الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 117564
تحميل: 5990


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117564 / تحميل: 5990
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة البقرة آية ١٨٣ - ١٨٥)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٨٣ ) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١٨٤ ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ١٨٥ )

( بيان)

سياق الآيات الثلاث يدلّ أوّلاً على أنّها جميعاً نازلة معاً فإنّ قوله تعالى:( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) ، في أوّل الآية الثانية ظرف متعلّق بقوله: الصيام في الآية الاُولى، وقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ ) ، في الآية الثالثة إمّا خبر لمبتدء محذوف وهو الضمير الراجع إلى قوله أيّاماً معدودات، والتقدير هي شهر رمضان أو مبتدء لخبر محذوف، والتقدير شهر رمضان هو الّذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله: كتب عليكم الصيام، في الآية الاُولى وعلى أيّ تقدير هو بيان وأيضاًح للأيّام المعدودات الّتي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعاً كلام واحد مسوق لغرض واحد وهو بيان فرض صوم شهر رمضان.

وسياق الآيات يدلّ ثانياً على أنّ شطراً من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزله التوطئة والتمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أنّ الآيتين الاُوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدّمة الّتي تساق لتسكين طيش النفوس والحصول على اطمينانها واستقرارها عن القلق والاضطراب، إذا كان غرض المتكلّم بيان ما لا يؤمن فيه التخلّف والتأبيّ عن القبول، لكون ما يأي من الحكم أو الخبر ثقيلاً شاقّاً بطبعه على المخاطب

٢

، ولذلك ترى الآيتين الاُوليين تألّف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق وملائمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش والاضطراب، ويحصل به تطيّب النفس، وتنكسر به سورة الجماح والاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف والتسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل والآجل.

ولذلك لمّا ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الّذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه وتستوحشوا من تشريعه في حقّكم وكتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حقّ الاُمم السابقة عليكم ولستم أنتم متفرّدين فيه، على أنّ في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون وتطلبونه بإيمانكم وهو التقوي الّتي هي خير زاد لمن آمن بالله واليوم الآخر، - وأنتم المؤمنون - وهو قوله تعالى: لعلّكم تتّقون، على أنّ هذا العمل الّذي فيه رجاء التقوى لكم ولمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم ولا أكثرها بل إنّما هو في أيّام قلائل معيّنة معدودة، وهو قوله تعالى: أيّاماً معدودات، فإنّ في تنكير، أيّاماً، دلالة على التحقير، وفي التوصيف بالعدل إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى:( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف - ٣٠، على أنّا راعينا جانب من يشقّ عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدّلة من فدية لا تشقّه ولا يستثقلها، وهو طعام مسكين وهو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً أو على سفرإلى قوله: فدية طعام مسكين اه. وإذا كان هذا العمل مشتملاً على خيركم ومراعي فيه ما أمكن من التخفيف والتسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع والرغبة من غير كره وتثاقل وتثبّط، فإنّ من تطوّع خيراً فهو خير له من أن يأتي به عن كره وهو قوله تعالى: فمن تطوّع خيراً فهو خير له الخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة وتمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه الخ، وعلي هذا فقوله تعالى في الآية الاُولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقّق الكتابة وليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) الآية البقرة - ١٧٨، وقوله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَ

٣

الْأَقْرَبِينَ ) البقرة - ١٨٥، فإن بين القصاص في القتلي والوصيّة للوالدين والأقربين وبين الصيام فرقاً، وهو أنّ القصاص في القتلى أمر يوافق حسّ الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين ويلائم الشحّ الغريزي الّذي في الطباع أن ترى القاتل حيّاً سالماً يعيش ولا يعباء بما جنى من القتل، وكذلك حسّ الشفقة والرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحّم على الوالدين والأقربين، وخاصّة عند الموت والفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، والوصيّة حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدّمة وتوطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنّه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها ومعظم ما تميل إليها وهو الأكل والشرب والجماع، ولذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، وهم عامّة الناس من المكلّفين إلى تمهيد وتوطئة تطيب بها نفوسهم وتحنّ بسببها إلى قبوله وأخذه طباعهم، ولهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، وقوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت، إنشاءً للحكم من غير حاجة الى تمهيد مقدّمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنّه إخبار عن الحكم وتمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم وهو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربّهم به من الحكم و إن كان على خلاف مشتهياتهم وعاداتهم، وقد صدّرت آية القصاص بذلك أيضاً لما سمعت أنّ النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإن كان سائر الطوائف من الملّيّين وغيرهم يرون القصاص.

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) اه، الكتابة معروفة المعنى ويكنّى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقوله تعالى:( وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ) يس - ١٢، وقوله تعالى:( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) المائدة - ٤٥. والصيام والصوم في اللّغة مصدران بمعنى الكفّ عن الفعل: كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك، وربّما يقال: إنّه الكفّ عمّا تشتهيه النفس وتتوق إليه خاصّة ثمّ غلب

٤

استعماله في الشرع في الكفّ عن اُمور مخصوصة: من طلوع الفجر إلى المغرب بالنيّة، والمراد بالّذين من قبلكم الاُمم الماضية ممّن سبق ظهور الإسلام من اُمم الأنبياء كاُمّة موسى وعيسى وغيرهم، فإنّ هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اُطلقت، وليس قوله: كما كتب على الّذين من قبلكم، في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدلّ على أنّ جميع اُمم الأنبياء كان مكتوباً عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أنّ الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الّذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيّات والأوصاف، فالتنظير في الآية إنّما هو من حيث أصل الصوم والكفّ لا من حيث خصوصيّاته.

والمراد بالّذين من قبلكم، الاُمم السابقة من الملّيّين في الجملة، ولم يعيّن القرآن من هم، غير أنّ ظاهر قوله: كما كتب، أنّ هؤلاء من أهل الملّة وقد فرض عليهم ذلك، ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدلّ على وجوب الصوم وفرضه، بل الكتاباًن إنّما يمدحانه ويعظّمان أمره، لكنّهم يصومون أيّاماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللّحم والصوم عن اللّبن والصوم عن الأكل والشرب، وفي القرآن قصّة صوم زكريّا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام.

بل الصوم عبادة مأثوره عن غير الملّيّين كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيّين، والوثنيّون من الهند يصومون حتّى اليوم، بل كونه عبادة قربيّة ممّا يهتدي إليه الإنسان بفطرته كما سيجئ.

وربّما يقال: إنّ المراد بالّذين من قبلكم اليهود والنصارى أو السابقين من الأنبياء استناداً إلى روايات لا تخلو عن ضعف.

قوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، كان أهل الأوثان يصومون لإرضاء آلهتهم أو لإطفاء نائرة غضبها إذا أجرموا جرماً أو عصوا معصية، وأذا أرادوا إنجاح حاجة وهذا يجعل الصيام معاملة ومبادلة يعطي بها حاجة الربّ ليقضي حاجة العبد أو يستحصل رضاه ليستحصل رضا العبد، وإنّ الله سبحانه أمنع جانباً من أن يتصوّر في حقّه فقر أو حاجة أو

٥

تأثّر أو أذيّ، وبالجملة هو سبحانه برئ من كلّ نقص، فما تعطيه العبادات من الأثر الجميل، أيّ عبادة كانت وأيّ أثر كان، إنّما يرجع إلى العبد دون الربّ تعالى وتقدّس، كما أنّ المعاصي أيضاً كذلك، قال تعالى:( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) الإسراء - ٧، هذا هو الّذي يشير إليه القرآن الكريم في تعليمه بإرجاع آثار الطاعات والمعاصي إلى الإنسان الّذي لا شأن له إلّا الفقر والحاجة. قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥، ويشير إليه في خصوص الصيام بقوله: لعلّكم تتّقون، وكون التقوي مرجوّ الحصول بالصيام ممّا لا ريب فيه فإنّ كلّ إنسان يشعر بفطرته أنّ من أراد الاتّصال بعالم الطهارة والرفعة، والارتقاء إلى مدرجة الكمال والروحانيّة فأوّل ما يلزمه أن يتنزّه عن الاسترسال في استيفاء لذائذ الجسم وينقبض عن الجماح في شهوات البدن ويتقدّس عن الإخلاد إلى الأرض، وبالجملة أن يتّقي ما يبعدّه الاشتغال به عن الربّ تبارك وتعالى فهذه تقوى إنّما تحصل بالصوم والكفّ عن الشهوات، وأقرب من ذلك وأمسّ لحال عموم الناس من أهل الدنيا وأهل الآخرة أن يتّقي ما يعمّ به البلوى من المشتهيات المباحة كالأكل والشرب والمباشرة حتّى يحصل له التدرّب على اتّقاء المحرّمات واجتنابها، وتتربّى على ذلك إرادته في الكفّ عن المعاصي والتقرّب إلى الله سبحانه، فإنّ من أجاب داعي الله في المشتهيات المباحة وسمع وأطاع فهو في محارم الله ومعاصيه أسمع وأطوع.

قوله تعالى: ( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) ، منصوب على الظرفيّة بتقدير، في ومتعلّق بقوله: الصيام، وقد مرّ أنّ تنكير أيّام واتّصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة والمشقّة تشجيعاّ للمكلّف، وقد مرّ أنّ قوله: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن الخ بيان للأيّام فالمراد بالأيّام المعدودات شهر رمضان.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بالأيّام المعدودات ثلثة أيّام من كلّ شهر وصوم يوم عاشوراء: وقال بعضهم: والثلاثة الأيّام هي الأيّام البيض من كلّ شهر وصوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله والمسلمون يصومونها، ثمّ نزل قوله تعالى: شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن الخ، فنسخ ذلك واستقرّ الفرض على صوم شهر رمضان، واستندوا

٦

في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنّة والجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف وتعارض.

والّذي يظهر به بطلان هذا القولأوّلاً: أنّ الصيام كما قيل: عبادة عامّة شاملة، ولو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ ولم يختلف في ثبوته ثمّ في نسخه أحد وليس كذلك، على أنّ لحوق يوم عاشوراء بالأيّام الثلاثة من كلّ شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيداً من الأعياد الإسلاميّة ممّا ابتدعه بنو اُميّة لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرّيّة رسول الله وأهل بيته بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم في وقعة الطفّ ثمّ تبرّكوا باليوم فاتّخذوه عيداً وشرّعوا صومه تبرّكاً به ووضعوا له فضائل وبركات، ودسّوا أحاديث تدلّ على أنّه كان عيداً إسلاميّاً بل من الأعياد العامّة الّتي كانت تعرفه عرب الجاهليّة واليهود والنصارى منذ بعث موسى وعيسى، وكلّ ذلك لم يكن، وليس اليوم ذا شأن ملّيّ حتّى يصير عيداً ملّيّاً قوميّاً مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، ولا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتّى يصير يوماً إسلاميّاً كيوم المبعث ويوم مولد النّبيّ، ولا هو ذو جهة دينيّة حتّى يصير عيداً دينيّاً كمثل عيد الفطر وعيد الأضحى فما باله عزيزاً بلا سبب؟.

وثانياً: أنّ الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: شهر رمضان الخ، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها وناسخاً لما قبلها فإنّ ظاهر السياق أنّ قوله شهر رمضان خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدءٌ لخبر محذوف كما مرّ ذكره فيكون بياناً للأيّام المعدودات ويكون جميع الآيات الثلاث كلاماً واحداً مسوقاً لغرض واحد وهو فرض صيام شهر رمضان، وأمّا جعل قوله: شهر رمضان مبتدئاً خبره قوله: الذى اُنزل فيه القرآن فإنّه وإن أوجب استقلال الآيه وصلاحيّتها لأن تنزل وحدها غير أنّها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها وبين سابقتها، مع أنّ النسخ مشروط بالتنافى والتباين.

وأضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: إنّ الآية الثانية أعني قوله تعالى: أيّاماً معدودات إلخ، ناسخة للآية الاُولى أعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام

٧

كما كتب على الّذين من قبلكم إلخ، وذلك أنّ الصوم كان مكتوباً على النصارى ثمّ زادوا فيه ونقصوا بعد عيسىعليه‌السلام حتّى استقرّ على خمسين يوماً، ثمّ شرعه الله في حقّ المسلمين بالآية الاُولى فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس يصومونها في صدر الإسلام حتّى نزل قوله تعالى: أيّاماً معدودات إلخ، فنسخ الحكم واستقرّ الحكم على غيره.

وهذا القول أوهن من سابقه وأظهر بطلاناً، ويرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، وكون الآية الثانية من متمّمات الآية الاُولى أظهر وأجلي، وما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن وسياق الآية.

قوله تعالى: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، الفاء للتفريع والجملة متفرّعة على قوله: كتب عليكم، وقوله: معدودات اه، أي إنّ الصيام مكتوب مفروض، والعدد مأخوذ في الفرض، وكما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيّام المعدودات الّتي هي أيّام شهر رمضان كعارض المرض والسفر، فإنّه لا يرفع اليد عن صيام عدّة من أيّام اُخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلّف من الصيام عدداً، وهذا هو الّذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: ولتكملوا العدّة، فقوله تعالى: أيّاماً معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مرّ يفيد كون العدد ركناً مأخوذاً في الفرض والحكم.

ثمّ إنّ المرض خلاف الصحّة والسفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأنّ المسافر ينكشف لسفره عن داره الّتي يأوي إليها ويكنّ فيها، وكأنّ قوله تعالى: أو على سفر، ولم يقل: مسافراً للإشارة إلى اعتبار فعليّة التلبّس حالاً دون الماضي والمستقبل.

وقد قال قوم - وهم المعظم من علماء أهل السنّة والجماعة -: إنّ المدلول عليه بقوله تعالى: فمن كان مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض والمسافر مخيّران بين الصيام والإفطار، وقد عرفت أنّ ظاهر قوله تعالى: فعدّة من أيّام اُخر هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، وهو المرويّ عن أئمّة

٨

أهل البيت، وهو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرّحمن بن عوف وعمر بن الخطّاب وعبدالله بن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدّة من أيّام اُخر.

وقد قدّروا لذلك في الآية تقديراً فقالوا: إنّ التقدير فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام اُخر.

ويرد عليهأوّلاً: أنّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّا بقرينة ولا قرينة من نفس الكلام عليه.

وثانياً: أنّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة فإنّ المقام كما ذكروه مقام التشريع، وقولنا: فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر غاية ما يدلّ عليه أنّ الإفطار لا يقع معصية بل جائزاً بالجواز بالمعنى الأعمّ من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأمّا كونه جائزاً بمعنى عدم كونه الزاميّاً فلا دليل عليه من الكلام ألبتّة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر.

قوله تعالى: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقّة، والفدية هي البدل وهي هنا بدل ماليّ وهو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكيناً جائعاً من أوسط ما يطعم الإنسان، وحكم الفدية أيضاً فرض كحكم القضاء في المريض والمسافر لمكان قوله: وعلى الّذين، الظاهر في الوجوب التعيينيّ دون الرخصة والتخيير.

وقد ذكر بعضهم: أنّ الجملة تفيد الرخصة ثمّ نسخت فهو سبحانه وتعالى خيّر المطيقين للصوم من الناس كلّهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويكفّروا عن كلّ يوم بطعام مسكين، لأنّ الناس كانوا يومئذ غير متعوّدين بالصوم ثمّ نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر، فليصمه وقد ذكر بعض هؤلاء: أنّه نسخ حكم غير العاجزين، وأمّا مثل الشيخ الهرم والحامل والمرضع فبقي على حاله، من جواز الفديه.

٩

ولعمري إنّه ليس إلّا لعباً بالقرآن وجعلاً لآياته عضين، وأنت إذا تأمّلت الآيات الثلاث وجدتها كلاماً موضوعاً على غرض واحد ذا سياق واحد متّسق الجمل رائق البيان، ثمّ إذا نزلت هذا الكلام على وحدته واتّساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختلّ السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضاً، وينقض آخره أوّله فتارة يقول: كتب عليكم الصّيام واُخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار والفدية، واُخرى يقول: يجب عليكم جميعاً الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين ويبقى حكم غير القادرين على حالة، ولم يكن في الآية حكم غيرالقادرين، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قوله: يطيقون، كان دالّا على القدرة قبل النسخ فصار يدلّ بعد النسخ على عدم القدرة، وبالجملة يجب على هذا أن يكون قوله: وعلى الّذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخاً لقوله: كتب عليكم الصيام، في أوّلها لمكان التنافي، ويبقى الكلام وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثمّ قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخاً لقوله: وعلى الّذين يطيقونه في وسطها، ويبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقاً شاملاً للقادر والعاجز جميعاً، وكون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الّذي يراد بقاؤه وهذا من أفحش الفساد.

وإذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أيّاماً معدودات الخ، ونسخ قوله: أيّاماً معدودات الخ، لقوله: كتب عليكم الصيام، وتأمّلت معنى الآيات شاهدت عجباً.

قوله تعالى: ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) ، التطوّع تفعّل من الطوع مقابل الكره وهو إتيان الفعل بالرضا والرغبة، ومعنى باب التفعّل الأخذ والقبول فمعنى التطوّع التلبّس في إتيان الفعل بالرضا والرغبة من غير كره واستثقال سواء كان فعلاً إلزاميّاً أو غير إلزاميّ، وأمّا اختصاص التطوّع استعمالاً بالمستحبّات والمندوبات فممّا حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أنّ الفعل الّذي يؤتى به بالطوع هو الندب وأمّا الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الّذي فيه.

١٠

وبالجملة التطوّع كما قيل: لا دلاله فيه مادّة وهيئه على الندب وعلى هذا فالفاء للتفريع والجملة متفرّعة على المحصّل من معنى الكلام السابق، والمعنى والله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيّاً فيه خيركم وصلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صفّ الاُمم الّتي قبلكم، والتخفيف والتسهيل لكم فأتوا به طوعاً لاكرهاً، فإنّ من أتى بالخير طوعاً كان خيراً له من أن يأتي به كرهاً.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله: فمن تطوّع خيراً من قبيل وضع السبب موضع المسبّب أعني وضع كون التطوّع بمطلق الخير خيراً مكان كون التطوّع بالصوم خيراً نظير قوله تعالى:( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) أي فاصبر ولا تحزن فإنّهم لا يكذّبونك.

وربّما يقال: إنّ الجملة أعني قوله تعالى: فمن تطوّع خيراً فهو خير له، مرتبطة بالجملة الّتي تتلوها أعني قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، والمعنى أنّ من تطوّع خيراً من فدية طعام مسكين بأن يؤدّي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيراً له.

ويرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوّع بالمستحبّات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنّه لا يظهر لتفرّع التطوّع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أنّ قوله: فمن تطوّع خيراً، لا دلالة له على التطوّع بالزيادة فإنّ التطوّع بالخير غير التطوّع بالزيادة.

قوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، جملة متمّمة لسابقتها والمعنى بحسب التقدير - كما مرّ - تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم فإنّ التطوّع بالخير خير والصوم خير لكم، فالتطوّع به خير على خير.

وربّما يقال: إنّ الجملة أعني قوله: وأن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء.

١١

ويرد عليه: عدم الدليل عليهأوّلا ، واختلاف الجملتين أعني قوله: فمن كان منكم الخ، وقوله: وأن تصوموا خير لكم، بالغيبة والخطابثانياً ، وأنّ الجملة الاُولى مسوقه لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: فعدّة من أيّام اُخر، تعيّن الصوم في أيّام اُخر كما مرّثالثاً ، وأنّ الجملة الاُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قوله: وأن تصوموا خير لكم بياناً لأحد طرفي التخيير بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدّة من أيّام اُخر وحينئذ لا سبيل إلى استفاده ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرّد قوله: وأن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرةرابعاً ، وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيّاً بل المقام - كما مرّ سابقاً - مقام ملاك التشريع وأنّ الحكم المشّرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله:( فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة - ٥٤، وقوله تعالى:( فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الجمعة - ٩، وقوله تعالى:( تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) الصف - ١١، والآيات في ذلك كثيرة خامساً:

قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى ) ، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمريّة العربيّة بين شعبان وشوّال ولم يذكر اسم شئ من الشهور في القرآن إلّا شهر رمضان.

والنزول هو الورود على المحلّ من العلوّ، والفرق بين الإنزال والتنزيل أنّ الإنزال دفعيّ والتنزيل تدريجيّ، والقرآن اسم للكتاب المنزّل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار كونه مقروّاً كما قال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الزخرف، - ٣، ويطلق على مجموع الكتاب وعلى أبعاضه.

والآية تدلّ على نزول القرآن في شهر رمضان، وقد قال تعالى:( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) الإسراء - ١٠٦، وهو ظاهر في نزوله تدريجاً في مجموع مدّة الدعوة وهي ثلاث وعشرون سنة تقريباً، والمتواتر من التاريخ يدلّ على

١٢

ذلك، ولذلك ربّما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.

وربّما اُجيب عنه: بأنّه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثمّ نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجوماً وعلى مكث في مدّة ثلاث وعشرين سنة - مجموع مدّة الدعوة - وهذا جواب مأخوذ من الروايات الّتي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.

وقد اُورد عليه: بأنّ تعقيب قوله تعالى: اُنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية والفرقان في السماء مدّة سنين.

واُجيب: بأنّ كونه هادياً من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال وفارقاً أذا التبس حقّ بباطل لا ينافي بقائه مدّة على حال الشّأنيّة من غير فعليّة التأثير حتّى يحلّ أجله ويحين حينه، ولهذا نظائر وأمثال في القوانين المدنيّة المنتظمة الّتي كلّما حان حين مادّة من موادّها اُجريت وخرجت من القوّة إلى الفعل.

والحقّ أنّ حكم القوانين والدساتير غير حكم الخطابات الّتي لا يستقيم أن تتقدّم على مقام التخاطب ولو زماناً يسيراً، وفي القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى:( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ) المجادلة - ١، وقوله تعالى:( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) الجمعة - ١١، وقوله تعالى:( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) الأحزاب - ٢٣، على أنّ في القرآن ناسخاً ومنسوخاً، ولا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.

وربّما اُجيب عن إلاشكال: أنّ المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أنّ أوّل ما نزل منه نزل فيه. ويرد عليه: أنّ المشهور عندهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما بعث بالقرآن، وقد بعث اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وبينه وبين رمضان أكثر من ثلثين يوماً وكيف يخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن، على أنّ أوّل سورة اقرء باسم ربّك، يشهد على أنّها أوّل سورة نزلت وأنّها نزلت بمصاحبة البعثة، وكذا سورة المدّثّر تشهد أنّها نزلت في أوّل الدعوة وكيف كان فمن المستبعد جدّاً أن تكون أوّل آية

١٣

نزلت في شهر رمضان، على أنّ قوله تعالى: اُنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أنّ المراد بالقرآن أوّل نازل منه ولا قرينة تدلّ عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، ونظير هذه الآية قوله تعالى:( وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان - ٣، وقوله:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر - ١، فإنّ ظاهر هذه الآيات لايلائم كون المراد من إنزال القرآن أوّل إنزاله أو إنزال أوّل بعض من أبعاضه ولا قرينة في الكلام تدلّ على ذلك.

والّذي يعطيه التدبّر في آيات الكتاب أمر آخر فإنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة - ١٨٥ وقوله تعالى:( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) الدخان - ٣، وقوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر - ١، واعتبار الدفعة إمّا بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى:( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) يونس - ٢٤، فإنّ المطر إنّما ينزل تدريجاً لكنّ النظر ههنا معطوف إلى أخذه مجموعاً واحداً، ولذلك عبّر عنه بالإنزال دون التنزيل، وكقوله تعالى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) ص - ٢٩، وإمّا لكون الكتاب ذا حقيقة اُخرى وراء ما نفهمه بالفهم العاديّ الّذي يقضى فيه بالتفرّق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحّح لكونه واحداً غير تدريجيّ ونازلاً بالإنزال دون التنزيل. وهذا الاحتمال الثاني هو اللّائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود - ١، فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل.

وأوضح منه قوله تعالى:( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ

١٤

رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ) الأعراف - ٥٣، وقوله تعالى:( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - إلى أن قال -بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) يونس - ٣٩ فإنّ الآيات الشريفة وخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طارٍ على الكتاب فنفس الكتاب شئ والتفصيل الّذي يعرضه شئ آخر، وأنّهم إنّما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشئ يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعاربأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

وأوضح منه قوله تعالى:( حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف - ٤. فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عرض عليه جعله مقرّواً عربيّاً، وإنّما اُلبس لباس القراءة والعربيّة ليعقله الناس وإلّا فإنّه - وهو في أمّ الكتاب - عند الله، عليّ لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربيّ المبين وفي هذا المساق أيضاً قوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) الواقعة - ٨٠، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلّا المطهّرون من عباد الله وأنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار وهو الّذي عبّر عنه في آيات الزخرف، بأمّ الكتاب وفي سورة البروج، باللّوح المحفوظ، حيث قال تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) البروج - ٢٢، وهذا اللّوح إنّما كان محفوظاً لحفظه من ورود التغيّر عليه، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزّل تدريجاً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الّذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الّذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزّل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك.

ثمّ إنّ هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين

١٥

- ونحن نسمّيه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبّس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحّح لأن يطلق القرآن أحياناً على أصل الكتاب كما في قوله تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، إلى غير ذلك وهذا الّذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وقوله: إنّا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: إنّا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة كما اُنزل القرآن المفصّل على قلبه تدريجاً في مدّة الدعوة النبويّة.

وهذا هو الّذي يلوح من نحو قوله تعالى:( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه - ١١٤، وقوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) القيامة - ١٩، فإنّ الآيات ظاهره في أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقرائة قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إنشاء الله تعالى -.

وبالجملة فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنيّة لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزّل على النبيّ تدريجاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامّة أو تناولها أيدى الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة اُنزلت على النبيّ إنزالاً فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، وسيجئ بعض من الكلام المتعلّق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) آل عمران - ٧. فهذا ما يهدي إليه التدبّر ويدلّ عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلّمين والحسّيّون من باحثي هذا العصر لمّا أنكروا أصالة ماوراء المادّة المحسوسة اضطرّوا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالّة على كون القرآن هدى ورحمة ونوراً وروحاً ومواقع النجوم وكتاباً مبيناً، وفي لوح محفوظ، ونازلاً من عند الله، وفي صحف مطهّره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعراً منثوراً.

١٦

ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان:

قال ما محصّله: إنّه لا ريب أن بعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مقارناً لنزول أوّل ما نزل من القرآن وأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ والإنذار، ولا ريب أنّ هذه الواقعة إنّما وقعت باللّيل لقوله تعالى:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) الدخان - ٢، ولا ريب أنّ الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة - ١٨٥.

وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لمّا نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأنّ القرآن نزل فيها جميعاً فصحّ أن يقال: أنزلناه في ليلة (على أنّ القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكلّ بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماويّة أيضاً كالتوراة والإنجيل والزبور باصطلاح القرآن)

قال: وذلك: أنّ أوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى: إقرء بإسم ربّك إلخ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرئيل فأوحى إليه: قوله تعالى: إقرأ باسم ربّك الّذي خلق الخ، ولمّا تلقّى الوحى خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربّه فترائى له وعلّمه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثمّ علّمه كيفيّة الصلاة ثمّ غاب عن نظره فصحا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجد ممّا كان يشاهده أثراً إلّا ما كان عليه من التعب الّذي عرضه من ضغطة جبرئيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنّه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثمّ لمّا دخل البيت نام ليلته من شدّة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ) المدّثر - ٢.

قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأمّا ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أنّ البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلّا في بعض كتب الشيعة الّتي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.

١٧

قال: وهناك روايات اُخرى في تأييد هذه الأخبار تدلّ على أنّ معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنّه نزل فيه قبل بعثة النبيّ من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرئيل هناك على الملائكة حتّى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه أوهام خرافيّة دسّت في الأخبار مردودة أوّلاً بمخالفة الكتاب، وثانياً أنّ مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخّصاً.

ولست أدرى أيّ جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح حتّى تنطبق على الحقّ والحقيقة بوجه؟ فقد اتّسع الحزق على الراتق.

ففيهأوّلاً أن هذا التقوّل العجيب الّذي تقوّله في البعثة ونزول القرآن أوّل ما نزل وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل عليه: إقرء باسم ربّك، وهو في الطريق، ثمّ نزلت عليه سورة الحمد ثمّ علم الصلاة، ثمّ دخل البيت ونام تعباناً، ثمّ نزلت عليه سورة المدّثّر صبيحة الليلة فاُمر بالتبليغ، كلّ ذلك تقوّل لا دليل عليه لا آية محكمة ولا سنّة قائمة، وإنّما هي قصّة تخيّليّة لا توافق الكتاب ولا النقل على ما سيجئ.

وثانياً: أنّه ذكر أنّ من المسلّم أنّ البعثة ونزول القرآن والأمر بالتبليغ مقارنة زماناً ثمّ فسّر ذلك بأنّ النبوّة ابتدأت بنزول القرآن، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً غير رسول ليلة واحدة فقط ثمّ في صبيحة اللّيلة اُعطي الرسالة بنزول سورة المدّثّر، ولا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب ولا سنّة، وليس من المسلّم ذلك. أمّا السنّة فلأنّ لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخّر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شئ من جوامع الحديث مطلقاً إذ لا شئ من كتب الحديث ممّا ألّفته العامّة أو الخاصّة إلّا وتأليفه متأخّر عن عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنين فصاعداً فهذا في السنّة، والتاريخ - على خلوّه من هذه التفاصيل - حاله أسوء والدسّ الّذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضاً.

وأمّا الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح وأجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره وتكذيب ما تقوّله ظاهرة فإنّ سورة اقرء باسم ربّك - وهي أوّل سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما ذكره أهل النقل، ويشهد به الآيات الخمس الّتي في صدرها و

١٨

لم يذكر أحد أنّها نزلت قطعات ولا أقلّ من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي بمرئى من القوم وأنّه كان منهم من ينهاه عن الصلاة ويذكر أمره في نادي القوم (ولا ندري كيف كانت هذه الصلاة الّتي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتقرّب بها إلى ربّه في بادئ أمره إلّا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة) قال تعالى فيها:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ) العلق - ١٨، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنّه كان هناك من ينهي مصلّياً عن الصلاة، ويذكر أمره في النادي، ولا ينتهي عن فعاله، وقد كان هذا المصلّي هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدليل قوله تعالى بعد ذلك:( كَلَّا لَا تُطِعْهُ ) العلق - ١٩.

فقد دلّت السورة على أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي قبل نزول أوّل سورة من القرآن، وقد كان على الهدى وربّما أمر بالتقوى، وهذا ه والنبوّة ولم يسّم أمره ذلك انذاراً، فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً وكان يصلّي ولمّا ينزل عليه قرآن ولا نزلت بعد عليه سورة الحمد ولمّا يؤمر بالتبليغ.

وأمّا سورة الحمد فإنّها نزلت بعد ذلك بزمان، ولو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكره هذا الباحث لكان حقّ الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين إلخ، أويقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله ربّ العالمين إلخ ولكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقيّة الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.

نعم وقع في سورة الحجر - وهي من السور المكّيّة كما تدلّ عليه مضامين آياتها، وسيجئ بيانه - قوله تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر - ٨٧. والمراد بالسبع المثاني سورة الحمد وقد قوبل بها القرآن العظيم وفيه تمام التجليل لشأنها والتعظيم لخطرها لكنّها لم تعدّ قرآناً بل سبعاً من آيات القرآن وجزئاً منه بدليل قولة تعالى:( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) الآية الزمر - ٢٣.

١٩

ومع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدلّ على سبق نزولها نزول سورة الحجر والسورة مشتملة أيضاً على قوله تعالى:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) الحجر - ٩٥، ويدلّ ذلك على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد كفّ عن الإنذار مدّة ثمّ أمر به ثانياً بقولة تعالى: فاصدع.

وأمّا سورة المدّثّر وما تشتمل عليه من قوله:( قُمْ فَأَنذِرْ ) المدّثّر - ٢، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضاً على قوله تعالى:( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ) إلى آخر الآيات المدّثّر - ١١، وهي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: وأعرض عن المشركين الخ، وإن كانت السورة نازلة نجوماً فظاهر السياق أنّ صدرها قد نزل في بدء الرسالة.

وثالثاً: أنّ قوله: إنّ الروايات الدالّة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثمّ نزول الآيات نجوماً على رسول الله أخبار مجعولة خرافيّة لمخالفتها الكتاب وعدم استقامة مضمونها، وأنّ المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة، وبالبيت المعمور كرة الأرض خطأ وفرية.

أمّاأوّلاً: فلأنّه لا شئ من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.

وأمّاثانياً: فلأنّ الأخبار خالية عن كون النزول الجمليّ قبل البعثة بل الكلمة ممّا أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبّت.

وأمّاثالثاً: فلأنّ قوله: إنّ اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسيرشنيع - وإنّه اُضحوكة - وليت شعري: ما هو الوجه المصحّح - على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحاً محفوظاً؟ أذلك لكون هذا العالم محفوظاً عن التغيّر والتحوّل؟ فهو عالم الحركات، سيّال الذات، متغيّر الصفات! أو لكونه محفوظاً عن الفساد تكويناً أو تشريعاً؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظاً عن اطّلاع غير أهله عليه؟ كما يدلّ عليه: قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، فإدراك المدركين فيه على السواء!.

وبعد اللّتيّا والّتي: لم يأت هذا الباحث في توجيه نزول القرآن في شهر رمضان

٢٠