الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118184
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118184 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الّذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله ولا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين،وثالثاً: أنّهم كانوا يرون حرمأنّها في عامّة الحقوق الّتي أمكن انتفاعها منها إلّا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيّمين بأمرها،ورابعاً: أنّ أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القويّ على الضعيف وبعبارة اُخرى قريحة الاستخدام، هذا في الاُمم غير المتمدّنة، وأمّا الاُمم المتمدّنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنّها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، ولا يؤمن شرّها، وربّما اختلط الأمر اختلاطاً باختلاف الاُمم والأجيال.

( ماذا أبدعه الإسلام في أمرها)

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، وتحبسها في سجن الذلّة والهوان حتّى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت ألفاظ المرأة والضعف والهوان كاللّغات المترادفة بعد ما وضعت متبائنة، لا عند الرجال فقط بل وعند النساء - ومن العجب ذلك - ولا ترى أمّة من الاُمم وحشيّها ومدنيّها إلّا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف أصولها وسياقاتها وألحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتّشبيه مربوطة بهذه اللّفظة (المرأة) يقرّع بها الجبان، ويؤنّب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذلّ المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:

وما أدري وليت إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

مئآت وألوف من النّظم والنثر في كلّ لغة.

وهذا في نفسه كافٍ في أن يحصّل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانيّة في أمر المرأة وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الاُمم والملل في أمرها، فإنّ الخصائل الروحيّة والجهات الوجوديّة في كلّ اُمّة تتجلّى في لغتها وآدابها.

ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهمّ بأمرها إلّا بعض ما في التوراة وما وصّى به عيسى بن مريمعليهما‌السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.

٢٨١

وأمّا الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنّه أبدع في حقّها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطريّة عليها كانت الدنيا هدمتها من أوّل يوم وأعفت آثارها، وألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويّتها اعتقاداً وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.

أمّا هويّتها: فإنّه بيّن أنّ المرأة كالرجل إنسان وأنّ كلّ إنسان ذكراً أو اُنثى فإنّه إنسان يشترك في مادّته وعنصره إنسانان ذكر واُنثى ولا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) الحجرات - ١٣، فجعل تعالى كلّ إنسان مأخوذاً مؤلّفاً من إنسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادّة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو اُنثى مجموع المادّة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:

وإنّما اُمّهات الناس أوعية

ولا قال مثل ما قاله الآخر:

بنونا بنو ابنائنا وبناتنا

بنوهن ابناء الرجال الاباعد

بل جعل تعالى كلّاً مخلوقاً مؤلّفاً من كلّ. فعاد الكلّ أمثالاً، ولا بيان أتمّ ولا، أبلغ من هذا البيان، ثمّ جعل الفضل في التقوى.

وقال تعالى:( أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فصرّح أنّ السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله وعلّل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبّر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى، وهو أنّ الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.

ثمّ بيّن بذلك أنّ عمل كلّ واحد من هذين الصنفين غير مضيّع عندالله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كلّ نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إنّ عليهن سيّئآتهنّ، وللرجال حسناتهنّ من منافع وجودهنّ، وسيجئ لهذا الكلام مزيد توضيح.

وإذا كان لكلّ منهما ما عمل ولا كرامة إلّا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة

٢٨٢

المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممّن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلّا للتقوى والفضيلة.

وفي معني الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وقوله تعالى:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) المؤمن - ٤٠، وقوله تعالى:( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) النساء - ١٢٤.

وقد ذمّ الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله وهو من أبلغ الذمّ:( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) النحل - ٥٩، ولم يكن تواريهم إلّا لعدّهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنّهم كانوا يتصوّرون أنّها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتّع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأوّل فيه فيما مرّ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) التكوير - ٩.

وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربّون، فتراهم يعدّون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصرّ، مع أنّ الإسلام قد جمع العار والقبح كلّه في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.

وأما وزنها الاجتماعي: فإنّ الإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة والعمل فأنّهما متساويان من حيث تعلّق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانيّة في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى:( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) آل عمران - ١٩٥، فلها أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل وتمتلك نتاجهما

٢٨٣

كما للرجل ذلك من غير فرق، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقّه القرآن والله يحقّ الحقّ بكلماته غير أنّه قرّر فيها خصلتين ميّزها بهما الصنع الإلهيّ:أحديهما: أنّها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختصّ من الأحكام بمثل ما يختصّ به الحرث، وتمتاز بذلك من الرجل.والثانية: أنّ وجودها مبنيّ على لطافة البنية ورقّة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها والوظائف الإجتماعيّة المحوّلة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعيّ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحلّ جميع الأحكام المشتركة بينهما وما يختصّ به أحدهما في الإسلام، قال تعالى:( وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء - ٣٢، يريد أنّ الأعمال الّتي يهديها كلّ من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختصّ به من الفضل، وأنّ من هذا الفضل ما تعيّن لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمنّاه متمنّ، ومنه ما لم يتعيّن إلّا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الإيمان والعلم والعقل والتقوى وسائر الفضائل الّتي يستحسنها الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الّذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوّامون، على ما سيجئ بيانه.

وأما الأحكام المشتركة والمختصّة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العباديّة والحقوق الإجتماعيّة فلها أن تستقلّ فيما يستقلّ به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلّم ولا اقتناء حقّ ولا دفاع عن حقّ وغير ذلك إلّا في موارد يقتضى طباعها ذلك.

وعمدة هذه المورد: أنّها لا تتولّى الحكومة والقضاء، ولا تتولّى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الإرث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتّع منها، وتدورك ما فاتها بأنّ نفقتها في الحياة على الرجل: الأب

٢٨٤

أو الزوج، وأنّ عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأنّ لها حقّ تربية الولد وحضانته.

وقد سهّل الله لها أنّها محمّية النفس والعرض حتّى عن سوء الذكر، وأنّ العبادة موضوعة عنها أيّام عادتها ونفاسها، وأنّها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.

والمتحصّل من جميع ذلك: أنّها لا يجب عليها في جانب العلم إلّا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينيّة (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأمّا في جانب العمل فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتّع به منها، وأمّا تنظيم الحياة - الفرديّة بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العامّ كتعلّم العلوم واتّخاذ الصناعات والحرف المفيدة - للعامّة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شئ منذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ونحو ذلك كلّها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوّز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهنّ، مع أنّ الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

والسنّة النبويّة تؤيّد ما ذكرناه، ولو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصىّ به في أمر النساء والمأثور من طريقة أئمّة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت عليّ وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهنّ على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء. ولعلّنا نوفّق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائيّة المتعلّقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

وأمّا الأساس الّذي بنيت عليه هذا الأحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الاجتماعيّ كيفيّة هذا البناء ونزيده هيهنا إيضاحاً فنقول:

لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع وما يتّصل بها من المباحث العلميّة أنّ الوظائف الإجتماعيّة والتكاليف الاعتباريّة المتفرّعة عليها يجب انتهاؤها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصيّة البنية الطبيعيّة الإنسانيّة هي الّتي هدت الإنسان إلى هذا

٢٨٥

الاجتماع النوعيّ الّذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحّة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعيّ ما يخرجه عن تمامه الطبيعيّ إلى نقص الخلقة، أو عن صحّته الطبيعيّة إلى السقم والعاهة.

فالاجتماع بجميع شؤنه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة وإن اختلف القسمان من حيث أنّ الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، وقد أشار إليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون عن هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهيّ فبيّنه بأبدع البيان، قال تعالى:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه - ٥٠، وقال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى - ٣، وقال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس - ٨، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنّما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهّزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيّمة بسعادة الإنسان هي الّتي تنطبق أعمالها على الخلقة والفطرة انطباقاً تامّاً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهائاً صحيحاً، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم - ٣٠.

والّذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعيّة بين الأفراد - على أنّ الجميع إنسان ذو فطرة بشريّة - أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية الّتي يحكم بها العدل الاجتماعيّ أن يبذل كلّ مقام اجتماعيّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فيتقلّد الصبيّ مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ما يتقلّده الإنسان العاقل المجرّب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القويّ المتقدر من الشؤون والدرجات، فإنّ في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لحالهما معاً.

٢٨٦

بل الّذي يقتضيه العدل الاجتماعيّ ويفسّر به معنى التسوية: أن يعطى كلّ ذي حقّ حقّه وينزّل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنّما هو في نيل كلّ ذي حقّ خصوص حقّه من غير أن يزاحم حقّ حقّاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكّماً ونحو ذلك، وهذا هو الّذي يشير إليه قوله تعالى: ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف وللرجال عليهنّ درجة الآية، كما مرّ بيانه، فإنّ الآية تصرّح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهنّ وبين الرجال.

ثمّ إنّ اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في اُصول المواهب الوجوديّة أعني، الفكر والإرادة المولّدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرّيّة الفكر والإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرّف في جميع شؤون حياتها الفرديّة والإجتماعيّة عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرّيّة على أتمّ الوجوه كما سمعت فيما تقدّم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلّة بنفسها منفكّة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى:( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) الآية، البقرة - ٢٣٤.

لكنّها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اُخرى، فإنّ المتوسّطة من النساء تتأخّر عن المتوسّط من الرجال في الخصوصيّات الكماليّة من بنيتها كالدماغ والقلب والشرائين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك أنّ جسمها ألطف وأنعم كما أنّ جسم الرجل أخشن وأصلب، وأنّ الإحساسات اللطيفة كالحبّ ورقّة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أنّ التعقّل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسيّة كما أنّ حياة الرجل حياة تعقّليّة.br> ولذلك فرّق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامّة الإجتماعيّة الّتي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقّل، والإحساس فخصّ مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقّل والحياة التعقّليّة إنّما هي للرجل دون المرأة، و

٢٨٧

خصّ مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وجبر ذلك له بالسهمين في الإرث (وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثمّ تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أنّ ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنّما هو للرجال لغلبة تعقّلهم، والانتفاع والتمتّع الغالب للنساء لغلبة إحساسهنّ. وسنزيده إيضاحاً في الكلام على آيات الإرث إنشاء الله تعالى) ثمّ تمّم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حقّ المرأة مرّت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإنّ ارتفاع الحاجة الضروريّة إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمّل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نمائاً رديّاً وتنبت نباتاً سيّئاً غير صالح لتكامل الاجتماع، وقد أيدّت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة الّتي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر، والّذي اُصيب به الإسلام في مدّة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوّام المجاهدين فارتدّت بذلك أنفس الأحكام، وتوقّفت التربية ثمّ رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفاده التجارب القطعيّ: أنّ مجرّد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيّمين باُمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إنّي ما كنت اُقاتلكم لتصلّوا أو تصوموا فذلك إليكم وإنّما كنت اُقاتلكم لأتأمّر عليكم وقد فعلت، وهذا غيره من الاُمويّين والعبّاسيّين فمن دونهم. ولو لا استضائة هذا الدين بنور الله الّذي لا يطفأ والله متمّ نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.

٢٨٨

( حرية المرأة في المدنيّة الغربية)

لا شكّ أنّ الإسلام له التقدّم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسارة، وإعطائها الاستقلال في الإرادة والعمل، وأنّ اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنّما قلّدوا الإسلام - وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة - فإنّ سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثّرة أتمّ التأثير في سلسلة السير الإجتماعيّة وهي متوسّطة متخلّلة، ومن المحال أن يتّصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامّة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخّر الكماليّ بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

والرأي العامّ عندهم تقريباً: أنّ تأخّر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية الّتي دامت عليها ومكثت قروناً لعلّها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

ويتوجّه عليه: أنّ الاجتماع منذ أقدم عهود تكوّنه قضى على تأخّرها عن الرجل في الجملة، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ولو في بعض الأحيان ولتغيّرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل.

ويؤيّد ذلك أنّ المدنيّة الغربيّة مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدّم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدّم الرجال وتؤخّر النساء، وأمّا ما الّذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسّر لنا منه في محلّه إنشاء الله تعالى.

( بحث علمي آخر)

عمل النكاح من اُصول الأعمال الإجتماعيّة، والبشر منذ أوّل تكوّنه وتكثّره حتّى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعيّ، وقد عرفت أنّ هذه الأعمال لا بدّ لها من أصل طبيعيّ ترجع إليه ابتدائاً أو بالأخرة.

٢٨٩

وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاُناث إذ من البيّن أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة - وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والاُناث - لم يوضع هبائاً باطلاً، ومن البيّن عند كلّ من أجاد التأمّل أنّ طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلّا الاُناث وكذا العكس، وأنّ هذا التجهيز لا غاية له إلّا توليد المثل وإبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الاحكام المتعلّقة به تدور مدارها، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، ووضع عليه أحكام العفّة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوج وأحكام الطلاق والعدّة والأولاد والإرث ونحو ذلك.

وأمّا القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلديّ ونحو ذلك، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرّضة لشئ ممّا تعرّض له الإسلام من أحكام العفّة ونحو ذلك.

وهذا البناء على ما يتفرّع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الإجتماعيّة على ما سنبيّن إنشاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً، فإنّ غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعيّ إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أنّ بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى اُمور كثيرة وأعمال شتّى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلّا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع، والأشواق الخاصّة المتعلّق كلّ واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من أنحاء الأعمال متفرّقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال.

وهذا الداعي إنّما يدعو إلى الاجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيّاً ما كانا وأمّا الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيويّ انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعيّ للتناسل والتوالد إلى غيره ممّا لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه.

ولو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في

٢٩٠

الحياة كان من اللازم أن لا يختصّ أمر الازدواج من الأحكام الإجتماعيّة بشئ أصلاً إلّا الأحكام العامّة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون، وفي ذلك إبطال فضيلة العفّة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمواريث كما التزمته الشيوعيّة، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطريّة الّتي جهّز بها الذكور والاُناث من الإنسان، وسنزيده إيضاحاً في محلّ يناسبه إنشاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، وأمّا الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلاميّة، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدلّ على المنع عنه، وأمّا خصوصيّات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجئ الكلام فيها في سورة الطلاق إنشاء الله العزيز.

وقد اضطرّت الملل المعظّمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنيّة بعد ما لم يكن.

٢٩١

( سورة البقرة آية ٢٤٣)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( ٢٤٣ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ) ، الرؤية ههنا بمعنى العلم، عبّر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعدّ فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إبراهيم - ١٩، وقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) النوح - ١٥.

وقد ذكر الزمخشريّ أنّ لفظ ألم تر جري مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: ألم تر كذا وكذا معناه إلّا تعجب لكذا وكذا، وحذر الموت مفعول له، ويمكن أن يكون مفعولاً مطلقاً والتقدير يحذرون الموت حذراً.

قوله تعالى: ( فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) ، الأمر تكوينيّ ولا ينافي كون موتهم واقعاً عن مجرىّ طبيعيّ كما ورد في الروايات: أنّ ذلك كان بالطاعون، وإنّما عبّر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثمّ أحياهم ليكون أدلّ على نفوذ القدرة وغلبة الأمر، فإنّ التعبير بالإنشاء في التكوينيّات أقوى وآكد من التعبير بالإخبار كما أنّ التعبير بصورة الإخبار الدالّ على الوقوع في التشريعيّات أقوى وآكد من الإنشاء، ولا يخلو قوله تعالى: ثمّ أحياهم عن الدلالة على أنّ الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحيائهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لاتمام حجّة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصّة أصحاب الكهف، على أنّ قوله تعالى بعد: إنّ الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) ، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانياً لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أنّ

٢٩٢

هؤلاء الّذين تفضّل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصّة، وليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، وهذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرّضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملّة بعد موتها.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ الآية مثل ضربه الله لحال الاُمّة في تأخّرها وموتها باستخزاء الأجانب إيّاها ببسط السلطة والسيطرة عليها، ثمّ حياتها بنهضتها ودفاعها عن حقوقها الحيويّة واستقلالها في حكومتها على نفسها.

قال ما حاصله: أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان قصّة من قصص بني إسرائيل كما يدلّ عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، وإلى النبيّ الّذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أنّ الآية خالية عن ذلك، على أنّ التوراة أيضاً لم تتعرّض لذلك في قصص حزقيل النبيّ على نبيّنا وآله و عليه السلام فليست الروايات إلّا من الاسرائيليّات الّتي دستها اليهود، مع أنّ الموت والحياة الدنيويّتين ليستا إلّا موتاً واحداً أو حياة واحدة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، والمراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة والقوّة من أعدائهم باستذلالهم واستخزائهم وبسط السلطة فيهم والتحكّم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، وخرجوا من ديارهم وهم اُلوف لهم كثرة وعزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزى والجهل، فإنّ الجهل والخمود موت كما أنّ العلم وإباء الضيم حياة، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، وقال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢.

وبالجملة فهؤلاء يموتون بالخزى وتمكّن الأعداء منهم ويبقون أمواتاً، ثمّ أحياهم الله بإلقاء روح النهضة والدفاع عن الحقّ فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم واستقلّوا في

٢٩٣

أمرهم، وهؤلاء الّذين أحياهم الله وإن كانوا بحسب الأشخاص غير الّذين أماتهم الله إلّا أنّ الجميع اُمّة واحدة ماتت في حين وحييت في حين بعد حين، وقد عدّ الله تعالى القوم واحداً مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل:( أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) الاعراف - ١٤١، وقوله تعالى:( ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) البقرة - ٥٦، ولو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقاً للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال وهو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخّصاً.

وهذا الكلام كما ترى مبني >أوّلاً: على إنكار المعجزات وخوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى وقد مرّ اثباتها، على أنّ ظهور القرآن في اثبات خرق العادة باحياء الموتى ونحو ذلك ممّا لا يمكن إنكاره ولو لم يسع لنا اثبات صحّته من طريق العقل.

وثانياً: على دعوى أنّ القرآن يدلّ على امتناع اكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدلّ بمثل قوله تعالى:( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ) الدخان - ٥٦، وقوله تعالى:( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن - ١١.

وفيه أنّ جميع الآيات الدالّة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وعزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في ردّ ما ذكره، على أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلّل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصّة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتدّ، والمراد بما أورده من الآيات الدلالة على نوع الحياة.

وثالثاً: على أنّ الآية لو كانت مسوقة لبيان القصّة لتعرّضت لتعيين قومهم وتشخيص النبيّ الّذي أحياهم.

وأنت تعلم أنّ مذاهب البلاغة مختلفة متشتّة، والكلام كما ربّما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، وللآية نظائر في القرآن كقوله تعالى:( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) البروج - ٧، وقوله تعالى:( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) الاعراف - ١٨١.

٢٩٤

ورابعاً: على أنّ الآية لو لم تحمّل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، وأنت تعلم أنّ نزول القرآن نجوماً يغني عن كلّ تكلّف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلّا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتّصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحقّ أنّ الآيه كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصّة، وليت شعري أيّ بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاماً لا يرى أكثر الناظرين فيه إلّا أنّه قصّة من قصص الماضين، وهو في الحقيقة تمثيل مبنيّ على التخييل من غير حقيقة.

مع أنّ دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الامثال الموضوعة فيه بنحو قوله:( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي ) البقرة - ١٧، وقوله:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يونس - ٢٤، وقوله:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا ) الجمعة - ٥، إلى غير ذلك.

( بحث روائي)

في الاحتجاج عن الصادقعليه‌السلام في حديث قالعليه‌السلام : أحيى الله قوماً خرجوا من اوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهراً طويلاً حتّى بليت عظامهم، وتقطّعت أوصالهم، وصاروا تراباً، فبعث الله في وقت أحبّ أن يرى خلقه نبيّاً يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، ورجعت فيها أرواحهم، وقاموا كهيئة يوم ماتوا، لايفتقدون في أعدادهم رجلاً فعاشوا بعد ذلك دهراً طويلاً.

أقول: وروي هذا المعنى الكلينيّ والعيّاشيّ بنحو أبسط، وفي آخره: وفيهم نزلت هذه الآية.

٢٩٥

( سورة البقرة آية ٢٤٤ - ٢٥٢)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٤ ) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٤٥ ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( ٢٤٦ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٤٧ ) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٤٨ ) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ

٢٩٦

الصَّابِرِينَ ( ٢٤٩ ) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ٢٥٠ ) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٢٥١ ) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٢٥٢ )

( بيان)

الاتّصال البيّن بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، والترغيب في القرض الحسن، والمعنى المحصل من قصّة طالوت وداود وجالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، والمراد بيان ما للقتال من شؤون الحياة، والروح الذي به تقدم الاُمّة في حياتهم الدينيّة، والدنيويّة، وسعادتهم الحقيقيّة، يبيّن سبحانه فيها فرض الجهاد، ويدعو إلى الانفاق والبذل في تجهيز المؤمنين وتهيئة العدّة والقوّة، وسماه إقراضاً لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال والإيذان بالقرب، ثمّ يقصّ قصّة طالوت وجالوت وداود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع اعداء الدين ويعلموا أنّ الحكومة والغلبة للايمان والتقوى وإن قل حاملوهما، والخزى والفناء للنفاق والفسق وإن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، وهم أصحاب القصّة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود والكسل والتواني، فلمّا قاموا لله وقاتلوا في سبيل الله واستظهروا بكلمة الحقّ وإن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، وتولّى اكثرهم عند إنجاز القتال أولاً، وبالاعتراض على طالوت ثانياً، وبالشرب من النهر ثالثاً، وبقولهم: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده رابعاً، نصرهم الله تعالى على عدوّهم فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت واستقرّ الملك فيهم، وعادت الحياة إليهم، ورجع إليهم سؤددهم وقوّتهم، ولم يكن ذلك كلّه إلّا لكلمة أجراها الايمان والتقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت وجنوده، وهي قولهم: ربّنا افرغ علينا صبراً وانصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الاعلون إن كانوا مؤمنين.

٢٩٧

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية، فرض وأيجاب للجهاد، وقد قيده تعالى ههنا وسائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلّا يسبق إلى الوهم ولا يستقرّ في الخيال أنّ هذه الوظيفة الدينيّة المهمّة لايجاد السلطة الدنيويّة الجافّة، وتوسعة المملكة الصوريّة، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدّم الإسلاميّ من الإجتماعيّين وغيرهم، بل هو التوسعة سلطة الدين الّتي فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم. وفي قوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله ورسوله بشئ، ولا يضمروا نفاقاً كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلّموا في أمر طالوت فقالوا: أنّى يكون له الملك علينا الخ، وحيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، وحيث فشلوا وتولّوا لما كتب عليهم القتال وحيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى: ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا - إلى قوله -أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) ، القرض معروف وقد عدّ الله سبحانه ماينفقونه في سبيله قرضاً لنفسه لما مرّ أنّه للترغيب، ولأنّه إنفاق في سبيله، ولأنّه ممّا سيردّ إليهم اضعافاً مضاعفة.

وقد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: وقاتلوا في سبيل الله: من ذا الّذي يقرض الله قرضاً حسناً، ولم يقل: قاتلوا في سبيل الله واقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيّز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيّز الدعوة والندب فيستريح بذلك ويتهيج.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، القبض الأخذ بالشئ إليك ويقابله البسط، والبصط هو البسط قلب سينه صاداً لمجاورته حرف الاطباق والتفخيم وهو الطاء. وايراد صفاته الثلاث أعني: كونه قابضاً وباسطاً ومرجعاً يرجعون إليه للاشعار بأنّ ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلاً ولا يستبعد تضعيفه اضعافاً كثيرة فإنّ الله هو القابض الباسط، ينقصّ ما شاء، ويزيد ما شاء، وإليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ - إلى قوله -فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الملا كما قيل: الجماعة من الناس على رأى واحد، سميت بالملا لكونها تملا العيون عظمة

٢٩٨

وأبهة. وقولهم لنبيّهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدلّ على أنّ الملك المسمّى بجالوت كان قد تملكهم، وسار فيهم بما افتقدوا به جميع شؤون حياتهم المستقلّة من الديار والأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى وولايته وولاية من بعده من أوصيائه، وبلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، وعاد إلى انفسهم العصبيّة الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملا منهم نبيّهم أن يبعث لهم ملكاً ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم وتجتمع به قواهم المتفرّقة الساقطة عن التأثير، ويقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

قوله تعالى: ( قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ) ، كان بنوا إسرائيل سألوا نبيّهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله وليس ذلك للنبيّ بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، ولذلك ارجع نبيّهم الأمر في القتال وبعث الملك إلى الله تعالى، ولم يصرح باسمه تعظيماً لأنّ الّذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم وكانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزّه اسمه تعالى من التصريح به بل إنّما أشار إلى أنّ الأمر منه وإليه تعالى بقوله: إن كتب، والكتابة وهي الفرض إنّما تكون من الله تعالى.

وقد كانت المخالفة والتولّي عن القتال مرجوا منهم لكنّه أورده بطريق الاستفهام ليتمّ الحجّة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: ومالنا أن لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى: ( الُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا ) ، الاخراج من البلاد لما كان ملازماً للتفرّقة بينهم وبين أوطانهم المألوفه، ومنعهم عن التصرّف فيها والتمتّع بها، كنّي به عن مطلق التصرّف والتمتّع، ولذلك نسب الاخراج إلى الابناء أيضاً كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ، تفريع على قول نبيّهم: هل عسيتم الخ، وقولهم: وما لنا أن لا نقاتل، وفي قوله تعالى: والله عليم بالظّالمين، دلالة على أن قول نبيّهم لهم: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلّا تقاتلوا، إنّما كان لوحى من الله سبحانه: أنّهم سيتولّون عن القتال.

٢٩٩

قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ - إلى قوله -مِّنَ الْمَالِ ) ، في جوابهعليه‌السلام هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيّهم ابعث لنا ملكا نقاتل ولم يقولوا: أسأل الله أن يبعث لنا ملكا ويكتب لنا القتال.

وبالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الإعتراض على ملكه وذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، وهما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقّ بالملك منه، ومن المعلوم أن قولهم هذا لنبيّهم، ولم يستدلّوا على كونهم أحقّ بالملك منه بشئ يدلّ على أن دليله كان أمراً بيناً لا يحتاج إلى الذكر، وليس إلّا أن بيت النبوّة وبيت الملك في بني إسرائيل وهما بيتان مفتخران بموهبة النبوّة والملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، وبعبارة اُخرى لم يكن طالوت من بيت الملك ولأمن بيت النبوّة ولذلك اعترضوا على ملكه بأنا، وهم أهل بيت الملك أو الملك والنبوّة معاً، أحقّ بالملك منه لأنّ الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، وهذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفى البداء وعدم جواز النسخ والتغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: إنّ الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، والصفة الثانية ما في قولهم: ولم يؤت سعة من المال وقد كان طالوت فقيراً، وقد أجاب عنه نبيّهم بقوله: وزاده بسطة في العلم والجسم الخ.

قوله تعالى: ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) ، الاصطفاء والاستصفاء الاختيار وأصله الصفو، والبسطة هي السعة والقدرة، وهذان جوابان عن اعتراضهم.

أمّا اعتراضهم بكونهم أحقّ بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أنّ هذه مزيّة كان الله سبحانه خصّ بيتهم بها وإذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحقّ بالملك منهم، وكان الشرف والتقدّم لبيته على بيوتهم ولشخصه على اشخاصهم، فإنّما الفضل يتّبع تفضيله تعالى.

وأمّا اعتراضهم بأنّه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أنّ الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرّ الوحيد منه أن يتلائم الإرادات المتفرّقة

٣٠٠