام - ٨٩.

فمحصّل المعنى أنّه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهيّة وبين دعوة الناس إلى عبادد نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوّة ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون - إلى أن قال -وأمّا الّذين استنكفوا واستكبروا فيعذّبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً ) النساء -

٣٠٣

١٧٣ فإنّ المستفاد من الآية: أنّ المسيح وكذا الملائكة المقرّبون أجلّ شأناً وأرفع قدراً أن يستنكفوا عن عبادة الله فإنّ الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب وحاشا أن يعذّب الله كرام أنبيائه ومقرّبي ملائكته.

فإن قلت: الإتيان بثمّ الدالّة على التراخي في قوله: ثمّ يقول للناس ينافي الجمع الّذي ذكرته.

قلت: ما ذكرناه من معنى الجمع محصّل المعنى، وكما يصحّ اعتبار الاجتماع والمعيّة بين المتّحدين زماناً كذلك يصحّ اعتباره بين المترتّبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.

وأمّا قوله: كونوا عباداً لي من دون الله فالعباد كالعبيد جمع عبد والفرق بينهما أنّ العباد يغلبّ استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه يقال: عباد الله، ولا يقال: غالباً عباد الناس بل عبيد الناس. وتقييد قوله: عباداً لي بقوله: من دون الله تقييد قهريّ فإنّ الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلّا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى:( ألا لله الدين الخالص والّذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار ) الزمر - ٣ فرّد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتّى بعنوان التقرّب والتوسّل والاستشفاع.

على أنّ حقيقة العبادة لاتتحقّق إلّا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتّى في صورة الإشراك فإنّ الشريك من حيث إنّه شريك مساهم ذو استقلال مّا، والله سبحانه له الربوبيّة المطلقة فلا يتمّ ربوبيّته ولا تستقيم عبادته إلّا مع نفي الاستقلال عن كلّ شئ من كلّ جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه.

قوله تعالى: ( ولكن كونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) الربّانيّ منسوب إلي الربّ زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحيانيّ لكثير اللحية ونحو ذلك فمعنى الربّانيّ شديد الاختصاص بالربّ وكثير

٣٠٤

الاشتغال بعبوديّته وعبادته، والباء في قوله: بما كنتم للسببيّة، وما مصدريّة، والكلام بتقدير القول والمعنى: ولكن يقول: كونوا ربّانيّين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إيّاه فيما بينكم.

الدراسة أخصّ من التعليم فإنّه يستعمل غالباً فيما يتعلّم عن الكتاب بقرائته. قال الراغب: درس الدار بقي أثرها، وبقاء الأثر يقتضي انمحائه في نفسه فلذلك فسّر الدروس بالانمحاء وكذا درس الكتاب، ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، لمّا كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبّر عن إدامة القرائة بالحفظ قال تعالى: ودرسوا ما فيه، وقال: بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، وما آتيناهم من كتب يدرسونها. انتهى.

ومحصّل الكلام أنّ البشر الّذي هذا شأنه إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الّذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة، والاتّصاف والتحقّق بالملكات والأخلاق الفاضلة الّتي يشتمل عليها، والعمل بالصالحات الّتي تدعون الناس إليها حتّى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم، وتكونوا به علماء ربّانيّين.

وقوله: بما كنتم حيث اشتمل على الماضي الدالّ على التحقّق لا يخلو عن دلالة ما على أنّ الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إنّ عيسى أخبرهم بأنّه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوّة، وذلك أنّ بني إسرائيل هم الّذين كان في أيديهم كتاب سماويّ يعلّمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافاً يصاحب التغيير والتحريف. وما بعث عيسى (عليه السلام) إلّا ليبيّن لهم بعض ما اختلفوا فيه، وليحلّ بعض الّذي حرّم عليهم. وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربّانيّين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه.

والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بوجه فقد كانت لدعوته أيضاً مساس بأهل الكتاب الّذين كانوا يعلّمون ويدرسون كتاب الله لكنّ عيسى (عليه السلام) أسبق انطباقاً عليه، وكانت رسالته خاصّة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

٣٠٥

وأمّا سائر الأنبياء العظام من اُولي العزم والكتاب: كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً ) عطف على قوله يقول: على القرائة المشهورة الّتي هي نصب ولا يأمركم، وهذا كما كان طائفة(١) من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينيّة. وكعرب الجاهليّة حيث كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله، وهم يدّعون أنّهم على دين إبراهيم (عليه السلام). هذا في إتّخاذ الملائكة أرباباً.

وأمّا إتّخاذ النبيّين أرباباً فكقول اليهود: عزير ابن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوّز لهم موسى (عليه السلام) ذلك، ولا وقع في التوراة إلّا توحيد الربّ ولو جوّز لهم ذلك لكان أمراً به حاشاه من ذلك.

وقد اختلفت الآيتان: أعني قوله: ثمّ يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله وقوله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً من جهتين في سياقهما: الأولى: أنّ المأمور في الاُولى (ثمّ يقول للناس) الناس وفي الثانية هم المخاطبون بالآية. والثانية: أنّ المأمور به في الاُولى العبوديّة له وفي الثانية الاتّخاذ أرباباً.

أمّا الاُولى فحيث كان الكلام مسوقاً للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى، وقولهم باُلوهيّته صريحاً مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنّه قال: كونوا عباداً لي بخلاف اتّخاذ الملائكة والنبيّين أرباباً بالمعنى الّذي قيل في غير عيسى فإنّه يضاد الاُلوهيّة بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أرباباً ولم يقل: آلهة.

وأمّا الثانية فالوجه فيه أنّ التعبيرين كليهما (كونوا عباداً لي يأمركم أن تتّخذوا) أمر لو تعلّق بأحد تعلّق بهؤلاء الّذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكنّ التعبير لمّا وقع في الآية الاُولى بالقول والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: ثمّ يقول للناس ولم يقل: ثمّ يقول لكم وهذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنّه لا يستلزم شفاهاً بل يتمّ مع الغيبة فإنّ الأمر المتعلّق بالأسلاف متعلّق بالأخلاف مع حفظ الوحدة

____________________

(١) وهولاء هم من المجوس صبوا الي اليهودية فاتّخذو ديناًَ متوسطاً بين الدينين و المجوس كانوا يعظّمون الملائكة و يخضعون لهم

٣٠٦

القوميّة. وأمّا القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلّا أن يعني به مجرّد معنى التفهيم.

وعلى هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع، كما جرى عليه قوله تعالى: أو يأمركم إلى آخر الآية.

قوله تعالى: ( ولا يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) ظاهر الخطاب أنّه متعلّق بجميع المنتحلين بالنبوّة من أهل الكتاب أو المدّعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت عرب الجاهليّة تزعم أنّهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنّكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الّذي اوتي الكتاب والحكم والنبوّة تكونون مسلمين لله متحلّين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلّكم عن السبيل الّذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالإسلام هو دين التوحيد الّذي هو دين الله عند جميع الأنبياء على ما يدلّ عليه أيضاً احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله تعالى من قبل:( إنّ الدين عند الله الإسلام ) آل عمران - ١٩ وقوله تعالى من بعد:( أفغير دين الله يبغون - إلى أن قال -ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) آل عمران - ٨٥.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بناءً على ما روي في سبب النزول وحاصله: أنّ أبارافع القرظيّ ورجلاً من نصارى نجران قالا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اُتريد أن نعبدك يا محمّد؟ فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثمّ أيّده بقوله في آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون فإنّ الإسلام هو الدين الّذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

وفيه أنّه خلط بين الإسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الّذي بعث به جميع الأنبياء وبين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول وقد تقدّم الكلام فيه.

٣٠٧

( خاتمة فيها فصول)

١ - ما هي قصّة عيسى واُمّه في القرآن ؟

كانت اُمّ المسيح مريم بنت عمران حملت بها اُمّها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا وضعته محرّراً يخدم المسجد وهي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلمّا وضعتها وبان لها أنّها اُنثى حزنت وتحسّرت ثمّ سمّتها مريم أي الخادمة وقد كان توفّي أبوها عمران قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلّمها للكهنة وفيهم زكريّا فتشاجروا في كفالتها ثمّ اصطلحوا على القرعة وساهموا فخرج لزكريّا فكفّلها حتّى إذا أدركت ضرب لها من دونهم حجاباً فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلّا زكريّا وكلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت هو من عند الله. والله يرزق من يشاء بغير حساب. وقد كانت عليها السلام صدّيقة، وكانت معصومة بعصمة الله، طاهرة مصطفاة محدّثة حدّثها الملائكة: بأنّ الله اصطفاها وطهّرها وكانت من القانتين ومن آيات الله للعالمين (سورة آل عمران آية ٣٥ - ٤٤، سورة مريم آية ١٦، سورة الأنبياء آية ٩١، سورة التحريم آية ١٢).

ثمّ إنّ الله تعالى أرسل إليها الروح وهي محتجبة فتمثّل لها بشراً سويّاً، وذكر لها أنّه رسول من ربّها ليهب لها بإذن الله ولداً من غير أب، وبشّرها بما سيظهر من ولدها من المعجزات الباهرة، وأخبرها أنّ الله سيؤيّده بروح القدس، ويعلّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ورسولاً إلى بني إسرائيل ذا الآيات البيّنات وأنبأها بشأنه وقصّته ثمّ نفخ الروح فيها. فحملت بها حمل المرأة بولدها (الآيات من آل عمران ٣٥ - ٤٤).

ثمّ انتبذت مريم به مكاناً قصيّاً فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريّاً وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيّاً فكلي واشربي وقرّي

٣٠٨

عيناً فإمّا تريّن من البشر أحداً فقولي إنّي نذرت للرحمن صوماً فلن اُكلّم اليوم إنسيّاً فأتت به قومها تحمله (سورة مريم آية ٢٠ - ٢٧). وكان حمله ووضعه وكلامه وسائر شؤون وجوده من سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.

فلمّا رآها قومها - والحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة واللوم بما يشهد به حال امرأة حملت ووضعت من غير بعل. وقالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريّاً يا اُخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت اُمّك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيّاً؟ قال: إنّي عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيّاً وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً. والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً (سورة مريم آية ٢٧ - ٣٣) فكان هذا الكلام منه (عليه السلام) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض على البغي والظلم وإحياء شريعة موسى (عليه السلام) وتقويمه وتجديد ما اندرس من معارفه وبيان ما اختلفوا فيه من آياته.

ثمّ نشأ عيسى (عليه السلام) وشبّ، وكان هو واُمّه على العادة الجارية في الحياة البشريّة يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوأرض الوجود إلى آخر ما عاشا.

ثمّ إنّ عيسى (عليه السلام) اُوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين التوحيد، ويقول: إنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله واُبرئ الأكمه والأبرص واُحيي الموتى بإذن الله واُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم. إنّ في ذلك لآية لكم. إنّ الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه.

وكان يدعوهم إلى شريعته الجديدة وهو تصديق شريعة موسى (عليه السلام) إلّا أنّه نسخ بعض ما حرّم في التوراة تشديداً على اليهود. وكان يقول: إنّي جئتكم بالحكمة ولأبيّن لكم بعض الّذي تختلفون فيه. وكان يقول: يا بني إسرائيل إنّي رسول الله

٣٠٩

إليكم مصدّقاً لما بين يدّي من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.

وأنجز (عليه السلام) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيّبات بإذن الله.

ولم يزل يدعوهم إلى توحيد الله وشريعته الجديدة حتّى أيس من إيمانهم لما شاهد من عتوّ القوم وعنادهم واستكبار الكهنة والأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة الّتي آمنت به الحواريّين أنصاراً له إلى الله.

ثمّ إنّ اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوّفاه الله ورفعه إليه، وشبّه لليهود: فمن زاعم أنّهم قتلوه. ومن زاعم أنّهم صلبوه، ولكن شبّه لهم (آل عمران آية ٤٥ -٥٨، الزخرف آية ٦٣ - ٦٥، الصفّ آية ٦ و ١٤، المائدة آية ١١٠ و ١١١، النساء آية ١٥٧ و ١٥٨) فهذه جمل ما قصّه القرآن في عيسى بن مريم واُمّه.

٢- منزلة عيسى عندالله وموقفه في نفسه :

كان (عليه السلام) عبداً لله وكان نبيّاً (سورة مريم آية ٣٠) وكان رسولاً إلى بني إسرائيل (آل عمران آية ٤٩) وكان واحداً من الخمسة اُولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل (الأحزاب آية ٧، الشورى آية ١٣، المائدة آية ٤٦) وكان سمّاه الله بالمسيح عيسى (آل عمران آية ٤٥) وكان كلمة لله وروحاً منه (النساء آية ١٧١) وكان إماماً (الاحزاب آية ٧) وكان من شهداء الأعمال (النساء آية ١٥٩، المائدة آية ١١٧) وكان مبشّراً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (الصفّ آية ٦) وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين (آل عمران آية ٤٥) وكان من المصطفين (آل عمران آية ٣٣) وكان من المجتبين وكان من الصالحين (الانعام آية ٨٥-٨٧) وكان مباركاً أينما كان، وكان زكيّاً وكان آية للناس ورحمة من الله وبرّاً بوالدته وكان مسلّماً عليه (مريم آية ١٩ - ٣٣) وكان ممّن علّمه الله الكتاب والحكمة (آل عمران آية ٤٨) فهذه اثنتان وعشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به هذا النبيّ المكرّم ورفع بها قدره، وهي على قسمين: اكتسابيّة كالعبوديّة

٣١٠

والقرب والصلاح. واختصاصيّة. وقد شرحنا كلّاً منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانّها منه.

٣- ما الّذي قاله عيسى (عليه السلام)؟ وما الّذي قيل فيه؟

ذكر القرآن أنّ عيسى كان عبداً رسولاً وأنّه لم يدّع لنفسه ما نسبوه إليه، ولا تكلّم معهم إلّا بالرسالة كما قال تعالى:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنّك أنت علّام الغيوب. ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به: أن اعبدوا الله ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) المائدة ١١٦ - ١١٩.

وهذا الكلام العجيب الّذي يشتمل من العبوديّة على عصارتها، ويتضمّن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عمّا كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه تلقاء ربوبيّة ربّه وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنّه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربّه عبداً لا شأن له إلّا الامتثال لا يرد إلّا عن أمر، ولا يصدر إلّا عن أمر، ولم يؤمر إلّا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلّا ما اُمر به: أن اعبدوا الله ربّي وربّكم.

ولم يكن له من الناس إلّا تحمّل الشهادة على أعمالهم فحسب. وأمّا ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك غفر أو عذّب.

فإن قلت: فما معنى ما تقدّم في الكلام على الشفاعة: أنّ عيسى (عليه السلام) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفّع؟.

قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك. قال تعالى:( ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشفاعة إلّا من شهد بالحقّ وهم يعلمون ) الزخرف - ٨٦ وقد قال تعالى:( فيه ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩ وقال تعالى:( وإذ علّمتك

٣١١

الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) المائدة - ١١٠ وقد تقدّم إشباع الكلام في معنى الشفاعة، وهذا غير التفدية الّتي يقول بها النصارى، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض فإنّها تبطل السلطنة المطلقة الإلهيّة على ما سيجئ من بيانه، والآية إنّما تنفي ذلك. وأمّا الشفاعة فالآية غير متعرّضة لأمرها لا إثباتاً ولا نفياً فإنّها لو كانت بصدد إثباتها - على منافاته(١) للمقام - لكان حقّ الكلام أن يقال: وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه. وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إنشاء الله تعالى.

وأمّا ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام) فإنّهم وإن تشتّتوا في مذاهبهم بعده، واختلفوا في مسالكهم بما ربّما جاوز السبعين من حيث كلّيّات ما اختلفوا فيه. وجزئيّات المذاهب والآراء كثيرة جدّاً.

لكنّ القرآن إنّما يهتمّ بما قالوا به في أمر عيسى نفسه واُمّه لمساسه بأساس التوحيد الّذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطريّ القويم. وأمّا بعض الجزئيّات كمسألة التحريف ومسألة التفدية فلم يهتمّ به ذاك الاهتمام.

والّذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبة إليهم ما في قوله تعالى:( وقالت النصارى المسيح ابن الله ) التوبة - ٣٠ وما في معناه كقوله تعالى:( وقالوا اتّخذ الرحمن ولداً سبحانه ) الأنبياء - ٢٦ وما في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم ) المائدة - ٧٢ وما في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة ) المائدة - ٧٣ وما في قوله تعالى:( ولا تقولوا ثلاثة ) النساء - ١٧١.

وهذه الآيات وإن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين ومعان متفاوتة، ولذلك ربّما حملت(٢) على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانيّة

____________________

(١) فإنّ المقام مقام التذلّل دون الاسترسال.

(٢) كما فعله الشهرستانيّ في الملل والنحل.

٣١٢

القائلين بالبنوّة الحقيقيّة، والنسطوريّة القائلين بأنّ النزول والبنوّة من قبيل إشراق النور على جسم شفّاف كالبلّور، واليعقوبيّة القائلين بأنّه من الانقلاب، وقد انقلب الإله سبحانه لحماً ودماً.

لكنّ الظاهر أنّ القرآن لا يهتمّ بخصوصيّات مذاهبهم المختلفة، وإنّما يهتمّ بكلمة واحدة مشتركة بينهم جميعاً وهو البنوّة، وأنّ المسيح من سنخ الإله سبحانه، وما يتفرّع عليه من حديث التثليث وإن اختلفوا في تفسيرها اختلافاً كثيراً، وتعرّقوا في المشاجرة والنزاع، والدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن لساناً.

بيان ذلك: أنّ التوراة والأناجيل الحاضرة جميعاً تصرّح بتوحيد الإله تعالى، من جانب، والإنجيل يصرّح بالبنوّة من جانب آخر، وصرّح بأنّ الابن هو الأب لا غير.

ولم يحملوا البنوّة الموجودة فيه على التشريف والتبريك مع ما في موارد منه من التصريح بذلك كقوله:( وأنا أقول لكم أحبّوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى من أبغضكم وصلوا على من يطردكم ويعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم الّذي في السماوات لأنّه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار والممطر على الصدّيقين والظالمين وإذا أحببتم من يحبّكم فأيّ أجر لكم؟ أليس العشّارون يفعلون كذلك؟ وإن سلّمتم على إخوتكم فقطّ فأيّ فضل لكم؟ أليس كذلك يفعل الوثنيّون كونوا كاملين مثل أبيكم السماوئيّ فهو كامل) آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متّى.(١)

وقوله أيضاً:( فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الّذي في السماوات) إنجيل متّى - الإصحاح الخامس.

وقوله أيضاً: لا تصنعوا جميع مراحمكم قدّام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند أبيكم الّذي في السماوات.

____________________

(١) النسخة العربيّة المطبوعة سنة ١٨١١ مسيحيّة وعنها ننقل جميع ما ننقله في هذا البحث عن كتب العهد العربيّة.

٣١٣

وقوله أيضاً في الصلاة:( وهكذا تصلّون أنتم يا أبانا الّذي في السماوات يتقدّس اسمك) إلخ.

وقوله أيضاً:( فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السماييّ خطاياكم) كلّ ذلك في الإصحاح السادس من إنجيل متّى.

وقوله:( وكونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم) إنجيل لوقا - الإصحاح السادس.

وقوله لمريم المجدليّة:( إمضي إلى إخوتي وقولي لهم: إنّي صاعد إلى أبي الّذي هو أبوكم وإلهي الّذي هو إلهكم) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العشرون.

فهذه وأمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى وتقدّس بالنسبة إلى عيسى وغيره جميعاً كما ترى بعناية التشريف ونحوه.

وإن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أنّ هذه البنوّة والأبوّة نوع من الاستكمال المؤدّي إلى الاتّحاد كقوله:( تكلّم اليسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء فقال: يا أبة قد حضرت الساعة فمجّد ابنك ليمجّدك ابنك) ثمّ ذكر دعائه لرسله من تلامذته ثمّ قال:( ولست أسأل في هؤلاء فقط بل وفي الّذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بجمعهم واحداً كما أنّك يا أبت ثابت فيّ وأنا أيضاً فيك ليكونوا أيضاً فينا واحداً ليؤمن العالم أنّك أرسلتني وأنا أعطيتهم المجد الّذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن واحد أنا فيهم وأنت فيّ ويكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنّك أرسلتني وأنّني أحببتهم كما أحببتني) إنجيل يوحنّا - الإصحاح السابع عشر.

لكن وقع فيها أقاويل يتأبّى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف ونحوه كقوله:( قال له توما: يا سيّد ما نعلم أين تذهب؟ وكيف نقدر ان نعرف الطريق؟ قال له يسوع: أنا هو الطريق والحقّ والحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلّا بي لو كنتم تعرفونني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه أيضاً قال له فيلبس: يا سيّد أرنا الأب وحسبنا. قال له يسوع: أنا معكم كلّ هذا الزمان ولم تعرفني يا فيلبس؟ من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت: أرنا الأب؟ أما تؤمن أنّي في أبي وأبي فيّ وهذا

٣١٤

الكلام الّذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحالّ فيّ هو يفعل هذه الأفعال آمنوا بي، أنا في أبي وأبي فيّ) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الرابع عشر.

وقوله:( لكنّي خرجت من الله وجئت ولم آت من عندي بل هو أرسلني) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثامن.

وقوله:( أنا وأبي واحد نحن) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العاشر.

وقوله لتلامذته:( اذهبوا وتلمّذوا كلّ الاُمم وعمّدوهم(١) باسم الأب والابن وروح القدس) إنجيل متّى - الإصحاح الثامن والعشرون.

وقوله:( في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، والله كان الكلمة منذ البدء كان هذا عند الله كلّ به كان وبغيره لم يكن شئ ممّا كان به كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس) إنجيل يوحنّا - الإصحاح الأوّل.

فهذه الكلمات وما يماثلها ممّا وقع في الأنجيل هي الّتي دعت النصارى إلى القول بالتثليث في الوحدة.

والمراد به حفظ (أنّ المسيح ابن الله) مع التحفّظ على التوحيد الّذي نصّ عليه المسيح في تعليمه كما في قوله:( إنّ أوّل كلّ الوصايا: اسمع يا إسرائيل الربّ إلهك إله واحد هو) إنجيل مرقس - الإصحاح الثاني عشر.

ومحصّل ما قالوا به (وإن كان لا يرجع إلى محصّل معقول): أنّ الذات جوهر واحد له أقانيم ثلاث، والمراد بالاقنوم هو الصفة الّتي هي ظهور الشئ وبروزه وتجلّيه لغيره وليست الصفة غير الموصوف، والأقانيم الثلاث هي: اُقنوم الوجود واُقنوم العلم، وهو الكلمة. واُقنوم الحياة وهو الروح.

وهذه الأقانيم الثلاث هي: الأب والابن والروح القدس: والأوّل اُقنوم الوجود. والثاني اُقنوم العلم والكلمة، والثالث اُقنوم الحياة فالابن وهو الكلمة واُقنوم

____________________

(١) التعميد نوع من التغسيل عند النصارى يتطهّر به المغتسل من الذنوب وهو من فرائض الكنيسة.

٣١٥

العلم نزل من عند أبيه وهو اُقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس وهو اُقنوم الحياة الّتي بها يستنير الأشياء.

ثمّ اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافاً عظيماً أوجب تشتّتهم وانشعابهم شعباً ومذاهب كثيرة تجاوز السبعين، وسيأتيك نبأها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.

إذا تأمّلت ما قدّمناه عرفت: أنّ ما يحكيه القرآن عنهم، أو ينسبه إليهم بقوله:( وقالت النصارى المسيح ابن الله الآية ) وقوله:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم الآية ) وقوله:( لقد كفر الّذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة الآية ) وقوله:( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا الآية ) كلّ ذلك يرجع إلى معنى واحد (وهو تثليث الوحدة) هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانيّة. وهو الّذي قدّمناه في معنى تثليث الوحدة.

وإنّما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأنّ الّذي يرد على أقوالهم في خصوص المسيح (عليه السلام) على كثرتها وتشتّتها ممّا يحتجّ به القرآن أمر واحد يرد على وتيرة واحدة كما سيتّضح.

٤- احتجاج القرآن على مذهب التثليث.

يرد القرآن في الاحتجاج، ويردّ قول المثلّثة من طريقين:أحدهما: الطريق العامّ وهو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره.الثاني: الطريق الخاصّ وهو بيان أنّ عيسى بن مريم ليس ابناً إلهاً بل عبد مخلوق.

أمّا الطريق الأوّل فتوضيحه أنّ حقيقة البنوّة والتولّد هو أن يجزّء واحد من هذه الموجودات الحيّة المادّيّة كالإنسان والحيوان بل النبات أيضاً شيئاً من مادّة نفسه ثمّ يجعله بالتربية التدريجيّة فرداً آخر من نوعه مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواصّ والآثار ما كان يترتّب على المجزّى منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة،

٣١٦

والنبات يفصل من نفسه اللقاح ثمّ يأخذ في تربيته تدريجاً حتّى يصيّره حيواناً أو نباتاً آخر مماثلاً لنفسه ومن المعلوم أنّ الله سبحانه يمتنع عليه ذلك:أمّا أوّلا فلاستلزامه الجسميّة المادّيّة، والله سبحانه منزّه من المادّة ولوازمها الافتقاريّة كالحركة والزمان والمكان وغير ذلكوأمّا ثانياً فلأنّ الله سبحانه لإطلاق اُلوهيّته وربوبيّته له القيّوميّة المطلقة على ما سواه فكلّ شئ سواه مفتقر الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شئ غيره يماثله في النوعيّة يستقلّ عنه بنفسه، ويكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له من غير افتقار إليه.وأمّا ثالثاً فلأنّ جواز الإيلاد والاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل التدريجيّ عليه تعالى، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف بل ما يقع بإرادته ومشيّته تعالى إنّما يقع من غير مهلة وتدريج.

وهذا البيان هو الّذي يفيده قوله تعالى:( وقالوا اتّخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ) البقرة - ١١٧ وعلى ما قرّبناه فقوله: سبحانه برهان، وقوله: له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون برهان آخر، وقوله: بديع السماوات والأرض إذا قضى إلخ برهان ثالث.

ويمكن أن يجعل قوله: بديع السماوات والأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها، ويستفاد منه أنّ خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنّه خلق على مثال نفسه لأنّ مفروضهم العينيّة فيكون هذه الفقرة وحدها برهاناً آخر.

ولو فرض قولهم: اتّخذ الله ولداً كلاماً ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه التوسّع في معنى الابن والولد بأن يراد به انفصال شئ عن شئ يماثله في الحقيقة من غير تجزّ مادّيّ أو تدريج زمانيّ (وهذا هو الّذي يرومه النصارى بقولهم: المسيح ابن الله بعد تنقيحه) ليتخلّص بذلك عن إشكال الجسميّة والمادّيّة والتدريج بقي إشكال المماثلة.

٣١٧

توضيحه أنّ إثبات الابن والأب إثبات للعدد بالضرورة وهو إثبات للكثرة الحقيقيّة وإن فرضت الوحدة النوعيّة بين الأب والابن كالأب والابن من الإنسان هما واحد في الحقيقة الإنسانيّة وكثير من حيث إنّهما فردان من الإنسان وعلى هذا فلو فرض وحدة الإله كان كلّ ما سواه ومن جملتها الابن غيراً له مملوكاً مفتقراً إليه فلا يكون الابن المفروض إلهاً مثله ولو فرض ابن مماثل له غير مفتقر إليه بل مستقلّ مثله بطل التوحيد في الإله عزّ اسمه.

وهذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى:( ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنّما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً ) النساء - ١٧١.

وأمّا الطريق الثاني وهو بيان أنّ شخص عيسى بن مريم (عليه السلام) ليس ابناً لله مشاركاً له في الحقيقة الإلهيّة فلمّا كان فيه من البشريّة ولوازمها.

وتوضيحه أنّ المسيح (عليه السلام) حملت به مريم، وربّته جنيناً في رحمها، ثمّ وضعته وضع المرأة ولدها، ثمّ ربّته كما يتربّى الولد في حضانة اُمّه، ثمّ أخذ في النشوء وقطع مراحل الحياة والارتقاء في مدارج العمر من الصبا والشباب والكهولة. وفي جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعيّ في حياته يعرضه من العوارض والحالات ما يعرض الإنسان: من جوع وشبع، وسرور ومسائة، ولذّة وألم، وأكل وشرب، ونوم ويقظة، وتعب وراحة، وغير ذلك.

فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام) حين مكثه بين الناس ولا يرتاب ذو عقل أنّ من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسيّ من نوعه وإذا كان كذلك فهو مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه وأمّا صدور الخوارق وتحقّق المعجزات بيده كإحياء الأموات وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص وكذا تحقّق الخوارق من الآيات في وجوده كتكوّنه من غير أب فإنّما هي اُمور خارقة للعادة المألوفة والسنّة الجارية في الطبيعة فإنّها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماويّة

٣١٨

أنّه خلق من تراب ولا أب له، وهؤلاء أنبياء الله كصالح وإبراهيم وموسى عليهم السلام جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي فيهم اُلوهيّة ولا خروجاً عن طور الإنسانيّة.

وهذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلّا إله واحد - إلى أن قال -ما المسيح بن مريم إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل واُمّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثمّ انظر أنّى يؤفكون ) المائدة - ٧٥ وقد خصّ أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر لكونه من أحسنها دلالة على المادّيّة واستلزاماً للحاجة والفاقة المنافية للاُلوهيّة فمن المعلوم أنّ من يجوع ويظمأ بطبعه ثمّ يشبع بأكله أو يرتوى بشربة ليس عنده غير الحاجة والفاقة الّتي لا يرفعها إلّا غيره وما معنى اُلوهيّة من هذا شأنه؟ فإنّ الّذي قد أحاطت به الحاجة واحتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه فهو ناقص في نفسه مدبّر بغيره، وليس بإله غنيّ بذاته بل هو مخلوق مدبّر بربوبيّة من ينتهي إليه تدبيره.

وإلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم واُمّه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كلّ شئ قدير ) المائدة - ١٧.

وكذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقاً (آية ٧٥) خطاباً للنصارى:( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً والله هو السميع العليم ) المائدة - ٧٦.

فإنّ الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أنّ الّذي شوهد من أمر المسيح أنّه كان يعيش على الناموس الجاري في حياة الإنسان متّصفاً بجميع صفاته وأفعاله وأحواله النوعيّة كالأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانيّة والخواصّ البشريّة ولم يكن هذا التلبّس والاتّصاف بحسب ظاهر الحسّ أو تسويل الخيال فحسب بل كان على الحقيقة وكان المسيح (عليه السلام) إنساناً ذا هذه الأوصاف والأحوال والأفعال

٣١٩

والأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنساناً وابن الإنسان مملوئة بالقصص الناطقة بأكله وشربه ونومه ومشيه ومسافرته وتعبه وتكلّمه ونحو ذلك بحيث لا يقبل شئ منها صرفاً ولا تأويلاً. ومع تسليم هذه الاُمور يجري على المسيح ما يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئاً كغيره، ويمكن أن يهلك كغيره.

وكذا حديث عبادته ودعائه بحيث لا يرتاب في أنّ ما كان يأتيه من عبادة فإنّما للتقرّب من الله والخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض اُخر تشابه ذلك.

وإلى حديث العبادة والاحتجاج به يؤمي قوله تعالى:( لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقرّبون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً ) النساء - ١٧٢ فعبادة المسيح أوّل دليل على أنّه ليس بإله وأنّ الاُلوهيّة لغيره لا نصيب له فيها فأيّ معنى لنصب الشئ نفسه في مقام العبوديّة والمملوكيّة لنفسه؟ وكون الشئ قائماً بنفسه من عين الجهة الّتي بها يقوم نفسه والأمر ظاهر وكذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنّها ليست ببنات الله سبحانه ولا أنّ روح القدس إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى:( وقالوا اتّخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) الأنبياء - ٢٨.

على أنّ الأناجيل مشحونة بأنّ الروح طائع لله ورسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم ولا معنى لأمر الشئ نفسه ولا لطاعته لذاته ولا لانقياده وائتماره لمخلوق نفسه.

ونظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة الله كما يشير إليه قوله تعالى:( لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) المائدة - ٧٢ وسبيل الآية واحتجاجها ظاهر.

٣٢٠