الميزان في تفسير القرآن الجزء ٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 432

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 80615
تحميل: 5060


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80615 / تحميل: 5060
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله (عليه السلام) في عليّ رضي الله عنه: اللّهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل، وقوله لابن عبّاس مثل ذلك أنتهى كلامه وهو أعمّ الأقوال في‍ معنى المتشابه جمع فيها بين عدّة من الأقوال المتقدّمة.

وفيه:أوّلاً: أنّ تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظيّة كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية فإنّ الآية جعلت المحكمات مرجعاً يرجع إليه المتشابهات ومن المعلوم أنّ غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحلّ عقدتها من جهة دلالة المحكمات بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتّضح به.

وأيضاً: الآية تصف المتشابهات بأنّها من شأنها أن تتّبع لابتغاء الفتنة ومن المعلوم: أن اتّباع العامّ من غير رجوع إلى مخصّصه والمطلق من غير رجوع إلى مقيّده وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عمّا يفسّره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوّزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجباً لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.

وثانياً: أنّ تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامّة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنّه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه وقد عرفت خلافه.

هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما وقد عرفت ما فيها وعرفت أيضاً أنّ الّذى يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كلّه وأنّ الّذي تعطيه الآية في معنى المتشابه: أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالّة دالّة على معنى مريب مردّد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العامّ والمطلق إلى المخصّص والمقيّد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية اُخرى محكمة لا ريب فيه تبيّن حال المتشابهة.

ومن المعلوم أنّ معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلّا مع كون ما يتّبع من المعنى مألوفاً مأنوساً عند الأفهام العامّية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك

٤١

والتعقّل.

وأنت إذا تتّبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة الّتى انحرف فيها الفرق الإسلاميّة عن الحقّ القويم بعد زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتّباع المتشابه والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه.

ففرقة تتمسّك من القرآن بآيات للتجسيم واُخرى للجبر واُخرى للتفويض واُخرى لعثرة الأنبياء واُخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات واُخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات إلى غير ذلك كلّ ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.

وطائفة ذكرت: أنّ الأحكام الدينيّة إنّما شرّعت لتكون طريقاً إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعيّناً لمن ركبه فإنّما المطلوب هو الوصول بأيّ طريق اتّفق وتيسّر واُخرى قالت: إنّ التكليف إنّما هو لبلوغ الكمال ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقّق الوصول فلا تكليف لكامل.

وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلاميّة قائمة ومقامة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يشذّ منها شاذّ ثمّ لم تزل بعد ارتحاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تنقص وتسقط حكماً فحكماً يوماً فيوماً بيد الحكومات الإسلاميّة ولم يبطل حكم أو حدّ إلّا واعتذر المبطلون: أنّ الدين إنّما شرّع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم حتّى آل الأمر إلى ما يقال: إنّ الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا باجرائها والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينيّة ولا تهضمها بل تستدعى وضع قوانين ترتضيها مدنيّة اليوم وأجرائها وإلى ما يقال: إنّ التلبّس بالأعمال الدينيّة لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين والقلوب المتدرّبة بالتربية الاجتماعيّة والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهّر بأمثال الوضوء والغسل والصلوه والصوم.

إذا تأمّلت في هذه وأمثالها - وهي لا تحصى كثرة - وتدبّرت في قوله تعالى: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الآية لم

٤٢

تشكّ في صحّة ما ذكرناه وقضيت بأنّ هذه الفتن والمحن الّتي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقرّ قرارها إلّا من طريق اتّباع المتشابه وابتغاء تأويل القرآن.

و هذا - والله أعلم - هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب وإصراره البالغ على النهي عن اتّباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والإلحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتّباع خطوات الشيطان فإنّ من دأب القرآن أنّه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولّي الكفّار ومودّة ذوي القربى وقرار أزواج النبيّ ومعاملة الربا واتّحاد الكلمة في الدين وغير ذلك.

ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسدّ طريق ابتغاء الفتنة الّذين منشأهما الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض واتّباع الهوى إلّا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى:( ولا تتّبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إنّ الّذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ص - ٢٦ ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبّين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربّهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: ربّنا إنّك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد.

٢ - ما معنى كون المحكمات اُمّ الكتاب ؟

ذكر جماعة: أنّ كون الآيات المحكمة اُمّ الكتاب كونها أصلاً في الكتاب عليه تبتنى قواعد الدين وأركانها فيؤمن بها ويعمل بها وليس الدين إلّا مجموعاً من الاعتقاد والعمل وأمّا الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنّما يؤمن بها إيماناً.

وأنت بالتأمّل فيما تقدّم من الأقوال تعلم: أنّ هذا لازم بعض الأقوال المتقدّمة وهي الّتي ترى أنّ المتشابه إنّما صار متشابهاً لاشتماله على تأويل يتعذّر الوصول إليه وفهمه أو أنّ المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائيّة يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظيّة.

٤٣

وقال آخرون: أنّ معنى اُمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم: أنّ المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتّباع العمليّ في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة. وهذا القول لا يغاير القول الأوّل كثير مغائرة وظاهر بعض آخر أنّ معناها كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات رافعة لتشابهها.

والحقّ هو المعنى الثالث فإنّ معنى الاُمومة الّذي تدلّ عليه قوله: هنّ اُمّ الكتاب الآية يتضمّن عناية زائدة وهو أخصّ من معنى الأصل الّذي فسّرت به الاُمّ في القول الأوّل فإنّ في هذه اللفظة أعني لفظة الاُمّ عناية بالرجوع الّذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعّض فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرّع على المحكمات ولازمه كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات.

على أنّ المتشابه إنّما كان متشابهاً لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل فإنّ التأويل كما مرّ يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه والقرآن يفسّر بعضه بعضاً فللمتشابه مفسّر وليس إلّا المحكم مثال ذلك قوله تعالى:( إلى ربّها ناظرة ) القيامة - ٢٣ فإنّه آية متشابهة وبإرجاعها إلى قوله تعالى:( ليس كمثله شئ ) الشورى - ١١ وقوله تعالى:( لا تدركه الأبصار ) الانعام - ١٠٣ يتبيّن: أنّ المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسّيّ وقد قال تعالى:( ما كذب الفؤاد ما رآى أفتمارونه على ما يرى - إلى أن قال -لقد رآى من آيات ربّه الكبرى ) النجم - ١٨ فأثبت للقلب رؤية تخصّه وليس هو الفكر فإنّ الفكر إنّما يتعلّق بالتصديق والمركّب الذهنيّ والرؤية إنّما تتعلّق بالمفرد العينيّ فيتبيّن بذلك أنّه توجّه من القلب ليست بالحسّيّة المادّيّة ولا بالعقليّة الذهنيّة والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

٤٤

٣ - ما معنى التأويل ؟

فسّر قوم من المفسّرين التأويل بالتفسير وهو المراد من الكلام وإذ كان المراد من بعض الآيات معلوماً بالضرورة كان المراد بالتأويل عليهذا من قوله تعالى: وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله الآية هو المعنى المراد بالآية المتشابهة فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابهة على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره وغير الراسخين في العلم.

وقالت طائفة اُخرى: أنّ المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.

وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخّرين كما أنّ المعنى الأوّل هو الّذي كان شائعاً بين قدماء المفسّرين سواء فيه من كان يقول: إنّ التأويل لا يعلمه إلّا الله ومن كان يقول: إنّ الراسخين في العلم أيضاً يعلمونه كما نقل عن ابن عبّاس: أنّه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله.

وذهب طائفة اُخرى: إلى أنّ التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلّا الله تعالى أو لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ فيرجع الأمر إلى أنّ للآية المتشابهة معاني متعدّدة بعضها تحت بعض منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام ومنها ما هو أبعد منه لا يناله إلّا الله سبحانه أو هو تعالى والراسخون في العلم.

وقد اختلفت أنظارهم في كيفيّة ارتباط هذه المعاني باللفظ فإنّ من المتيقّن أنّها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلّا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محلّه فهي لا محالة معان مترتّبة في الطول: فقيل: إنّها لوازم معنى اللفظ إلّا أنّها لوازم مترتّبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا. وقيل: إنّها معان مترتّبة بعضها على بعض ترتّب الباطن على ظاهره فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنّك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلّا السقي وهو

٤٥

بعينه طلب للإرواء وطلب لرفع الحاجة الوجوديّة وطلب للكمال الوجوديّ وليس هناك أربعة أوامر ومطالب بل الطلب الواحد المتعلّق بالسقي متعلّق بعينه بهذه الاُمور الّتى بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها.

وهيهنا قول رابع: وهو أنّ التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العينيّ الّذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام حكماً إنشائيّاً كالأمر والنهي فتأويله المصلحة الّتي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه فتأويل قوله: أقيموا الصلاة مثلاً هو الحالة النورانيّة الخارجيّة الّتي تقوم بنفس المصلّي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر وإن كان الكلام خبريّاً فإن كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء والاُمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي وإن كان إخباراً عن الحوادث والاُمور الحاليّة والمستقبلة فهو على قسمين: فإمّا أن يكون المخبر به من الاُمور الّتي تناله الحواسّ أو تدركه العقول كان أيضاً تأويله ما هو في الخارج من القضيّة الواقعة كقوله تعالى:( وفيكم سمّاعون لهم ) التوبة - ٤٧ وقوله تعالى:( غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) الروم - ٤ وإن كان من الاُمور المستقبلة الغيبيّة الّتي لا تناله حواسّنا الدنيويّة ولا يدرك حقيقتها عقولنا كالاُمور المربوطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطائر الكتب أو كان ممّا هو خارج من سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى فتأويلها أيضاً نفس حقائقها الخارجيّة.

والفرق بين هذا القسم أعنى الآيات المبيّنة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الاُخر أنّ الأقسام الاُخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم فإنّه لا يعلم حقيقة تأويله إلّا الله تعالى. نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم، وأمّا حقيقة الأمر الّذي هو حقّ التأويل فهو ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه.

فهذا هو الّذي يتحصّل من مذاهبهم في معنى التأويل وهي أربعة.

٤٦

وهيهنا أقوال اُخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأوّل وإن تحاشى القائلون بها عن قبوله.

فمن جملتها أنّ التفسير أعمّ من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وأكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهيّة ويستعمل التفسير فيها وفي غيرها.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان معنى اللفظ الّذي لا يحتمل إلّا وجهاً واحداً والتأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطاً.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ والتأويل ترجيح أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها وهو قريب من سابقه.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان دليل المراد والتأويل بيان حقيقه المراد مثاله: قوله تعالى: إنّ ربّك لبالمرصاد فتفسيره: أنّ المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب. وتأويله التحذير عن التهاون بأمر الله والغفلة عنه.

ومن جملتها: أنّ التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ والتأويل بيان المعنى المشكل.

ومن جملتها: أنّ التفسير يتعلّق بالرواية والتأويل يتعلّق بالدراية.

ومن جملتها: أنّ التفسير يتعلّق بالاتّباع والسماع والتأويل يتعلّق بالاستنباط والنظر. فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأوّل الّذي نقلناه يرد عليها ما يرد عليه. وكيف كان فلا يصحّ الركون إلى شئ من هذه الأقوال الأربعة وما ينشعب منها.

أمّا إجمالاً: فلأنّك قد عرفت: أنّ المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم تدلّ عليه الآية سواء كان مخالفاً لظاهرها أو موافقاً، بل هو من قبيل الاُمور الخارجيّة، ولا كلّ أمر خارجيّ حتّى يكون المصداق الخارجيّ للخير تأويلاً له، بل أمر خارجيّ مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثّل إلى المثل (بفتحتين) والباطن إلى الظاهر.

٤٧

وأمّا تفصيلاً فيرد على القول الأوّل: أنّ أقلّ ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنيّة لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظيّة عامّة الأفهام، وليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنّه إنّما اُنزل قرآناً ليناله الأفهام، ولا مناص لصاحب هذا القول إلّا أن يختار أنّ الآيات المتشابهة إنّما هي فواتح السور من الحروف المقطّعة حيث لا ينال معانيها عامّة الأفهام، ويرد عليه: أنّه لا دليل عليه، ومجرّد كون التأويل مشتملاً على معنىّ الرجوع وكون التفسير أيضاً غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أنّ الاُمّ مرجع لأولادها وليست بتأويل لهم، والرئيس مرجع للمرؤوس وليس بتأويل له.

على أنّ ابتغاء الفتنة عدّ في الآية خاصّة مستقلّة للتشابه وهو يوجد في غير فواتح السور فإنّ أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنّما حدثت باتّباع علل الأحكام وآيات الصفات وغيرها.

وأمّا القول الثاني فيرد عليه: أنّ لازمه وجود آيات في القرآن اُريد بها معان يخالفها ظاهرها الّذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات ومرجعه إلى أنّ في القرآن اختلافاً بين الآيات لا يرتفع إلّا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامّة الأفهام وهذا يبطل الاحتجاج الّذي في قوله تعالى:( أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) النساء - ٨٢ إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنّه اُريد بإحداهما أو بهما معاً غير ما يدلّ عليه الظاهر بل معنى تأويليّ باصطلاحهم لا يعلمه إلّا الله سبحانه مثلاً لم تنجح حجّة الآية فإنّ انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كلّ مجموع من الكلام ولو كان لغير الله أمر ممكن ولا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر إذ من الواضح أنّ كلّ كلام حتّى القطعيّ الكذب واللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق والحقّ بالتأويل والصرف عن ظاهره فلا يدلّ ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال وتناقض الآراء والسهو والنسيان والخطاء والتكامل بمرور الزمان كما هو المعنيّ بالاحتجاج في الآية فالآية بلسان احتجاجها صريح في

٤٨

أنّ القرآن معرض لعامّة الأفهام ومسرح للبحث والتأمّل والتدبّر وليس فيه آية اُريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربيّ ولا أنّ فيه اُحجيّة وتعمية.

وأمّا القول الثالث فيرد عليه: أنّ اشتمال الآيات القرآنيّة على معان مترتّبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض ممّا لا ينكره إلّا من حرم نعمة التدبّر إلّا أنّها جميعاً - وخاصّة لو قلنا أنّها لوازم المعنى - مداليل لفظيّة مختلفة من حيث الانفهام وذكاء السامع المتدبّر وبلادته وهذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: وما يعلم تأويله إلّا الله فإنّ المعارف العالية والمسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى وطهارة النفس بل من حيث الحدّة وعدمها وإن كانت التقوى وطهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهيّة لكنّ ذلك ليس على نحو الدوران والعلّيّة كما هو ظاهر قوله: وما يعلم تأويله إلّا الله.

وأمّا القول الرابع فيرد عليه: أنّه وإن أصاب في بعض كلامه لكنّه أخطأ في بعضه الآخر فإنّه وإن أصاب في القول بأنّ التأويل لا يختصّ بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن وأنّ التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظيّ بل هو أمر خارجيّ يبتني عليه الكلام لكنّه أخطأ في عدّ كلّ أمر خارجيّ مرتبط بمضمون الكلام حتّى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية والمستقبلة تأويلاً للكلام وفي حصر المتشابه الّذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات وآيات القيامة.

توضيحه: أنّ المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: وابتغاء تأويله إلخ إمّا أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: ولا يعلم تأويله إلّا الله إلخ فإنّ كثيراً من تأويل القرآن وهو تأويلات القصص بل الأحكام أيضاً وآيات الأخلاق ممّا يمكن أن يعلمه غيره تعالى وغير الراسخين في العلم من الناس حتّى الزائغون قلباً على قوله فإنّ الحوادث الّتي تدلّ عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم وكذا الحقائق الخلقيّة والمصالح الّتي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات والمعاملات وسائر الاُمور المشرّعة.

وإن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: وما

٤٩

يعلم تأويله إلّا الله إلخ وأفاد أنّ غيره تعالى وغير الراسخين في العلم مثلاً لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه وهو يؤدّي إلى الفتنة وإضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الّذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات والقيامة فإنّ الفتنة والضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام والقصص وغيرهما كأن يقول القائل (وقد قيل) إنّ المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنسانيّ بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح فلو فرض أنّ صلاح المجتمع في غير الحكم المشرّع أو أنّه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتّباعه وإلغاء الحكم الدينيّ المشرّع. وكأن يقول القائل (وقد قيل) إنّ المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن اُمور عاديّة وإنّما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامّة لانجذاب نفوسهم وخضوع قلوبهم لما يتخيّلونه خارقاً للعادة قاهراً لقوانين الطبيعة ويوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شئ كثير من هذه الأقاويل وجميعها من التأويل في القرآن ابتغائاً للفتنة بلا شكّ فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات وآيات القيامة.

إذا عرفت ما مرّ علمت: أنّ الحقّ في تفسير التأويل أنّه الحقيقة الواقعيّة الّتي تستند إليها البيانات القرآنيّة من حكم أو موعظة أو حكمة وأنّه موجود لجميع الآيات القرآنيّة: محكمها ومتشابهها وأنّه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الاُمور العينيّة المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ وإنّما قيّدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهى كالأمثال تضرب ليقرّب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى:( والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعلىّ حكيم ) الزخرف - ٤ وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى.

على أنّك قد عرفت فيما مرّ من البيان أنّ القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد الّتي استعملها - وهي ستّة عشر مورداً على ما عدّت - إلّا في المعنى الّذي ذكرناه.

٥٠

٤ - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه ؟

هذه المسألة أيضاً من موارد الخلاف الشديد بين المفسّرين ومنشأه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا الآية وأنّ الواو هل هو للعطف أو للاستيناف فذهب بعض القدماء والشافعيّة ومعظم المفسّرين من الشيعة إلى أنّ الواو للعطف وأنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن وذهب معظم القدماء والحنفيّة من أهل السنّة إلى أنّه للاستيناف وأنّه لا يعلم تأويل المتشابه إلّا الله وهو ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه وقد استدلّت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة وببعض الروايات والطائفة الثانية بوجوه اُخر وعدّة من الروايات الواردة في أنّ تأويل المتشابهات ممّا استأثر الله سبحانه بعلمه وتمادت كلّ طائفة في مناقضة صاحبتها والمعارضة مع حججها.

والّذي ينبغي أن يتنبّه له الباحث في المقام أنّ المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أوّل ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث والتنقير فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم وبعبارة اُخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونّا به المسألة وقرّرنا عليه الخلاف وقول كلّ من الطرفين آنفا.

ولذلك تركنا التعرّض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط وأمّا الروايات فإنّها مخالفة لظاهر الكتاب فإنّ الروايات المثبتة أعنى الدالّة على أنّ الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنّها أخذت التأويل مراد فاللمعنى المراد من لفظ المتشابه ولا تأويل في القرآن بهذا المعنى كما روى من طرق أهل السنّة: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا لابن عبّاس فقال: اللّهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل وما روي من قول ابن عبّاس: أنا من الراسخين في العلم وأنا أعلم تأويله ومن قوله: إنّ المحكمات هي الآيات الناسخة والمتشابهات هي المنسوخة فإنّ لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلاً للآية المتشابهة وهو الّذى أشرنا إليه أنّ التأويل بهذا المعنى ليس مورداً لنظر الآية.

٥١

وأمّا الروايات النافية أعنى الدالّة على أنّ غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روى: أن ابن عبّاس كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الراسخون في العلم آمنّا به وكذلك كان يقرأ اُبىّ بن كعب وما روي أنّ ابن مسعود كان يقرأ: وإن تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به فهذه لا تصلح لإثبات شئ: أمّا أوّلاً: فلأنّ هذه القرائات لا حجّيّة فيها. وأمّا ثانياً: فلأنّ غاية دلالتها أنّ الآية لا تدلّ على علم الراسخين في العلم بالتأويل وعدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدّعى فمن الممكن أن يدلّ عليه دليل آخر.

ومثل ما في الدرّ المنثور عن الطبرانيّ عن أبي مالك الأشعريّ أنّه سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لا أخاف على اُمّتي إلّا ثلاث خصال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذكر إلّا اُولوا الألباب، وأن يكثر علمهم فيضيعونه ولا يبالون به. وهذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدلّ إلّا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم، ولا ينفع المستدلّ إلّا الثاني.

ومثل الروايات الدالّة على وجوب اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه. وعدم دلالتها على النفي ممّا لا يرتاب فيه.

ومثل ما في تفسير الآلوسيّ عن ابن جرير عن ابن عبّاس مرفوعاً: اُنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تفسّره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلّا الله ومن ادّعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب. والحديث مع كونه مرفوعاً ومعارضاً بما نقل عنه من دعوة الرسول له وادّعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أنّ التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مرّ.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأمّا هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.

٥٢

أمّا الجهة الثانية فلمّا مرّ في البيان السابق: أنّ الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنّما هي في مقام بيان انقساُمّ الكتاب إلى المحكم والمتشابه، وتفرّق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتّباع المتشابه لزيغ في قلبه وثابت على اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه فإنّما القصد الأوّل في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمّهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأوّل ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلّا وجوه غير تامّة تقدّمت الإشارة إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: وما يعلم تأويله إلّا الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك. فالّذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به.

لكنّه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب. قال تعالى:( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلّا الله ) النمل - ٦٥ وقال تعالى:( إنّما الغيب لله ) يونس - ٢٠ وقال تعالى:( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو ) الأنعام - ٥٩. فدلّ جميع ذلك على الحصر ثمّ قال تعالى:( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلّا من ارتضى من رسول ) الجنّ - ٢٧. فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول، ولذلك نظائر في القرآن.

وأمّا الجهه الاُولى - وهى أنّ القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه: أنّ الآيات كما عرفت تدلّ على أنّ تأويل الآية أمر خارجيّ نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثّل إلى المثل فهو وإن لم يكن مدلولاً للآية بما لها من الدلالة لكنّه محكيّ لها محفوظ فيها نوعاً من الحكاية والحفظ. نظير قولك: في الصيف ضيّعت اللبن لمن أراد أمراً قد فوّت أسبابه من قبل فإنّ المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل وهو تضييع المرئة اللبن في الصيف لا ينطبق شئ منه على المورد، وهو مع ذلك ممثّل لحال المخاطب حافظ له يصوّره في الذهن بصورة مضمّنة في الصورة الّتي يعطيها الكلام بمدلوله.

٥٣

كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجيّة الّتي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهيّة أو وقوع حادثة هي مضمون قصّة من القصص القرآنيّة وإن لم تكن أمراً يدلّ عليه بالمطابقة نفس الأمر والنهي أو البيان أو الواقعة الكذائيّة إلّا أنّ الحكم أو البيان أو الحادثة لمّا كان كلّ منها ينتشئ منها ويظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية والإشارة كما أنّ قول السيّد لخادمه: اسقني ينتشئ عن اقتضاء الطبيعة الإنسانيّة لكمالها فإنّ هذه الحقيقة الخارجيّة هي الّتي تقتضي حفظ الوجود والبقاء، وهو يقتضي بدل ما يتحلّل من البدن وهو يقتضي الغذاء اللازم وهو يقتضي الريّ وهو يقتضي الأمر بالسقي مثلاً فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجيّة الإنسانيّة من اقتضاء الكمال في وجوده وبقائه ولو تبدّلت هذه الحقيقة الخارجيّة إلى شئ آخر يباين الأوّل مثلاً لتبدّل الحكم الّذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر وكذا الفعل الّذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانيّة على اختلافها الفاحش في الآداب والرسوم إنّما يرتضع من ثدي الحسن والقبح الّذي عندهم وهو يستند إلى مجموعة متّحدة متّفقة من علل زمانيّة ومكانيّة وسوابق عادات ورسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممّن سبقه وتكرّر المشاهدة ممّن شاهده من أهل منطقته فهذه العلّة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنّها محكيّة مضمّنة محفوظة بالفعل أو الترك ولو فرض تبدّل المحيط الاجتماعيّ لتبدّل ما أتى به من الفعل أو الترك.

فالأمر الّذي له التأويل سواء كان حكماً أو قصّة أو حادثة يتغيّر بتغيّر التأويل لا محالة ولذلك ترى أنّه تعالى في قوله: فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاءً الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله الآية لما ذكر اتّباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاءاً للفتنة ذكر أنّهم بذلك يبتغون تأويله الّذي ليس بتأويل له وليس إلّا لأنّ التأويل الّذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقيّ لكان اتّباعهم للمتشابه اتّباعاً حقّاً غير مذموم وتبدّل الأمر الّذي يدلّ عليه المحكم وهو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الّذي فهموه من المتشابه واتّبعوه.

٥٤

فقد تبيّن: أنّ تأويل القرآن حقائق خارجيّة تستند إليه آيات القرآن في معارفها وشرائعها وسائر ما بيّنته بحيث لو فرض تغيّر شئ من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.

وإذا أجدت التدبّر وجدت أنّ هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى:( والكتاب المبين إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم ) الزخرف - ٤ فإنّه يدلّ على أنّ القرآن النازل كان عند الله أمراً أعلى وأحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطّع والتفصّل لكنّه تعالى عنايةً بعباده جعله كتاباً مقرّراً وألبسه لباس العربيّة لعلّهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله ومعرفته ما دام في اُمّ الكتاب واُمّ الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله:( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب ) الرعد - ٣٩. وبقوله:( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) البروج - ٢٢.

ويدلّ على إجمال مضمون الآية أيضاً قوله تعالى:( كتاب اُحكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير ) هود - ١ فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه ولا فصل والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وآية آية وتنزيله على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ويدلّ على هذه المرتبة الثانية الّتي تستند إلى الاُولى قوله تعالى:( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلاً ) أسرى - ١٠٦ فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثمّ فرق ونزّل تنزيلاً واُوحي نجوماً.

وليس المراد بذلك أنّه كان مجموع الآيات مرتّب السور على الحال الّذي هو عليه الآن عندنا كتاباً مؤلّفاً مجموعاً بين الدفّتين مثلاً ثمّ فرق واُنزل على النبيّ نجوماً ليقرأه على الناس على مكث كما يفرّقه المعلم المقري منّا قطعات ثمّ يعلّمه ويقرئه متعلّمه كلّ يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.

وذلك أنّ بين إنزال القرآن نجوماً على النبيّ وبين إلقائه قطعة قطعة على المتعلّم فرقاً بيّناً وهو دخالة أسباب النزول في نزول الآيه على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا شئ من ذلك ولا ما يشبهه في تعلّم المتعلّم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلّم في أزمنة مختلفة يمكن

٥٥

أن تجمع وينضمّ بعضها إلى بعض في زمان واحد، ولا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى:( فاعف عنهم واصفح ) المائدة - ١٣ وقوله تعالى:( قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار ) التوبة - ١٢٣ وقوله تعالى:( قد سمع الله قول الّتي تجادلك في زوجها ) المجادلة - ١ وقوله تعالى:( خذ من أموالهم صدقة ) التوبة - ١٠٣ ونحو ذلك فيلغى سبب النزول وزمانها ثمّ يفرض نزولها في أوّل البعثة أو في آخر زمان حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالمراد بالقرآن في قوله: وقرآناً فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلّفة.

وبالجملة فالمحصّل من الآيات الشريفة أنّ وراء ما نقرأه ونعقله من القرآن أمراً هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد والمتمثّل من المثال - وهو الّذي يسمّيه تعالى بالكتاب الحكيم - وهو الّذي تعتمد وتتّكي عليه معارف القرآن المنزّل ومضامينه وليس من سنخ الألفاظ المفرّقة المقطّعة ولا المعاني المدلول عليها بها وهذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه ونعوته عليه. وبذلك يظهر حقيقة معنى التأويل ويظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسّه الأفهام العاديّة والنفوس غير المطهّرة.

ثمّ إنّه تعالى قال:( إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون ) الواقعة - ٧٩ ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطهّرين من عباد الله هم يمسّون القرآن الكريم الّذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغيّر ومن التغيّر تصرّف الأذهان بالورود عليه والصدور منه وليس هذا المسّ إلّا نيل الفهم والعلم ومن المعلوم أيضاً: أنّ الكتاب المكنون هذا هو اُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله: يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب وهو المذكور في قوله: وإنّه في اُمّ الكتاب لدينا لعلىّ حكيم.

وهؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم وليس ينزلها إلّا الله سبحانه فإنّه تعالى لم يذكرها إلّا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى:( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) الأحزاب - ٣٣ وقوله تعالى:( ولكن يريد ليطهّركم ) المائدة - ٦ وما في القرآن شئ من الطهارة المعنويّة إلّا منسوبة إلى الله أو بإذنه وليست الطهارة إلّا زوال الرجس من القلب وليس القلب من الإنسان

٥٦

إلّا ما يدرك به ويريد به فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين، ويرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقّة من غير ميلان إلى الشكّ ونوسان بين الحقّ والباطل وثباته على لوازم ما علمه من الحقّ من غير تمائل إلى اتّباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم فإنّ الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلّا بأنّهم مهديّون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة فقد ظهر أنّ هؤلاء المطهّرين راسخون في العلم هذا.

ولكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة الّتي ينتجها هذا البيان فإنّ المقدار الثابت بذلك أنّ المطهّرين يعلمون التأويل ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم لما أنّ تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب لا أنّ الراسخين في العلم يعلمونه بما أنّهم راسخون في العلم أي إنّ الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإنّ الآية لا تثبت ذلك بل ربّما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا الآية وقد وصف الله تعالى رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الإيمان والعمل الصالح في قوله:( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك الآية ) النساء - ١٦٢ ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.

وكذلك إنّ الآية أعني قوله تعالى: لا يمسّه إلّا المطهّرون لم تثبت للمطهّرين إلّا مسّ الكتاب في الجملة، وأمّا أنّهم يعلمون كلّ التأويل ولا يجهلون شيئاً منه ولا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، ولو ثبت لثبت بدليل منفصل.

٥ - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه ؟

 ومن الاعتراضات الّتي اُوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنّكم تدّعون أنّ تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه وأنّه قول فصل يميّز بين الحقّ والباطل ثمّ إنّا نراه يتمسّك به كلّ صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، وليس ذلك إلّا لوقوع التشابه في آياته أفليس

٥٧

أنّه لو جعله جليّاً نقيّاً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، وأقطع لمادّة الخلاف والزيغ؟

وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأنّ وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحقّ ومشقّة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب! وكالجواب بأنّه لو لم يشتمل إلّا على صريح القول في مذهب لنفّر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه لكنّه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحقّ فيؤمنوا به وكالجواب بأنّ اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد وكالجواب بأنّ اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، وفي ذلك فائدة التضلّع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو واُصول الفقه.

فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والّذي يستحقّ الإيراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلثة:

الأوّل: أنّ اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به فإنّه لو كان كلّ ما ورد في الكتاب معقولاً واضحاً لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شئ من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.

وفيه: أنّ الخضوع هو نوع انفعال وتأثّر من الضعيف في مقابل القويّ والإنسان إنّما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهوره الإدراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته الّتي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها وأمّا الاُمور الّتي لا ينالها العقل لكنّه يغترّ ويغادر باعتقاد أنّه يدركها فما معنى خضوعه لها ؟ كالآيات المتشابهة الّتي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنّه يعقلها وهو لا يعقل.

الثاني: أنّ اشتماله على المتشابه إنّما هو لبعث العقل على البحث والتنقير لئلّا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات الّتي لا يعمل فيها عامل الفكر فإنّ العقل أعزّ

٥٨

القوى الإنسانيّة الّتي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

وفيه: أنّ الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إجمالاً في موارد من كلامه، وتفصيلاً في موارد اُخرى كخلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدوابّ والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه وندب إلى التعقّل والتفكّر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين وحرّض على العقل والفكر ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في اُمور ليس إلّا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.

الثالث: أنّ الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامّة والخاصّة والذكيّ والبليد والعالم والجاهل وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء فالحريّ في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصّة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامّة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.

وفيه: أنّ الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات الّتي تبيّن المتشابهات بالرجوع إليها ولازم ذلك أن لا تتضمّن المتشابهات أزيد ممّا يكشف عنها المحكمات وعند ذلك يبقى السؤال (وهو أنّه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات ؟) على حاله ومنشأ الاشتباه أنّ المجيب أخذ المعاني نوعين متبائنين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامّة والخاصّة وهي مداليل المحكمات ومعان سنخها بحيث لا يتلقّاها إلّا الخاصّة من المعارف العالية والحكم الدقيقة فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات وقد مرّ أنّ ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالّة على أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً وغير ذلك.

والّذي ينبغي أن يقال: أنّ وجود المتشابه في القرآن ضروريّ ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضاً بالمعنى الّذي أوضحناه للتأويل فيما مرّ.

ويتّضح ذلك بعض الاتّضاح بإجادة التدبّر في جهات البيان القرآنيّ والتعليم الإلهيّ والاُمور الّتي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهى اُمور:

٥٩

منها: أنّ الله سبحانه ذكر أنّ لكتابه تأويلاً هو الّذي تدور مداره المعارف القرآنيّة والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمّنه التعليم الإلهيّ وأنّ هذا التأويل الّذي تستقبله وتتوجّه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلّا نفوس طهّرهم الله وأزال عنهم الرجس فإنّ لهم خاصّة أن يمسّوه. وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الّذي هو تبيان كلّ شئ ومفتاحه التطهير الإلهيّ وقد قال تعالى:( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهّركم ) المائدة - ٧ فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهيّ.

وهذا الكمال الإنسانيّ كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلّا أفراد خاصّة وإن كانت الدعوة متعلّقة بالجميع متوجّهة إلى الكلّ فتربية الناس بالتربية الدينيّة إنّما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصّة وبعض التطهير في آخرين ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس كما أنّ الإسلام يدعو إلى حقّ التقوى في العمل قال تعالى:( اتّقوا الله حقّ تقاته ) آل عمران - ١٠٢ ولكن لا يحصل كماله إلّا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالامثل، كلّ ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم وهكذا جميع الكمالات الاجتماعيّة من حيث التربية والدعوة يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كلّ كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلّا البعض ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.

وبالحقيقه أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلّف دون كلّ فرد منه.

ومنها: أنّ القرآن قطع بأنّ الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل: أمّا في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدء والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتّى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيّات معرفة حقيقيّة. وأمّا في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعيّة عليه بحيث تصلح شأن حياته الاجتماعيّة ولا تشغله عن التخلّص إلى عالم العلم والعرفان ثمّ بتحميل تكاليف عباديّة يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجّه

٦٠