الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80569
تحميل: 5057


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80569 / تحميل: 5057
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

 ويذكر (ريشار) أيضاً في وصف وحي الإله (ماهوم) الّذي سمعت وصفه فيقول: (إنّ السحرة سخّروا واحداً من الجنّ وجعلوه في بطن ذلك الصنم، وكان ذلك الجنّيّ يرعد ويعربد أوّلاً ثمّ يأخذ في تكليم المسلمين وهم ينصتون له).

وأمثال هذه الطرف توجد كثيراً في كتبهم المؤلّفة في سني الحروب الصليبيّة أو المتعرّضة لشؤونها وإن كان ربّما أبهتت القاري وأدهشته تعجّباً وحيرة، وكاد أن لا يصدّق صحّة النقل حين يحدّث له أمور لم يشاهدها مسلم في يقظة ولا رآها في نومة أو نعسة.

وثالثاً: أن يتحقّق الباحث المتدبّر كيفيّة طروق التطوّر على الدعوة المسيحيّة في مسيرها خلال القرون الماضية حتّى اليوم فإنّ العقائد الوثنيّة وردت فيها بخفيّ دبيبها أوّلاً بالغلوّ في حقّ المسيح (عليه السلام) ثمّ تمكّنت فأفرغت الدعوة في قالب التثليث: الأب والابن والروح، والقول بالصلب والفداء. واستلزم ذلك القول برفض العمل والاكتفاء بالاعتقاد.

وكان ذلك أوّلاً في صورة الدين وكان يعقد أزمّتهم بالكنيسة بإتيان أشياء من صوم وصلاة وتعميد لكن لم يزل الإلحاد ينمو جسمه ويقوي روحه ويبرز الانشعابات حتّى ظهرت البروتستانت وقامت القوانين الرسميّة مقام الهرج والمرج في السياسات مدوّنة على أساس الحرّيّة في ما وراء القانون (الأحكام العمليّة المضمونة الإجراء) فلم يزل التعليم الدينيّ يضعف أثراً ويخيب سعياً حتّى انثلمت تدريجاً أركان الأخلاق والفضائل الإنسانيّة عقيب شيوع المادّيّة الّتي استتبعتها الحرّيّة التامّة.

وظهرت الشيوعيّة والاشتراك بالبناء على فلسفة ماترياليسم ديالكتيك ورفض القول باللاهوت والاخلاق الفاضلة الثابتة والأعمال الدينيّة فانهدمت الإنسانيّة المعنويّة وورثتها الحيوانيّة المادّيّة مؤلّفة من سبعيّة وبهيميّة، وانتهضت الدنيا تسير إليها سيراً حثيثاً.

وأمّا النهضات الدينيّة الّتي عمّت الدنيا أخيراً فليست إلّا ملاعب سياسيّة يلعب

٣٦١

بها رجال السياسة للتوسّل بها إلى غاياتهم وأمانيّهم فالسياسة الفنّية اليوم تدقّ كلّ باب وتدبّ كلّ جحر وثقب.

ذكر الدكتور (جوزف شيتلر) اُستاد العلوم الدينيّة في كلّيّة لوتران في شيكاكو: (أنّ النهضة الدينيّة الجديدة في إمريكا ليست إلّا تطبيق الدين على المجموعة من شؤون الحياة في المدنيّة الحديثة وتثبيت أنّ المدنيّة الحاضرة لا تضادّ الدين.

وإنّ فيه خطر أن يعتقد عامّة الناس أنّهم متديّنون بالدين الحقّ بما في أيديهم من نتايج المدنيّة الحاضرة حتّى يستغنوا عن الالتحاق إلى النهضة الحقيقيّة الدينيّة لو ظهرت يوماً بينهم فلا يلتفتوا إليها)(١) .

وذكر الدكتور جرج فلوروفسكي أكبر مدافع أرثوذكس روسيا بإمريكا أنّ التعليمات الدينيّة بإمريكا ليست إلّا سلوة كاذبة للقلوب لأنّها لو كانت نهضة حيّة حقيقيّة دينيّة لكان من الواجب أن تتّكئ على تعليمات عميقة واقعيّة(٢) .

فانظر من أين خرج وفد الدين وفي أين نزل. بدأت الدعوة باسم إحياء الدين (العقيدة) والأخلاق (الملكات الحسنة) والشريعة (الأعمال) واختتمت بإلغاء الجميع ووضع التمتّع الحيوانيّ موضعها.

وليس ذلك كلّه إلّا تطوّر الانحراف الأولىّ الواقع من بولس المدعوّ بالقدّيس، بولس الحواريّ وأعضاده فلو أنّهم سمّوا هذه المدنيّة الحاضرة الّتي تعترف الدنيا بأنّها تهدّد الإنسانيّة بالفناء (مدنيّة بولسيّة) كان أحقّ بالتصديق من قولهم: إنّ المسيح هو قائد الحضارة والمدنيّة الحاضرة وحامل لوائها.

____________________

(١) المجلة الامريكية (لايف) الجزء المؤرخ ٦ فوريه ١٩٥٦.

(٢) كسابقه.

٣٦٢

( بحث روائي)

 في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب الآية: إنّ عيسى لم يقل للناس: إنّي خلقتكم فكونوا عباداً لي من دون الله، ولكن قال لهم: كونوا ربّانيّين أي علماء.

أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يؤيّده من القرائن. وقوله: لم يقل للناس: إنّي خلقتكم بمنزلة الاحتجاج على عدم قوله ذلك أي لو كان قال لهم ذلك لوجب أن يخبرهم بأنّه خلقهم ولم يخبر ولم يفعل.

وفيه أيضاً في قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً الآية، قال: كان قوم يعبدون الملائكة، وقوم من النصارى زعموا أنّ عيسى ربّ، واليهود قالوا: عزير ابن الله فقال الله: ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً.

أقول: وقد تقدّم بيانه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: قال أبورافع القرظيّ حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودعاهم إلى الإسلام: أ تريد يا محمّد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصرانيّ، يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منّا يا محمّد؟

فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله من قولهما: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

وفيه أيضاً وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أنّ رجلاً قال: يا رسول

٣٦٣

الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيّكم، واعرفوا الحقّ لأهله فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله فأنزل الله: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب - إلى قوله -: بعد إذ أنتم مسلمون.

أقول: وقد روى في سبب النزول غير هذين السببين. والظاهر أنّ ذلك من الاستنباط النظريّ، وقد تقدّم تفصيل الكلام في ذلك. ومن الممكن أن تجتمع عدّة أسباب في نزول آية والله أعلم.

٣٦٤

( سورة آل عمران الآيات ٨١ - ٨٥)

وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى‏ ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشّاهِدِينَ( ٨١) فَمَن تَوَلّى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( ٨٣) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( ٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٨٥)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الارتباط بما قبلها. والسياق سياق واحد مستمرّ جار على وحدته وكأنّه تعالى لمّا بيّن أنّ أهل الكتاب لم يزالوا يبغون فيما حمّلوه من علم الكتاب والدين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغشون بتلبيس الأمر على الناس والتفرقة بين النبيّين وإنكار آيات نبوّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفى أن يكون نبيّ من الأنبياء كموسى وعيسى عليهما السلام يأمرهم باتّخاذ نفسه أو غيره من النبيّين والملائكة أرباباً على ما هو صريح قول النصارى وظاهر قول اليهود.

شدّد النكير عليهم في ذلك بأنّه كيف يتأتّى ذلك وقد أخذ الله الميثاق من

٣٦٥

النبيّين أن يؤمنوا بكلّ نبيّ يأتيهم ممّن تقدّمهم أو تأخّر عنهم وينصروه، وذلك بتصديق كلّ منهم لمن تقدّم عليه من الأنبياء وتبشيره بمن تأخّر عنه كتصديق عيسى (عليه السلام) لموسى وشريعته وتبشيره بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكذا أخذه تعالى الميثاق منهم أن يأخذوا العهد على ذلك من اُممهم وأشهدهم عليهم. وبين أنّ هذا هو الإسلام الّذي شمل حكمه من في السماوات والأرض.

ثمّ أمر نبيّه أن يجري على هذا الميثاق جري قبول وطاعة فيؤمن بالله وبجميع ما أنزله على أنبيائه من غير تفرقة بينهم، وأن يسلم لله سبحانه، وأن يأتي بذلك عن نفسه وعن اُمّته وهو معنى أخذ الميثاق منه بلا واسطة ومن اُمّته بواسطته كما سيجئ بيانه.

قوله تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ) الآية تنبئ عن ميثاق مأخوذ، وقد أخذ الله هذا الميثاق للنبيّين كما يدلّ عليه قوله تعالى: ثمّ جاءكم رسول الخ كما أنّه تعالى أخذه من النبيّين على ما يدلّ عليه قوله: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري الخ وقوله بعد: قل آمنّا بالله إلى آخر الآية فالميثاق ميثاق مأخوذ للنبيّين ومأخوذ منهم وإن كان مأخوذاً من غيرهم أيضاً بواسطتهم.

وعلى هذا فمن الجائز أن يراد بقوله تعالى: ميثاق النبيّين الميثاق المأخوذ منهم أو المأخوذ لهم والميثاق واحد. وبعبارة اُخرى يجوز أن يراد بالنبيّين المأخوذ لهم الميثاق والمأخوذ منهم الميثاق إلّا أنّ سياق قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين في اتّصاله بهذه الآية يؤيّد كون المراد بالنبيّين هم الّذين أخذ منهم الميثاق فإنّ وحدة السياق تعطي أنّ المراد: أنّ النبيّين بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوّة لا يتأتّى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتّى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيّين الّذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه، فالانسب أن يبدأ بذكر الميثاق من حيث أخذه من النبيّين.

وقوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة القراءة المشهورة وهي قراءة غير حمزة

٣٦٦

بفتح اللام والتخفيف في (لما) وعليها فما موصولة وآتيتكم - وقرأ آتيناكم - صلته. والضمير محذوف، يدلّ عليه قوله: من كتاب وحكمة. والموصول مبتدأ خبره قوله: لتؤمننّ به الخ واللام في لما ابتدائيّة، وفي لتؤمننّ به لام القسم. والمجموع بيان للميثاق المأخوذ. والمعنى: للّذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتّة.

ويمكن أن يكون ماشرطيّة وجزاؤها قوله لتؤمننّ به، والمعنى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه وهذا أحسن لأنّ دخول اللام المحذوف قسمها في الجزاء أشهر والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف. وأمّا قراءة كسر اللام في (لما) فاللام فيها للتعليل وما موصولة والترجيح لقراءة الفتح.

والخطاب في قوله: آتيتكم وقوله: جاءكم وإن كان بحسب النظر البدؤيّ للنبيّين لكنّ قوله بعد: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قرينة على أنّ الخطاب للنبيّين واُممهم جميعاً أي إنّ الخطاب مختصّ بهم وحكمه شامل لهم ولاُممهم جميعاً فعلى الاُمم أن يؤمنوا وينصروا كما على النبيّين أن يؤمنوا وينصروا.

وظاهر قوله: ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم التراخي الزمانيّ أي أنّ على النبيّ السابق أن يؤمن وينصر النبيّ اللاحق. وأمّا ما يظهر من قوله: قل آمنّا بالله إلخ أنّ الميثاق مأخوذ من كلّ من السابق واللاحق للآخر، وأنّ على اللاحق أن يؤمن وينصر السابق كالعكس فإنّما هو أمر يشعر به فحوى الخطاب دون لفظ الآية كما سيجيئ إن شاء الله العزيز.

وقوله: لتؤمنّن به ولتنصرنّه الضمير الأوّل وإن كان من الجائز أن يرجع إلى الرسول كالضمير الثاني إذ لا ضير في إيمان نبيّ لنبيّ آخر. قال تعالى:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الآية ) البقرة - ٢٨٥ لكنّ الظاهر من قوله: قل آمنّا بالله وبما اُنزل علينا وما اُنزل على إبراهيم إلخ رجوعه إلى ما أوتوا من كتاب وحكمة ورجوع الضمير الثاني إلى الرسول.

٣٦٧

والمعنى لتؤمنّن بما آتيتكم من كتاب وحكمة ولتنصرنّ الرسول الّذي جاءكم مصدّقاً لما معكم.

قوله تعالى: ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا ) الاستفهام للتقرير، والإقرار معروف، والإصر هو العهد، وهو مفعول أخذتم، وأخذ العهد يستلزم مأخوذاً منه غير الآخذ وليس إلّا اُمم الأنبياء. فالمعنى أأقررتم أنتم بالميثاق، وأخذتم على ذلكم عهدي من اُممكم قالوا: أقررنا.

وقيل: المراد بأخذ العهد قبول الأنبياء ذلك لأنفسهم فيكون قوله: وأخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله أقررتم، ويؤيّده قوله: قالوا أقررنا من غير أن يذكر الأخذ في الجواب وعلى هذا يكون الميثاق لا يتعدّى الأنبياء إلى غيرهم من الاُمم ويبعّده قوله: قال فاشهدوا لظهور الشهادة في أنّها على الغير. وكذا قوله بعد: قل آمنّا بالله الخ من غير أن يقول: قل آمنت فإنّ ظاهره أنّه إيمان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل نفسه واُمّته إلّا أن يقال: إنّ اشتراك الاُمم مع الأنبياء إنّما يستفاد من هاتين الجملتين: أعني قوله: فاشهدوا وقوله: قل آمنّا بالله من غير أن يفيد قوله: وأخذتم في ذلك شيئاً.

قوله تعالى: ( قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ظاهر الشهادة كما مرّ أن يكون على الغير فهي شهادة من الأنبياء واُممهم جميعاً، ويشهد لذلك كما مرّ قوله: قل آمنّا بالله ويشهد لذلك السياق أيضاً فإنّ الآيات مسوقة للاحتجاج على أهل الكتاب في تركهم إجابة دعوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما أنّها تحتجّ عليهم في ما نسبوه إلى عيسى وموسى عليهما السلام وغيرهما كما يدلّ عليه قوله تعالى: أ فغير دين الله يبغون وغيره.

وربّما يقال: إنّ المراد بقوله: فأشهدوا شهادة بعض الأنبياء على بعض كما

٣٦٨

ربّما يقال: إنّ المخاطبين بقوله فاشهدوا هم الملائكة دون الأنبياء.

والمعنيان وإن كانا جائزين في نفسهما غير أنّ اللفظ غير ظاهر في شئ منهما بغير قرينة، وقد عرفت أنّ القرينة على الخلاف.

ومن اللطائف الواقعة في الآية أنّ الميثاق مأخوذ من النبيّين للرسل على ما يعطيه قوله: وإذ أخذنا من النبيّين - إلى قوله -: ثمّ جاءكم رسول وقد مرّ في ذيل قوله تعالى:( كان الناس اُمّة واحدة الآية ) البقرة - ٢١٣ الفرق بين النبوّة والرسالة وأنّ الرسول أخصّ مصداقاً من النبيّ.

فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذاً من مقام النبوّة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس.

وبذلك يمكن المناقشة فيما ذكر بعضهم أنّ المحصّل من معنى الآية أنّ الميثاق مأخوذ من عامّة النبيّين أن يصدّق بعضهم بعضاً ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض أي إنّ الدين واحد يدعو إليه جميع الأنبياء وهو ظاهر.

فمحصّل معنى الآية على ما مرّ: أنّ الله أخذ الميثاق من الأنبياء واُممهم أن لو آتاهم الله الكتاب والحكمة وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ليؤمننّ بما آتاهم وينصرنّ الرسول وذلك من الأنبياء تصديق من المتأخّر للمتقدّم والمعاصر وبشارة من المتقدّم بالمتأخّر وتوصية الاُمّة ومن الاُمّة الإيمان والتصديق والنصرة. ولازم ذلك وحدة الدين الإلهيّ.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية أنّ الله أخذ الميثاق من النبيّين أن يصدّقوا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبشّروا أممهم بمبعثه فهو وإن كان صحيحاً إلّا أنّه أمر يدلّ عليه سياق الآيات كما مرّت الإشارة إليه دون الآية في نفسها لعموم اللفظ بل من حيث وقوع الآية ضمن الاحتجاج على أهل الكتاب ولومهم وعتابهم على انكبابهم على تحريف كتبهم وكتمان آيات النبوّة والعناد والعتوّ مع صريح الحقّ.

قوله تعالى: ( فمن تولّى بعد ذلك ) الخ تأكيد للميثاق المأخوذ المذكور والمعنى واضح.

٣٦٩

قوله تعالى: ( أ فغير دين الله يبغون وله أسلم ) تفريع على الآية السابقة المتضمّنة لأخذ ميثاق النبيّين. والمعنى فإذا كان دين الله واحداً وهو الّذي اُخذ عليه الميثاق من عامّة النبيّين واُممهم وكان على المتقدّم من الأنبياء والاُمم أن يبشّروا بالرسول المتأخّر ويؤمنوا بما عنده ويصدّقوه فماذا يقصده هؤلاء معاشر أهل الكتاب وقد كفروا بك وظاهر حالهم أنّهم يبغون الدين فهل يبغون غير الإسلام الّذي هو دين الله الوحيد؟ ولذلك لا يصدّقونك ولا يتمسّكون بدين الإسلام مع أنّه كان يجب عليهم الاعتصام بالإسلام لأنّه الدين الّذي يبتني على الفطرة وكذلك يجب أن يكون الدين والدليل عليه أنّ من في السماوات والأرض من اُولي العقل والشعور مسلمون لله في مقام التكوين فيجب أن يسلموا عليه في مقام التشريع.

قوله تعالى: ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ) هذا الإسلام الّذي يعمّ من في السماوات والأرض ومنهم أهل الكتاب الّذين يذكر أنّهم غير مسلمين ولفظ أسلم صيغة ماض ظاهره المضيّ والتحقّق لا محالة وهو التسليم التكوينيّ لأمر الله دون الإسلام بمعنى الخضوع العبوديّ ويؤيّده أو يدلّ عليه قوله طوعاً وكرهاً.

وعلى هذا فقوله: وله أسلم من قبيل الاكتفاء بذكر الدليل والسبب عن ذكر المدلول والمسبّب وتقدير الكلام: أفغير الإسلام يبغون؟ وهو دين الله لأنّ من في السماوات والأرض مسلمون له منقادون لأمره فإن رضوا به كان انقيادهم طوعاً من أنفسهم وإن كرهوا ما شائه وأرادوا غيره كان الأمر أمره وجرى عليهم كرهاً من غير طوع.

ومن هنا يظهر أنّ الواو في قوله: طوعاً وكرهاً للتقسيم وأنّ المراد بالطوع والكره رضاهم بما أراد الله فيهم ممّا يحبّونه وكراهتهم لما أراده فيهم ممّا لا يحبّونه كالموت والفقر والمرض ونحوها.

قوله تعالى: ( وإليه يرجعون ) هذا سبب آخر لوجوب ابتغاء الإسلام ديناً فإنّ مرجعهم إلى الله مولاهم الحقّ لا إلى ما يهديهم إليه كفرهم و شركهم.

قوله تعالى: ( قل آمنّا بالله وما أنزل علينا ) أمر النبيّ أن يجري على الميثاق

٣٧٠

الّذي أخذ منه ومن غيره فيقول عن نفسه وعن المؤمنين من اُمّته: آمنّا بالله وما اُنزل علينا الخ.

وهذا من الشواهد على أنّ الميثاق مأخوذ من الأنبياء واُممهم جميعاً كما مرّت الإشارة إليه آنفاً.

قوله تعالى: ( وما اُنزل على إبراهيم وإسماعيل ) إلى آخر الآية هؤلاء المذكورون بأسمائهم هم الأنبياء من آل إبراهيم ولا تخلو الآية من إشعار بأنّ المراد بالأسباط هم الأنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل كداود وسليمان ويونس وأيّوب وغيرهم.

وقوله والنبيّون من ربّهم تعميم للكلام ليشمل آدم ونوحاً ومن دونهما. ثمّ جمع الجميع بقوله: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

قوله تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) الخ نفي لغير مورد الإثبات من الميثاق المأخوذ. وفيه تأكيد لوجوب الجري على الميثاق.

( بحث روائي)

في المجمع عن أميرالمؤمنين (عليه السلام): إنّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ونعته، ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لم يبعث الله نبيّاً آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثمّ تلا: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة الآية.

اقول: والروايتان تفسّران الآية بمجموع ما يدلّ عليه اللفظ والسياق كما مرّ.

وفي المجمع والجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية معناه وإذ أخذ الله ميثاق

٣٧١

اُمم النبيّين كلّ اُمّة بتصديق نبيّها، والعمل بما جائهم به فما وفوا به وتركوا كثيراً من شرائعهم وحرّفوا كثيراً.

أقول: وما ذكر في الرواية من قبيل ذكر المصداق المنطبقة عليه الآية فلا ينافي شمول المراد بالآية الأنبياء واُممهم جميعاً.

وفي المجمع أيضاً عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أأقررتم وأخذتم الآية، قال: أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اُممكم. قالوا أي قال الأنبياء واُممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به. قال الله: فاشهدوا بذلك على اُممكم، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعلى اُممكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله: قال فاشهدوا يقول: فاشهدوا على اُممكم بذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم فمن تولّى عنك يا محمّد بعد هذا العهد من جميع الاُمم فاُولئك هم الفاسقون، هم العاصون في الكفر.

أقول: وقد مرّ توجيه معنى الرواية.

وفي تفسير القمّيّ عن الصادق (عليه السلام) قال لهم في الذرّ: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري أي عهدي قالوا: أقررنا. قال الله للملائكة فاشهدوا.

أقول: لفظ الآية لا يأباه وإن كان لا يستفاد من ظاهره كما تقدّم.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً الآية أخرج أحمد والطبرانيّ في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول: يا ربّ أنا الصلاة فيقول: إنّك على خير، وتجئ الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول: إنّك على خير، ثمّ يجئ الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول: إنّك على خير، ثمّ تجئ الأعمال كلّ ذلك يقول الله: إنّك على خير، بك اليوم آخذ وبك اُعطي. قال الله في كتابه: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

٣٧٢

وفي التوحيد وتفسير العيّاشيّ: في الآية عن الصادق (عليه السلام): هو توحيدهم لله عزّوجلّ.

أقول: التوحيد المذكور يلازم التسليم في جميع ما يريده الله تعالى من عباده فيرجع إلى المعنى الّذي قدّمناه في البيان.

ولو اُريد به مجرّد نفي الشريك كان الطوع والكره هما الدلالة الاختياريّة والاضطراريّة.

واعلم: أنّ هيهنا عدّة روايات اُخر رواها العيّاشيّ والقمّيّ في تفسيريهما وغيرهما في معنى قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين الآية، وفيها لتؤمننّ برسول الله، ولتنصرنّ أميرالمؤمنين عليهما الصلاة والسلام، وظاهرها تفسير الآية بإرجاع ضمير لتؤمننّ به إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضمير ولتنصرنّه إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) من غير دليل يدلّ عليه من اللفظ.

لكن في ما رواه العيّاشيّ ما رواه عن سلام بن المستنير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمّي الله به أحداً إلّا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما جاء تأويله. قلت: جعلت فداك متى يجئ تأويله؟ قال: إذا جاء جمع الله أمامه النبيّين والمؤمنين حتّى ينصروه وهو قول الله:وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة - إلى قوله -: وأنا معكم من الشاهدين.

وبذلك يهون أمر الإشكال فإنّه إنّما يرد لو كانت الروايات واردة مورد التفسير وأمّا التأويل فقد عرفت أنّه ليس من قبيل المعنى، ولا مرتبطاً باللفظ في ما تقدّم من تفسير قوله:( هو الّذي أنزل عليك الكتاب الآية ) آل عمران - ٧

٣٧٣

( سورة آل عمران الآيات ٨٦ - ٩١)

كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٨٦) أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ( ٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ( ٨٨) إِلّا الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٨٩) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالّونَ( ٩٠) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ( ٩١)

( بيان)

الآيات ممكنة الارتباط بما تقدّمها من الكلام على أهل الكتاب وإن كان يمكن أن تستقلّ بنفسها وتنفصل عمّا تقدّمها وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ) الاستفهام يفيد الاستبعاد والإنكار والمراد به استحالة الهداية، وقد ختم الآية بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين. وقد مرّ في نظير هذه الجملة أنّ الوصف مشعر بالعلّيّة أي لا يهديهم مع وجود هذا الوصف فيهم، وذلك لا ينافي هدايته لهم على تقدير رجوعهم وتوبتهم منه.

وأمّا قوله: وشهدوا أنّ الرسول حقّ فإن كان المراد بهم أهل الكتاب فشهادتهم هو مشاهدتهم أنّ آيات النبوّة الّتي عندهم منطبقة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

٣٧٤

كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات وإن كان المراد بهم أهل الردّة من المسلمين فشهادتهم هي إقرارهم بالرسالة لا إقراراً صوريّاً مبنيّاً على الجهالة والحميّة ونحوهما بل إقراراً مستنداً إلى ظهور الأمر كما يفيده قوله: وجائهم البيّنات.

وكيف كان الأمر فانضمام قوله: وشهدوا الخ إلى أوّل الكلام يفيد أنّ المراد بالكفر هو الكفر بعد ظهور الحقّ وتمام الحجّة فيكون كفراً عن عناد مع الحقّ ولجاج مع أهله وهو البغي بغير الحقّ والظلم الّذي لا يهتدي صاحبه إلى النجاة والفلاح.

وقد قيل في قوله: وشهدوا الخ إنّه معطوف على قوله: إيمانهم لما فيه من معنى الفعل والتقدير كفروا بعد أن آمنوا وشهدوا الخ أو أنّ الواو للحال والجملة حالية بتقدير (قد).

قوله تعالى: ( اُولئك جزائهم أنّ عليهم لعنة الله - إلى قوله -ولا هم ينظرون ) قد مرّ الكلام في معنى عود جميع اللعنة عليهم في تفسير قوله تعالى:( اُولئك يلعنم الله ويلعنهم اللاعنون ) البقرة - ١٥٩.

قوله تعالى: ( إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) الخ أي دخلوا في الصلاح والمراد به كون توبتهم نصوحاً تغسل عنهم درن الكفر وتطهّر باطنهم بالإيمان وأمّا الإتيان بالأعمال الصالحة فهو وإن كان ممّا يتفرّع على ذلك ويلزمه غير أنّه ليس بمقوّم لهذه التوبة ولا ركناً منها ولا في الآية دلالة عليه.

وفي قوله: فإنّ الله غفور رحيم وضع العلّة موضع المعلول والتقدير فيغفر الله له ويرحمه فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً ) إلى آخر الآيتين تعليل لما يشتمل عليه قوله أوّلاً: كيف يهدي الله قوماً كفروا الخ وهو من قبيل التعليل بتطبيق الكلّيّ العامّ على الفرد الخاصّ. والمعنى أنّ الّذي يكفر بعد ظهور الحقّ

٣٧٥

وتمام الحجّة عليه، ولا يتوب بعده توبة مصلحة إنّما هو أحد رجلين إمّا كافر يكفر ثمّ يزيد كفراً فيطغي، ولا سبيل للصلاح إليه فهذا لا يهديه الله ولا يقبل توبته لأنّه لا يرجع بالحقيقة بل هو منغمر في الضلال، ولا مطمع في اهتدائه.

وإمّا كافر يموت على كفره وعناده من غير توبة يتوبها فلا يهديه الله في الآخرة بأن يدخله الجنّة إذ لم يرجع إلى ربّه ولا بدل لذلك حتّى يفتدي به، ولا شفيع ولا ناصر حتّى يشفع له أو ينصره.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: واُولئك هم الضالّون باشتماله على اسميّة الجملة، والإشارة البعيدة في اُولئك، وضمير الفصل، والاسميّة واللام في الخبر يدلّ على تأكّد الضلال فيهم بحيث لا ترجى هدايتهم.

وكذا يظهر أنّ المراد بقوله: وما لهم من ناصرين نفي انتفاعهم بالشفعاء الّذين هم الناصرون يوم القيامة فإنّ الإتيان بصيغة الجمع يدلّ على تحقّق ناصرين يوم القيامة كما مرّ نظيره في الاستدلال على الشفاعة بقوله تعالى: فما لنا من شافعين الآية في مبحث الشفاعة (آية ٤٨ من سورة البقرة) فارجع إليه.

وقد اشتملت الآية الثانية على ذكر نفي الفداء والناصرين لكونهما كالبدل، والبدل إنّما يكون من فائت يفوت الإنسان، وقد فاتتهم التوبة في الدنيا ولا بدل لها يحلّ محلّها في الآخرة.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: وماتوا وهم كفّار في معنى: وفاتتهم التوبة فلا ينتقض هذا البيان الظاهر في الحصر بما ذكره الله تعالى في قوله:( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّار اُولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) النساء - ١٨ فإنّ المراد بحضور الموت ظهور آثار الآخرة وانقطاع الدنيا وتفوت عند ذلك التوبة.

والملء في قوله: مل ء الأرض ذهباً مقدار ما يسعه الإناء من شئ فاعتبر الأرض إناءً يملاءه الذهب فالجملة من قبيل الاستعارة التخييليّة والاستعارة بالكناية.

٣٧٦

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى: كيف يهدي الله قوماً الآية: قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت، وكان قتل المجدّر بن زياد البلويّ غدراً وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكّة ثمّ ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآية - إلى قوله -: إلّا الّذين تابوا فحملها إليه رجل من قومه فقال: إنّي لأعلم أنّك لصدوق، ورسول الله أصدق منك، وانّ الله أصدق الثلاثة، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه. عن مجاهد والسدّي وهو المرويّ عن أبي عبدالله (عليه السلام).

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عبّاس: أنّ الحارث بن سويد قتل المجدر بن زياد وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد ثمّ لحق بقريش فكان بمكّة ثمّ بعث إلى أخيه الجلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيه: كيف يهدى الله قوماً إلى آخر القصّة.

اقول: وروى القصّة بطرق اُخرى وفيها اختلافات، ومن جملتها ما رواه عن عكرمة: أنّها نزلت في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثمّ كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك الآيات.

ومنها ما في المجمع في قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ أزدادوا الآية أنّها نزلت في أحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد لمّا رجع الحارث قالوا نقيم بمكّة على الكفر ما بدا لنا فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فلمّا افتتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته فنزل فيمن مات منهم كافراً. إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار الآية. نسبها إلى بعضهم.

٣٧٧

وقيل إنّها نزلت في أهل الكتاب. وقيل: إنّ قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً الآية نزلت في اليهود خاصّة حيث آمنوا ثمّ كفروا بعيسى ثمّ ازدادوا كفراً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وعليهما وقيل غير ذلك.

والتأمّل في هذه الأقوال والروايات يعطي أنّ جميعها من الأنظار الاجتهاديّة من سلف المفسّرين كما تنبّه له بعضهم.

وأمّا الرواية عن الصادق (عليه السلام) فمرسلة ضعيفة. على أنّ من الممكن أن يتعدّد أسباب النزول في آية أو آيات. والله أعلم.

٣٧٨

( سورة آل عمران الآيات ٩٢ - ٩٥)

لَن تَنَالُوا البّرّ حَتّى‏ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْ‏ءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ( ٩٢) كُلّ الطّعامِ كَانَ حِلّاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى‏ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ( ٩٣) فَمَنِ افْتَرَى‏ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( ٩٤) قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( ٩٥)

( بيان)

ارتباط الآية الاُولى بما قبلها غير واضح، ومن الممكن أن لا تكون نازلة في ضمن بقية الآيات الّتي لا غبار على ارتباط بعضها ببعض، وقد عرفت نظير هذا الاشكال في قوله تعالى:( قل يا أهل الكتاب تعالوا الآية ) آل عمران - ٦٤ من حيث تاريخ النزول.

وربّما يقال: إنّ الخطاب في الآية موجّه إلى بني إسرائيل، ولا يزال موجّهاً إليهم. ومحصّل المعنى بعد ما مرّ من توبيخهم ولومهم على حبّ الدنيا وإيثار المال والمنال على دين الله: أنّكم كاذبون في دعواكم أنّكم منسوبون إلى الله سبحانه وأنبيائه وأنّكم أهل البرّ والتقوى، فإنّكم تحبّون كرائم أموالكم وتبخلون في بذلها، ولا تنفقون منها إلّا الرديّ الّذي لا تتعلّق به القلوب ممّا لا يعبأ بزواله وفقده مع أنّه لا ينال البرّ إلّا بإنفاق الإنسان ما يحبّه من كرائم ماله، ولا يفوت الله سبحانه حفظه. هذا محصّل ما قيل، وفيه تمحّل ظاهر.

وأمّا بقيّة الآيات فارتباطها بالبيانات السابقة ظاهر لا غبار عليه.

قوله تعالى: ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون ) النيل هو الوصول والبرّ

٣٧٩

هو التوسّع في فعل الخير. قال الراغب: البرّ خلاف البحر، وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسّع في فعل الخير، انتهى.

ومراده من فعل الخير أعمّ ممّا هو فعل القلب كالاعتقاد الحقّ والنيّة الطاهرة أو فعل الجوارح كالعبادة لله والإنفاق في سبيل الله تعالى. وقد اشتمل على القسمين جميعاً قوله تعالى:( ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس الآية ) البقرة - ١٧٧.

ومن انضمام الآية إلى قوله: لن تنالوا البرّ الآية يتبيّن أنّ المراد بها أنّ إنفاق المال على حبّه أحد أركان البرّ الّتي لا يتمّ إلّا باجتماعها نعم جعل الانفاق غاية لنيل البرّ لا يخلو عن العناية والاهتمام بأمر هذا الجزء بخصوصه لما في غريزة الإنسان من التعلّق القلبيّ بما جمعه من المال وعدّه كأنّه جزء من نفسه إذا فقده فكأنّه فقد جزء من حياة نفسه بخلاف سائر العبادات والأعمال الّتي لا يظهر معها فوت ولا زوال منه.

ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم إنّ البرّ هو الإنفاق ممّا تحبّون وكأنّ هذا القائل جعلها من قبيل قول القائل: لا تنجو من ألم الجوع حتّى تأكل ونحو ذلك لكنّه محجوج بما مرّ من الآية.

ويتبيّن من آية البقرة المذكورة أيضاً أنّ المراد بالبرّ هو ظاهر معناه اللغويّ أعني التوسّع في الخير فإنّها بيّنته بمجامع الخيرات الاعتقاديّة والعمليّة ومنه يظهر ما في قول بعضهم: أنّ المراد بالبرّ هو إحسان الله وإنعامه وما في قول آخرين: أنّ المراد به الجنّة.

قوله تعالى: ( وما تنفقوا من شئ فإنّ الله به عليم ) تطبيب لنفوس المنفقين أنّ ما ينفقونه من المال المحبوب عندهم لا يذهب مهدوراً من غير أجر فإنّ الله الّذي يأمرهم به عليم بإنفاقهم وما ينفقونه.

٣٨٠