الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118149
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118149 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والعشرين جزئاً، وللتوأم جزئان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسةٌ، وللمسبل ستّة، وللمعلّي سبعة، وهو أكثر القداح نصيباً، وأمّا الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتمّ هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.

قوله تعالى: ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) ، وقرء إثمٌ كثيرٌ بالثاء المثلّثة، والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حالٌ في الشئ أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الّذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور اُخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الاُخرى وهذان على هذه الصفة.

أمّا شرب الخمر فمضرّاته الطبّيّة وآثاره السيّئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرائين والقلب والحواسّ كالباصرة والذائقة وغيرها ممّا ألّف فيه تأليفات من حذّاق الأطّباء قديماً وحديثاً، ولهم في ذلك إحصائآت عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة الّتي يستتبعها هذا السمّ المهلك.

وأمّا مضرّاته الخلقيّة: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل وإفشآء السرّ، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانيّة الّتي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصّة ناموس العفّة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقلّ ما يتّفق جناية من هذه الجنايات الّتي قد ملأت الدنيا ونغّصت عيشة الإنسان إلّا وللخمر فيها صنعٌ مستقيماً أو غير مستقيم.

وأمّا مضرّته في الإدراك وسلبه العقل وتصرّفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فممّا لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الاُخر.

والشريعة الإسلاميّة كما مرّت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفّظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشدّ النهى كالخمر، والميسر،

٢٠١

والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشدّ الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي الّتي تهدّد الإنسانيّة، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامّة إلّا وهي أمرّ من سابقتها، وكلّما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجّة البيضآء والشريعة الغرّاء إلّا البناء على العقل والمنع عمّا يفسده من اتّباع الهوى لكفاها فخراً، وللكلام تتمّة سنتعرّض لها في سورة المائدة انشاء الله.

ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانيّة يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانيّة أسرع من شيوع الحقّ والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشقّ تركها والجرى على نواميس السعادة الإنسانيّة، ولذلك إنّ الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلّفهم بالرفق والإمهال.

ومن جملة تلك العادات الشائعة السيّئة شرب الخمر فقد اُخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبّر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرّات:

إحداها: قوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) الأعراف - ٣٣، والآية مكّيّة حرّم فيها الإثم صريحاً، وفي الخمر إثم غير أنّه لم يبيّن أنّ الإثم ما هو وأنّ في الخمر إثماً كبيراً.

ولعلّ ذلك إنّما كان نوعاً من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) النحل ٦٧، والآية أيضاً مكّيّة، وكأنّ الناس لم يكونوا متنبهّين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتّى نزلت قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) النساء - ٤٣، والآية مدنيّة وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.

والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتى المائدة فإنّهما

٢٠٢

تدلّان على النهي المطلق، ولا معنى للنهى الخاصّ بعد ورود النهى المطلق، على أنّه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإنّ التدريج سلوكٌ من الأسهل إلى الأشقّ لا بالعكس.

ثمّ نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وهذه الآية بعد آية النساء كما مرّ بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعيّة على الإثم في الخمر( فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) وتقدّم نزول آية الأعراف المكّيّة الصريحة في تحريم الإثم.

ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإنّ قوله تعالى:( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لا يدلّ على أزيد من أنّ فيه إثماً والإثم هو الضرر، وتحريم كلّ ضارّ لا يدلّ على تحريم ما فيه مضرّة من جهة ومنفعة من جهة اُخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعاً لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصرّ على شربها آخرون، كأنّهم رأوا أنّهم يتيّسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ - إلى قوله تعالى -فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

وجه الفسادأمّا أوّلاً: فإنّه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الإثم هو الضرر ومجرّد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٧، وقوله تعالى:( فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة - ٢٨٣، وقوله تعالى:( أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) المائدة - ٢٩، وقوله تعالى:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور - ١١، وقوله تعالى:( وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) النساء - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا ثانياً: فإنّ الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلّم ذلك فإنّها تعللّه بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النصّ.

٢٠٣

وأمّا ثالثاً: فهب أنّ الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنّها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنيّة قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرّمة للإثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكّيّة حتّى يجتهد في آية مدنيّة.

على أنّ آية الأعراف تدلّ على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيّدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أنّ الخمر فرد تامّ ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرّم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شئ من ذلك بالكبر إلّا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى:( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا ) النساء - ٤٨، وبالجملة لا شكّ في دلالة الآية على التحريم.

ثمّ نزلت آيتا المائدة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) المائدة - ٩١، وذيل الكلام يدلّ على أنّ المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلّيّة حتّى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كلّه في الخمر.

وأمّا الميسر: فمفاسده الإجتماعيّة وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرّض لشأنه في سورة المائدة إنشاء الله.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، قد مرّ الكلام في معنى الإثم، وأمّا الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أنّ الكثرة تقابل القلّة، فهما وصفان إضافيّان بمعنى أنّ الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولاصغر كما لا يكون كثرة ولاقلّة، ويشبه أن يكون أوّل ما تنبّه الناس لمعنى الكبر إنّما تنبّهوا له في الأحجام الّتي هي من الكمّيّات المتّصلة وهي جسمانيّة، ثمّ انتقلوا

٢٠٤

من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى:( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) المدّثر - ٣٥، وقال تعالى:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) الكهف - ٥، وقال تعالى:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) الشورى - ١٣، والعظم في معناه كالكبر، غير أنّ الظاهر أنّ العظمة مأخوذة من العظم الّذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإنّ كبر جسم الحيوان كان راجعاً إلى كبر العظام المركّبة المؤلّفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصّل فأشتقّ منه كالموادّ الأصليّة.

والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الاُمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أنّ الخير والشرّ يطلقان على الاُمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات الماليّة بالبيع والشرى والعمل والتفكّه والتلهّي، ولمّا قوبل ثانياً بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإنّ العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشئ لتناوله ثمّ أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلاميّة به مجيئه لمعاني مختلفة، كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسّط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.

والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مرّ في قوله تعالى: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية.

قوله تعالى: ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ - إلى قوله -فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا والآخرة، متعلّق بقوله: تتفكّرون وليس بظرف له، والمعنى لعلّكم تتفكّرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأنّ الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقرّكم وهو الدار الآخرة الّتي ترجعون فيه إلى ربّكم فيجازيكم بأعمالكم الّتي عملتموها في الدنيا.

وفي الآيةأوّلاً: حثّ على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدء والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكّر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفرديّة و

٢٠٥

الإجتماعيّة، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.

وثانياً: أنّ القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أيّ شرط وقيد، غير أنّه لا يرضي أن يؤخذ الأحكام والمعارف الّتي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكّر وتعقّل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنوّر يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.

وكأنّ المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح اُصول المعارف والعلوم.

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ) ، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثمّ قيل ولو شاء الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتّى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإنّ ههنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) النساء - ١٠ وقوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ) النساء - ٢، فالظاهر أنّ الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيّد ماسننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائيّ، وفي قوله تعالى: قل إصلاح لهم خيرٌ - حيث نكّر الإصلاح - دلالة على أنّ المرضيّ عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كلّ إصلاح ولو كان إصلاحاً في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاحٌ لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلاً -: والله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) ، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإلغاء جميع الصفات المميّزة الّتي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي

٢٠٦

والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والوليّ القويّ، وبين الغنيّ المثرى والفقير المعدم، وكذا كلّ ناقص وتامّ، وقد قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات - ١٠.

فالّذي تجوّزه الآية في مخالطة الوليّ لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الإجتماعيّة بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى:( وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ً ) النساء - ٢، وهذه المحاذاة من الشواهد على أنّ في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدلّ عليه أيضاً ذيلها، وكما يدلّ عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى: والله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أنّ المخالطة إن كانت (وهذا هو التخفيف) فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإنّ ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لاصورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتّى يؤاخذكم بمجرّد المخالطة فإنّ الله سبحانه يميّز المفسد من المصلح.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنّها لمكان تضمينه معنى يميّز، والعنت هو الكلفة والمشقّة.

( بحث روائي)

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهدىّ أبا الحسنعليه‌السلام عن الخمر: هل هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ؟ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهى عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : بل هي محرّمة فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزّوجلّ يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ - إلى ان قال - فأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها وقد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما

٢٠٧

أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهديّ: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشميّة، فقلت له: صدقت يا أميرالمؤمنين الحمد لله الّذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فو الله ما صبر المهديّ أن قال لى: صدقت يا رافضيّ.

اقول: وقد مرّ ما يتبيّن به معنى هذه الرواية.

وفي الكافي أيضاً عن أبى بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ الله جعل للمعصية بيتاً، ثمّ جعل للبيت باباً، ثمّ جعل للباب غلقاً، ثمّ جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى عبداللهعليه‌السلام قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخمر رأس كلّ إثم.

وفيه عن إسماعيل قال: أقبل أبوجعفرعليه‌السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شابّ منهم: فقال يا عمّ ما أكبر الكبائر؟ قالعليه‌السلام : شرب الخمر.

وفيه أيضاً عن أبى البلاد عن أحدهماعليهما‌السلام قال: ما عصي الله بشئ أشدّ من شرب المسكر، إنّ أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على اُمّه وابنته، واُخته وهو لا يعقل.

وفي الاحتجاج: سأل زنديق أباعبداللهعليه‌السلام : لم حرّم الله الخمر ولالذّة أفضل منها؟ قال: حرّمها لأنّها أمّ الخبائث ورأس كلّ شرّ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه فلا يعرف ربّه ولا يترك معصية إلّا ركبها الحديث.

اقول: والروايات تفسّر بعضها بعضاً، والتجارب والاعتبار يساعدانها.

وفي الكافي عن جابر عن أبى جعفرعليه‌السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها وآكل ثمنها.

وفي الكافي والمحاسن عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.

اقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى:( وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة - ٣.

٢٠٨

وفي الخصال بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقّ، ومنّان، ومكذّب بالقدر، ومدمن خمر.

وفي الأماليّ لابن الشيخ بإسناده عن الصادقعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أقسم ربّي جلّ جلاله لا يشرب عبدٌ لي خمراً في الدنيا إلّا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذّباً بعد أو مغفوراً له. ثمّ قال: إنّ شارب الخمر يجئ يوم القيامة مسودّاً وجهه، مزرقة عيناه، مائلاً شدقه، سائلاً لعابه، والغاً لسانه من قفاه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: حقّ على الله أن يسقي من يشرب الخمر ممّا يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهنّ صديدٌ، والصديد قيحٌ ودمٌ غليظ يؤذي أهل النار حرّه ونتنه.

اقول: ربّما تأيّدت هذه الروايات بقوله تعالى:( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) الدخان - ٤٩. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

وفي الكافي عن الوشّا عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون الآية عن ابن عبّاس: إنّ نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبيّ فقالوا: إنّا لا ندري ما هذه النفقة الّتي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وكان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به ولا مالاً يأكل حتّى يتصدّق به.

وفي الدرّ المنثور أيضاً عن يحيى: أنّه بلغه أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالا: يارسول الله إنّ لنا أرقّاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: ويسألونك ماذا ينفقون. قل العفو.

وفي الكافي وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : العفو الوسط.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقر والصادقعليه‌السلام : الكفاف. وفي رواية أبي

٢٠٩

بصير: القصد.

وفيه أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.

وفي المجمع عن الباقرعليه‌السلام : العفو ما فضل عن قوت السنة.

اقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيّتها وموردها وكمّيّتها فوق حدّ الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إنشاء الله.

وفي تفسير القمّيّ: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّه لمّا نزلت: إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً، أخرج كلّ من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن، وإنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتدّ ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.

اقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.

٢١٠

( سورة البقرة آية ٢٢١)

وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٢٢١ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) ، قال الراغب في المفردات: أصل النكاح للعقد ثمّ استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثمّ استعير للعقد لأنّ أسماء الجماع، كلّها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشاً اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، وهو جيّد غير أنّه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجيّة دون العقد اللفظيّ المعهود.

والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتّخاذ الشريك لله سبحانه، ومن المعلوم أنّه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والإيمان، فالقول بتعدّد الإله واتّخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهرٌ وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوّة - وخاصّة - إنّهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، وقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه وهو شركٌ، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلّا المخلصون وهو الغفلة عن الله والإلتفات إلى غير الله عزّت ساحته، فكلّ ذلك من الشرك، غير أنّ إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به، كما أنّ من ترك من المؤمنين شيئاً من الفرائض فقد كفر به لكنّه لا يسمّى كافراً، قال تعالى:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ - إلى أن قال -وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) آل عمران - ٩٧، وليس تارك الحجّ كافراً بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، ولو أطلق عليه الكافرقيل كافرٌ بالحجّ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهّرين، و

٢١١

كالفاسقين والظالمين إلى غير ذلك لاتعادل الأفعال المشاركة لها في مادّتها، وهو ظاهرٌ فللتوصيف والتسمية حكم، ولإسناد الفعل حكم آخر.

على أنّ لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنّما اُطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفّار كقوله تعالى:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) البيّنة - ١، وقوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) التوبة - ٢٨، وقوله تعالى:( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) التوبة - ٧، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦، وقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥ إلى غير ذلك من الموارد.

وأمّا قوله تعالى:( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) البقرة - ١٣٥، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضاً لهم بل الظاهر أنّهم غيرهم بقرينة قوله تعالى:( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) آل عمران - ٦٧، ففي إثبات الحنف لهعليه‌السلام تعريض لأهل الكتاب، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاقّ الوسط إلى مادّيّة اليهود محضاً أو إلى معنويّة النصارى محضاً بل هوعليه‌السلام غير يهوديّ ولا نصرانيّ ومسلم لله غير متّخذ له شريكاً المشركين عبدة الأوثان.

وكذا قوله تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، وقوله تعالى:( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) فصّلت - ٧، وقوله تعالى:( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ) النحل - ١٠٠، فإنّ هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعدّ المورد الّذي يصدق وصف الشرك عليه مشركاً غير مؤمن، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذّ منهم وهم الأولياء المقرّبون من صالحي عبدالله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أنّ ظاهر الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيّين دون أهل الكتاب.

٢١٢

ومن هنا يظهر: فساد القول بأنّ الآية ناسخةٌ لآية المائدة وهي قوله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) المائدة - ٦.

أو أنّ الآية أعني قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى:( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) الممتحنة - ١٠، ناسختان لآية المائدة، وكذا القول بأنّ آية المائدة ناسخةٌ لآيتي البقرة والممتحنة.

وجه الفساد: أنّ هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلّا الكتابيّة فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتّى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، وكذا آية الممتحنة وإن أخذ فيها عنوان الكوافر وهو أعمّ من المشركات ويشمل أهل الكتاب، فإنّ الظاهر أنّ إطلاق الكافر يشمل الكتابيّ بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) البقرة - ٩٨ إلّا أنّ ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء الله العزيز أنّ من آمن من الرجال وتحته زوجةٌ كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجيّة السابقة إلّا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائيّ للكتابيّة.

ولو سلّم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابيّة ابتدائاً لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، وذلك لأنّ آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف، على ما يعطيه التدبّر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخيّة بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أنّ سورة البقرة أوّل سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكّة، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منوسخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) ، الظاهر أنّ المراد بالاُمّة المؤمنة المملوكة الّتي تقابل الحرّة وقد كان الناس يستذلّون الإماء ويعيّرون من تزوّج بهنّ، فتقييد الاُمّة بكونها مؤمنة، وإطلاق المشركة مع ماكان عليه الناس من استحقار أمر الإماء واستذلالهنّ، والتحرّز عن التزوّج بهنّ يدلّ على أنّ المراد أنّ المؤمنة وإن كانت أمة خيرٌ من المشركة وإن كانت حرّة ذات حسب ونسب ومال ممّا يعجب الإنسان بحسب العادة.

وقيل: إنّ المراد بالامة كالعبد في الجملة التالية أمة الله وعبده، وهو بعيدٌ.

قوله تعالى: ( وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ) الخ، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى: ( أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) ، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، وهو أنّ المشركين لاعتقادهم بالباطل، وسلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزيّنة للكفر والفسوق، والمعمية عن إبصار طريق الحقّ والحقيقة، فأثبتت في قولهم وفي فعلهم الدعوة إلى الشرك، والدلالة إلى البوار، والسلوك بالأخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار والمؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الإيمان، وتلبّسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم وفعلهم إلى الجنّة والمغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، واهتدائهم إلى الفوز والصلاح المؤدّي إلى الجنّة والمغفرة.

وكان حقّ الكلام أن يقال: وهؤلاء يدعون إلى الجنّة الخ ففيه استخلاف عن المؤمنين ودلالة على أنّ المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شؤونهم الوجوديّة إلى ربّهم، لا يستقلّون في شئ من الاُمور دون ربّهم تبارك وتعالى وهو وليّهم كما قال سبحانه:( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران - ٦٨.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنّة والمغفرة هو الحكم المشرّع في صدر الآية بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ الخ، فإنّ جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه والاُنس به

٢١٤

إلّا البعد من الله سبحانه، وحثّهم بمخالطة من في مخالطته التقرّب من الله سبحانه وذكر آياته ومراقبة أمره ونهيه دعوة من الله إلى الجنّة، ويؤيّد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: ويبيّن آياته للناس لعلّهم يتذكّرون، ويمكن أن يراد بالدعوة الأعمّ من الوجهين، ولا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

( بحث روائي)

في المجمع في الآية: نزلت في مرئد بن أبى مرئد الغنويّ بعثه رسول الله إلى مكّة ليخرج منها ناساً من المسلمين، وكان قويّاً شجاعاً، فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى وكانت بينهما خلّة في الجاهليّة، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها.

اقول: وروي هذا المعنى السيوطيّ في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس.

وفي الدرّ المنثور أخرج الواحديّ من طريق السديّ عن أبى مالك عن ابن عبّاس في هذه الآية: ولأمة مؤمنة خير من مشركة، قال. نزلت في عبدالله بن رواحة وكانت له أمة سودآء وإنّه غضب عليها فلطمها ثمّ إنّه فزع فأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره خبرها، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ماهي يا عبدالله؟ قال: تصوم وتصلّي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله فقال يا عبدالله، هذه مؤمنة فقال عبدالله: فو الّذي بعثك بالحقّ لاُعتقها ولأتزوّجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: نكح أمةً، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبةً في أحسابهم فأنزل الله فيهم: ولأمة مؤمنة خير من مشركة.

وفيه أيضاً عن مقاتل في الآية ولأمة مؤمنة، قال بلغنا أنّها كانت أمة لحذيفة فأعتقها وتزوّجها حذيفة.

اقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع عدّة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، وهنا روايات متعارضة مرويّة في كون قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ، الآية ناسخاً لقوله تعالى: والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخاً به، ستمرّ بك في تفسير الآية من سورة المائدة.

٢١٥

( سورة البقرة آية ٢٢٢ - ٢٢٣)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( ٢٢٢ ) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٢٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) الخ المحيض مصدر كالحيض يقال: حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصّة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنّه لا يخلو عن نظر، فإنّه لو كان هو الضرر بعينه لصحّ مقابلته مع النفع كما أنّ الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضرّ وضارّ، ولو قيل دواء موذٍ أفاد معنى آخر، وأيضاً قال تعالى:( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ) آل عمران - ١١١، ولو قيل لن يضرّوكم إلّا ضرراً لفسد الكلام، وأيضاً كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) الأحزاب - ٥٧، وقوله تعالى:( لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) الصفّ - ٥، فالظاهر أنّ الأذى هو الطارئ على الشئ غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلاً من عمل خاصّ من طبعها يؤثّر به في مزاج الدم الطبيعيّ الّذي يحصّله جهاز التغذية فيفسد مقداراً منه عن الحال الطبيعيّ وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللّبن للإرضاع، وأمّا على قولهم: إنّ الأذى هو الضرر فقد قيل: إنّ المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهنّ في هذه الحال فاُجيب بأنّه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطبّاء أنّ الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و

٢١٦

إعداده للحمل، والوقاع يختلّ به نظام هذا العمل فيضرّ بنتائج هذا العمل الطبيعيّ من الحمل وغيره.

قوله تعالى: ( فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ ) ، الاعتزال هو أخذ العزلة والتجنّب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزّته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدّى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محلّ الدم على ما سنبيّن.

وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتّى: فكانت اليهود تشدّد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهنّ في المحيض، وأمر من قرب منهنّ في المجلس والمضجع والمسّ وغيره ذلك، وأمّا النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهنّ أو الاقتراب منهنّ بوجه، وأمّا المشركون من العرب فلم يكن عندهم شئ من ذلك غير أنّ العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهنّ في هذه الحال، وغيرهم ربّما كانوا يستحبّون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أنّ الولد المرزوق حينئذ يصير سفّاحاً ولوعاً في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويّين.

وكيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكّده قوله تعالى ثانياً: ولا تقربوهنّ، إلّا أنّ قوله تعالى أخيراً فأتوهنّ من حيث أمركم الله - ومن المعلوم أنّه محلّ الدم - قرينة على أنّ قوله: فاعتزلوا ولا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح. والمراد به الإتيان من محلّ الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتّع والاستلذاذ.

فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقاً وسطاً بين التشديد التامّ الّذي عليه اليهود والإهمال المطلق الّذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محلّ الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أنّ المحيض الأوّل أريد به المعنى المصدريّ والثاني زمان الحيض

٢١٧

فالثاني غير الأوّل، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) ، الطهارة - وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملّة الإسلام ذات أحكام وخواصّ مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينيّة، وقد صار اللّفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعيّة أو المتشرّعة على ما اصطلح عليه في فنّ الاُصول.

وأصل الطهارة بحسب المعنى ممّا يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنّها من المعاني الّتي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإنّ أساس الحياة مبنيّ على التصرّف في المادّيّات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كلّ شئ بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصّيّة والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذّي والتوليد.

وربّما عرض للشئ عارض يوجب تغيّره عمّا كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم الرائحة واللّون، فأوجب ذلك تنفّر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمّى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشئ فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشئ على حاله الاُولي من الفائدة والجدوى الّذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديّان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفةً توجب كراهتها واستقذارها.

وقد كان أوّل ما تنبّه الإنسان لهذيين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثمّ أخذ في تعميمها للاُمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.

هذا ملخّص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأمّا النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أنّ النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشئ بعد قذارة سابقة ويختصّ استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد،

٢١٨

وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصّان بالمعقولات والمعنويّات، وأمّا القذارة والرجس فلفظان قريباً المعنى من النجاسة، لكنّ الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذرور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورةٌ لا يخالّ الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجلٌ مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشئ بالكسر وتقذّرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشئ تبعّد الإنسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكأنّ الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعاريّة.

وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعمّمهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلّيّة، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى:( وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْن َ ) الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى:( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) المدّثّر - ٤، وقال تعالى:( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقال تعالى:( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) المائدة - ٤١، وقال تعالى:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩.

وقد عدّت الشريعة الإسلاميّة عدّة أشياء نجسةً كالدم والبول والغائط والمنيّ من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعياناً نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عدّ من الطهارة أموراً كالطهارة الخبثيّة المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثيّة المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقرّرة شرعاً المشروحة في كتب الفقه.

وقد مرّ بيان أنّ الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.

ومن هنا يظهر: أنّ أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقيّة المعارف الكلّيّة طهارات للإنسان، وبعد ذلك اُصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة

٢١٩

المذكورة آنفاً كقوله تعالى:( يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة - ٦، وقوله تعالى:( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الأحزاب - ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

ولنرجع إلى ماكنّا فيه فقوله تعالى: حتّى يطهرن، أي ينقطع عنهنّ الدم، وهو الطهر بعد الحيض، وقوله تعالى: فإذا تطهّرن أي، يغسلن محلّ الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، أمرٌ يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهيّ البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدّب فإنّ الجماع ممّا يعدّ بحسب بادي النظر لغواً ولهواً فقيده بكونه ممّا أمر الله به أمراً تكوينيّاً للدلالة على أنّه ممّا يتمّ به نظام النوع الإنسانيّ في حياته وبقائه فلا ينبغي عدّه من اللغو واللهو بل هو من أصول النواميس التكوينيّة.

وهذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهنّ من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) البقرة - ١٨٧، وقوله تعالى:( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ) البقرة - ٢٢٣، من حيث السياق، فالظاهر أنّ المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكوينيّ المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أنّ المراد بالكتابة في قوله تعالى: وابتغوا ما كتب الله لكم أيضاً ذلك، وهو ظاهرٌ، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإجاب الكفائيّ المتعلّق بالازدواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائيّة الّتي لا تتمّ حياة النوع إلّا به لكنّه بعيد.

وقد استدلّ بعض المفسّرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، وهو من أوهن الاستدلال وأرداه، فإنّه مبنيّ إمّا على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهنّ وهو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجّيّته، وإمّا على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضدّ الخاصّ وهو مقطوع الضعف. على أنّ الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهنّ فهو واقعٌ عقيب الحظر

٢٢٠