الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80561
تحميل: 5056


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80561 / تحميل: 5056
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والأناجيل أيضاً مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه، وهي وإن لم تشتمل على هذا اللفظ الجامع (اعبدوا الله ربّي وربّكم) لكنّها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله وعلى اعترافه بأنّه ربّه الّذي بيده زمام أمره وعلى اعترافه بأنّه ربّ الناس ولا تتضمّن دعوته إلى عبادة نفسه صريحاً ولا مرّة مع ما فيها من قوله:( أنا وأبي واحد نحن) إنجيل يوحنّا - الإصحاح العاشر. فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحّته على أنّ المراد: أنّ إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم:( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) النساء - ٨٠.

٥- المسيح من الشفعاء عندالله وليس بفاد:

زعمت النصارى: إنّ المسيح فداهم بدمه الكريم، ولذلك لقّبوه بالفادي. قالوا: إنّ آدم لمّا عصي الله بالأكل من الشجرة المنهيّة في الجنّة أخطأ بذلك ولزمته الخطيئة، وكذلك لزمت ذرّيّته من بعده ما توالدوا وتناسلوا، وجزاء الخطيئة العقاب في الآخرة والهلاك الأبديّ الّذي لا مخلص منه، وقد كان الله سبحانه رحيماً عادلاً.

فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له، وهو أنّه لو عاقب آدم وذرّيّته بخطيئتهم كان ذلك منافياً لرحمته الّتي لها خلقهم، ولو غفر لهم كان ذلك منافياً لعدله فإنّ مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطي بجرمه وخطيئته كما أنّ مقتضاه أن يثاب المحسن المطيع بإحسانه وإسائته(١) .

ولم تزل هذه العويصة على حالها حتّى حلّها ببركة المسيح وذلك بأن حلّ المسيح (وهو ابن الله، وهو الله نفسه) رحم واحدة من ذرّيّة آدم وهو مريم البتول وتولّد منها كما يتولّد إنسان فكان بذلك إنساناً كاملاً لأنّه ابن إنسان، وإلهاً كاملاً لأنّه ابن الله، وابن الله هو الله (تعالى) معصوماً عن جميع الذنوب والخطايا.

____________________

(١) هذا ما عليه معظمهم ويظهر من بعضهم كالقسيس مار إسحاق ان التخلف في مجازاة الجريمة والخطيئة وبعبارة اُخرى خلف الوعيد جائز دون خلف الوعد.

٣٢١

وبعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم ويخالطهم، ويأكل ويشرب معهم، ويكلّمهم ويستأنس بهم، ويمشي فيهم تسخّر لأعدائه ليقتلوه شرّ قتلة، وهي قتلة الصلب الّتي لعن صاحبها في الكتاب الإلهيّ فاحتمل اللعن والصلب بما فيه من الزجر والأذى والعذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة وهلاك السرمد وهو كفّارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كلّ العالم(١) هذا ما قالوه.

وقد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب والفداء أساس دعوتهم فلا يبدئون إلّا بها، ولا يختمون إلّا عليها كما أنّ القرآن يجعل أساس الدعوة الإسلاميّة هو التوحيد كما قال الله مخاطباً لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف - ١٠٨ مع أنّ المسيح (على ما يصرّح به الأناجيل وقد تقدّم نقله) كان يجعل أوّل الوصايا هو التوحيد ومحبّة الله سبحانه.

وقد ناقشهم غيرهم من المسلمين وسائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من وجوه الفساد والبطلان، واُلّفت فيها كتب ورسائل وملئت بها صحف وطوامير ببيان منافاتها لضرورة العقل، ومناقضتها لكتب العهدين. والّذي يهمّنا ويوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لاُصول تعليم القرآن وختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة وما يثبتونه من الفداء.

على أنّ القرآن يذكر صراحة أنّه إنّما يخاطب الناس ويكلّمهم ببيان ما يقرب من اُفق عقولهم، ويمكّن بياناته من فقههم وفهمهم، وهو الأمر الّذي به يميّز الإنسان الحقّ من الباطل فينقاد لهذا ويأبى ذاك، ويفرّق بين الخير والشرّ والنافع والضارّ فيأخذ بهذا ويترك ذاك، والّذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم العقل السليم ممّا لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.

____________________

(١) في الرسالة الاولى ليوحنّا - الفصل الأوّل( يا اولادي هذه الالفاظ اكتبها إليكم لئلا تخطئوا وإن يخطئ أحدكم فلنا لدى الربّ معزى عدل يسوع المسيح وذلك هو اغتفار من أجل خطايانا فقط بل ومن أجل العالم كلّه)

٣٢٢

فأمّا ما ذكروه ففيهأوّلا: أنّهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام) بالأكل من الشجرة المنهيّة والقرآن يدفع ذلك من جهتين:

الاُولى: أنّ النهي هناك كان نهياً إرشاديّاً يقصد به صلاح المنهيّ ووجه الرشد في أمره لا إعمال المولويّة والأمر الّذي هو من هذا القبيل لا يترتّب على امتثاله ولا تركه ثواب ولا عقاب مولويّ كأوامر المشير ونواهيه لمن يستشيره وأوامر الطبيب ونواهيه للمريض بل إنّما يترتّب على امتثال التكليف الإرشاديّ الرشد المنظور لمصلحة المكلّف، وعلى مخالفته الوقوع في مفسدة المخالفة وضرر الفعل بما أنّه فعل. وبالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام) إلّا أنّه اُخرج من الجنّة وفاته راحة القرب وسرور الرضا، وأمّا العقاب الاُخرويّ فلا لأنّه لم يعص معصية مولويّة حتّى يستتبع عقاباً. راجع تفسير الآيات ٣٥ - ٣٩ من سورة البقرة.

والثانية: أنّه (عليه السلام) كان نبيّاً والقرآن ينزّه ساحة الأنبياء عليهم السلام ويبرّء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي، والفسق عن أمر الله سبحانه، والبرهان العقليّ أيضاً يؤيّد ذلك. راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في تفسير الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

وثانياً: قولهم: إنّ الخطيئة لزمت آدم فإنّ القرآن يدفعه بقوله:( ثمّ اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى ) طه - ١٢٢ وقوله:( فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التوّاب الرحيم ) البقرة - ٣٧.

والاعتبار العقليّ يؤيّد ذلك بل يبيّنه فإنّ الخطيئة وتبعة الذنب إنّما هو أمر محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازماً للمخالفة والتمرّد ليستحكم بذلك أمر التكليف فلو لا العقاب والثواب لم يستقم أمر المولويّة ولم يمتثل أمر ولا نهي وكما أنّ من شئون المولويّة بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولويّة إطلاق التصرّف في دائرة مولويّته فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين ومعصية العاصين بالعفو والمغفرة فإنّه نوع تصرّف و

٣٢٣

حكومة كما أنّ له أن يؤاخذ بها وهي نوع حكومة، وحسن العفو والمغفرة عن الموالي وأولي القوّة والسطوة في الجملة ممّا لا ريب فيه، والعقلاء من الإنسان يستعملونه إلى هذا الحين فكون كلّ خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان ممّا لا وجه له البتّة وإلّا لم يكن لأصل العفو والمغفرة تحقّق لإنّ المغفرة والعفو إنّما يكون لإمحاء الخطيئة وإبطال أثر الذنب. ومع فرض أنّ الخطيئة لازمة غير منفكّة لا يبقى موضوع للعفو والمغفرة. مع أنّ الوحي الإلهيّ مملوّ بحديث العفو والمغفرة وكتب العهدين كذلك حتّى أنّ هذا الكلام المنقول منهم لا يخلو عنه. وبالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه للمغفرة والإمحاء حتّى بالتوبة والإنابة والرجوع والندم ممّا لا يقبله عقل سليم ولا طبع مستقيم.

وثالثاً: أنّ قولهم: إنّ خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذرّيّته إلى يوم القيامة يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضاً ممّن لم يذنب في المعاصي المولويّة وبعبارة اُخرى أن يصدر فعل عن واحد ويعمّ عصيانه وتبعته غير فاعله كما يشمل فاعله وهذا غير أن يأتي قوم بالمعصية ويرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب المعصية على الجميع وبالجملة هو تحمّل الوزر من غير صدور الذنب والقرآن يردّ ذلك كما في قوله:( أن لا تزر وازرة وزر اُخرى وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى ) النجم - ٣٩ والعقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه. راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية ٢١٦ - ٢١٨ من سورة البقرة.

ورابعاً: أنّ كلامهم مبنيّ على كون تبعة جميع الخطايا والذنوب هو الهلاك الأبديّ من غير فرق بينها، ولازمه أن لا يختلف الخطايا والذنوب من حيث الصغر والكبر بل يكون جميعها كبائر موبقات. والّذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أنّ الخطايا والمعاصي مختلفة: فمنها كبائر، ومنها صغائر. ومنها ما تناله المغفرة، ومنها ما لا تناله إلّا بالتوبة كالشرك. قال تعالى:( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم ) النساء - ٣١ وقال تعالى:( إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء - ٤٨ فجعل تعالى من المحرّمات المنهيّ عنها وهي الخطايا والذنوب ما هي كبائر، وما هي سيّئات أي صغائر بقرينة المقابلة وجعل تعالى من

٣٢٤

الذنوب ما لا يقبل المغفرة، ومنها ما يقبلها فالذنوب على أيّ حال مختلفة، وليس كلّ ذنب بموجب للخلود في النار والهلاك الأبديّ.

على أنّ العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب ونظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل والنظر المريب غير الزنا، وهكذا والعقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم يضعوا كلّ ذنب وخطإ موضع غيره، ويرون للمعاصي المختلفة تبعات ومؤآخذات مختلفة فكيف يصحّ إجراء الجميع مجرى واحداً مع هذا الاختلاف الفاحش بينها، وإذا فرض اختلافها لم يصحّ إلّا جعل العقاب الخالد والهلاك الأبديّ لبعضها كالشرك بالله كما يقول القرآن الكريم. ومن المعلوم أنّ مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحلّ محلّ الكفر بالله العظيم وما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه وتبعته هو العذاب المؤبّد (راجع بحث الأفعال السابق الذكر).

وخامساً: ما ذكروه من وقوع الإشكال، وحدوث التزاحم بين صفة الرحمة وصفة العدل ثمّ الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح وصعوده بالوجه الّذي ذكروه. والمتأمّل في هذا الكلام وما يستتبعه من اللوازم يجد أنّهم يرون أنّ الله تعالى وتقدّس موجود خالق ينسب وينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنّه إنّما يفعل بإرادة وعلم في نفسه، وإرادته في تحقّقها تتوقّف إلى ترجيح علميّ كما أنّ الإنسان إنّما يريد شيئاً إذا رجّحه بعلمه فهناك مصالح ومفاسد يطبّق الله أفعاله عليها فيفعلها وربّما أخطأ في التطبيق فندم(١) على الفعل وربّما فكّر في أمر ولم يهتد إلى طريق صلاحه وربّما جهل أمراً وبالجملة هو تعالى في أوصافه وأفعاله كالإنسان إنّما يفعل ما يفعل بالتفكّر والتروّي ويروم فيه تطبيق فعله على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح ومقهور بعملها فيه من الخارج ويمكن له الاهتداء إلى الصلاح ويمكن له الضلال والاشتباه والغفلة فربّما يعلم وربّما يجهل وربّما يغلب وربّما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه وإذا جاز عليه هذا الّذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرء الفاعل

____________________

(١) في الاصحاح السادس من سفر التكوين من التوراة: وكره الله خلقة ولد آدم على الأرض (التوراة العربيّة مطبوعة سنة ١٨١١ الميلاديّة)

٣٢٥

المتفكّر المريد في فعله من سرور وحزن وحمد وندم وابتهاج وانفعال وغير ذلك. والّذي هذا شأنه يكون موجوداً مادّيّاً جسمانيّاً واقعاً تحت ناموس الحركة والتغيّر والاستكمال، والّذي هو كذلك ممكن مخلوق بل إنسان مصنوع. وليس بالواجب تعالى، الخالق لكلّ شئ.

وأنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى من جسميّته واتّصافه بجميع أوصاف الجسمانيّات وخاصّة الإنسان.

والقرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزّه الله تعالى عن هذه الأوهام الخرافيّة كما يقول تعالى:( سبحان الله عمّا يصفون ) الصافّات - ١٥٩. والبراهين العقليّة القاطعة قائمة على أنّه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود من غير شائبة عدم، والقدرة المطلقة من غير عجز، والعلم المطلق من غير طروّ جهل، والحياة المطلقة من غير إمكان موت وفناء، وإذا كان كذلك لم يجز عليه تغيّر حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حياته.

وإذا كان كذلك لم يكن جسماً ولا جسمانيّاً لأنّ الأجسام والجسمانيّات محاط التغيّرات والتحوّلات ومحال الإمكانات والافتقارات والاحتياجات وإذا لم يكن جسماً ولا جسمانيّاً لم يطرء عليه الحالات المختلفة والطواري المتنوّعة: من غفلة وسهو وغلط وندم وتحيّر وتأثّر وانفعال وهوان وصغر ومغلوبيّة ونحوها وقد استوفينا البحث البرهانيّ المتعلّق بهذه المعاني في هذا الكتاب في موارد يناسبها يجدها المراجع إذا راجع.

وعلى الناقد المتبصّر والمتأمّل المتدبّر أن يقايس بين القولين: ما يقول به القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كلّ صفة كمال، وينزّهه عن كلّ صفة نقص، وبالأخرة يعدّه أكبر وأعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحدّ والتقدير وبين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلّا في أساطير يونان، وخرافات هند القديم والصين، واُمور كان الإنسان الأوليّ يتوهّمها فيتأثّر ممّا قدّمه إليه وهمه.

٣٢٦

وسادساً: قولهم: إنّ الله أرسل ابنه المسيح وأمره أن يحلّ رحماً من الأرحام ليتولّد إنساناً وهو إله. وهذا هو القول غير المعقول الّذي انتهض لبيان بطلانه القرآن الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.

ومن المعلوم أنّ العقل أيضاً لا يساعد عليه فإنّك إذا تأمّلت فيما يجب من الصفات أن يقال باتّصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمديّ وعدم التغيّر وعدم تحدّد الوجود والإحاطة بكلّ شئ والتنزّه عن الزمان والمكان وما يتبعهما وتأمّلت في تكوّن إنسان من حين كونه نطفة فجنيناً في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير الملكانيّين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريّين أو تفسير اليعقوبيّين أو غيرهم إذ لا نسبة بين ما له الجسميّة وجميع أوصاف الجسميّة وآثارها وبين ما ليس فيه جسميّة ولا شئ ممّا يتّصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقّل الاتّحاد بينهما بوجه.

وعدم انطباق القول المذكور على القضايا الضروريّة العقليّة هو السرّ فيما يذكره بولس وغيره من رؤسائهم القدّيسيين من تقبيح الفلسفة والإزراء بالأحكام العقليّة. يقول بولس( قد كتب لأهلكنّ حكمة الحكماء ولاُخالفنّ فهم الفقهاء أين الحكيم أين الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمّق؟ أوليس قد حمّق الله حكمة هذا العالم - إلى أن قال - وإذ اليهود يسألون آية واليونانيّون يطلبون حكمة نكرز(١) نحن بالمسيح مصلوب) رسالة بولس - الإصحاح الأوّل. ونظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه وكلام غيره وليست إلّا لسياسة النشر والإذاعة والتبليغ والعظة. يوقن بذلك من أرعى نظره في هذه الرسائل والكتب وتعمّق في طريق تكليمها الناس وإلقاء بياناتها إليهم.

ومن ما مرّ يظهر ما في قولهم: إنّه تعالى معصوم من الذنوب والخطايا فإنّ الإله الّذي صوّروه غير مصون عن الخطأ أصلاً بمعنى الغلط في الإدراك والغلط في الفعل من غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.

____________________

(١) كرز كرزاً، وعظ ونادى

٣٢٧

وأمّا الذنب والمعصية بمعنى التمرّد فيما يجب فيه الطاعة والانقياد فهو غير متصوّر في حقّه تعالى فالعصمة أيضاً غير متصوّرة في حقّه سبحانه.

وسابعاً: قولهم: إنّه بعد أن صار إنساناً عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حقّ تسخّر لأعدائه فيه تجويز اتّصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتّى يكون إلهاً وإنساناً في عرض واحد فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئاً من مخلوقاته أي يتّصف بحقيقة كلّ نوع من هذه الأنواع الخارجيّة فتارة يكون إنساناً من الأناسيّ، وتارة فرساً، وتارة طائراً، وتارة حشرة، وتارة غير ذلك، وتارة يكون أزيد من نوع واحد من الأنواع كالإنسان والفرس والحشرة معاً.

وهكذا يجوز أن يصدر عنه أيّ فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك النوع فيفعل فعله المختصّ به، وكذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معاً كالعدل والظلم، وأن يتّصف بصفات متقابلة كالعلم والجهل، والقدرة والعجز، والحياة والموت و الغنى والفقر. تعالى الملك الحقّ. وهذا غير المحذور المتقدّم في الأمر السادس.

وثامناً: قولهم: إنّه تحمّل الصلب واللعن أيضاً لأنّ المصلوب ملعون ماذا يريدون بقولهم: إنّه تحمّل اللعن؟ وما ذا يراد بهذا اللعن؟ أهو هذا اللعن الّذي يعرفه العرف واللغة وهو الإبعاد من الرحمة والكرامة أو غير ذلك؟ فإن كان هو الّذي نعرفه وتعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إيّاه من الرحمة؟ فهل الرحمة إلّا الفيض الوجوديّ وموهبة النعمة والاختصاص بمزايا الوجود فيرجع هذا الإبعاد واللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما. وحينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله تعالى وتقدّس بأيّ وجه تصوّروه؟ مع أنّه الغنيّ بالذات الّذي هو يسدّ باب الفقر عن كلّ شئ.

والتعليم القرآنيّ على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة. قال تعالى:( يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ ) الفاطر - ١٥ والقرآن يسمّيه

٣٢٨

تعالى بأسماء ويصفه بصفات يستحيل معها عروض أيّ فقر وفاقة وحاجة ونقيصة وفقد وعدم وسوء وقبح وذلّ وهوان إلى ساحة قدسه وكبريائه.

فإن قيل: إنّ اتّصافه بالهوان، وحمله اللعن بواسطة اتّحاده بالإنسان وإلّا فهو تعالى في نفسه وحيال ذاته أجلّ من أن يعرضه ذلك.

قيل لهم: هل يوجب هذا الاتّحاد حمله اللعن واتّصافه بهذه الاُمور الشاقّة حقيقة ومن غير مجاز أولا؟ فإن كان الأوّل لزم المحذور الّذي ذكرناه، وإن كان الثاني عاد الإشكال. أعني أنّ تولّد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة والعدل فإنّ تحمّل غيره تعالى للمصائب وأقسام العذاب واللعن لا يتمّ أمر الفدية أي صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان وهو ظاهر.

وتاسعاً: قولهم: إنّ ذلك كفّارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كلّ العالم يدلّ ذلك على أنّهم لم يحصّلوا حقيقة معنى الذنوب والخطايا وكيفيّة استتباعها للعقاب الاُخرويّ وكيف يتحقّق هذا العقاب ولم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب والخطايا وبين التشريع وما هو موقف التشريع من ذلك على ما يتكفّله البيان القرآنيّ وتعليمه.

فقد بيّنا في المباحث السابقة في هذا الكتاب ومن جملتها ما في تفسير قوله تعالى:( إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما ) البقرة - ٢٦ وفي ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة ) البقرة - ٢١٣ أنّ الأحكام والقوانين الّتي يقع فيها المخالفة والتمرّد ثمّ الذنب والخطيئة إنّما هي اُمور وضعيّة اعتباريّة اُريد بوضعها واعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنسانيّ بالعمل بها والرقوب لها وأنّ العقاب المترتّب على المعصية والمخالفة إنّما هو تبعة سوء اعتبروه ووضعوه ليكون ذلك صارفاً للإنسان المكلّف عن اقتراف المعصية والتمرّد عن الطاعة. هذا ما عند العقلاء البانين للمجتمع الإنسانيّ.

لكنّ التعليم القرآنيّ يعطي في هذا المعنى ما هو أرقي من ذلك وأرقّ ويؤيّده

٣٢٩

البحث العقليّ على ما مرّ، وهو أنّ الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله وعدم انقياده له تتهّيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو الرذيلة الخسيسة الخبيثة وهذه هي الّتي تهيّئ للإنسان نعمة اُخرويّة أو نقمة اُخرويّة اللّتين ممثّلهما الجنّة والنار وحقيقتهما القرب والبعد من الله فالحسنات أو الخطايا تتّكي وتنتهي إلى اُمور حقيقيّة لها نظام حقيقيّ غير اعتباريّ.

ومن البيّن أيضاً أنّ التشريع الإلهيّ إنّما هو تتمّة للتكميل الإلهيّ في الخلقة وإنهاء الهداية التكوينيّة إلى غايتها وهدفها من الخلقة. وبعبارة اُخرى شأنه تعالى إيصال كلّ نوع إلى كمال وجوده وهدف ذاته ومن كمال وجود الإنسان النظام النوعىّ الصالح في الدنيا والحياة الناعمة السعيدة في الآخرة والطريق إلى ذلك الدين الّذي يتكفّل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع وجهات من التقرّب باسم العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه ويتهيّأ في نفسه ويصلح في ذاته وعمله للكرامة الإلهيّة في الدار الآخرة كلّ ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حقّ الأمر.

فللإنسان قرب وبعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته وشقاوته الدائمتين ولصلاح اجتماعه المدنيّ في الدنيا. والدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا القرب والبعد وجميع ذلك اُمور حقيقيّة غير مبتنية على اللغو والجزاف.

وإذا فرضنا أنّ اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهيّة ؟ من آدم أوجب له الهلاك الدائم ولا له فحسب بل ولجميع ذرّيّته ثمّ لم يكن هناك ما يعالج به الداء ويفرج به الهم إلّا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح؟ وما فائدة تشريعه معه؟ وما فائدة تشريعه بعده؟!

وذلك أنّه لما فرض أنّ الهلاك الدائم والعقاب الاُخرويّ محتوم من جهة صدور المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل ولا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن معنى لتشريع الشرائع وإنزال الكتب وإرسال الرسل من عند الله سبحانه، ولم يزل الوعد

٣٣٠

والوعيد والإنذار والتبشير خالية عن وجه الصحّة فما ذا كاد يصلحه هذا السعي بعد وجوب العذاب وحتم الفساد.

وإذا فرض هناك من تكمّل بالعمل بالشرائع السابقة (وكم من الأنبياء والربّانيّين من الاُمم السالفة كذلك كالنبيّ المكرّم إبراهيم وموسى عليهما السلام وغيرهما) وقد قضوا وماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى؟ أترى أنّهم ختموا الحياة على الشقاء أو السعادة؟ وما الّذي استقبلهم به الموت وعالم الآخرة؟ استقبلهم بالعقاب والهلاك أم بالثواب والحياة السعيدة؟

مع أنّ المسيح يصرّح بأنّه إنّما اُرسل لتخليص المذنبين والمخطئين، وأمّا الصلحاء والأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك(١) .

وبالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهيّة وجعل النواميس الدينيّه قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث واللغويّة، ولا لهذا الفعل العجيب من الله (تعالى وتقدّس) محمل حقّ إلّا أن يقال: إنّه تعالى كان يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شئ من هذه التشريعات قطّ وإنّما شرّع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوّفق يوماً لرفع المحذور ويجني ثمرة تشريعه بعد ذلك ويبلغ غايته ويظفر باُمنيّته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان الأمر عن الأنبياء والناس وإخفاء أنّ هيهنا محذوراً لو لم يرتفع خابت مساعي الأنبياء والمؤمنين كافّة وذهبت الشرائع سدىّ وإظهار أنّ التشريع والدعوة على الجدّ والحقيقة.

فغرّ الناس وغرّ نفسه: أمّا غرور الناس فبإظهار أنّ العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم وسعادتهم وأمّا غرور نفسه فلأنّ التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود لغواً لا أثر له في سعادة الناس كما أنّه من غير رفع المحذور كان لا أثر له. فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحقّقه!

____________________

(١)( فتقمقم الفريسيون والكتبة على تلاميذه قائلين لما تأكلون وتشربون مع العشّارين والخطاة أجابهم يسوع قائلاً لا يحتاج الاصحّاء إلى الطبيب لكن المرضى لم آت لادعو الصديقين لكن الخطاة إلى التوبة) إنجيل لوقا - الإصحاح الخامس.

٣٣١

وأمّا في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينيّة والهداية الإلهيّة لغواً أوضح وأبين فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقّة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنّهما يشتركان في الهلاك المؤبّد مع بقاء الخطيئة وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنّه لا ينفع أيّ عمل صالح في رفعها لولا الفداء.

فإن قيل: إنّ الفداء إنّما ينفع في حقّ من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرّح به المسيح في بشارته(١) .

قيل: مضافاً إلى أنّه مناقض لما تقدّمت الإشارة إليه من كلام يوحنّا في رسالته. إنّه هدم لجميع الاُصول الماضية إذ لا يبقى من الناس - آدم فمن دونه - في حظيرة النجاة والخلاص إلّا شرذمة منهم وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الاُصول وأمّا غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم. فليت شعري إلى ما يؤل أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من اُممهم ؟ وبما ذا يتّصف الدعوة الّتي جاؤوا بها من كتاب وحكم أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدّق التوراة ودعوتها وليس فيها دعوة إلى قصّة الروح والفداء ! وهل هي تصدّق ما هو صادق أو تصدّق الكاذب ؟

فإن قيل: إنّ الكتب السماويّة السابقة فيما نعلم تبشّر بالمسيح وهذه منهم دعوة إجماليّة إلى المسيح وإن لم تفصّل القول في كيفيّة نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشّر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفساً بما سيصنعه.

قيل: أوّلا: إنّ القول به قبل موسى تخرّص على الغيب على أنّ البشارة لو كانت فإنّما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتديّن به.وثانياً: إنّ

____________________

(١)( أقول لكم إن كل من اعترف لي قدّام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضاً قدّام ملائكة الله، ومن أنكرني قدّام الناس أنكره أيضاً قدّام ملائكة الله. وكلّ من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له ومن يجدف روح القدس لا يغفر له) إنجيل لوقا - الإصحاح الثاني عشر.

٣٣٢

ذلك لا يدفع محذور لغويّة الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتّى من المسيح نفسه، والأناجيل مملوءة بذلكوثالثاً: إنّ محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهيّ باق على حاله فإنّ الله تعالى إنّما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة على كافّتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلّا شرذمة منهم.

فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ويؤيّده ويجري عليه القرآن الكريم قال تعالى:( الّذي أعطى كلّ شئ خلقه ثمّ هدى ) طه - ٥٠ فبيّن أنّ كلّ شئ مهديّ إلى غايته وما يبتغيه بوجوده والهداية تعمّ التكوينيّة والتشريعيّة فالسنّة الإلهيّة جارية على بسط الهداية ومنها هداية الإنسان هداية دينيّة.

ثمّ قال تعالى وهو أوّل هداية دينيّة ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنّة:( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة - ٣٩. وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردّد وارتياب وقد قال تعالى:( الحقّ أقول ) ص - ٨٤ وقال تعالى:( ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلّام للعبيد ) ق - ٢٩ فبيّن أنّه لا يتردّد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه هو الّذي يمضيه وإنّما يفعل ما قاله فلا ينحرف فعله عن المجرى الّذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئاً ثمّ يتردّد في فعله أو يريده ثمّ يبدو له فلا يفعله ولا جهة غيره بأن يريد شيئاً ويقطع به ويعزم عليه ثمّ يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكلّ ذلك من قهر القاهر وغلبة المانع الخارجيّ قال تعالى:( والله غالب على أمره ) يوسف - ٢١ وقال تعالى:( إنّ الله بالغ أمره ) الطلاق - ٣ وقال تعالى حكاية عن موسى:( قال علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى ) طه - ٥٢ وقال تعالى:( اليوم تجزي كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إنّ الله سريع الحساب ) المؤمن - ١٧.

٣٣٣

تدلّ هذه الآيات وما يشابهها على أنّه تعالى إنّما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ولم يجهل شيئاً ممّا سيظهر منه ولم يندم على ما فعله ثمّ شرع لهم الشرائع تشريعاً جديّاً فاصلاً من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ثمّ إنّه يجزي كلّ ذي عمل بعمله إن خيراً فخير وإنّ شرّاً فشرّ من غير أن يغلبه تعالى غالب أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلّة أو شفاعة من دون إذنه فكلّ ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه.

وعاشراً: ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلّق به من نفس أو مال أثر سيّئ من قتل أو فناء فيعوّض بغيره أيّ شئ كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالأموال ويسمّى البدل فدية وفداء فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حقّ صاحب الحقّ وسلطنته عن المفديّ عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفديّ عنه من أن يلحق به الشرّ.

ومن هنا يظهر أنّ الفداء غير معقول في ما يتعلّق بالله سبحانه فإنّ السلطنة الإلهيّة - على خلاف السلطنة الوضعيّة الاعتباريّة الإنسانيّة - سلطنة حقيقيّة واقعيّة غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصوّر تغيير الواقع عمّا هو عليه فليس إلّا أمراً لا يمكن تعقّله فضلاً عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحقّ وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنّها وأمثالها اُمور وضعيّة اعتباريّة زمامها بأيدينا نحن المجتمعين نبطلها مرّة ونبدّلها اُخرى على حسب تغيّر مصالحنا في الحياة والمعاش (راجع ما تقدّم من البحث في تفسير قوله تعالى:( ملك يوم الدين ) الحمد - ٤ وقوله تعالى:( قل اللّهمّ مالك الملك الآية ) آل عمران - ٢٦).

وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله:( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الّذين كفروا مأواكم النار ) الحديد - ١٥ وقد تقدّم فيما مرّ أنّ من هذا

٣٣٤

القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه:( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني واُمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ - إلى أن قال -ما قلت لهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كلّ شئ شهيد إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم ) المائدة - ١١٨ فإن قوله: وكنت عليهم الخ في معنى أنّه لم يكن لي شأن فيهم إلّا ما أنت وظّفته عليّ وعيّنته وهو تبليغ الرسالة والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم وأمّا هلاكهم ونجاتهم، وعذابهم ومغفرتهم فإنّما ذلك إليك من غير أن يرتبط بي شئ من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئاً منك اُخرجهم به من عذابك أو تسلّطك عليهم، وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصحّ تبرّيه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معاً إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلاً.

وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة - ٤٨ وكذا قوله تعالى:( يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة ) البقرة - ٢٥٤ وقوله تعالى:( يوم تولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ) المؤمن - ٣٣ فإنّ العدل في الآية الأولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة ممّا ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.

نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أنّ الشفاعة (كما تقدّم البحث عنها في قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي ) البقرة - ٤٨) نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الّذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنّما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرّف المشفوع عنده وهو الربّ ما يجوز له من التصرّف في ملكه وهذا التصرّف الجائز مع وجود الحقّ هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حقّ أن يعذّبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.

٣٣٥

فالشفيع يحضّه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنّه كما مرّ معاملة يتبدّل به سلطنة من شئ إلى شئ آخر هو الفداء ويخرج المفديّ عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء.

ويدلّ على هذا الّذي ذكرناه قوله تعالى:( ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشفاعة إلّا من شهد بالحقّ وهم يعلمون ) الزخرف - ٨٦ فإنّه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى والمسيح (عليه السلام) ممّن كانوا يدعونهم من دون الله، وقد نصّ القرآن بأنّ الله علمه الكتاب والحكمة وبأنّه من الشهداء يوم القيامة. قال تعالى:( ويعلمه الكتاب والحكمة ) آل عمران - ٤٨ وقال تعالى حكاية عنه:( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) المائدة - ١١٧ وقال تعالى:( ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً ) النساء - ١٥٩.

فالآيات كما ترى تدلّ على كون المسيح (عليه السلام) من الشفعاء وقد تقدّم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى:( واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً الآية) البقرة - ٤٨.

٦ - من أين نشأ هذه الآراء ؟

القرآن ينفي أن يكون المسيح (عليه السلام) هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروّج لها فيما بينهم بل إنّهم تعبّدوا لرؤسائهم في الدين وسلّموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيّين كما قال تعالى:( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤن قول الّذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما اُمروا إلّا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلّا هو سبحانه عما يشركون الآيات ) التوبة - ٣١.

٣٣٦

وهؤلاء الكافرون الّذين يشير تعالى إليهم بقوله: يضاهؤن قول الّذين كفروا من قبل ليسوا هم عرب الجاهليّة في وثنيّتهم حيث قالوا: إنّ الملائكة بنات الله فإنّ قولهم بأنّ لله ابناً أقدم تاريخاً من تماسّهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصّة قول اليهود بذلك مع أنّ ظاهر قوله: من قبل أنّهم سابقون فيه على اليهود والنصارى على أنّ اتّخاذ الأصنام في الجاهليّة ممّا نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك(١) .

على أنّ الوثنيّة من الروم ويونان ومصر وسوريّة والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه وانتقال العقائد والمزاعم الدينيّة إليهم منهم أسهل والأسباب بذلك أوفق.

فليس المراد بالّذين كفروا الّذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوّة إلّا قدماء الوثنيّة الهند والصين ووثنيّة الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أنّ التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوّة والاُبوّة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك، وهذا من الحقائق التاريخيّة الّتي ينبّه عليها القرآن الشريف.

ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل ) المائدة - ٧٧ فإنّ الآية تبيّن أنّ غلوّهم في الدين بغير الحقّ إنّما طرء عليهم بالتقليد واتّباع أهواء قوم ضالّين من قبلهم.

____________________

(١) ذكروا أن أوّل من وضع الأصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان سابور ذي الاكتاف ساد قومه بمكّة واستولى على سدانة البيت ثمّ سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتّخذناها على شكل الهياكل العلويّة والأشخاص البشريّة نستنصر بها فننصر، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكّة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما والتقرّب إلى الله بهما - ذكره في الملل والنحل وغيره. ومن عجيب الأمر أنّ القرآن يذكر أسمائا من أصنام العرب في قصّة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه:( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) نوح - ٢٣.

٣٣٧

وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم فإنّ الكلام مطلق غير مقيّد ولم يقل: قوم منكم وأضلّوا كثيراً منكم، وليس المراد بهم عرب الجاهليّة كما تقدّم. على أنّه وصف هؤلاء القوم بأنّهم أضلّوا كثيراً أي كانوا أئمّة ضلال مقلّدين متّبعين (بصيغة المفعول فيهما) ولم يكن العرب يومئذ إلّا شرذمة مضطهدين اُمّيّين ليس عندهم من العلم والحضاره والتقدّم ما يتّبعهم به وفيه غيرهم من الاُمم كفارس والروم والهند وغيرهم.

فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلّا وثنيّة الصين والهند والغرب كما تقدّم.

٧ - ما هو الكتاب الّذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو ؟

الرواية وإن عدّت المجوس من أهل الكتاب ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاصّ أو ينتموا إلى واحد من الكتب الّتي يذكرها القرآن ككتاب نوح، وصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود لكنّ القرآن لا يذكر شأنهم، ولا يذكر كتاباً لهم، والّذي عندهم من (أوستا) لا ذكر منه فيه. وليس عندهم من سائر الكتب اسم.

وإنّما يطلق القرآن ( أهل الكتاب ) فيما يطلق ويريد بهم اليهود والنصارى لمكان الكتاب الّذي أنزله الله عليهم.

والّذي عند اليهود من الكتب المقدّسة خمسة وثلثون كتاباً منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار(١) ومنها كتب المورّخين إثنا عشر كتاباً(٢) ومنها كتاب أيّوب، ومنها زبور داود ومنها ثلثة كتب لسليمان(٣) ، ومنها كتب النبوّات

____________________

(١) وهي سفر الخليقة وسفر الخروج وسفر الاحبار وسفر العدد وسفر الاستثناء.

(٢) وهي كتاب يوشع وكتاب قضاة بني إسرائيل وكتاب راعوث والسفر الأوّل من أسفار صموئيل والثاني منها والسفر الأوّل من أسفار الملوك والثاني منها والسفر الأوّل من أخبار الأيّام والسفر الثاني منها والسفر الأوّل لعزرا والثاني له وسفر إستير.

(٣) وهي كتاب الأمثال وكتاب الجامعة وكتاب تسبيح التسابيح.

٣٣٨

سبعة عشر كتاباً(١) .

ولم يذكر القرآن من بينها إلّا توراة موسى وزبور داود عليهما السلام.

والّذى عند النصارى من مقدّسات الكتب، الأناجيل الأربعة: وهي أنجيل متّى، وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنّا، ومنها كتاب أعمال الرسل، ومنها عدّة من الرسائل(٢) ومنها رؤيا يوحنّا.

ولم يذكر القرآن شيئاً من هذه الكتب المقدّسة المختصّة بالنصارى إلّا أنّه ذكر أنّ هناك كتاباً سماويّاً أنزله الله على عيسى بن مريم يسمّى بالإنجيل وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلّا أنّ في كلمات رؤسائهم لقيطات تتضمّن الاعتراف بأنّه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل(٣) .

والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأنّ بعضاً من التوراة الحقّة موجود فيما عند اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحقّ موجود في أيدي النصارى. قال تعالى:( وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ) المائدة - ٤٣ وقال تعالى:( ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظّاً ممّا ذكّروا به ) المائدة - ١٤ والدلالة ظاهرة.

____________________

(١) وهي كتاب نبوّة أشعيا وكتاب نبوّة أرميا ومراثي أرميا وكتاب حزقيال وكتاب نبوّة دانيال وكتاب نبوّة هوشع وكتاب نبوّة يوييل وكتاب نبوّة عاموص وكتاب نبوّة عويذيا وكتاب نبوّة يونان وكتاب نبوّة ميخا وكتاب نبوّة ناحوم وكتاب نبوّة حيقوق وكتاب نبوّة صفونيا وكتاب نبوّة حجى وكتاب نبوّة زكريا وكتاب نبوه ملاخيا.

(٢) وهي أربع عشرة رسالة لبولس ورسالة ليعقوب ورسالتان لبطرس وثلاث رسائل ليوحنّا ورسالة ليهوذا.

(٣) في رسالة بولس إلى أهل غلاطية - الإصحاح الأوّل:( إنّي أتعجّب أنّكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الّذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنّه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوه أي يغيروه) . وقد استشهد النجّار في قصص الأنبياء بما مرّ وبموارد اُخر من كلمات بولس في رسائله على أنّه كان هناك إنجيل غير الأربعة يسمّى إنجيل المسيح.

٣٣٩

( بحث تاريخي)

١ - قصّة التوراة الحاضرة: بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أوّلاً عيشة القبائل البدويّين ثمّ أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم معاملة الاُسراء المملوكين حتّى نجّاهم الله بموسى من فرعون وعمله.

وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحياة بالإمام وهو موسى وبعده يوشع عليهما السلام ثمّ كانوا برهة من الزمان يدبّر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما. وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأوّل الملوك فيهم شاؤل وهو الّذي يسمّيه القرآن الشريف بطالوت ثمّ داود ثمّ سليمان.

ثمّ انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكاً.

ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتّى تغلّبت عليهم ملوك بابل وتصرّفوا في اُورشليم وهو بيت المقدس وذلك في حدود سنة ستّمائة قبل المسيح وملك بابل يومئذ بخت نصّر (بنوكد نصر) ثمّ تمرّدت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره فحاصروهم ثمّ فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك وخزائن الهيكل (المسجد الأقصى) وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفساً وساروا بهم إلى بابل وما أبقوا في المحلّ إلّا الضعفاء والصعاليك ونصب بخت نصّر (صدقيا) وهو آخر ملوك بنى إسرائيل ملكاً عليهم وعليه الطاعة لبخت نصّر.

وكان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين حتّى وجد صدقيا بعض القوّة والشدّة واتّصل بعض الاتّصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرّد عن طاعة بخت نصّر.

فأغضب ذلك بخت نصّر غضباً شديداً فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم

٣٤٠