الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80562
تحميل: 5056


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80562 / تحميل: 5056
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ) الطعام كلّ ما يطعم ويتغذّى به وكان يطلق عند أهل الحجاز على البرّ خاصّة وينصرف إليه عندهم لدى الإطلاق. والحلّ مقابل الحرمة وكأنّه مأخوذ من الحلّ مقابل العقد والعقل فيفيد معنى الاطلاق. وإسرائيل هو يعقوب النبيّ (عليه السلام) سمّي به لأنّه كان مجاهداً في الله مظفّراً به، ويقول أهل الكتاب: إنّ معناه المظفّر الغالب على الله سبحانه لأنّه صارع الله في موضع يسمّى فنيئيل فغلبه (على ما في التوراة) وهو ممّا يكذّبه القرآن ويحيله العقل.

وقوله: إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه استثناء من الطعام المذكور آنفاً. وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بكان في الجملة الاُولى. والمعنى لم يحرّم الله قبل نزول التوراة شيئاً من الطعام على بني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه.

وفي قوله تعالى: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين دلالة على أنّهم كانوا ينكرون ذلك أعني حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، ويدلّ عليه أنّهم كانوا ينكرون النسخ في الشرائع ويحيلون ذلك كما مرّ ذكره في ذيل قوله تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦. فهم كانوا ينكرون بالطبع قوله تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم ) النساء - ١٦٠.

وكذا يدلّ قوله تعالى بعد: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً أهم كانوا يجعلون ما ينكرونه (من حلّيّة كلّ الطعام عليهم قبل التوراة، وكون التحريم إنّما نزل عليهم لظلمهم بنسخ الحلّ بالحرمة) وسيلة إلى إلقاء الشبهة على المسلمين، والاعتراض على ما كان يخبر به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ربّه أنّ دينه هو ملّة إبراهيم الحنيف، وهي ملّة فطريّة لا إفراط فيها ولا تفريط. كيف؟ وهم كانوا يقولون: إنّ إبراهيم كان يهوديّاً على شريعة التوراة فكيف يمكن أن تشتمل ملّته على حلّيّة ما حرّمتها التوراة، والنسخ غير جائز؟

فقد تبيّن أنّ الآية إنّما تتعرّض لدفع شبهة أوردتها اليهود، ويظهر من عدم

٣٨١

تعرّض الآية لنقل الشبهة عنهم كما يجري عليه القرآن في غالب الموارد كقوله تعالى:( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) المائدة - ٦٤ وقوله:( وقالوا لن تمسّنا النار إلّا أيّاما معدودة ) البقرة - ٨٠ وقوله:( وقالوا قلوبنا غلف ) البقرة - ٨٨ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وكذا قوله تعالى بعد عدّة آيات:( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن - إلى أن قال -يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين الآيات ) آل عمران - ١٠٠.

وبالجملة يظهر من ذلك أنّها كانت شبهة تلقيه اليهود لا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل على المؤمنين في ضمن ما كانوا يتلاقون ويتحاورون.

وحاصلها: أنّه كيف يكون النبيّ صادقاً وهو يخبر بالنسخ، وأنّ الله إنّما حرّم الطيّبات على بني إسرائيل لظلمهم، وهذا نسخ لحلّ سابق لا يجوز على الله سبحانه بل المحرّمات محرّمة دائماً من غير إمكان تغيير لحكم الله. وحاصل الجواب من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتعليم من الله تعالى: أنّ التوراة ناطقة بكون كلّ الطعام حلّاً قبل نزولها فأتوا بالتوراة واتلوها إن كنتم صادقين في قولكم، وهو قوله تعالى: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل - إلى قوله -: إن كنتم صادقين.

فإن أبيتم الإتيان بالتوراة وتلاوتها فاعترفوا بأنّكم المفترون على الله الكذب وأنّكم الظالمون، وذلك قوله تعالى: فمن افترى - إلى قوله - ظالمون.

وقد تبيّن بذلك أنّي صادق في دعوتي فاتّبعوا ملّتي وهي ملّة إبراهيم حنيفاً. وذلك قوله تعالى: قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم إلى آخر الآية.

وللمفسّرين في توضيح معنى الآية بيانات مختلفة لكنّهم على أيّ حال ذكروا أنّ الآية متعرّضة لبيان شبهة أوردتها اليهود مرتبطة بالنسخ كما مرّ.

وأعجب ما قيل في المقام ما ذكره بعضهم: أنّ الآية متعرّضة لجواب شبهة أوردتها اليهود في النسخ. وتقريرها: أنّ اليهود كأنّها قالت: إذا كنت يا محمّد على ملّة إبراهيم والنبيّين بعده - كما تدّعي - فكيف تستحلّ ما كان محرّماً عليه وعليهم

٣٨٢

كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرّماً عليهم فلا ينبغي لك أن تدّعي أنّك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تخصّ إبراهيم بالذكر فتقول: إنّي أولى به.

ومحصّل الجواب: أنّ كلّ الطعام كان حلّاً لعامّة الناس ومنهم بنو إسرائيل لكنّ بني إسرائيل حرّموا أشياء على أنفسهم بما ارتكبوا من المعاصي. والسيّئات كما قال تعالى:( فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم الآية ) النساء - ١٦٠ فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب وحده. ومعنى تحريمهم ذلك على أنفسهم: أنّهم ارتكبوا الظلم واجترحوا السيّئات فكانت سبباً للتحريم، وقوله: من قبل أن تنزّل التوراة متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل ولو كان المراد بقوله: إسرائيل هو يعقوب نفسه لكان قوله: من قبل أن تنزّل التوراة لغواً زائداً من الكلام لبداهة أنّ يعقوب كان قبل التوراة زماناً فلا وجه لذكره.

هذا محصّل ما ذكره وذكر بعض آخر نظير ما ذكره إلّا أنّه قال: إنّ المراد من تحريم بني إسرائيل على أنفسهم تحريمهم ذلك تشريعاً من عند أنفسهم من غير أن يستند إلى وحي من الله سبحانه إلى بعض أنبيائهم كما كانت عرب الجاهليّة تفعل ذلك على ما قصّه الله تعالى في كتابه.

وقد ارتكبا جميعاً من التكلّف ما لا يرتضيه ذو خبرة فأخرجا الكلام من مجراه. وعمدة ما حملهما على ذلك حملهما قوله تعالى: من قبل أن تنزّل التوراة على أنّه متعلّق بقوله: حرّم إسرائيل مع كونه متعلّقاً بقوله: كان حلّاً في صدر الكلام وقوله: إلّا ما حرّم استثناء معترض.

ومن ذلك يظهر أن لا حاجة إلى أخذ إسرائيل بمعنى بني إسرائيل كما توهّما مستندين إلى عدم استقامة المعنى دونه.

على أنّ إطلاق إسرائيل وإرادة بني إسرائيل وإن كان جائزاً على حدّ قولهم: بكر وتغلب ونزار وعدنان يريدون بني بكر وبني تغلب و بني نزار وبني عدنان لكنّه في بني إسرائيل من حيث الوقوع استعمال غير معهود عند العرب في عهد النزول، ولا

٣٨٣

أنّ القرآن سلك هذا المسلك في هذه الكلمة (في غير هذا المورد الّذي يدّعيانه) مع أنّ بني إسرائيل مذكور فيه فيما يقرب من أربعين موضعاً، ومن جملتها نفس هذه الآية: كلّ الطعام كان حلّاً لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فما هو الفرق على قولهما بين الموضعين في الآية؟ حيث عبّر عنهم أوّلاً ببني إسرائيل ثمّ أردف ذلك بقوله: إسرائيل. مع أنّ المقام من أوضح مقامات الالتباس. وناهيك في ذلك أنّ الجمّ الغفير من المفسّرين فهموا منه أنّ المراد به يعقوب لا بنوه.

ومن أحسن الشواهد على أنّ المراد به يعقوب قوله تعالى: على نفسه بإرجاع ضمير المفرد المذكّر إلى إسرائيل ولو كان المراد به بني إسرائيل لكان من اللازم أن يقال: على نفسها أو على أنفسهم.

قوله تعالى: ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) أي حتّى يتبيّن أنّ أيّ الفريقين على الحقّ. أنا أم أنتم. وهذا إلقاء جواب منه تعالى على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

قوله تعالى: ( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاُولئك هم الظالمون ) ظاهره أنّه كلام لله سبحانه يخاطب به نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى هذا ففيه تطييب لنفس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ أعدائه من اليهود هم الظالمون بعد هذا البيان لافترائهم الكذب على الله. وتعريض لليهود والكلام يجري مجري الكناية.

وأمّا احتمال كون الكلام من تتمّة كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا يلائمه ظاهر إفراد خطاب الإشارة في قوله: من بعد ذلك وعلى هذا أيضاً يجري الكلام مجري الكناية والستر على الخصم المغلوب ليقع الكلام موقعه من القبول كما في قوله تعالى:( إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ - ٢٤ والمشار إليه بذلك هو البيان والحجّة.

وإنّما قال: من بعد ذلك مع أنّ المفتري ظالم على أيّ حال لأنّ الظلم لا يتحقّق قبل التبيّن كما قيل والقصر في قوله: فاُولئك هم الظالمون قصر قلب على أيّ حال.

قوله تعالى: ( قل صدق الله فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفاً ) الخ أي فإذا كان الحقّ معي فيما أخبرتكم به ودعوتكم إليه فاتّبعوا ديني واعترفوا بحلّيّه لحم الإبل وغيره

٣٨٤

من الطيّبات الّتي أحلّها الله، وإنّما كان حرّمها عليكم عقوبة لاعتدائكم وظلمكم كما أخبر تعالى به.

فقوله: فاتّبعوا الخ كالكناية عن اتّباع دينه، وإنّما لم يذكره بعينه لأنّهم كانوا معترفين بملّة إبراهيم، ليكون إشارة إلى كون ما يدعو إليه من الدين حنيفاً فطريّاً لأنّ الفطرة لا تمنع الإنسان من أكل الطيّبات من اللحوم وسائر الرزق.

( بحث روائي)

في الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): أنّ إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيّج عليه وجع الخاصّرة فحرّم على نفسه لحم الإبل وذلك قبل أن تنزّل التوراة فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكله.

أقول: وما يقرب منه مرويّ من طرق أهل السنّة والجماعة.

وقوله في الرواية: لم يحرّمه ولم يأكله ضميرا الفاعل راجعان إلى موسى لدلالة المقام عليه. والمعنى لم يحرّمه موسى ولم يأكله. ويحتمل أن يكون لم يأكله من التأكيل بمعنى التمكين من الأكل. ويظهر من التاج أنّ التفعيل والمفاعلة فيه بمعنى واحد.

٣٨٥

( سورة آل عمران الآيات ٩٦ - ٩٧)

إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( ٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ( ٩٧)

( بيان)

الآيتان جواب عن شبهة اُخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ وهي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد مرّ في تفسير قوله تعالى:( فولّ وجهك شطر المسجد الحرام الآية ) البقرة - ١٤٤ أنّ تحويل القبلة كان من الاُمور الهامّة الّتي كانت له تأثيرات عميقة مادّيّة ومعنويّة في حياة أهل الكتاب - وخاصّة اليهود - مضافاً إلى كونه مخالفاً لمذهبهم من النسخ، ولذلك طالت المشاجرات والمشاغبات بينهم وبين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.

والمستفاد من الآية - إنّ أوّل بيت الخ - أنّهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملّة إبراهيم فيكون محصّل الشبهة: أنّ الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملّة إبراهيم مع أنّ الله جعل بيت المقدس قبلة وهل هذا إلّا القول بحكم نسخي في ملّة إبراهيم الحقّة مع كون النسخ محالاً باطلاً؟

والجواب: أنّ الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شكّ ووضعها للعبادة، وفيها آيات بيّنات تدلّ على ذلك كمقام إبراهيم. وأمّا بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: ( إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة ) إلى آخر الآية، البيت

٣٨٦

معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسّل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدىً للعالمين وغير ذلك ويشعر به التعبير عن الكعبة بالّذي ببكّة فإنّ فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك. وأمّا كونه أوّل بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

والمراد ببكّة أرض البيت سمّيت بكّة لازدحام الناس فيها، وربّما قيل إنّ بكّة هي مكّة وإنّه من تبديل الميم باءً كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم. وقيل: المسجد. وقيل المطاف.

والمباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيويّة والاُخرويّة إلّا أنّ ظاهر مقابلتها مع قوله: هدىً للعالمين أنّ المراد بها إفاضة البركات الدنيويّة وعمدتها وفور الأرزاق وتوفّر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحجّ إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤل المعنى إلى ما يتضمّنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:( ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون ) إبراهيم - ٣٧.

وكونه هدىً هو إرائته للناس سعادة آخرتهم وإيصاله إيّاهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرّع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين.

وقد دلّ القرآن على أنّ الحجّ شرّع أوّل ما شرّع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه. قال تعالى:( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة - ١٢٥ وقال: خطاباً لإبراهيم:( وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ) الحجّ - ٢٧. والآية كما ترى تدلّ

٣٨٧

على أنّ هذا الأذان والدعوة سيقابل بتلبية عامّة من الناس الأقربين والأبعدين من العشائر والقبائل.

ودلّ أيضاً على أنّ هذا الشعار الإلهيّ كان على استقراره ومعروفيّته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى عليهما السلام:( إنّي اُريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ) القصص - ٢٧ فقد أراد بالحجّ السنة وليس إلّا لكون السنين تعدّ بالحجّ لتكرّرها بتكرّره.

وكذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شئ كثير يدلّ على كون البيت لم يزل معموراً بالعبادة آية في الهداية (راجع سورة إبراهيم).

وكان عرب الجاهليّة يعظّمونه ويأتون بالحجّ بعنوان أنّه من شرع إبراهيم، وقد ذكر التاريخ أنّ سائر الناس أيضاً كانوا يعظّمونه. وهذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجّه إلى الله سبحانه وذكره. وأمّا بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح وقد ملا ذكره مشارق الأرض ومغاربها، وهو يعرض نفسه لأفهام الناس وقلوبهم بنفسه وبذكره وفي عبادات المسلمين وطاعاتهم وقيامهم وقعودهم ومذابحهم وسائر شؤونهم.

فهو هدىً بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهنيّ إلى الانقطاع التامّ الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون من عباد الله المخلصين.

على أنّه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيويّة الّتي هي وحدة الكلمة وائتلاف الاُمّة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتّتة.

ومن هنا يظهرأوّلا: أنّه هدىً إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنّه هدىً بجميع مراتب الهداية. فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنّه هدى للعالمين لا لعالم خاصّ وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين وذلك لما فيه من سعة الهداية.

٣٨٨

قوله تعالى: ( فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ) الآيات وإن وصفت بالبيّنات وأفاد ذلك تخصّصاً ما في الموصوف إلّا أنّها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، والمقام مقام بيان مزايا البيت ومفاخره الّتي بها يتقدّم على غيره في الشرف ولا يناسب ذلك إلّا الإتيان ببيان واضح، والوصف بما لا غبار عليه بالإبهام والإجمال. وهذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس إلى آخر الآية بياناً لقوله: آيات بيّنات فالآيات هي: مقام إبراهيم، وتقرير الأمن فيه، وإيجاب حجّه على الناس المستطيعين.

لكن لا كما يترائى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلاً أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أنّ ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، والأمن لمن دخله، وحجّه لمن استطاع إليه سبيلاً. وفي ذلك إرجاع قوله: ومن دخله سواء كان إنشاءاً أو إخباراً إلى المفرد بتقدير أنّ وإرجاع قوله: ولله على الناس وهي جملة إنشائيّة إلى الخبريّة ثمّ عطفه على الجملة السابقة وتأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أنّ فيها أيضاً وكلّ ذلك ممّا لا يساعد عليه الكلام البتّة.

وإنّما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم الخ كلّ لغرض خاصّ من إخبار أو إنشاء حكم ثمّ تتبيّن بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان ويقري الضيف ويجب علينا أنّ نتّبعه.

قوله تعالى: ( مقام إبراهيم ) مبتدأ لخبر محذوف والتقدير فيه مقام إبراهيم، وهو الحجر الّذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وقد استفاض النقل بأنّ الحجر مدفون في المكان الّذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافّة المطاف حيال الملتزم وقد أشار إليه أبو طالب عمّ النبيّ في قصيدته اللاميّة:

وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وربّما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أنّ البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.

٣٨٩

ويمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم والأمن والحجّ ثمّ وضع قوله: ومن دخله وقوله: ولله على الناس وهما جملتان مشتملتان على حكم إنشائيّ موضع الخبرين، وهذا من أعاجيب اُسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، ويحفظ الجهتين كحكايه الكلام في موضع الإخبار كقوله:( كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله ) البقرة - ٢٨٥ وكما مرّ في قوله تعالى:( ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية ) البقرة - ٢٥٨ وقوله:( أو كالّذي مرّ على قرية الآية ) البقرة - ٢٥٩ وقد بيّنا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، وكما في قوله تعالى:( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء - ٨٩ وكما في قوله تعالى:( ولكنّ البرّ من آمن بالله الآية ) البقرة - ١٧٧ حيث وضع صاحب البرّ مكان البرّ وكما في قوله تعالى:( ومثل الّذين كفروا كمثل الّذي ينعق بما لا يسمع الآية ) البقرة - ١٧١ ومثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.

وعلى هذا فوزان قوله: فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردّد بين الإنشاء والإخبار وزان قوله:( واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لاُولي الألباب وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنّه أوّاب ) ص - ٤٤.

و هذا الّذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدليّة، وإن كان بدلاً ولا بدّ فالاُولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلاً، وجعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالّتين على بدلين محذوفين. والتقدير فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم وأمن الداخل وحجّ المستطيع للبيت.

ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الاُمور آية بيّنة دالّة بوقوعها على الله سبحانه مذكّرة لمقامه إذ ليست الآية إلّا العلامة الدالّة على الشئ بوجه. وأيّ علامة دالّة عليه تعالى مذكّرة لمقامه أعظم وأجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم ومن

٣٩٠

حرم آمن يأمن من دخله ومن مناسك وعبادات يأتي بها الاُلوف بعد الاُلوف من الناس تتكرّر بتكرّر السنين، ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيّام وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً للسنّة الطبيعة فليس من الواجب، ولا لفظ الآية بمفهومه يدلّ عليه، ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه. قال تعالى:( ما ننسخ من آية أو ننسها الآية ) البقرة - ١٠٦ وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً وقال تعالى:( أتبنون بكلّ ريع آية تعبثون ) الشعراء - ١٢٨ إلى غير ذلك من الآيات.

ومن هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسّرين على توجيه كون المقام آية خارقة، وكون الأمن والحجّ مذكورين لغير غرض بيان الآية.

وكذا إصرار آخرين على أنّ المراد بالآيات البيّنات اُمور اُخر من خواصّ الكعبة (وقد أغمضنا عن ذكرها، ومن أرادها فليراجع بعض مطوّلات التفاسير) فإنّ ذلك مبنيّ على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة وخوارق العادة، ولا دليل على ذلك كما مرّ.

فالحقّ أنّ قوله: ومن دخله كان آمناً: مسوق لبيان حكم تشريعيّ لا خاصّة تكوينيّة غير أنّ الظاهر أن يكون الجملة إخباريّة يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربّما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم والبقرة وقد كان هذا الحقّ محفوظاً للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهليّة ويتّصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).

وأمّا كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأنّ الفتن والحوادث العظام لا تقع ولا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب والمقاتلات واختلال الأمن فيه وخاصّة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، وقوله تعالى:( أو لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم ) العنكبوت - ٦٧ لا يدلّ على أزيد من استقرار الأمن واستمراره في الحرم، وليس ذلك إلّا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت ووجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) وينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه وتشريعه.

٣٩١

وكذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكيّ في قوله تعالى:( ربّ اجعل هذا البلد آمناً ) إبراهيم - ٣٥ وقوله:( ربّ اجعل هذا بلداً آمناً ) البقرة - ١٢٦ حيث سأل الأمن لبلد مكّة فأجابه الله بتشريع الأمن وسوق الناس سوقاً قلبيّاً إلى تسليم ذلك وقبوله زماناً بعد زمان.

قوله تعالى: ( ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ) الحجّ بالكسر (وقرء بالفتح) هو القصد ثمّ اختصّ استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بيّنه الشرع. وقوله: سبيلاً تمييز عن قوله: استطاع.

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضائاً لما شرّع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم:( وأذن في الناس بالحجّ الآية ) الحجّ - ٢٧ ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله:( ولله على الناس ) إلخ وزان قوله تعالى: ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء لكنّ الأظهر من السياق هو الأوّل كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين ) الكفر هيهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة فالمراد بالكفر الترك. والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ كما أنّ قوله: فإنّ الله غنيّ إلخ من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ الله شيئاً فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

( بحث روائي)

عن ابن شهرآشوب عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس الآية: فقال له رجل أهو أوّل بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبيّ عن عليّ

٣٩٢

بن أبي طالب في قوله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة قال: كانت البيوت قبله ولكنّه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله.

أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير عن مطر مثله، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكّة، والقرية مكّة.

وفيه أيضاً عنه (عليه السلام): إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه عن الباقر (عليه السلام): إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، المرأة تصلّي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنّما يكره ذلك في سائر البلدان.

وفيه عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتّى صار موجاً ثمّ أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلاً من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته وهو قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً فأوّل بقعه خلقت من الأرض الكعبة ثمّ مدّت الأرض منها.

اقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنّ هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أنّ الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

وهذا تفسير ما ورد من الروايات في أنّ الكعبة أوّل بيت (أي بقعة) في الأرض وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الاُوليان.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فيه آيات بيّنات: أنّه سئل ما هذه الآيات البيّنات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه، والحجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

٣٩٣

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، ولعلّ ذكره هذه الاُمور من باب العدّ وإن لم تشتمل على بعضها الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عبد الصمد، قال: طلب أبوجعفر أن يشتري من أهل مكّة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أباعبدالله (عليه السلام) فقال له: أنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم وأفنيتهم لنزيد في المسجد وقد منعوا في ذلك فقد غمّني غمّاً شديداً. فقال أبوعبدالله (عليه السلام): لم يغمّك ذلك وحجّتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: وبما أحتجّ عليهم؟ فقال: بكتاب الله فقال: في أيّ موضع؟ فقال: قول الله: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة وقد أخبرك الله: أنّ أوّل بيت وضع للناس هو الّذي ببكّة فإنّ كانوا هم تولّوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قديماً فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبوجعفر فاحتجّ عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وفيه عن الحسن بن عليّ بن النعمان قال: لمّا بنى المهديّ في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا. فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنّه لا ينبغي أن تدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً. فقال له عليّ بن يقطين: يا أميرالمؤمنين إنّي أكتب إلى موسى بن جعفر عليهما السلام لاُخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عليهما السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟

فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبوالحسن (عليه السلام): فلا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه. فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها.

فلمّا أتي الكتاب إلى المهديّ أخذ الكتاب فقبّله ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أباالحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهديّ كتاباً في ثمن دارهم فكتب إليه أن(١) اوضح لهم شيئاً فأرضاهم.

____________________

(١) أرضخ (خ).

٣٩٤

أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، وكأنّ أباجعفر المنصور كان هو البادئ بتوسعة المسجد الحرام ثمّ تمّ الأمر للمهديّ.

وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ولله على الناس حجّ البيت إلخ، يعني به الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان.

أقول: ورواه العيّاشيّ في تفسيره وقد فسّر الحجّ فيه بمعناه اللغويّ وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادق (عليه السلام): ومن كفر قال: ترك.

أقول: ورواه الشيخ في التهذيب. وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والكفر في الرواية بمعنى الردّ، والآية تحتمله. فالكفر فيها بمعناه اللغويّ وهو الستر على الحقّ. وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

( بحث تاريخي)

من المتواتر المقطوع به أنّ الّذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وكان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل وجرهم من قبائل اليمن وهي بناء مربّع تقريباً وزواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسّر عليها الرياح ولا تضرّها مهما اشتدّت.

ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتّى جدّدها العمالقة ثمّ بنو جرهم (أو بالعكس كما مرّ في الرواية عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)).

ثمّ لمّا آل أمر الكعبة إلى قصى بن كلاب أحد أجداد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (القرن الثاني قبل الهجرة) هدمها وبناها فأحكم بنائها، وسقّفها بخشب الدوم وجذوع النخل

٣٩٥

وبنى إلى جانبها دار الندوة، وكان في هذه الدار حكومته وشوراه مع أصحابه، ثمّ قسّم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، وفتحوا عليه أبواب دورهم.

وقبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها وكان الّذي يبنيها يا قوم الروميّ، ويساعده عليه نجّار مصريّ، ولمّا انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أنّ أيّها يختصّ بشرف وضعه فرأوا أن يحكّموا محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسنّه إذ ذاك خمس وثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله وسداد رأيه. فطلب رداءً ووضع عليه الحجر، وأمر القبائل فأمسكوا بأطرافه ورفعوه حتّى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقيّ أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.

وكانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بنائها على ما هي عليه الآن وقد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.

وكان البناء على هذا الحال حتّى تسلّط عبدالله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد ابن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكّة، وأصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت واُحرقت كسوتها وبعض أخشابها، ثمّ انكشف عنها لموت يزيد فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها فأتى لها بالجصّ النقيّ من اليمن، وبناها به، وأدخل الحجر في البيت، وألصق الباب بالأرض، وجعل قبالته باباً آخر ليدخل الناس من باب ويخرجوا من آخر، وجعل ارتفاع البيت سبعة وعشرين ذراعاً ولمّا فرغ من بنائها ضمخها بالمسك والعبير داخلاً وخارجاً، وكساها بالديباج، وكان فراغه من بنائها ١٧ رجب سنه ٦٤ هجريّة.

ثمّ لمّا تولّى عبدالملك بن مروان الخلافة بعث الحجّاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتّى غلبه فقتله، ودخل البيت فأخبر عبدالملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأوّل، فهدم الحجّاج من جانبها

٣٩٦

الشماليّ ستّة أذرع وشبراً، وبنى ذلك الجدار على أساس قريش ورفع الباب الشرقيّ وسدّ الغربيّ ثمّ كبس أرضها بالحجارة الّتي فضلت منها.

ولمّا تولّى السلطان سليمان العثمانيّ الملك سنة ستّين وتسعمائة غير سقفها، ولمّا تولّى السلطان أحمد العثمانيّ سنة إحدى وعشرين بعد الألف أحدث فيها ترميماً ولمّا حدث السيل العظيم سنة تسع وثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشماليّة والشرقيّة والغربيّة فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها، ولم يزل على ذلك حتّى اليوم وهو سنة ألف وثلاث مائة وخمس وسبعين هجريّة قمريّة وسنة ألف وثلاثمائه وخمس وثلاثين هجريّة شمسيّة.

شكل الكعبة: شكل الكعبة مربّع تقريباً وهي مبنيّة بالحجارة الزرقاء الصلبة ويبلغ ارتفاعها ستّة عشر متراً، وقد كانت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام الّتي كانت على الكعبة وكسرها.

وطول الضلع الّذي فيه الميزاب والّذي قبالته عشرة أمتار وعشرة سانتي مترات، وطول الضلع الّذي فيه الباب والّذي قبالته اثنا عشر متراً، والباب على ارتفاع مترين من الأرض، وفي الركن الّذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر ونصف من أرض المطاف، والحجر الأسود حجر ثقيل بيضيّ الشكل غير منتظم، لونه أسود ضارب إلى الحمرة، وفيه نقط حمراء، وتعاريج صفراء، وهي أثر لحام القطع الّتي كانت تكسّرت منه، قطره نحو ثلاثين سانتي متراً.

وتسمّى زوايا الكعبة من قديم أيّامها بالأركان فيسمّى الشماليّ بالركن العراقيّ، والغربيّ بالشاميّ والجنوبيّ باليمانيّ، والشرقيّ الّذي فيه الحجر الأسود بالأسود، وتسمّى المسافة الّتي بين الباب وركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إيّاه في دعائه واستغاثته. وأمّا الميزاب على الحائط الشماليّ ويسمّى ميزاب الرحمة فممّا

٣٩٧

أحدثه الحجّاج بن يوسف ثمّ غيّره السلطان سليمان سنة ٩٥٤ إلى ميزاب من الفضّة ثمّ أبدله السلطان أحمد سنة ١٠٢١ بآخر من فضّة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخلّلها نقوش ذهبيّة. ثمّ أرسل السلطان عبدالمجيد من آل عثمان سنة ١٢٧٣ ميزاباً من الذهب فنصب مكانه وهو الموجود الآن.

وقبالة الميزاب حائط قوسيّ يسمّى بالحطيم، وهو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشماليّة والغربيّة، ويبعدان عنهما مقدار مترين وثلاثة سانتيمترات، ويبلغ ارتفاعه متراً، وسمكه متراً ونصف متر، وهو مبطّن بالرخام المنقوش، والمسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار وأربعة وأربعون سانتيمتراً.

والفضاء الواقع بين الحطيم وبين حائط البيت هو المسمّى بحجر إسماعيل، وقد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريباً في الكعبة في بناء إبراهيم، والباقي كان زريبة لغنم هاجر وولدها: ويقال: إنّ هاجر وإسماعيل مدفونان في الحجر.

وأمّا تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير وترميم، وما للبيت من السنن والتشريفات فلا يهمّنا التعرّض له.

كسوة الكعبة: قد تقدّم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصّة هاجر وإسماعيل ونزولهما أرض مكّة أنّ هاجر علّق كسائها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.

وأمّا كسوة البيت نفسه فيقال: إنّ أوّل من كساها تبّع أبوبكر أسعد كساها بالبرود المطرّزة بأسلاك الفضّة، وتبعه خلفاؤه ثمّ أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، وكلّما بلى منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصّى، ووضع قصّى على العرب رفادة لكسوتها سنويّاً واستمرّ ذلك في بنيه وكان أبو ربيعة ابن المغيرة يكسوها سنة وقبائل قريش سنة.

٣٩٨

وقد كساها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالثياب اليمانيّة، وكان على ذلك حتّى إذا حجّ الخليفة العبّاسيّ المهديّ شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، وذكروا أنّه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، وإبدالها بكسوة واحدة كلّ سنة، وجرى العمل على ذلك حتّى اليوم، وللكعبة كسوة من داخل، وأوّل من كساها من داخل اُمّ العبّاس بن عبدالمطّلب لنذر نذرته في ابنها العبّاس.

منزلة الكعبة: كانت الكعبة مقدّسة معظّمة عند الاُمم المختلفة فكانت الهنود يعظّمونها، ويقولون: إنّ روح (سيفا) وهو الاُقنوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيّين يعدّونها أحد البيوت السبعة المعظّمة(١) وربّما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه.

وكانت الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها، وربّما حجّوا إليها زائرين.

وكانت اليهود يعظّمونها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكان بها صور وتماثيل منها تمثال إبراهيم وإسماعيل، وبأيديهما الأزلام. ومنها صورتا العذراء والمسيح. ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً كاليهود.

وكانت العرب أيضاً تعظّمها كلّ التعظيم، وتعدّها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجّون إليها من كلّ جهة وهم يعدّون البيت بناءً لإبراهيم والحجّ من دينه الباقي بينهم بالتوارث.

ولاية الكعبة: كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثمّ لولده من بعده حتّى

____________________

(١) البيت المعظّمة هي: ١ - الكعبة ٢ - مارس على رأس جبل باصفهان ٣ - مندوسان ببلاد الهند ٤ - نوبهار بمدينة بلخ ٥ - بيت غمدان بمدينة صنعاء ٦ - كلوسان بمدينة فرغانة من خراسان ٧ - بيت بأعالي بلاد الصين.

٣٩٩

تغلّبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثمّ ملكتها العماليق وهم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، وقد كانوا ينزلون أسفل مكّة كما أنّ جرهم كانت تنزل أعلى مكّة وفيهم ملوكهم.

ثمّ كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولّوها نحواً من ثلاثمائة سنة، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان في بناء إبراهيم.

ثمّ لمّا نشأت ولد إسماعيل، وكثروا وصاروا ذوي قوّة ومنعة وضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم وأخرجوهم من مكّة، ومقدّم الإسماعيليّين يومئذ عمرو بن لحى، وهو كبير خزاعة فاستولى على مكّة وتولّى أمر البيت، وهو الّذي وضع الأصنام على الكعبة ودعى الناس إلى عبادتها، وأوّل صنم وضعه عليها هو (هبل) حمله معه من الشام إلى مكّة ووضعه عليها ثمّ أتبعه بغيره حتّى كثرت وشاعت عبادتها بين العرب، وهجرت الحنيفيّة.

وفي ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهميّ يخاطب عمرو بن لحى.

يا عمرو إنّك قد أحدثت آلهة

شتّى بمكّة حول البيت أنصاباً

وكان للبيـت ربّ واحد أبداً

فقد جعلت له في الناس أرباباً

لتعـرّفنّ بأنّ الله في مـهل

سيصطفي دونكم للبيت حجّاباً

وكانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعيّ فجعلها حليل من بعده لابنته وكانت تحت قصيّ بن كلاب، وجعل فتح الباب وغلقها لرجل من خزاعة يسمّى أباغبشان الخزاعيّ فباعه أبوغبشان من قصيّ بن كلاب ببعير وزقّ خمر، وفي ذلك يضرب المثل السائر (أخسر من صفقة أبي غبشان).

فانتقلت الولاية إلى قريش وجدّد قصّي بناء البيت كما قدّمناه وكان الأمر على ذلك حتّى فتح النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكّة، ودخل الكعبة وأمر بالصور والتماثيل فمحيت، وأمر بالأصنام فهدمت وكسرت، وقد كان مقام إبراهيم وهو الحجر الّذي

٤٠٠