الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118183
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118183 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن السديّ في قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك الآية، أنّها نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفيّ حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وقال: جئت أريد الإسلام ويعلم الله أنّي لصادق فأعجب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منه فذلك قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، ثمّ خرج من عند النبيّ فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر فأنزل الله: وإذا تولّى سعى في الأرض الآية.

وفي المجمع عن ابن عبّاس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنّه يظهر خلاف ما يبطن، قال: وهو المرويّ عن الصادقعليه‌السلام .

اقول: ولكنّه غير منطبق على ظاهر الآيات. وفي بعض الروايات عن أئمّه أهل البيت أنّها من الآيات النازلة في أعدائهم.

وفي المجمع عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ويهلك الحرث والنسل: أنّ المراد بالحرث ههنا الدين، والنسل الإنسان.

اقول: وقد مرّ بيانه، وقد روي: أنّ المراد بالحرث الذرّيّة والزرع، والأمر في التطبيق سهل.

وفي أمالي الشيخ عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : في قوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه الآية، قال: نزلت في عليّعليه‌السلام حين بات على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين أنّها نزلت في شأن ليلة الفراش، ورواه في تفسير البرهان بخمس طرق عن الثعلبيّ وغيره.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لمّا اردت الهجرة من مكّة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عنّي؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلّوا عنّي فخرجت حتّى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ربح البيع صهيب مرّتين.

١٠١

اقول: ورواه بطرق اُخرى في بعضها ونزلت: ومن الناس من يشري نفسه الآية، وفي بعضها نزلت في صهيب وأبي ذرّ بشرائهما أنفسهما بأموالهما وقد مرّ أنّ الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.

وفي المجمع عن عليّعليه‌السلام : أنّ المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

اقول: وهو بيان لعموم الآية ولا ينافي كون النزول لشأن خاصّ.

١٠٢

( سورة البقرة آية ٢٠٨ - ٢١٠)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ٢٠٨ ) فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٠٩ ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( ٢١٠ )

( بيان)

هذه الآيات وهي قوله: يا أيّها الّذين آمنوا - إلى قوله - ألا إنّ نصر الله قريب الآيه سبع آيات كاملة تبيّن طريق التحفّظ على الوحدة الدينيّة في الجامعة الإنسانيّة وهو الدخول في السلم والقصر على ما ذكره الله من القول وما أراه من طريق العمل، وأنّه لم ينفصم وحدة الدين، ولا ارتحلت سعادة الدارين، ولا حلّت الهلكة دار قوم إلّا بالخروج عن السلم، والتصرّف في آيات الله تعالى بتغييرها ووضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل وغيرهم من الاُمم الغابرة وسيجري نظيرها في هذه الاُمّة لكنّ الله يعدهم بالنصر: إلّا إنّ نصر الله قريب.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ، السلم والإسلام والتسليم واحدة وكافّة كلمة تأكيد بمعنى جميعاً، ولمّا كان الخطاب للمؤمنين - وقد اُمروا بالدخول في السلم كافّة - فهو أمر متعلّق بالمجموع وبكلّ واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كلّ مؤمن، ويجب على الجميع أيضاً أن لا يختلفوا في ذلك ويسلّموا الأمر لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضاً الخطاب للمؤمنين خاصّة فالسلم المدعوّ إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الإيمان به فيجب على المؤمنين أن يسلّموا الأمر إليه، ولا يذعنوا لأنفسهم صلاحاً باستبداد من الرأي ولا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقاً يسلكونه من دون أن يبيّنه الله ورسوله، فما هلك قوم إلّا باتّباع الهوى والقول بغير العلم، ولم يسلب حقّ الحياة وسعادة الجدّ عن قوم إلّا عن اختلاف.

١٠٣

ومن هنا ظهر: أنّ المراد من اتّباع خطوات الشيطان ليس اتّباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتّباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين بأن يزيّن شيئاً من طرق الباطل بزينة الحقّ ويسمّي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الإنسان من غير علم، وعلامة ذلك عدم ذكر الله ورسوله إيّاه في ضمن التعاليم الدينيّة.

وخصوصيّات سياق الكلام وقيوده تدلّ على ذلك أيضاً: فإنّ الخطوات إنّما تكون في طريق مسلوك، وإذا كان سالكه هو المؤمن - وطريقه إنّما هو طريق الإيمان - فهو طريق شيطانيّ في الإيمان، وإذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم فالطريق الّذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، واتّباعه اتّباع خطوات الشيطان.

فالآية نظيرة قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة - ١٦٩، وقد مرّ الكلام في الآية، وقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) النور - ٢١، وقوله تعالى:( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) الانعام - ١٤٢، والفرق بين هذه الآية وبين تلك أنّ الدعوة في هذه موجّهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: كافّة بخلاف تلك الآيات فهي عامّة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) آل عمران - ١٠٣، وقوله تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) الأنعام - ١٥٣، ويستفاد من الآية أنّ الإسلام متكفّل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام والمعارف الّتي فيه صلاح الناس.

قوله تعالى: ( فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، الزلّة هي العثرة، والمعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافّة وزللتم - والزلّة هي اتّباع خطوات الشيطان - فاعلموا أنّ الله عزيز غير مغلوب في أمره، حكيم لا يتعدّى عمّا تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم

١٠٤

فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، ويجريه فيكم من غير أن يمنع عنه مانع.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) الخ، الظلل جمع ظلّة وهي ما يستظلّ به، وظاهر الآية أنّ الملائكه عطف على لفظ الجلالة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة وتبديل خطابهم بخطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن مخاطبتهم بأنّ هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتّباع خطوات الشيطان والاختلاف والتمزّق، وذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ويقضي الأمر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبئ بهم وبما يقعون فيه من الهلاك، وإلى الله ترجع الاُمور، فلا مفرّ من حكمه وقضائه، فالسياق يقتضي أن يكون قوله: هل ينظرون، هو الوعيد الّذي أوعدهم به في قوله تعالى في الآية السابقة: فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم.

ثمّ إنّ من الضروريّ الثابت بالضرورة من الكتاب والسنّة أنّ الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة الأجسام ولا ينعت بنعوت الممكنات ممّا يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر والحاجة والنقص، فقد قال تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى - ١١، وقال تعالى:( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥، وقال تعالى:( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر - ٦٢، إلى غير ذلك من الآيات، وهي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات وظاهرها إسناد شئ من الصفات أو الأفعال الحادثة إليه تعالى ينبغي أن يرجع إليها، ويفهم منها معنى من المعاني لا ينافى صفاته العليا وأسمائه الحسنى تبارك وتعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجئ أو الإتيان إليه تعالى كقوله تعالى:( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) الفجر - ٢٢، وقوله تعالى:( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) الحشر - ٢، وقوله تعالى:( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ) النحل - ٢٦، كلّ ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدّست أسماؤه كالإحاطة ونحوها ولو مجازاً، وعلى هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى: أن يأتيهم الله الإحاطة بهم للقضاء في حقّهم.

على أنّا نجده سبحانه وتعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب وفعلاً من الأفعال عن استقلال الأسباب ووساطة الأوساط فربّما نسبها إلى نفسه وربّما

١٠٥

نسبها إلى أمره كقوله تعالى:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ ) الزمر - ٤٢، وقوله تعالى:( يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة - ١١، وقوله تعالى:( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) الانعام - ٦١، فنسب التوفّي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملائكة ثمّ قال تعالى: في أمر الملائكة:( بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء - ٢٧، وكذلك قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ) يونس - ٩٣، وقوله تعالى:( فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن - ٧٨، وكما في هذه الآية: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية وقوله تعالى:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل - ٣٣.

وهذا يوجب صحّة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: جاء ربّك، ويأتيهم الله، فالتقدير جاء أمر ربّك ويأتيهم أمر الله.

فهذا هو الّذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسّرين لكنّ التدبّر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرقّ وألطف من ذلك، وذلك أنّ أمثال قوله تعالى:( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥، وقوله تعالى:( الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ص - ٩، وقوله تعالى:( أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، تفيد أنّه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها، مليئ بما يهبه ويجود به وإن كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادّة وأحكامها الجسمانيّة يصعب عليها تصوّر كيفيّة اتّصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى، لكنّ هذه المعاني إذا جرّدت عن قيود المادّة وأوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصاً وحاجة لتجريده عنه صحّ إسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لأنّ كلّ ما يقع عليه إسم شئ فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته.

فالمجئ والإتيان الّذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرّد عن خصوصيّة المادّة كان هو حصول القرب، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، وحينئذ صحّ إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم، و

١٠٦

هذه من الحقائق القرآنيّة الّتي لم يوفّق الأبحاث البرهانيّة لنيله إلّا بعد إمعان في السير، وركوبها كلّ سهل ووعر، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجوديّة الأصيلة.

وكيف كان فهذه الآية تتضمّن الوعيد الّذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: إنّ الله عزيز حكيم، ومن الممكن أن يكون وعيداً بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل - ٣٣، ومن الممكن أن يكون وعيداً بأمر متوقّع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) يونس - ٤٧، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ) الروم - ٣٠، وما في سورة الأنبياء وغيرها على أنّ الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تامّ لما في هذه الدنيا، ومن الممكن أيضاً أن يكون وعيداً بما سيقع في الدنيا والآخرة معاً، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.

قوله تعالى: ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) السكوت عن ذكر فاعل القضاء، وهو الله سبحانه كما يدلّ عليه قوله: وإلى الله ترجع الاُمور، لإظهار الكبرياء على ما يفعله الأعاظم في الإخبار عن وقوع أحكامهم وصدور أوامرهم وهو كثير في القرآن.

( بحث روائي)

قد تقدّم في قوله تعالى: يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً الآية عدّة روايات تؤيّد ما ذكرناه من معنى اتّباع خطوات الشيطان فارجع، وفي بعض الروايات أنّ السلم هو الولاية وهو من الجرى على ما مرّ مراراً في نظائره.

وفي التوحيد والمعاني عن الرضاعليه‌السلام في قوله تعالى:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) قال: يقول: هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام وهكذا نزلت، وعن قول الله عزّوجلّ:( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) قال: إنّ الله عزّوجلّ لا يوصف بالمجئ والذهاب، تعالى عن الانتقال وإنّما يعني به وجاء أمر ربّك والملك صفّاً صفّاً.

١٠٧

اقول: قولهعليه‌السلام يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية وليس من قبيل القرائه.

والمعنى الّذي ذكره هو بعينه ما قرّبناه من كون المراد بإتيانه تعالى إتيان أمره فإنّ الملائكة إنّما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالأمر، قال تعالى:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء - ٢٧، وقال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل - ٢.

وههنا معنى آخر احتمله بعضهم وهو أن يكون الاستفهام الإنكاريّ في قوله: هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله الخ لإنكار مجموع الجملة لا لإنكار المدخول فقط، والمعنى أنّ هؤلاء لا ينتظرون إلّا أمراً محالاً وهو: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم، ويأتي معه الملائكة فيأمرهم وينهاهم وهو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ والتنبيهات. وفيه: أنّه لا يلائم ما مرّ: أنّ الآيات ذات سياق واحد ولازمه أن يكون الكلام متوجّهاً إلى حال المؤمنين، والمؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على أنّ الكلام لو كان مسوقاً لإفادة ذلك لم يخل من الردّ عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) الفرقان - ٢١، وقوله تعالى:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ) الأنبياء - ٢٦.

على أنّه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: في ظلل من الغمام، ولا نكتة ظاهرة لبقيّة الكلام وهو ظاهر.

( بحث روائي آخر)

إعلم أنّه ورد عن أئمّه أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام وتفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادقعليه‌السلام ، تفسيرها بظهور المهديّعليه‌السلام كما رواه العيّاشيّ في تفسيره عن الباقرعليه‌السلام بطريقين.

ونظائره كثيرة فإذا تصفّحت وجدت شيئاً كثيراً من الآيات ورد تفسيرها عن

١٠٨

أئمّه أهل البيت تارة بالقيامة واُخرى بالرجعة وثالثة بالظهور، وليس ذلك إلّا لوحدة وسنخيّة بين هذه المعاني، والناس لمّا لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عمّا يعطيه القرآن من هويّة هذا اليوم العظيم تفرّقوا في أمر هذه الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، وهي مآت وربّما زادت على خمسمأة رواية في أبواب متفرّقة، ومنهم من أوّلها على ظهورها وصراحتها، ومنهم - وهم أمثل طريقة - من ينقلها ويقف عليها من غير بحث.

وغير الشيعة وهم عامّة المسلمين وإن أذعنوا بظهور المهديّ ورووه بطرق متواترة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّهم أنكروا الرجعة وعدّوا القول بها من مختصّات الشيعة، وربّما لحق بهم في هذه الأعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، وعدّ ذلك من الدس الّذي عمله اليهود وبعض المتظاهرين بالإسلام كعبدالله بن سبأ وأصحابه، وبعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقليّ فقال: ما حاصله: إنّ الموت بحسب العناية الإلهيّة لا يطرء على حي حتّى يستكمل كمال الحياة ويخرج من القوّة إلى الفعل في كلّ ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوّة وهو بالفعل، هذا محال إلّا أن يخبر به مخبر صادق وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى وعيسى وإبراهيمعليهم‌السلام وغيرهم. ولم يرد منه تعالى ولا منهم في أمر الرجعة شئ وما يتمسّك به المثبتون غير تامّ، ثمّ أخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة ولا سقيمة، هذا.

ولم يدر هذا المسكين أنّ دليله هذا لو تمّ دليلاً عقليّاً أبطل صدره ذيله فما كان محالاً ذاتيّاً لم يقبل استثنائاً ولم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكناً، وأنّ المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقاً ولو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطراراً تأويل كلامه إلى ما يكون ممكناً كما لو أخبر بأنّ الواحد ليس نصف الإثنين، وأنّ كلّ صادق فهو بعينه كاذب.

وما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوّة إلى الفعل إلى القوّة ثانياً حقّ لكن الصغرى ممنوعة فإنّه إنّما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى ورجوعهم إلى الدنيا

١٠٩

بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعيّ الّذي افترضوه، وهو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوّة إلى الفعل خروجاً تامّاً ثمّ مفارقتها البدن بطباعها. وأمّا الموت الاختراميّ الّذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذوراً، فإنّ من الجائز أن يستعدّ الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيويّة الاُولى فيموت ثمّ يحيى لحيازة الكمال المعدّ له في الزمان الثاني، أو يستعدّ لكمال مشروط بتخلّل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال وتمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.

وأمّا ما ناقشه في كلّ واحد من الروايات ففيه: أنّ الروايات متواترة معنى عن أئمّه أهل البيت، حتّى عدّ القول بالرجعة عند المخالفين من مختصّات الشيعة وأئمّتهم من لدن الصدر الأوّل، والتواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة والمناقشة، على أنّ عدّة من الآيات النازلة فيها، والروايات الواردة فيها تامّة الدلالة قابلة الاعتماد، وسيجئ التعرّض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى:( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا ) النمل: ٨٣ وغيره من الآيات.

على أنّ الآيات بنحو الإجمال دالّة عليها كقوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) البقرة - ٢١٤، ومن الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الأموات كما قصّه القرآن من قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وغيرهم، وقد قال رسول الله فيما رواه الفريقان:( والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتّي لا تخطؤن طريقهم ولا يخطئكم سنن بني اسرائيل) .

على أنّ هذه القضايا الّتي أخبرنا بها أئمّة أهل البيت من الملاحم المتعلّقة بآخر الزمان، وقد أثبتها النقلة والرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفاً وكتابة على الوقوع بقرون وأزمنة طويلة نشاهد كلّ يوم صدق شطر منها من غير زيادة ونقيصة فلنحقّق صحّة جميعها وصدق جميع مضامينها.

١١٠

ولنرجع إلى بدء الكلام الّذي كنّا فيه وهو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، وبالرّجعة أو الظهور تارة اُخرى، فنقول: الّذي يتحصّل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة ونعوته أنّه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب ولاشاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الأوهام ويظهر فيه آياته كمال الظهور وهذا يوم لا يبطل وجوده وتحقّقه تحقّق هذا النشأة الجسمانيّة ووجودها فلا شئ يدلّ على ذلك من كتاب وسنّة بل الأمر على خلاف ذلك غير أنّ الظاهر من الكتاب والسنّة أنّ البشر أعني هذا النسل الّذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم وزوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.

ولا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا ونشأة البعث، حتّى يدفع بعضها بعضاً كما أنّ النشأة البرزخيّة وهي ثابتة الآن للأموات منّا لا تدفع الدنيا، ولا الدنيا تدفعها، قال تعالى:( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل - ٦٣.

فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ، ولذلك ربّما سمّي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن توهّم الميّت، فعن عليّعليه‌السلام (من مات قامت قيامته)، وسيجئ بيان الجميع إنشاء الله.

والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلّا أنّها على كثرتها متّحدة في معنى واحد وهو أنّ سير النظام الدنيويّ متوجّه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كلّ الظهور، فلا يعصي فيه سبحانه وتعالى بل يعبد عباده خالصة، لا يشوبها هوى نفس، ولا يعتريه اغواء الشيطان، ويعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى وأعدائه إلى الدنيا، ويفصل الحقّ من الباطل.

وهذا يفيد: أنّ يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، وإن كان دونه في الظهور لإمكان الشرّ والفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، ولذلك ربّما اُلحق به يوم ظهور المهديّعليه‌السلام أيضاً تمام لظهور الحقّ فيه أيضاً تمام الظهور وإن كان هو أيضاً دون الرجعة وقد

١١١

ورد عن أئمّة أهل البيت: (أيّام الله ثلاثة: يوم الظهور ويوم الكرّة ويوم القيامة) وفي بعضها: (أيّام الله ثلاثة: يوم الموت ويوم الكرّة ويوم القيامة)، وهذا المعنى أعني الاتّحاد بحسب الحقيقة، والاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهمعليهم‌السلام بعض الآيات بالقيامة تارة وبالرجعة اُخرى وبالظهور ثالثة، وقد عرفت ممّا تقدّم من الكلام أنّ هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، ولا دليل مع المنكر يدلّ على نفيه.

١١٢

( سورة البقرة آية ٢١١ - ٢١٢)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٢١١ ) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ٢١٢ )

( بيان)

قوله تعالى: ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ ) الخ، تثبيت وتأكيد لما اشتمل عليه قوله تعالى: فإن زللتم مبعد ماجائتكم البيّنات فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم، الآية من الوعيد بأخذ المخالفين أخذ عزيز مقتدر.

يقول: هذه بنو إسرائيل في مرآكم ومنظركم وهي الاُمّة الّتي آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوّة والملك، ورزقهم من الطيّبات، وفضّلهم على العالمين، سلهم كم آتيناهم من آية بيّنة؟ وانظر في أمرهم من أين بدئوا وإلى أين كان مصيرهم؟ حرّفوا الكلم عن مواضعه، ووضعوا في قبال الله وكتابه وآياته اُموراً من عند أنفسهم بغياً بعد العلم، فعاقبهم الله أشدّ العقاب بما حلّ فيهم من اتّخاذ الأنداد، والاختلاف وتشتّت الآراء، وأكل بعضهم بعضاً، وذهاب السودد، وفناء السعادة، وعذاب الذلّة، والمسكنة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

وهذه هي السنّة الجارية من الله سبحانه: من يبدّل نعمة وأخرجها إلى غير مجراها فإنّ الله يعاقبه، والله شديد العقاب، وعلي هذا فقوله: ومن يبدّل نعمة الله إلى قوله العقاب من قبيل وضع الكلّيّ موضع الجزئيّ للدلالة على الحكم، سنّة جارية.

قوله تعالى: ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) ، في موضع التعليل لما مرّ، وإنّ الملاك في ذلك تزيّن الحياة الدنيا لهم فإنّها إذا زيّنت لإنسان دعته إلى هوى النفس وشهواتها، وأنست كلّ حقّ وحقيقة، فلا يريد الإنسان إلّا نيلها: من جاه ومقام

١١٣

ومال وزينة، فلا يلبث دون أن يستخدم كلّ شئ لأجلها وفي سبيلها، ومن ذلك الدين فيأخذ الدين وسيلة يتوسّل بها إلى التميّزات والتعيّنات، فينقلب الدين إلى تميّز الزعماء والرؤساء ومايلائم سوددهم ورئاستهم، وتقرّب التبعة والمقلّدة المرئوسين وما يجلب به تمائل رؤسائهم وساداتهم كما نشاهده في اُمّتنا اليوم، وكنّا شاهدناه في بني أسرائيل من قبل، وظاهر الكفر في القرآن هو الستر أعمّ من أن يكون كفراً اصطلاحيّاً أو كفراً مطلقاً في مقابل الإيمان المطلق فتزيّن الحياة الدنيا لا يختصّ بالكفّار اصطلاحاً بل كلّ من ستر حقيقة من الحقائق الدينيّة، وغير نعمة دينيّة فهو كافر زيّنت له الحياة الدنيا فليتهيّأ لشديد العقاب.

قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الخ، تبديل الإيمان بالتقوى في هذه الجملة لكون الإيمان لا ينفع وحده لولا العمل.

١١٤

( سورة البقرة آية ٢١٣)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٢١٣ )

( بيان)

الآية تبيّن السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الإنسانيّ به، وسبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: أنّ الإنسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أوّل اجتماعه اُمّة واحدة ثمّ ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيويّة، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فاُلبست القوانين الموضوعة لباس الدين، وشفّعت بالتبشير والإنذار: بالثواب والعقاب، واُصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيّين، وإرسال المرسلين، ثمّ اختلفوا في معارف الدين أو اُمور المبدء والمعاد، فاختلّ بذلك أمر الوحدة الدينيّة، وظهرت الشّعوب والأحزاب، وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلّا بغياً من الّذين أوتوا الكتاب، وظلماً وعتوّاً منهم بعد ما تبيّن لهم اُصوله ومعارفه، وتمّت عليهم الحجّة. فالاختلاف اختلفان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطريّ وسبب لتشريع الدين، ثمّ هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحقّ المختلف فيه بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فالدين الإلهيّ هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنسانيّ، والمصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة ويعدّل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظّم للإنسان سلك حياته الدنيويّة والاُخرويّة، والمادّيّة والمعنويّة، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا

١١٥

النوع (الحياة الإجتماعيّة والدينيّة) على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.

وقد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرّقات الآيات القرآنيّة النازلة في شئون مختلفة.

( بدء تكوين الإنسان)

ومحصّل تبيّنه تلك الآيات على تفرّقها أنّ النوع الإنسانيّ ولاكلّ نوع إنسانيّ بل هذا النسل الموجود من الإنسان ليس نوعاً مشتقّاً من نوع آخر حيوانيّ أو غيره: حوّلته إليه الطبيعة المتحوّلة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض وما عليها والسماء ولا إنسان ثمّ خلق زوجان اثنان من هذا النوع وإليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى:( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ) الحجرات - ١٣، وقال تعالى:( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) الأعراف - ١٨٩، وقال تعالى:( كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ) آل عمران - ٥٩، وأمّا ما افترضه علماء الطبيعة من تحوّل الأنواع وأنّ الإنسان مشتقّ من القرد، وعليه مدار البحث الطبيعيّ اليوم أو متحوّل من السمك على ما احتمله بعض فإنّما هي فرضيّة، والفرضيّة غير مستند إلى العلم اليقينيّ وإنّما توضع لتصحيح التعليلات والبيانات العلميّة، ولا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينيّة، بل حتّى الامكانات الذهنيّة، إذ لااعتبار لها أزيد من تعليل الآثار والأحكام المربوطة بموضوع البحث، وسنستوعب هذا البحث إنشاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ) آل عمران - ٥٩.

( تركبه من روح وبدن)

وقد أنشأ الله هذا النوع - حين ما أنشاء - مركّباً من جزئين ومؤلّفاً من جوهرين، مادّة بدنيّة، وجوهر مجرّد هي النفس والروح، وهما متلازمان ومتصاحبان ما دامت الحياة الدنيويّة، ثمّ يموت البدن ويفارقه الروح الحيّة، ثمّ يرجع الإنسان إلى الله سبحانه، قال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ

١١٦

ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) المؤمنون - ١٦، (انظر إلى موضع قوله ثمّ أنشأناه خلقاً آخر)، وفي هذا المعنى قوله تعالى:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ص - ٧٢، وأوضح من الجميع قوله سبحانه:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة - ١١، فإنّه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرّق الأعضاء والأجزاء واستهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأنّ ملك الموت يتوفآهم ويضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضلّ في الأرض لكنّهم أي نفوسهم غير ضالّة ولافائتة ولامستهلكة وسيجئ إنشاء الله استيفاء البحث عمّا يعطيه القرآن في حقيقة الروح الإنسانيّ في المحلّ المناسب له.

( شعوره الحقيقي وارتباطه بالأشياء)

وقد خلق الله سبحانه هذا النوع، وأودع فيه الشعور، وركّب فيه السمع والبصر والفؤاد، ففيه قوّة الإدراك والفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث وما هو موجود في الحال وما كان وما سيكون ويؤل إليه أمر الحدوث والوقوع، فله إحاطة مّابجميع الحوادث، قال تعالى:( عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) العلق - ٥، وقال تعالى:( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ) النحل - ٧٨، وقال تعالى:( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) البقرة - ٣١، وقد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكلّ شئ، ويستطيع الانتفاع من كلّ أمر، أعمّ من الاتّصال أو التوسّل به إلى غيره بجعله آلة وأداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعيّة، وسلوكه في مسالكه الفكريّة، قال تعالى:( خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) البقرة - ٢٩، وقال تعالى:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) الجاثية - ١٣، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخّرة للإنسان.

١١٧

( علومه العمليّة)

وأنتجت هاتان العنايتان: أعني قوّة الفكر والإدراك ورابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة وهي أن يهيّئ لنفسه علوماً وإدراكات يعتبرها اعتباراً للورود في مرحلة التصرّف في الأشياء وفعليّة التأثير والفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده وبقائه.

توضيح ذلك: أنّك إذا خلّيت ذهنك وأقبلت به على الإنسان - هذا الموجود الأرضيّ الفعّال بالفكر والإرادة - واعتبرت نفسك كأنّك أوّل ما تشاهده وتقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه أنّه في أفعاله الحيويّة يوسّط إدراكات وأفكاراً جمّةً غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها واتّساع أطرافها وتشتّت جهاتها العقل، وهي علوم كانت العوامل في حصولها واجتماعها وتجزّيها وتركّبها الحواسّ الظاهرة والباطنة من الإنسان، أو تصرّف القوّة الفكريّة فيها تصرّفاً ابتدائيّاً أو تصرّفاً بعد تصرّف، وهذا أمر واضح يجده كلّ إنسان من نفسه ومن غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه وإيقاظ.

ثمّ إذا كرّرت النظر في هذه العلوم والإدراكات وجدت شطراً منها لا يصلح لأن يتوسّط بين الإنسان وبين أفعاله الإراديّة كمفاهيم الأرض والسماء والماء والهواء والإنسان والفرس ونحو ذلك من التصوّرات، وكمعاني قولنا: الأربعة زوج، والماء جسم سيّال، والتفّاح أحد الثمرات، وغير ذلك من التصديقات، وهي علوم وإدراكات تحقّقت عندنا من الفعل والانفعال الحاصل بين المادّة الخارجيّة وبين حواسّنا وأدواتنا الإدراكيّة، ونظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا وحضورها لدينا (ما نحكي عنه بلفظ أنا)، والكلّيّات الآخر المعقولة، فهذه العلوم والإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقّق إرادة ولاصدور فعل، بل إنّما تحكي عن الخارج حكاية.

وهناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إنّ هناك حسناً وقبحاً وما ينبغي أن يفعل وما يجب أن يترك، والخير يجب رعايته، والعدل حسن، والظلم قبيح ومثل مفاهيم الرئاسة والمرؤسيّة، والعبديّة والمولويّة فهذه سلسلة من الأفكار والإدراكات

١١٨

لاهمّ لنا إلّا أن نشتغل بها ونستعملها ولا يتمّ فعل من الأفعال الإراديّة إلّا بتوسيطها والتوسّل بها لاقتناء الكمال وحيازة مزايا الحياة.

وهي مع ذلك لا تحكي عن اُمور خارجيّة ثابتة في الخارج مستقلّة عنّا وعن أفهامنا كما كان الأمر كذلك في القسم الأوّل فهي علوم وإدراكات غير خارجة عن محوّطة العمل ولاحاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجيّة، بل هي ممّا هيّأناه نحن واُلهمناه من قبل إحساسات باطنيّة حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعّالة، وجهازاتنا العاملة للفعل والعمل، فقوانا الغاذية أو المولّدة للمثل بنزوعها نحو العمل، ونفورها عمّا لايلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحبّ والبغض، والشوق والميل والرغبة، ثمّ هذه الصور الإحساسيّة تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم والإدراكات من معنى الحسن والقبح، وينبغي ولا ينبغي، ويجب ويجوز، إلى غير ذلك، ثمّ بتوسّطها بيننا وبين المادّة الخارجيّة وفعلنا المتعلّق بها يتمّ لنا الأمر، فقد تبيّن أنّ لنا علوماً وإدراكات لا قيمة لها إلّا العمل، (وهي المسمّاة بالعلوم العمليّة) ولاستيفاء البحث عنها محلّ آخر.

والله سبحانه ألهمها الإنسان ليجهّزه للورود في مرحلة العمل، والأخذ بالتصرّف في الكون، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، قال تعالى:( الّذي أعطى كلّ شئ خلقه ثمّ هدى ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى - ٣، وهذه هداية عامّة لكلّ موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، وسوق له إلى الفعل والعمل لحفظ وجوده وبقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.

وقال تعالى في الإنسان خاصّة:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، فأفاد أنّ الفجور والتقوى معلومان للإنسان بإلهام فطريّ منه تعالى، وهما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه وما لا ينبغي، وهي العلوم العمليّة الّتي لا اعتبار لها خارجة عن النفس الإنسانيّة، ولعلّه إليه الإشارة بإضافة الفجور والتقوى إلى النفس.

وقال تعالى:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت - ٦٤، فإنّ اللعب لا حقيقة له إلّا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا:

١١٩

من جاه ومال وتقدّم وتأخّر ورئاسة ومرؤوسيّة وغير ذلك إنّما هي اُمور خياليّة لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى أنّ الّذي في الخارج إنّما هو حركات طبيعيّة يتصرّف بها الإنسان في المادّة من غير فرق في ذلك بين أفراد الإنسان وأحواله.

فالموجود بحسب الواقع من( الإنسان الرئيس ) إنسانيّته، وأمّا رئاسته فإنّما هي في الوهم، ومن( الثوب المملوك ) الثوب مثلاً، وأمّا أنّه مملوك فأمر خياليّ لا يتجاوز حدّ الذهن، وعلى هذا القياس.

( جريه على استخدام غيره انتفاعا)

فهذه السلسلة من العلوم والإدراكات هي الّتي تربط الإنسان بالعمل في المادّة، ومن جملة هذه الأفكار والتصديقات تصديق الإنسان بأنّه يجب أن يستخدم كلّ ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، وبعبارة اُخرى إذعانه بأنّه ينبغي أن ينتفع لنفسه، ويستبقي حياته بأيّ سبب أمكن، وبذلك يأخذ في التصرّف في المادّة، ويعمل آلات من المادّة، يتصرّف بها في المادّة كاستخدام السكّين للقطع، واستخدام الإبرة للخياطة، واستخدام الإناء لحبس المايعات، واستخدام السلّم للصعود، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة، ولا يحدّ من حيث التركيب والتفصيل، وأنواع الصناعات والفنون المتّخذة لبلوغ المقاصد والأغراض المنظور فيها.

وبذلك يأخذ الإنسان أيضاً في التصرّف في النبات بأنواع التصرّف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرّف فيها في طريق الغذاء واللباس والسكنى وغير ذلك، وبذلك يستخدم أيضاً أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها ودمها وجلدها وشعرها ووبرها وقرنها وروثها ولبنها ونتاجها وجميع أفعالها، ولا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميّين، فيستخدمها كلّ استخدام ممكن، ويتصرّف في وجودها وأفعالها بما يتيسّر له من التصرّف، كلّ ذلك ممّا لا ريب فيه.

( كونه مدنيا بالطبع)

غير أنّ الإنسإن لمّا وجد ساير الأفراد من نوعه، وهم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم ورضى منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، وهذا

١٢٠