الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80612
تحميل: 5060


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80612 / تحميل: 5060
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثمّ دفن في محله الّذي يعرف به الآن وهو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة. وأخبار الكعبة وما يتعلّق بها من المعاهد الدينيّة كثيرد طويلة الّذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبّر في آيات الحج والكعبة. ومن خواص هذا البيت الّذي بارك الله فيه وجعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الإسلام.

٤٠١

( سورة آل عمران الآيات ٩٨ - ١٠١)

قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى‏ مَا تَعْمَلُونَ( ٩٨) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ( ٩٩) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ( ١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( ١٠١)

( بيان)

الآيات كما ترى باتّصال السياق تدلّ على أنّ أهل الكتاب (فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود) كانوا يكفرون بآيات الله، ويصدّون المؤمنين عن سبيل الله بارائته إيّاهم عوجاً غير مستقيم، وتمثيل سبيل الضلال المعوّج المنحرف سبيلاً لله وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحقّ باطلاً، والباطل الّذي يدعونهم إليه حقّاً، والآيات السابقة تدلّ على ماانحرفوا فيه من إنكار حلّيّة كلّ الطعام قبل التوراة، وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس، فهذه الآيات متمّمات للآيات السابقة المتعرّضة لحلّ الطعام قبل التوراة، وكون الكعبة أوّل بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم، وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين، وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإيمان وتدوم هدايتهم.

٤٠٢

وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطيّ في لباب النقول على ما قيل(١) : أنّ شاش بن قيس - وكان يهوديّاً - مرّ على نفر من الأوس والخزرج يتحدّثون فغاظه ما رأى من تألّفهم بعد العداوة فأمر شابّاً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتّى وثب رجلان: أوس بن قرظيّ من الأوس، وجبّار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان، وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فجاء حتّى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا فأنزل الله في أوس وجبّار: يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين اُوتوا الكتاب الآية، وفي شاش بن قيس: يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله الآية.

والرواية مختصرة مستخرجة ممّا رواه في الدرّ المنثور عن زيد بن أسلم مفصّلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عبّاس وغيره.

وكيف كان الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر. على أنّ الآيات يذكر الكفر والإيمان، وشهادة اليهود، وتلاوة آيات الله على المؤمنين، ونحو ذلك. وكلّ ذلك لما ذكرناه أنسب. ويؤيّد ذلك قوله تعالى:( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم الآية ) البقرة - ١٠٩ فالحقّ كما ذكرنا أنّ الآيات متمّمة لسابقتها.

قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) إلخ المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلّيّة الطعام قبل نزول التوراة، وكون القبلة هي الكعبة في الإسلام.

قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله - إلى قوله -عوجاً ) الصدّ الصرف. وقوله: تبغونها أي تطلبون السبيل. وقوله: عوجاً: العوج المعطوف المحرّف، والمراد طلب سبيل الله معوّجاً من غير استقامة.

قوله تعالى: ( وأنتم شهداء ) أي تعلمون أنّ الطعام كان حلّا قبل نزول التوراة وأنّ من خصائص النبوّة تحويل القبلة إلى الكعبة. وقد حاذى في عدّهم شهداء في

____________________

(١) المجلد الرابع من تفسير المنار: سورة آل عمران - تفسير الاية.

٤٠٣

هذه الآية ما في الآية السابقة من عدّ نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم، وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقّيّة ما ينكرونه والله شهيد علي إنكارهم وكفرهم. ولمّا نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيّل به الآية السابقة أعني قوله: والله شهيد على ما تعملون من قوله في ذيل هذه الآية: وما الله بغافل عمّا تعملون فأفاد ذلك أنّهم شهداء على الحقّيّة، والله سبحانه شهيد على الجميع.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا - إلى قوله -:وفيكم رسوله ) المراد بالفريق كما تقدّم هم اليهود أو فريق منهم. وقوله تعالى: وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله أي يمكنكم أن تعتصموا بالحقّ الّذي يظهر لكم بالإنصات إلى آيات الله والتدبّر فيها ثمّ الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلّة التدبّر أو الرجوع ابتداءً إلى رسوله الّذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيد منكم واستظهار الحقّ بالرجوع إليه ثمّ إبطال شبه ألقتها اليهود إليكم والتمسّك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

فالمراد بالكفر في قوله: وكيف تكفرون الكفر بعد الإيمان. وقوله: وأنتم تتلى عليكم كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله، وقوله: ويعتصم بالله بمنزلة الكبرى الكلّيّة لذلك والمراد بالهداية إلى صراط مستقيم الاهتداء إلى إيمان ثابت وهو الصراط الّذي لا يختلف ولا يتخلّف أمره، ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلّوا.

وفي تحقيق الماضي في قوله: فقد هدى مع حذف الفاعل دلالة على تحقّق الفعل من غير شعور بفاعله.

ويتبيّن من الآية أنّ الكتاب والسنّة كافيان في الدلالة على كلّ حقّ يمكن أن يضلّ فيه.

٤٠٤

( سورة آل عمران الآيات ١٠٢ - ١١٠)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ( ١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى‏ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُم مِنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ( ١٠٣) وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( ١٠٤) وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِمَا جَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّت وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ( ١٠٦) وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ( ١٠٨) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ( ١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ( ١١٠)

( بيان)

الآيات من تتمّة ما خاطب به المؤمنين بالتحذير من أهل الكتاب وتفتينهم، وأنّ عندهم ما يمكنهم أن يعتصموا به فلا يضلّوا ولا يسقطوا في حفر المهالك، وهي مع ذلك كلام اعتقبه كلام، ولا تغيّر السياق السابق أعني أنّ التعرّض لحال أهل الكتاب لم يختتم بعد، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآيات: لن يضرّوكم إلّا أذىّ الخ.

قوله تعالى: ( يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته ) قد مرّ فيما مرّ أنّ التقوى وهو نوع من الاحتراز إذا كان تقوى الله سبحانه كان تجنّباً وتحرّزاً من عذابه كما قال

٤٠٥

تعالى:( فاتّقوا النار الّتي وقودها الناس والحجارة ) البقرة - ٢٤. وذلك إنّما يتحقّق بالجري على ما يريده ويرتضيه فهو امتثال أوامره تعالى، والانتهاء عن نواهيه، والشكر لنعمه، والصبر عند بلائه. ويرجع الأخيران جميعاً إلى الشكر بمعنى وضع الشئ موضعه. وبالجملة تقوى الله سبحانه أن يطاع ولا يعصى ويخضع له فيما أعطى أو منع.

لكنّه إذا اُخذ التقوى حقّ التقوى الّذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه كان محض العبوديّة الّتي لا تشوبها إنّيّة وغفلة، وهي الطاعة من غير معصية، والشكر من غير كفر، والذكر من غير نسيان، وهو الإسلام الحقّ أعني الدرجة العليا من درجاته، وعلى هذا يرجع معنى قوله: ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون إلى نحو قولنا: ودوموا على هذه الحال (حقّ التقوى) حتّى تموتوا.

وهذا المعنى غير ما يستفاد من قوله تعالى:( فاتّقوا الله ما استطعتم ) التغابن - ١٦ فإنّ هذه الآية في معنى أن لا تذروا التقوى في شئ ممّا تستطيعونه غير أنّ الاستطاعة تختلف باختلاف قوى الأشخاص وأفهامهم وهممهم. ولا ريب أنّ حقّ التقوى بالمعنى الّذي ذكرناه ليس في وسع كثير من الناس فإنّ في هذا المسير الباطنيّ مواقف ومعاهد ومخاطر لا يعقلها إلّا العالمون ودقائق ولطائف لا يتنبّه لها إلّا المخلصون، فربّ مرحلة من مراحل التقوى لا يصدّق الفهم العاميّ بكونها ممّا تستطيعه النفس الإنسانيّة فيجزم بكونها غير مستطاعة وإن كان أهل التقوى الحقّة خلّفوها وراء ظهورهم، وأقبلوا بهممهم على ما هو أشقّ وأصعب.

فقوله: فاتّقوا الله ما استطعتم الآية كلام يتلقّاه الأفهام المختلفة بمعان مختلفة على حسب ما يطبّقه كلّ فهم على ما يستطيعه صاحبه ثمّ يكون ذلك وسيلة ليفهم من هذه الآية أعني قوله: اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون أنّ المراد أن يقعوا في صراط حقّ التقوى، ويقصدوا نيل هذا المقام والشخوص والمثول فيه. وذلك نظير الاهتداء إلى الصراط المستقيم الّذي لا يتمكّن منه إلّا الأوحديّون ومع ذلك يدعى إليه جميع الناس. فيكون محصّل الآيتين: (اتّقوا الله حقّ تقاته - فاتّقوا الله

٤٠٦

ما استطعتم) أن يندب جميع الناس ويدعوا إلى حقّ التقوى ثمّ يؤمروا بالسير إلى هذا المقصد ما قدروا واستطاعوا. وينتج ذلك أن يقع الجميع في صراط التقوى إلّا أنّهم في مراحل مختلفة وعلى درجات مختلفة على طبق ما عندهم من الأفهام والهمم، وعلى ما يفاض عليهم من توفيق الله وتأييده وتسديده. فهذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآيتين.

ومنه يظهر: أنّ الآيتين غير مختلفتين بحسب المضمون، ولا أنّ الآية الأولى أعني قوله: اتّقوا الله حقّ تقاته الآية اُريد بها عين ما اُريد من قوله: فاتّقوا الله ما استطعتم الآية. بل الآية الاُولى تدعو إلى المقصد والثانية تبيّن كيفيّة السلوك.

قوله تعالى: ( ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون ) الموت من الاُمور التكوينيّة الّتي هي خارجة عن حومة اختيارنا، ولذلك يكون الأمر والنهي المتعلّقان به وبأمثاله أمراً ونهياً تكوينيّين كقوله:( فقال لهم الله موتوا ) البقرة - ٢٤٣ وقوله:( أن يقول له كن فيكون ) يس - ٨٢ إلّا أنّه ربّما يجعل الأمر غير الاختياريّ مضافاً إلى أمر اختياريّ فيتركّبان بنحو وينسب المركّب إلى الاختيار فيتأتّى الأمر والنهي الاعتباري حينئذ كقوله تعالى:( فلا تكوننّ من الممترين ) البقرة - ١٤٧ وقوله:( ولا تكن مع الكافرين ) هود - ٤٢ وقوله:( وكونوا مع الصادقين ) التوبة - ١١٩ وغير ذلك. فإنّ أصل الكون لازم تكوينيّ للإنسان لا أثر لاختياره فيه لكنّه بارتباطه بأمر اختياريّ كالامتراء والكفر والتزام الصدق مثلاً يعدّ أمراً اختياريّاً فيؤمر به وينهى عنه أمراً ونهياً مولويّين.

وبالجملة النهى عن الموت إلّا مع الإسلام إنّما هو لمكان عدّه اختياريّاً ويرجع بالآخرة إلى الكناية عن لزوم التزام الإسلام في جميع الحالات حتّى يقع الموت في واحدة من هذه الحالات، فيكون الميّت مات في حال الإسلام.

قوله تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) ذكر سبحانه فيما مرّ من قوله: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم

٤٠٧

بالله الآية أنّ التمسّك بآيات الله وبرسوله (الكتاب والسنّة) اعتصام بالله مأمون معه المتمسّك المعتصم، مضمون له الهدى، والتمسّك بذيل الرسول تمسّك بذيل الكتاب فإنّ الكتاب هو الّذي يأمر بذلك في مثل قوله:( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر - ٧.

وقد بدّل في هذه الآية الاعتصام المندوب إليه في تلك الآية بالاعتصام بحبل الله فأنتج ذلك أنّ حبل الله هو الكتاب المنزل من عندالله، وهو الّذي يصل ما بين العبد والربّ ويربط السماء بالأرض. وإن شئت قلت: إنّ حبل الله هو القرآن والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد عرفت أنّ مآل الجميع واحد.

والقرآن وإن لم يدع إلّا إلى حقّ التقوى والإسلام الثابت لكنّ غرض هذه الآية غير غرض الآية السابقة الآمرة بحقّ التقوى والموت علي الإسلام فإنّ الآية السابقة تتعرّض لحكم الفرد، وهذه الآية تتعرّض لحكم الجماعة المجتمعة والدّليل عليه قوله:( جميعاً ) وقوله:( ولا تتفرّقوا ) فالآيات تأمر المجتمع الإسلاميّ بالاعتصام بالكتاب والسنّة كما تأمر الفرد بذلك.

قوله تعالى: ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ) جملة إذ كنتم بيان لما ذكر من النعمة. وعليه يعطف قوله:( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .

والأمر بذكر هذه النعمة مبنيّ على ما عليه دأب القرآن أن يضع تعليمه على بيان العلل والأسباب، ويدعو إلى الخير والهدى من وجهه من غير أن يأمر بالتقليد العامّيّ المعمى، وحاشا التعليم الإلهيّ أن يهدي الناس إلى السعادة وهي العلم النافع والعمل الصالح ثمّ يأمر بالوقوع في تيه التقليد وظلمة الجهل.

لكن يجب أن لا يشتبه الأمر ولا يختلط الحال على المتدبّر الباحث، فالله سبحانه يعلّم الناس حقيقة سعادتهم، ويعلّم الوجه فيها ليتبصّروا بارتباط الحقائق بعضها ببعض، وأنّ الجميع فائضة من منبع التوحيد مع وجوب إسلامهم لله لأنّه الله ربّ العالمين و

٤٠٨

اعتصامهم بحبله لأنّه حبل الله ربّ العالمين كما يومي إليه ما في آخر الآيات من قوله: تلك آيات الله نتلوها عليك، الآيتان.

وبالجملة هو أمرهم أن لا يقبلوا قولاً، ولا يطيعوا أمراً إلّا عن علم بوجهه، ثمّ أمرهم بالتسليم المطلق لنفسه وبيّن وجهه أنّه هو الله الّذي يملكهم على الإطلاق فليس لهم إلّا ما أراده فيهم وتصرّف فيه منهم، وأمرهم بالطاعة المطلقة لما يبلّغه رسوله وبيّن وجهه بأنّه رسول لا شأن له إلّا البلاغ، ثمّ يكلّمهم بحقائق المعارف، وبيان طرق السعادة، وبيّن الوجه العامّ في جميع ذلك ليهتدوا إلى روابط المعارف، وطرق السعادة فيتحقّقوا أصل التوحيد وليتأدّبوا بهذا الأدب الإلهيّ فيتسلّطوا على سبيل التفكّر الصحيح، ويعرفوا طريق التكلّم الحقّ فيكونوا أحياء بالعلم أحراراً من التقليد. ونتيجة ذلك أنّهم لو عرفوا وجه الأمر في شئ من المعارف الثابتة الدينيّة أو ما يلحق بها أخذوا به. ولو لم يعرفوا وقفوا عن الردّ ورجعوا نيله بالبحث والتدبّر من غير ردّ أو اعتراض بعد ثبوته.

وهذا غير أن يقال: إنّ الدين موضوع على أن لا يقبل شئ حتّى من الله ورسوله إلّا عن دليل فإنّ ذلك من أسفه الرأي وأردء القول. ومرجعه إلى أنّ الله يريد من عباده أن يطالبوا الدليل بعد وجوده فإنّ ربوبيّته وملكه أصل كلّ دليل على وجوب التسليم ونفوذ الحكم. ورسالة رسوله هو الدليل على أنّ ما يؤدّيه عن الله سبحانه فافهم ذلك. أو مرجعه إلى إلغاء ربوبيّته فيما يتصرّف فيه بربوبيّته وليس إلّا التناقض. والحاصل أنّ المسلك الإسلاميّ والطريق النبويّ ليس إلّا الدعوة إلى العلم دون التقليد على ما يزعمه هؤلاء المقلّدة المتسمّون بالناقدين.

ولعلّ الوجه في ذكر أنّ هذا المذكور نعمة (نعمة الله عليكم) هو الإشارة إلى ما ذكرناه أي إنّ الدليل على ما ندبناكم إليه من الاتّحاد والاجتماع هو ما شاهدتموه من مرارة العداوة وحلاوة المحبّة والاُلفة والاُخوّة والإشراف على حفرة النار والتخلّص منها. وإنّما نذكّركم بهذا الدليل لا لأنّ علينا أن نؤيّد قولنا بما لولاه لم

٤٠٩

يكن حقّاً فإنّما قولنا حقّ سواء دللنا عليه أو لا بل لأن تعلموا أنّ ذلك نعمة منّا عليكم فتعرفوا أنّ في هذا الاجتماع كسائر ما نندبكم إليه سعادتكم وراحتكم ومفازتكم.

وما ذكره تعالى من الدليلين أحدهما وهو قوله: إذ كنتم أعداء مبتن على أصل التجربة، والثاني وهو قوله: وكنتم على شفا حفرة على طريقة البيان العقليّ كما هو ظاهر.

وفي قوله: فأصبحتم بنعمته إخواناً تكرار للامتنان الّذي يدلّ عليه قوله: واذكروا نعمة الله عليكم. والمراد بالنعمة هو التأليف فالمراد بالاُخوّة الّتي توجده وتحقّقه هذه النعمة أيضاً تألّف القلوب فالاُخوّة ههنا حقيقة ادعائيّة.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يشتمل عليه قوله:( إنّما المؤمنون إخوة ) الآية: الحجرات - ١٠ من تشريع الاُخوّة بينهم فإنّ بين المؤمنين اُخوّة مشرّعة تتعلّق بها حقوق هامّة.

قوله تعالى: ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) شفا الحفرة طرفها الّذي يشرف على السقوط فيها من كان به.

والمراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنّهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلّا الموت الّذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان.

وإن كان المراد بيان حالهم في مجتمعهم الفاسد الّذي كانوا فيه قبل إيمانهم وتألّف قلوبهم وكان المراد بالنار هي الحروب والمنازعات - وهو من الاستعمالات الشائعة بطريق الاستعارة - فالمقصود أنّ المجتمع الّذي بني على تشتّت القلوب واختلاف المقاصد - والأهواء - ولا محالة لا يسير مثل هذا المجتمع بدليل واحد يهديهم إلى غاية واحدة بل بأدلّة شتىّ تختلف باختلاف الميول الشخصيّة والتحكّمات الفرديّة اللاغية الّتي تهديهم إلى أشدّ الخلاف والاختلاف - يشرفهم إلى أردء التنازع، ويهدّدهم دائماً بالقتال والنزال، ويعدهم الفناء والزوال. وهي النار الّتي لا تبقى ولا تذر على حفرة الجهالة الّتي لا منجا ولا مخلص للساقط فيها.

٤١٠

فهؤلاء وهم طائفة من المسلمين كانوا آمنوا قبل نزول الآية بعد كفرهم، وهم المخاطبون الأقربون بهذه الآيات لم يكونوا يعيشون مدى حياتهم قبل الإسلام إلّا في حال تهدّدهم الحروب والمقاتلات آناً بعد آن فلا أمن ولا راحة ولا فراغ، ولم يكونوا يفقهون ما حقيقة الأمن العامّ الّذي يعمّ المجتمع بجميع جهاتها من جاه ومال وعرض ونفس وغير ذلك.

ثمّ لمّا اجتمعوا على الاعتصام بحبل الله، ولاحت لهم آيات السعادة، و ذاقوا شيئاً من حلاوة النعم وجدوا صدق ما يذكّرهم به الله من هنيئ النعمة ولذيذ السعادة فكان الخطاب أوقع في نفوسهم ونفوس غيرهم.

ولذلك بني الكلام ووضعت الدعوة على أساس المشاهدة والوجدان دون مجرّد التقدير والفرض فليس العيان كالبيان، ولا التجارب كالفرض والتقدير، ولذلك بعينه أشار في التحذير الآتي في قوله: ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا الخ إلى حال من قبلهم فإنّ مآل حالهم بمرئى ومسمع من المؤمنين فعليهم أن يعتبروا بهم وبما آل إليه أمرهم فلا يجروا مجراهم ولا يسلكوا مسلكهم.

ثمّ نبّههم الله على خصوصيّة هذا البيان فقال: كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون.

قوله تعالى: ( ولتكن منكم اُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) الخ التجربة القطعيّة تدلّ على أنّ المعلومات الّتي يهيّئها الإنسان لنفسه في حياته - ولا يهيّئ ولا يدّخر لنفسه إلّا ما ينتفع به - من أيّ طريق هيّأها وبأيّ وجه ادّخرها تزول عنه إذا لم يذكرها ولم يدم على تكرارها بالعمل. ولا نشكّ أنّ العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوي بقوّته، ويضعف بضعفه ويصلح بصلاحه، ويفسد بفساده، وقد مثّل الله سبحانه حالهما في قوله:( البلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربّه والّذي خبث لا يخرج إلّا نكداً ) الآية: الأعراف - ٥٨.

٤١١

ولا نشكّ أنّ العلم والعمل متعاكسان في التأثير فالعلم أقوى داع إلى العمل والعمل الواقع المشهود أقوى معلّم يعلّم الإنسان.

وهذا الّذي ذكر هو الّذي يدعو المجتمع الصالح الّذي عندهم العلم النافع والعمل الصالح أن يتحفّظوا على معرفتهم وثقافتهم، وأن يردّوا المتخلّف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه، وأن لا يدعوا المائل عن طريق الخير المعروف وهو الواقع في مهبط الشرّ المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشرّ وينهوه عنه.

وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الّتي يذكرها الله في هذه الآية بقوله: يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

ومن هنا يظهر السرّ في تعبيره تعالى عن الخير والشرّ بالمعروف والمنكر فإنّ الكلام مبنيّ على ما في الآية السابقة من قوله: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا إلخ. ومن المعلوم أنّ المجتمع الّذي هذا شأنه يكون المعروف فيه هو الخير، والمنكر فيه هو الشرّ، ولو لا العبرة بهذه النكتة لكان الوجه في تسمية الخير والشرّ بالمعروف والمنكر كون الخير والشرّ معروفاً ومنكراً بحسب نظر الدين لا بحسب العمل الخارجيّ.

وأمّا قوله:( ولتكن منكم اُمّة) فقد قيل: إنّ( من ) للتبعيض بناءً على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذا الدعوة من الواجبات الكفائيّة.

وربّما قيل: إنّ( من ) بيانيّة والمراد منه ولتكونوا بهذا الاجتماع الصالح اُمّة يدعون إلى الخير فيجري الكلام على هذا مجرى قولنا: ليكن لي منك صديق أي كن صديقا لي. والظاهر أنّ المراد بكون( من ) بيانيّة كونها نشوئيّة ابتدائيّة.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ البحث في كون من تبعيضيّة أو بيانيّة لا يرجع إلى ثمرة محصّلة فإنّ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اُمور لو وجبت لكانت بحسب طبعها واجبات كفائيّة إذ لا معنى للدعوة والأمر والنهي المذكورات

٤١٢

بعد حصول الغرض فلو فرضت الاُمّة بأجمعهم داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر كان معناه أنّ فيهم من يقوم بهذه الوظائف فالأمر قائم بالبعض على أيّ حال، والخطاب إن كان للبعض فهو ذاك، وإن كان للكلّ كان أيضاً باعتبار البعض، وبعبارة اُخرى المسؤول بها الكلّ والمثاب بها البعض، ولذلك عقّبه بقوله: وأولئك هم المفلحون فالظاهر أنّ من تبعيضيّة، وهو الظاهر من مثل هذا التركيب في لسان المحاورين ولا يصار إلى غيره إلّا بدليل.

واعلم أن هذه الموضوعات الثلاثة أعني الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذوات أبحاث تفسيريّة طويلة عميقة سنتعرّض لها في موضع آخر يناسبها إنشاء الله تعالى. وكذا ما يتعلّق بها من الأبحاث العلميّة والنفسيّة والاجتماعيّة.

قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جائهم البيّنات ) لا يبعد أن يكون قوله: من بعد ما جائهم البيّنات متعلّقاً بقوله: واختلفوا فقط وحينئذ كان المراد بالاختلاف التفرّق من حيث الاعتقاد، بالتفرّق الاختلاف والتشتّت من حيث الأبدان وقدّم التفرّق على الاختلاف لأنّه كالمقدّمة المؤدّية إليه لأنّ القوم مهما كانوا مجتمعين متواصلين اتّصلت عقائد بعضهم ببعض واتّحدت بالتماسّ والتفاعل، وحفظهم ذلك من الاختلاف فإذا تفرّقوا وانقطع بعضهم عن بعض أدّاهم ذلك إلى اختلاف المشارب والمسالك، ولم يلبثوا دون أن يستقلّ أفكارهم وآراؤهم بعضها عن بعض، وبرز فيهم الفرقة، وانشقّ عصا الوحدة فكأنّه تعالى يقول: ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا بالأبدان أوّلاً، وخرجوا من الجماعة، وأفضاهم ذلك إلى اختلاف العقائد و الآراء أخيراً.

وقد نسب تعالى هذا الاختلاف في موارد من كلامه إلى البغي. قال تعالى:( وما اختلف فيه إلا الّذين اوتوه إلّا من بعد ما جائتهم البيّنات بغياً بينهم ) البقرة - ٢١٣ مع أنّ ظهور الاختلاف في العقائد والآراء ضروريّ بين الأفراد لاختلاف الأفهام لكن كما أنّ ظهور هذا الاختلاف ضروريّ كذلك دفع الاجتماع لذلك، وردّه المختلفين إلى ساحة

٤١٣

الاتّحاد أيضاً ضروريّ فرفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، وإعراض الاُمّة عن ذلك بغي منهم، وإلقاء لأنفسهم في تهلكة الاختلاف.

وقد أكّد القرآن الدعوة إلى الاتّحاد، وبالغ في النهي عن الاختلاف، وليس ذلك إلّا لما كان يتفرّس من أمر هذه الاُمّة أنّهم سيختلفون كالّذين من قبلهم بل يزيدون عليهم في ذلك، وقد تقدّم مراراً أنّ من دأب القرآن أنّه إذا بالغ في التحذير عن شئ والنهي عن اقترافه كان ذلك آية وقوعه وارتكابه، وهذا أمر أخبر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً كما أخبر به القرآن، وأنّ الاختلاف سيدبّ في اُمّته ثمّ يظهر في صورة الفرق المتنوّعة، وأنّ اُمّته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل وسيجئ الرواية في البحث الروائيّ.

وقد صدّق جريان الحوادث هذه الملحمة القرآنيّة فلم تلبث الاُمّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دون أن تفرّقوا شذر مدر، واختلفوا في مذاهب شتّى بعضهم يكفّر بعضاً من لدن عصر الصحابة إلى يومنا هذا، وكلّما رام أحد أن يوفّق بين مختلفين منها أولد ذلك مذهبا ثالثاً.

والّذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية أنّ أصل هذا الاختلاف ينتهي إلى المنافقين الّذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم فإنّك لو تدبّرت ما يذكره الله تعالى في حقّهم في سور البقرة والتوبة والأحزاب والمنافقين وغيرها لرأيت عجباً، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولمّا ينقطع الوحي ثمّ لمّا توفّاه الله غاب ذكرهم وسكنت أجراسهم دفعة.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

ولم يلبث الناس دؤن أن وجدوا أنفسهم وقد تفرّقوا أيادي سبا، وباعدت بينهم شتّى المذاهب، واستعبدتهم حكومات التحكّم والاستبداد، وأبدلوا سعادة الحياة بشقاء الضلال والغيّ. والله المستعان، والمرجوّ من فضل الله أن يوفّقنا لاستيفاء هذا البحث في تفسير سورة البرائة إنشاء الله.

٤١٤

قوله تعالى: ( يوم تبيّض وجوه وتسودّ وجوه ) إلى آخر الآيتين. لمّا كان المقام مقام الكفر بالنعمة وهو نظير الخيانة ممّا يوجب خسّة الانفعال والخجل ذكر سبحانه من بين أنواع عذاب الآخرة ما يناسبها بحسب التمثيل وهو سواد الوجه الّذي يكنّى به في الدنيا عن الانفعال والخجل ونحوهما كما يشعر أو يدلّ على ذلك قوله تعالى: فأمّا الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم.

وكذا ذكر من ثواب الشاكرين لهذه النعمة ما يناسب الشكر وهو بياض الوجه المكنىّ به في الدنيا عن الارتضاء والرضا.

قوله تعالى: ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقّ ) الظرف متعلّق بقوله: يتلوها والمراد كون التلاوة تلاوة حقّ من غير أن يكون باطلاً شيطانيّاً. أو متعلّق بالآيات باستشمام معنى الوصف فيه أو مستقرّ متعلّق بمقدّر. والمعنى أنّ هذه الآيات الكاشفة عن ما يصنع الله بالطائفتين: الكافرين والشاكرين مصاحبة للحقّ من غير أن تجري على نحو الباطل والظلم، وهذا الوجه أوفق لما يتعقّبه من قوله: وما الله يريد ظلماً.

قوله تعالى: ( وما الله يريد ظلماً للعالمين ) تنكير الظلم وهو في سياق النفي يفيد الاستغراق، وظاهر قوله: للعالمين وهو جمع محلّى باللام أن يفيد الاستغراق والمعنى على هذا أنّ الله لا يريد ظلماً أيّ ظلم فرض لجميع العالمين، وكافّة الجماعات وهو كذلك فإنّما التفرّق بين الناس أمر يعود أثره المشؤوم إلى جميع العالمين وكافّة الناس.

قوله تعالى: ( ولله ما في السماوات و ما في الأرض وإلى الله ترجع الاُمور ) لمّا ذكر أنّ الله لا يريد الظلم علّل ذلك بما يزول معه توهّم صدور الظلم فذكر أنّ الله تعالى يملك جميع الأشياء من جميع الجهات فله أن يتصرّف فيها كيف يشاء فلا يتصوّر في حقّه التصرّف فيما لا يملكه حتّى يكون ظلماً وتعدّياً.

على أنّ الشخص إنّما ينحو الظلم إذا كان له حاجة لا يتمكّن من رفعها إلّا بالتعدّي على ما لا يملكه، والله الغنيّ الّذي له ما في السماوات والأرض هذا ما قرره بعضهم لكنّه لا يلائم ظاهر الآية فإنّ هذا الجواب يبتني بالحقيقة على غناه تعالى دون

٤١٥

ملكه والمذكور في الآية هو الملك دون الغنى، وكيف كان فملكه دليل أنّه تعالى ليس بظالم.

وهناك دليل آخر وهو أنّ مرجع جميع الاُمور أيّاً ما كانت إليه تعالى فليس لغيره تعالى من الاُمر شئ حتّى يسلبه الله عنه وينتزعه من يده ويجري فيه إرادة نفسه فيكون بذلك ظالماً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله: وإلى الله ترجع الاُمور.

والوجهان كما ترى متلازمان أحدهما مبنيّ على أنّ كلّ شئ له تعالى والثاني مبنيّ على أنّ شيئاً من الاُمور ليس لغيره تعالى.

قوله تعالى: ( كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس ) المراد بإخراج الاُمّة للناس (والله أعلم) إظهارها لهم، ومزيّة هذه اللفظة (الاخراج) أنّ فيها إشعاراً بالحدوث والتكوّن قال تعالى:( الّذي أخرج المرعى ) الأعلى - ٤ والخطاب للمؤمنين فيكون قرينة على أنّ المراد بالناس عامة البشر والفعل أعني قوله: كنتم منسلخ عن الزمان. على ما قيل والامّة إنّما يطلق على الجماعة والفرد لكونهم ذوي هدف ومقصد يؤمّونه ويقصدونه، وذكر الإيمان بالله بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل ذكر الكلّ بعد الجزء أو الأصل بعد الفرع.

فمعنى الآية أنّكم معاشر المسلمين خير اُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها لأنّكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن المعلوم أنّ انبساط هذا التشريف على جميع الاُمّة لكون البعض متصفين بحقيقة الإيمان والقيام بحقّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا محصّل ما ذكروه في المقام.

والظاهر (والله أعلم) أنّ قوله: كنتم غير منسلخ عن الزمان، والآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق فيه في مقابل الكفر به على ما يدلّ عليه قوله قبل: أكفرتم بعد إيمانكم الآية، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضاً فيؤل المعنى إلى أنّكم معاشر اُمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكونتم وظهرتم للناس خير اُمّة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن

٤١٦

المنكر وتعتصمون بحبل الله متّفقين متّحدين كنفس واحدة، ولو كان أهل الكتاب على هذا الوصف أيضاً لكان خيراً لهم لكنّهم اختلفوا منهم اُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون.

وأعلم أنّ في الآيات موارد من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ومن خطاب الجمع إلى خطاب المفرد وبالعكس وفيها موارد من وضع الظاهر موضع الضمير كتكرّر لفظ الجلالة في عدّة مواضع والنكتة في الجميع ظاهرة للمتأمّل.

( بحث روائي)

في المعاني وتفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: اتّقوا الله حقّ تقاته قال: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.

وفي الدرّ المنثور أخرج الحاكم وابن مردويه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتّقوا الله حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى.

وفيه أخرج الخطيب عن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا يتّقي الله عبد حقّ تقاته حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

أقول: قد مرّ في البيان المتقدّم كيفيّة استفادة معنى الحديثين الأوّلين من الآية، وأمّا الحديث الثالث فإنّما هو تفسير بلازم المعنى. وهو ظاهر.

وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال: سألت عليّ بن أبي طالب عن قوله: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته قال: والله ما عمل بها غير بيت رسول الله نحن ذكرناه فلا ننساه، ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن أطعناه فلم نعصه. فلمّا نزلت هذه الآية قال الصحابة لا نطيق ذلك فأنزل الله: فاتّقوا الله ما استطعتم قال وكيع: ما أطقتم الحديث.

٤١٧

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله: اتّقوا الله حقّ تقاته. قال: منسوخة. قلت: وما نسختها؟ قال: قول الله: فاتّقوا الله ما استطعتم.

اقول: ويستفاد من رواية وكيع أنّ المراد بالنسخ في رواية العيّاشيّ بيان مراتب التقوى. وأمّا النسخ بمعناه المصطلح كما نقل عن بعض المفسّرين فهو معنى يردّه ظاهر الكتاب.

وفي المجمع عن الصادق (عليه السلام) في الآية: وأنتم مسلّمون بالتشديد.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً الآية، أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض.

وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن أبي شريح الخزاعيّ قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ هذا القرآن سبب طرفه بيدالله، وطرفه بأيديكم فتمسّكوا به فإنّكم لن تزالوا ولن تضلّوا بعده أبداً.

وفي المعاني عن السجّاد (عليه السلام) في حديث: وحبل الله هو القرآن.

أقول: وفي هذا المعنى روايات اُخرى من طرق الفريقين.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر (عليه السلام): آل محمّد هم حبل الله الّذي أمر بالاعتصام به فقال: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، وقد تقدّم في البيان ما يتأيّد به معناها ويؤيّدها أيضاً ما يأتي من الروايات.

وفي الدرّ المنثور أخرج الطبرانيّ عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّي لكم فرط، وإنّكم واردون عليّ الحوض فانظروا كيف تخلّفوني في الثقلين؟ قيل: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: الأكبر كتاب الله عزّوجلّ سبب طرفه بيدالله، وطرفه بأيديكم فتمسّكوا به لن تزالوا ولن تضلّوا، والأصغر عترتي. وإنّ

٤١٨

هما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. وسألت لهما ذاك ربّي فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تعلّموهما فإنّهما أعلم منكم.

أقول: وحديث الثقلين من المتواترات الّتي أجمع على روايتها الفريقان، وقد تقدّم في أوّل السورة أنّ بعض علماء الحديث أنهى رواته من الصحابة إلى خمس وثلاثين راوياً من الرجال والنساء، وقد رواه عنهم جمّ غفير من الرواة وأهل الحديث.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وإنّ اُمّتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلّهم في النار إلّا واحدة. قالوا: يا رسول الله ومن هذه الواحدة؟ قال: الجماعة. ثمّ قال: اعتصموا بحبل الله جميعاً.

أقول: والرواية أيضاً من المشهورات وقد روتها الشيعة بنحو آخر كما في الخصال والمعاني والاحتجاج والأمالي وكتاب سليم بن قيس وتفسير العيّاشيّ واللفظ لما في الخصال بإسناده إلى سليمان بن مهران عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن أميرالمؤمنين (عليهم السلام) قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إنّ اُمّة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وسبعون في النار. وافترقت اُمّة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة، فرقة منها ناجية وإحدى وسبعون في النار. وإنّ اُمّتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار.

أقول: وهي الموافقة لما يأتي.

وفي الدرّ المنثور أخرج أبوداود والترمذيّ وابن ماجه والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (عليه السلام): افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق اُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة.

أقول: وهذا المعنى مرويّ بطرق اُخرى عن معاوية وغيره.

٤١٩

وفيه أخرج الحاكم عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يأتي على اُمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتّى لو كان فيهم من نكح اُمّه علانية كان في اُمّتي مثله إنّ بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملّة، وتفترّق اُمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّها في النار إلّا ملّة واحدة. فقيل له: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي.

اقول: وعن جامع الاُصول لابن الاثير عن الترمذيّ عن ابن عمرو بن العاص عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مثله.

وفي كمال الدين بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كلّ ما كان في الاُمم السالفة فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة.

وفي تفسير القمّيّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لتركبنّ سنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة لا تخطؤون طريقهم ولا يخطى، شبر بشبر، وذراع بذراع، وباع بباع حتّى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبّ لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة فيكون أوّل ما تنقضون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة.

وعن جامع الاُصول فيما استخرجه من الصحاح، وعن صحيح الترمذيّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم ( وزاد رزين) حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتّى إن كان فيهم من أتى اُمّه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟

اقول: وهذه الرواية أيضاً من المشهورات، رواها أهل السنّة في صحاحهم وغيرها. وروتها الشيعة في جوامعهم.

وفي الصحيحين عن أنس: أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صاحبني حتّى إذا رفعوا اختلجوا دوني فلأقولنّ: أي ربّ أصحابي فليقالنّ: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك.

٤٢٠