الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118200
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118200 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حكمه بوجوب اتّخاذ المدنيّة، والاجتماع التعاونيّ ويلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كلّ ذي حقّ حقّه، ويتعادل النسب والروابط، وهو العدل الاجتماعيّ.

فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدنيّ، والعدل الاجتماعيّ إنّما هو حكم دعا إليه الاضطرار، ولولا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبداً، وهذا معنى ما يقال: إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع، وإنّه يحكم بالعدل الاجتماعيّ، فإنّ ذلك أمر ولّده حكم الاستخدام المذكور اضطراراً على ما مرّ بيانه، ولذلك كلّما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاونيّ وحكم العدل الاجتماعيّ أثراً فلا يراعيه القويّ في حقّ الضعيف ونحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الاُمم القويّة، وعلى ذلك جرى التاريخ أيضاً إلى هذا اليوم الّذي يدّعى أنّه عصر الحضارة والحرّيّة.

وهو الّذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى:( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب - ٧٢، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) المعارج - ١٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، وقوله تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) العلق - ٧.

ولو كان العدل الاجتماعيّ ممّا يقتضيه طباع الإنسان اقتضاءً أوّليّا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، وحسن تشريك المساعي، ومراعاة التساوي، مع أنّ المشهود دائماً خلاف ذلك، وإعمال القدرة والغلبة تحميل القويّ العزيز مطالبه الضعيف، واستدلال الغالب للمغلوب واستعباده في طريق مقاصده ومطامعه.

( حدوث الاختلاف بين افراد الإنسان)

ومن هنا يعلم أنّ قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروريّ بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروريّ من حيث القوّة والضعف يؤدّي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعيّ، فيستفيد القويّ من

١٢١

الضعيف أكثر ممّا يفيده، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفاً مغلوباً بالحيلة والمكيدة والخدعة، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشدّ الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديّاً إلى الهرج والمرج، وداعياً إلى هلاك الإنسانيّة، وفناء الفطرة، وبطلان السعادة.

وإلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس - ١٩، وقوله تعالى:( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود - ١١٩، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها:( لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية.

وهذا الاختلاف كما عرفت ضروريّ الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف الموادّ، وإن كان الجميع إنساناً بحسب الصورة الإنسانيّة الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه، واختلاف الموادّ يؤدّي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال في عين أنّها متّحدة بنحو، إو اختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال، واختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأفعال، وهو المؤدّي إلى اختلال نظام الاجتماع.

وظهور هذا الاختلاف هو الّذي استدعى التشريع، وهو جعل قوانين كلّيّة يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كلّ ذي حقّ حقّه، وتحميلها الناس.

والطريق المتّخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين:

الأوّل: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حقّ الحياة وتسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كلّ من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينيّة: من التوحيد والأخلاق الفاضلة، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولامرعيّ، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوّله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوماً العفّة، ويوماً الخلاعة، ويوماً الصدق، ويوماً الكذب، ويوماً الأمانة، ويوماً الخيانة، وهكذا.

والثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و

١٢٢

احترامها مع إلغاء المعارف الدينيّة في التربية الإجتماعيّة.

وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الإجتماعيّة وتوحيد الاُمّة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوّة المجبرة والقدرة المتسلّطة من الإنسان فقط، وثانيهما بالقوّة والتربية الخلقيّة، لكنّهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيّان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع، وهلاك الحقيقة الإنسانيّة، فإنّ هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلّق الوجود بصانعه، بدء من عنده وسيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيويّة، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، وهي مرتّبة على هذه الحياة الدنيويّة، وكيفيّة سلوك الإنسان فيها، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الّذي هو كونه عبداً لله سبحانه، بادئاً منه عائداً إليه، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، وأباد حقيقته.

فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير، ثمّ نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتّى أخذت في الاختلاف: من قتل، وضرب، وهتك عرض، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك، ثمّ اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتّخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.

فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض والأمتعة، والتمتّع على حسب ما لكلّ من الوزن الاجتماعيّ، فليس إلّا هذا المنزل والمتخلّف عن ذلك يؤخذ بالقوّة والسياسة.

وقال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيّات الموجودة الّذي جئتم بها من بلدكم الّذي خرجتم منه، فيتأدّب كلّ بما له من الشخصيّة الخلقيّة، ويأخذ بالرحمة لرفقائه، والعطوفة والشهامة والفضيلة، ثمّ تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلّا لكم ولمنزلكم هذا.

وقد أخطأ القائلان جميعاً، وسهيا عن أنّ القافلة جميعاً على جناح سفر، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره الّتي يريدها

١٢٣

فلو نسي شيئاً من ذلك لم يكن يستقبله إلّا الضلال والغىّ والهلاك.

والقائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتّعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه اللّيلة، وخذوا من ذلك زاداً لما هو أمامكم من الطريق، وما اُريد منكم في وطنكم، وما تريدونه لمقصدكم.

( رفع الاختلاف بالدينظ)

ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعاً ذلك على أساس التوحيد، والاعتقاد والأخلاق والأفعال، وبعبارة اُخرى وضع التشريع مبنيّ على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياه تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الدينيّ والتقنين الإلهيّ هو الّذي بُني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) يوسف - ٤٠، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.

ومن هذا الباب قوله تعالى:( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) الجاثية - ٢٤، فإنّهم إنّما كانوا يصرّون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأنّ القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيويّة على الحياة بنحو العبوديّة، وطاعة قوانين دينيّة مشتملة على موادّ وأحكام تشريعيّة: من العبادات والمعاملات والسياسات.

وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التديّن بالدين، واتّباع أحكامه في الحياة، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال، فردّوا ذلك ببناء الحياة الإجتماعيّة على مجرّد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.

وكذا قوله تعالى:( وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن

١٢٤

ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) النجم - ٣٠، فبيّن تعالى أنّهم يبنون الحياة على الظنّ والجهل، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام، ويبني دينه على الحقّ والعلم، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وهذه الحياة هي الّتي يشير إليها قوله تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، وقال تعالى:( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الرعد - ١٩، وقال تعالى:( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف - ١٠٨، وقال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر - ٩، وقال تعالى:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) البقرة - ١٢٩، إلى غير ذلك، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحثّ به، وناهيك فيه أنّه يسمّي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهليّة كما قيل.

فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إنّ الدين مبنيّ على التقليد والجهل مضادّ للعلم ومباهت له، وهؤلاء القائلون اُناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعيّة والإجتماعيّة فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئاً ممّا وراء الطبيعة، فظنّوا عدم الإثبات إثباتاً للعدم، وقد أخطأوا في ظنّهم، وخبطوا في حكمهم، ثمّ نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوّسين من اُمور يسمّونه باسم الدين، ولا حقيقة لها غير الشرك، والله برئ من المشركين ورسوله، ثمّ نظروا إلى الدعوة الدينيّة بالتعبّد والطاعة فحسبوها تقليداً وقد أخطأوا في حسبانهم، والدين أجلّ شأناً من أن يدعو إلى الجهل والتقليد، وأمنع جانباً من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير، ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحقّ لما جائه.

( الاختلاف في نفس الدين)

وبالجملة فهو تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف في المعاش واُمور الحياة إنّما رفع أوّل ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينيّة فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.

١٢٥

ثمّ إنّه تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنّما أوجده حملة الدين ممّن اُوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغياً بينهم وظلماً وعتوّاً، قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ - إلى أن قال -وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) الشورى - ١٤، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس - ١٩، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) الاعراف - ٢٤.

فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإنّ الدين فطريّ وما كان كذلك لا تضلّ فيه الخلقة ولا يتبدّل فيه حكمها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠ فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

( الإنسان بعد الدنيا)

ثمّ إنّه يخبرنا أنّ الإنسان سيرتحل من الدنيا الّتي فيه حياته الإجتماعيّة وينزل داراً اُخرى سمّاها البرزخ، ثمّ داراً اُخرى سمّاها الآخرة غير أنّ حياته بعد هذه الدنيا حياة انفراديّة، ومعنى كون الحياة انفراديّة، أنّها لا ترتبط بالاجتماع التعاونيّ، والتشارك والتناصر، بل السّلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثّر فيه وجود غيره بالتعاون والتناصر أصلاً، ولو كان هناك هذا النظام الطبيعيّ المشهود في المادّة لم يكن بدّ عن حكومة التعاون والتشارك، لكنّ الإنسان خلّفه وراء ظهره، وأقبل إلى ربّه، وبطل عنه جميع علومه العمليّة، فلا يرى لزوم الاستخدام والتصرّف والمدنيّة والاجتماع التعاونيّ ولا سائر أحكامه الّتي يحكم بها في الدنيا، وليس له إلّا صحابة عمله، ونتيجة حسناته وسيّآته، ولا يظهر له إلّا حقيقة الأمر ويبدو له النباء العظيم الّذي هم فيه مختلفون، قال تعالى:( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )

١٢٦

مريم - ٨٠، وقال تعالى:( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الانعام - ٩٤، وقال تعالى:( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس - ٣٠، وقال تعالى:( مالكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) الصافات - ٢٦، وقال تعالى:( يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار ) إبراهيم - ٤٨، وقال تعالى:( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ) النجم - ٤١، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدلّ على أنّ الإنسان يبدّل بعد الموت نحو حياته فلا يحيى حياة إجتماعيّة مبنيّة على التعاون والتناصر، ولا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العمليّة، ولايجنى إلّا ثمرة عمله ونتيجة سعيه، ظهر له ظهوراً فيجزى به جزاء.

قوله تعالى: ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، الناس معروف وهو الأفراد المجتمعون من الإنسان، والاُمّة هي الجماعة من الناس، وربّما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا ) النحل - ١٢٠، وربّما يطلق على زمان معتدّ به كقوله تعالى:( وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) يوسف - ٤٥، أي بعد سنين وقوله تعالى:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ) هود - ٨، وربّما يطلق على الملّة والدين كما قال بعضهم في قوله تعالى:( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) المؤمنون - ٥٢، وفي قوله تعالى:( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء - ٩٢، وأصل الكلمة من أمّ يأمّ إذا قصد فاُطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كلّ جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد وبغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، وهو المصحّح لإطلاقها على الواحد وعلى سائر معانيها إذا اُطلقت.

وكيف كان فظاهر الآية يدلّ على أنّ هذا النوع قد مرّ عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتّحاد والاتفاق، وعلى السذاجة والبساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة والمدافعة في اُمور الحياة، ولا اختلاف في المذاهب والآراء، والدليل على نفي الاختلاف

١٢٧

قوله تعالى:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، فقد رتّب بعثة الأنبياء وحكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم اُمّة واحدة فالاختلاف في اُمور الحياة ناش بعد الاتّحاد والوحدة، والدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: وما اختلف فيه إلّا الّذين اُوتوه بغياً بينهم فالاختلاف في الدين إنّما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.

وهذا هو الّذي يساعد عليه الاعتبار، فإنّا نشاهد النوع الإنسانيّ لا يزال يرقى في العلم والفكر، ويتقدّم في طريق المعرفة والثقافة، عاماً بعد عام، وجيلاً بعد جيل، وبذلك يستحكم أركان اجتماعه يوماً بعد يوم، ويقوم على رفع دقائق الاحتياج، والمقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، والاستفادة من مزايا الحياة، وكلّما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقّل عرفاناً برموز الحياة، وأسرار الطبيعة، وينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأوّليّ الّذي لا يوجد عنده إلّا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة وحدود العيش، كأنّهم ليس عندهم إلّا البديهيّات ويسير من النظريّات الفكريّة الّتي تهيّئ لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذّي بالنبات أو شئ من الصيد والإيواء إلى الكهوف والدفاع بالحجارة والأخشاب ونحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، ومن المعلوم أنّ قوماً حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهوراً يعتّد به، ولا يبدو فيهم الفساد بدوّاً مؤثّراً، كالقطيع من الغنم لا همّ لأفراده إلّا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، والتجمع في المسكن والمعلف والمشرب.

غير أنّ الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مرّ لا يحبسه هذا الاجتماع القهريّ من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف والتغالب والتغلّب، وهو كلّ يوم يزداد علماً وقوّة على طرق الاستفادة، ويتنبّه بمزايا جديدة، ويتيقّظ لطرق دقيقة في الانتفاع، وفيهم الأقوياء واُولوا السطوة وأرباب القدرة، وفيهم الضعفاء ومن في رتبتهم، وهو منشأ ظهور الاختلاف الاختلاف الفطريّ الّذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع والمدنيّة.

ولا ضير في تزاحم حكمين فطريّين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، ويعدّل

١٢٨

أمرهما، ويصلح شأنّهما، وذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، ويؤدّي ذلك إلى التزاحم، كما أنّ جاذبة التغذّي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة ولا تسعه المعدة، وهناك عقل يعدل بينهما، ويقضي لكلّ بما يناسبه، ويقدّر فعل كلّ واحدة من هذه القوى الفعّالة بما لا يزاحم الاُخرى في فعلها.

والتنافي بين حكمين فطريّين فيما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنيّة ثمّ سلوكها إلى الاختلاف يؤدّيان إلى التنافي، ولكنّ الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير والإنذار، وإنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وبهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالآية أنّ الناس كانوا اُمّة واحدة على الهداية، لأنّ الاختلاف إنّما ظهر بعد نزول الكتاب بغياً بينهم، والبغي من حملة الكتاب، وقد غفل هذا القائل عن أنّ الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافاً واحداً، وقد مرّ بيانه، وعن أنّ الناس لو كانوا على الهداية فإنّها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوّز لبعث الأنبياء وإنزال الكتاب وحملهم على البغي بالاختلاف، وإشاعة الفساد، وإثارة غرائز الكفر والفجور ومهلكات الأخلاق مع استبطانها؟

ويظهر به أيضاً: فساد ما ذكره آخرون أنّ المراد بها أنّ الناس كانوا اُمّة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتّب قوله تعالى: فبعث الله النبيّين الخ، وقد غفل هذا القائل عن أنّ الله سبحانه يذكر أنّ هذا الضلال الّذي ذكره وهو الّذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، إنّما نشاء عن سوء سريرة حملة الكتاب وعلماء الدين بعد نزول الكتاب، وبيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث والإنزال وهي ضلالة الكفر والنفاق والفجور والمعاصي فما المصحّح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب وعلماء الدين؟

ويظهر به أيضاً ما في قول آخرين أنّ المراد بالناس بنو إسرائيل حيث أنّ الله يذكر أنّهم اختلفوا في الكتاب بغياً بينهم، قال تعالى:( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) الجاثية - ١٦، وذلك أنّه تفسير من غير دليل، ومجرّد اتّصاف قوم بصفة

١٢٩

لا يوجب انحصارها فيهم.

وأفسد من ذلك قول من قال: إنّ المراد بالناس في الآية هو آدمعليه‌السلام ، والمعنى أنّ آدمعليه‌السلام كان اُمّة واحدة على الهداية ثمّ اختلف ذرّيّته، فبعث الله النبيين الخ، والآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كلّه ولا بعضه.

ويظهر به أيضاً فساد قول بعضهم: إنّ كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى:( وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) الفتح - ٧، فهو دالّ على الثبوت، والمعنى: أنّ الناس اُمّة واحدة من حيث كونهم مدنيّين طبعاً فإنّ الإنسان مدنيّ بالطبع لايتمّ حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجوديّة، واتّساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتمّ له الكمال إلّا بالاجتماع والتعاون بين الأفراد والمبادلة في المساعي، فيأخذ كلّ من نتائج عمله ما يستحقّه من هذه النتيجة ويعطي الباقي غيره، ويأخذ بدله بقيّة ما يحتاج إليه ويستحقّه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع والتعاون وقتاً من الأوقات، يدلّ عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعيّ المدنيّ وكونه اجتماعيّاً مدنيّاً لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته وخلقته غير أن ذلك يؤدّي إلى الاختلاف، واختلال نظام الاجتماع، فشرّع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، وبلّغها إليهم ببعث النبيّين مبشّرين ومنذرين، وإنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.

فمحصّل المعنى أنّ الناس اُمّة واحدة مدنيّة بالطبع لاغنى لهم عن الاجتماع وهو يوجب الاختلاف، فلذلك بعث الله الأنبياء وأنزل الكتاب.

ويردّ عليهأوّلاً: أنّه أخذ المدنيّة طبعاً أوّليّاً للإنسان، والاجتماع والاشتراك في الحياة لازماً ذاتيّاً لهذا النوع، وقد عرفت فيما مرّ أنّ الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحيّ اضطراريّ، وأنّ القرآن أيضاً يدلّ على خلافه.

وثانياً: أنّ تفريع بعث الأنبياء وإنزال الكتب على مجرّد كون الإنسان مدنيّاً بالطبع غير مستقيم إلّا بعد تقييد هذه المدنيّة بالطبع بكونها مؤدّية إلى الاختلاف، وظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير وهو خلاف الظاهر، والقائل مع ذلك لا يرضى بتقدير

١٣٠

الاختلاف في الكلام.

وثالثاً: أنّه مبنيّ على أخذ الاختلاف الّذي تذكره الآية وتتعرّض به اختلافاً واحداً، والآية كالنصّ في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب والمختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثمّ تقول وما اختلف فيه أي في الكتاب إلّا الّذين اُوتوه أي علموا الكتاب وحملوه بغياً بينهم، وهذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخّر عن نزوله، والمختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب وحملته دون جميع الناس، فأخذ الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي وعلم، والآخر بخلافه.

قوله تعالى: ( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) الخ، عبّر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه لأنّ هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأوّليّ حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الّذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلّها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيّين دون أن يعبّر بالمرسلين أو الرسل، على أنّ البعث وإنزال الكتاب كما تقدّم بيانه حقيقتهما بيان الحقّ للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم، وإنبائهم أنّهم مخلوقون لربّهم، وهو الله الّذي لا إله إلّا هو، وأنّهم سالكون كادحون إلى الله مبغوثون ليوم عظيم، واقفون في منازل من منازل السير، لاحقيقة له إلّا اللّعب وغرور، فيجب أن يراعو ذالك في هذه الحياة وأفعالها، وأن يجعلو نصب أعينهم أنّهم من أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبيّ الّذي معناه: من استقرّ عنده النبأ دون الرسول، ولذالك عبّر بالبنيّين. وفي أسناد بعث النبيّين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقّيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجئ زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، وأمّا التبشير والإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنّة لمن اتّقى، والوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذّب وعصى فهما أمسّ مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسّط الحال، وإن كان بعض الصالحين من عباده و أوليائه لا تعلّق نفوسهم بغير ربّهم من ثواب أو عقاب.

١٣١

قوله تعالى: ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، الكتاب فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه وإن استلزم كتابه بالقلم لكن اكون العهود والفرامين المفترضة إنّما يبرم بالكتابة غالباً شاع إطلاقه على كلّ حكم مفروض واجب الاتّباع أو كلّ بيان بل كلّ معنى لا يقبل النقض في إبرامه وقد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن. وبهذا المعنى سمّي القرآن كتاباًوهو كلام ألهيّ. قال تعالى:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) ص - ٢٩، وقال تعالى:( إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ) النساء - ١٠٣ وفي قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على أنّ المعنى: كان الناس اُمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله الخ كما مرّ.

واللّام في الكتاب إمّا للجنس وإمّا للعهد الذهنيّ والمراد به كتاب نوحعليه‌السلام لقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى - ١٣، فإنّ الآية في مقام الامتنان وتبيّن أنّ الشريعة النازلة على هذه الاُمّة جامعة لمتفرّقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختصّ بوحيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالشريعة مختصّة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولمّا كان قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدلّ على أنّ الشرع إنّما كان بالكتاب دلّت الآيتان بالانضمامأوّلاً: على أنّ لنوحعليه‌السلام كتاباً متضمّناً لشريعة، وأنّه المراد بقوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إمّا وحدة أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللّام للعهد أو الجنس.

وثانياً: أنّ كتاب نوح أوّل كتاب سماويّ متضمّن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة ولذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية.

وثالثاً: أنّ هذا العهد الّذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس اُمّة واحدة الآية كان قبل بعثة نوحعليه‌السلام وقد حكم فيه كتابهعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ -الي قوله-بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ، قد مرّ أنّ المراد

١٣٢

به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) الروم - ٣٠، نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.

وفي قوله تعالى:( إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ) ، دلالة على أنّ المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الدينيّ في الكتاب لا أنّ كلّ من انحرف عن الصراط المستقيم أو تديّن بغير الدين يكون باغياً وإن كان ضالّاً عن الصراط السويّ، فإنّ الله سبحانه لا يعذّر الباغي، وقد عذّر من اشتبه عليه الأمر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلاً، قال تعالى:( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الشورى - ٤٢، وقال تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - إلى أن قال -وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة - ١٠٦، وقال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) النساء - ٩٨.

على أنّ الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمّد والبغي، ولذلك خصّ البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهيّة، قال تعالى:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة - ٣٩، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيّد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثمّ أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أنّ هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

قوله تعالى: ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) بيان لما اختلف فيه وهو الحقّ الّذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دلّ عليه قوله تعالى: وأنزل معهم الكتاب بالحقّ، وعند ذلك عنت الهداية الإلهيّة بشأن الاختلافين معاً: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحقّ والمعارف الإلهيّة الّذي كان عامله الأصليّ بغى حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أنّ هداية الله تعالى

١٣٣

لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاماً منهم، وايجاباً على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإنّ الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنّما هداهم الله بإذنه لأنّ له أن يهديهم وليس مضطرّاً موجباً على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الّذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

وقد تبيّن من الآيةأوّلاً: حدّ الدين ومعرّفه، وهو أنّه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمّن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاُخرويّ، والحياة الدائمة الحقيقيّة عند الله سبحانه، فلا بدّ في الشريعة من قوانين تتعرّض لحال المعاش على قدر الاحتياج.

وثانياً: أن الدين أوّل ما ظهر ظهر رافعاً للاختلاف الناشي عن الفطرة ثمّ استكمل رافعاً للاختلاف الفطريّ وغير الفطريّ معاً.

وثالثاً: أن الدين لا يزال يستكمل حتّى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختماً فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الأديان خاتماً كان مستوعباً لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى:( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب - ٤٠، وقال تعالى:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل - ٨٩، وقال تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة - ٤٢.

ورابعاً: أنّ كلّ شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.

وخامساً: السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب، وبعبارة اُخرى العلّة في الدعوة الدينيّة، وهو أنّ الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنّه سالك نحو الاجتماع المدنيّ، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكّن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شئ ما يجذ به إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوّة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقيّ داخل في الصنع والإيجاد فما هو مقدّمته كذلك، وقد

١٣٤

قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، فبيّن أنّ من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كلّ شئ إلى ما يتمّ به خلقه، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضاً:( كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الأسراء - ٢٠، وهذه الآية تفيد أنّ شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كلّ من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقّه، وأنّ عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلّا أن يمتنع ممتنع بسوء حظّ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.

ومن المعلوم أنّ الإنسان غير متمكّن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإنّ فطرته هي المؤدّية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الإجتماعيّة؟.

وإذا كانت الطبيعة الإنسانيّة هي المؤدّية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحريّ به وهي قاصرة عن تدارك ما أدّت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالإصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهيّة الّتي هي النبوّة بالوحي، ولذا عبّر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كلّه إلّا إلى نفسه مع أنّ قيام الأنبياء كسائر الاُمور له ارتباطات بالمادّة بالروابط الزمانيّة والمكانيّة.

فالنبوّة حالة إلهيّة (وإن شئت قل غيبيّة) نسبتها إلى هذه الحالة العموميّة من الإدراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف الّتي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الإنسان، وهذا الإدراك والتلقّي من الغيب هو المسمّى في لسان القرآن بالوحي، والحالة الّتي يتّخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوّة.

ومن هناك يظهر أنّ هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدنيّ من جهة وإلى الاختلاف من جهة اُخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجّة على وجود النبوّة وبعبارة اُخرى دليل النبوّة العامّة.

تقريره: أنّ نوع الإنسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطريّ يؤدّيه إلى

١٣٥

الاجتماع المدنيّ وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الّذي يقضي التكوين والإيجاد برفعه ولا يرتفع إلّا بقوانين تصلح الحياة الإجتماعيّة برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إمّا بفطرته وإمّا بأمر ورائه لكنّ الفطرة غير كافية فإنّها هي المؤدّية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الإلهيّ غير الطبيعي المسمّى بالنبوّة والوحي، وهذه الحجّه مؤلّفة من مقدّمات مصرّح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدّم، وكلّ واحدة من هذه المقدّمات تجربيّة، بيّنتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوّعة الّتي ظهرت وانقرضت في طيّ القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانيّة الّتي يذكرها التاريخ.

فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤدّ إلى الاجتماع وقضى بحياة فرديّة، ولا اجتماعه المكوّن خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين إجتماعيّة، ولا أنّ فطرته وعقله الّذي يعدّه عقلاً سليماً قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادّة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الإجتماعيّة، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانيّة، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملائين من الناس، وسلطان التحكّم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الّذي يسمّى عصر المدنيّة والّرقى والثقافة والعلم، فما ظنّك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة؟.

وأمّا أنّ الصنع والايجاد يسوق كلّ موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كلّ موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثراً لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلّم تثبته التجربة والبحث، وأمّا أنّ التعليم والتربية الدينيّين الصادرين من مصدر النبوّة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدّقه البحث والتجربة معاً: أمّا البحث: فلانّ الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الإنسانيّ مفروض فيه، وأمّا التجربة: فالإسلام

١٣٦

أثبت ذلك في اليسير من الزمان الّذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أنّ جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدنيّ اليوم الّتي تضمّن حياة الحضارة والرّقي مرهونة التقدّم الإسلاميّ وسريانه في العالم الدنيويّ على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شكّ، وسنستوفي البحث عنه إنشاء الله في محلّ آخرأليق به.

وسادساً: أنّ الدين الّذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنسانيّ، قضاء القرآن بختم النبوّة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أنّ الاستكمال الفرديّ والاجتماعيّ للإنسان هو هذا المقدار الّذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه.

وهذا من ملاحم القرآن الّتي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرناً تقدّم فيها النوع في الجهات الطبيعيّ من اجتماعه تقدّماً باهراً، وقطع بعداً شاسعاً غير أنّه وقف من جهة معارفه الحقيقيّة، وأخلاقه الفاضلة موقفة الّذي كان عليه، ولم يتقدّم حتّى قدماً واحداً، أو رجع أقداماً خلفه القهقري، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحيّ والجسميّ معاً.

وقد اشتبه الأمر على من يقول: إنّ جعل القوانين العامّة لمّا كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدّل بتبدّل الاجتماعيّات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولاشكّ أنّ النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسىعليه‌السلام وموسىعليه‌السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبيّ موجباً لنسخ شرائع الإسلام ووضع قوانين اُخر قابلة الانطباق على مقتضيّات العصر الحاضر.

والجواب عنه: أنّ الدين كما مرّ لم يعتبر في تشريعه مجرّد الكمال المادّيّ الطبيعيّ للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنسانيّ، وبني أساسه على الكمال الروحيّ والجسميّ معاً، وابتغى السعادة المادّيّة والمعنويّة جميعاً، ولازم ذلك أن يعتبر فيه

١٣٧

حال الفرد الاجتماعيّ المتكامل بالتكامل الدينيّ دون الفرد الاجتماعيّ المتكامل بالصنعة والسياسة، وقد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنّهم لولوعهم في الأبحاث الإجتماعيّة المادّيّة (والمادّة متحوّلة متكاملة كالاجتماع المبنيّ عليها) حسبوا أنّ الاجتماع الّذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الّذي اعتبروه اجتماع مادّيّ جسمانيّ، فحكموا عليه بالتغيّر والنسخ حسب تحوّل الاجتماع المادّيّ، وقد عرفت أنّ الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعاً، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد دينيّ أو اجتماع دينيّ جامع للتربية الدينيّة والحياة المادّيّة الّتي سمحت به دنيا اليوم ثمّ لينظر هل يوجد عنده شئ من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية؟.

وسابعاً: أنّ الأنبياءعليهم‌السلام معصومون عن الخطاء.

( كلام في عصمة الأنبياء)

توضيح هذه النتيجة: أنّ العصمة على ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطاء في تلقّي الوحي، والعصمة عن الخطاء في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية وهي ما فيه هتك حرمة العبوديّة ومخالفة مولويّة، ويرجع بالأخرة إلى قول أو فعل ينافي العبوديّة منافاه مّا، ونعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطاء أو المعصية.

وأمّا الخطاء في غير باب المعصية وتلقّي الوحي والتبليغ، وبعبارة اُخرى في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به كالخطاء في الاُمور الخارجيّة نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواسّ وإدراكاتها أو الاعتباريّات من العلوم، ونظير الخطاء في تشخيص الاُمور التكوينيّة من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.

وكيف كان فالقرآن يدلّ على عصمتهمعليهم‌السلام في جميع الجهات الثلاث:

أمّا العصمة عن الخطاء في تلقّي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدلّ عليه قوله تعالى في الآية:( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

١٣٨

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) فإنّه ظاهر في أنّ الله سبحانه إنّما بعثهم بالتبشير والإنذار وإنزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبيّنوا للناس الحقّ في الاعتقاد والحقّ في العمل، وبعبارة اُخرى لهداية الناس إلى حقّ الاعتقاد وحقّ العمل، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالى:( لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه - ٥٢، فبيّن أنّه لا يضلّ في فعله ولا يخطئ في شأنه فإذا أراد شيئاً فإنّما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطاء، وإذا سلك بفعل إلى غاية فلا يضلّ في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ولابدّ أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابدّ أن يكون! وقال تعالى أيضاً:( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق - ٣، وقال أيضاً:( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ ) يوسف - ٢١.

ويدلّ على العصمة عن الخطاء أيضاً قوله تعالى:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) الجن - ٢٨، فظاهره أنّه سبحانه يختصّ رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيّدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغيّر بتغيير الشياطين وكلّ مغيّر غيرهم، ليتحقّق إبلاغهم رسالات ربّهم، ونظيره قوله تعالى حكاية عن قول ملائكة الوحي( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) مريم - ٦٤، دلّت الآيات على أنّ الوحي من حين شروعه في النزول إلى بلوغه النبيّ إلى تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أيّ مغيّر يغيّره.

وهذان الوجهان من الاستدلال وإن كانا ناهضين على عصمة الأنبياءعليهم‌السلام في تلقّي الوحي وتبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قرّرنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضاً بأنّ الفعل دالّ كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدلّ بفعله على أنّه يراه حسناً جائزاً كما لو قال:

١٣٩

إنّ الفعل الفلانيّ حسن جائز فلو تحقّقت معصية من النبيّ وهو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضاً منه فإنّ فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلّغاً لكلا المتناقضين وليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحقّ فإنّ المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحقّ لكون كلّ منهما مبطلاً للآخر فعصمة النبيّ في تبليغ رسالته لا تتمّ إلّا مع عصمته عن المعصية وصونه عن المخالفة كما لا يخفى.

ويدلّ على عصمتهم مطلقاً قوله تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الانعام - ٩٠، فجميعهمعليهم‌السلام كتب عليهم الهداية، وقد قال تعالى:( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ) الزمر - ٣٧.

وقال تعالى:( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) الكهف - ١٧، فنفى عن المهتدين بهدايته كلّ مضلّ يؤثّر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، وكلّ معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى:( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ) يس - ٦٢، فعدّ كلّ معصية ضلالاً حاصلاً بإضلال الشيطان بعد ما عدّها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حقّ الأنبياءعليهم‌السلام ثمّ نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثمّ عدّ كلّ معصية ضلالاً تبرئة منه تعالى لساحة انبيائه عن صدور المعصية منهم وكذا عن وقوع الخطاء في فهمهم الوحي وإبلاغهم إيّاه.

ويدلّ عليها أيضاً قوله تعالى:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء - ٦٨، وقال أيضاً:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) الحمد - ٧، فوصف هؤلاء الّذين أنعم عليهم من النبيّين بأنّهم ليسوا بضالّين، ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالّين وكذا لو صدر عنهم خطاء في الفهم أو التبليغ، ويؤيّد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء:( أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) مريم - ٥٩، فجمع في الأنبياء

١٤٠