الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118201
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118201 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بوجه محصّل يقبله لفظ الآية، فإنّ حاصل توجيهه: أنّ معنى: اُنزل فيه القرآن: كأنّما اُنزل فيه القرآن، ومعنى: إنّا أنزلناه في ليلة: كأنّا أنزلناه في ليلة، وهذا شئ لا يحتمله اللغة والعرف لهذا السياق!.

ولو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إنّ معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مرّ بيانه سابقاً.

وفي كلامه جهات اُخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) الناس - وهم الطبقة الدانية من الإنسان الّذين سطح فهمهم المتوسّط أنزل السطوح - يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقّهم كما قال تعالى:( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، وقال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت - ٤٣، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الاُمور المعنويّة بالبيّنة والبرهان، ولا فرق الحقّ من الباطل بالحجّة إلّا بمبيّن يبيّن لهم وهاد يهديهم والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأمّا الخاصّة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدّون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهيّة والركون إلى فرقان الحقّ فالقرآن بيّنات وشواهد من الهدى والفرقان في حقّهم فهو يهديهم إليه ويميّز لهم الحقّ ويبيّن لهم كيف يميّز، قال تعالى:( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة - ١٦.

ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبيّنات من الهدى، وهو التقابل بين العامّ والخاصّ فالهدى لبعض والبيّنات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) الشهادة هي الحضور مع تحمّل العلم من جهته، وشهادة الشهر إنّما هو ببلوغه والعلم به، ويكون بالبعض كما يكون بالكلّ. وأمّا كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله وكون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا

٢١

دليل عليه إلّا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، ولا قرينة في الآية.

قوله تعالى: ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) إيراد هذه الجملة في الآية ثانياً ليس من قبيل التكرار للتأكيد ونحوه لما عرفت أنّ الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة والتمهيد دون بيان الحكم وأنّ الحكم هو الّذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) كأنّه بيان لمجموع حكم الاستثناء: وهو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، وصيام عدّة من أيّام اُخر لمكان وجوب إكمال العدّة، واللّام في قوله: لتكملوا العدّة، للغاية، وهو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملاً على معنى الغاية، والتقدير وإنّما أمرناكم بالإفطار والقضاء لنخفّف عنكم ولتكملوا العدّة، ولعلّ إيراد قوله: ولتكملوا العدّة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهّم حكمه بنفى العسر وذكره في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية(١) أنّهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإنّ تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الّذي اُنزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلّيّة وارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فيعود معنى الغاية إلى أنّ التلبّس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزّل عليهم القرآن وأعلن ربوبيّته وعبوديّتهم، وشكر له بما هداهم إلى الحقّ، وفرق لهم بكتابه بين الحقّ والباطل. ولمّا كان الصوم إنّما يتّصف بكونه شكراً لنعمه إذا كان مشتملاً على حقيقة معنى الصوم وهو الإخلاص لله سبحانه في التنزّه عن ألواث الطبيعة والكفّ عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتّصافه بالتكبير لله فإنّ صورة الصوم والكفّ سواء اشتمل على إخلاص النيّة أو لم يشتمل يدلّ على تكبيره تعالى وتعظيمه فرّق بين التكبير والشكر فقرن الشكر بكلمة الترجّي دون التكبير فقال: ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلّكم تشكرون كما قال: في أوّل الآيات: لعلّكم تتّقون.

_______________________________________

(١) المراد بالغاية الغرض وهو اصطلاح

٢٢

( بحث روائي)

في الحديث القدسيّ، قال الله تعالى: الصوم لي وأنا اُجزي به.

أقول: وقد رواه الفريقان على اختلاف يسير، والوجه في كون الصوم لله سبحانه أنّه هو العبادة الوحيدة الّتي تألّفت من النفي، وغيره كالصلاة والحجّ وغيرهما متألّف من الإثبات أو لايخلو من الإثبات، والفعل الوجوديّ لا يتمحّض في إظهار عبوديّة العبد ولا ربوبيّة الربّ سبحانه، لأنّه لا يخلو عن شوب النّقص المادّيّ وآفة المحدوديّة وإثبات الإنّيّة ويمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه: كما في موارد الرياء والسمعة والسجدة لغيره بخلاف النفي الّذي يشتمل عليه الصوم بالتعالي عن الإخلاد إلى الأرض والتنزّه بالكفّ عن شهوات النفس فإنّ النفي لا نصيب لغيره تعالى فيه لكونه أمراً بين العبد والربّ لا يطّلع عليه بحسب الطبع غيره تعالى، وقوله أنا اُجزي به، إن كان بصيغة المعلوم كان دالّا على أنّه لا يوسّط في إعطاء الأجر بينه وبين الصائم أحداً كما أنّ العبد يأتي بما ليس بينه وبين ربّه في الاطّلاع عليه أحد نظير ما ورد: أنّ الصدقة إنّما يأخذها الله من غير توسيطه أحداً، قال تعالى:( وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ) التوبة - ١٠٣، وإن كان بصيغة المجهول كان كناية عن أنّ أجر الصائم القرب منه تعالى.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : كان رسول الله أوّل ما بعث يصوم حتّى يقال: ما يفطر، ويفطر حتّى يقال، ما يصوم، ثمّ ترك ذلك وصام يوماً وأفطر يوماً وهو صوم داود، ثمّ ترك ذلك وصام الثلاثة الأيّام الغرّ، ثمّ ترك ذلك وفرقها في كلّ عشرة يوماً خميسين بينهما أربعاء فقبضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يعمل ذلك.

وعن عنبسة العابد، قال: قبض رسول الله على صيام شعبان ورمضان وثلاثة أيّام من كلّ شهر.

أقول: والأخبار من طرق أهل البيت كثيرة في ذلك وهو الصوم المسنون الّذي كان يصومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا صوم رمضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ

٢٣

عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) قال: هي للمؤمنين خاصّة.

وعن جميل قال: سألت الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القتال، يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام. قال: فقال: هذه كلّها يجمع الضلّال والمنافقين وكلّ من أقرّ بالدعوة الظاهرة.

وفي الفقيه عن حفص قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام ، يقول إنّ شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الاُمم قبلنا فقلت له: فقول الله عزّوجلّ: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم؟ قال: إنّما فرض الله شهر رمضان على الأنبياء دون الاُمم ففضّل الله هذه الاُمّة وجعل صيامه فرضاً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى اُمّته.

أقول: والرواية ضعيفة بإسمعيل بن محمّد في سنده، وقد روي هذا المعنى مرسلاً عن العالمعليه‌السلام وكأنّ الروايتين واحدة، وعلى أيّ حال فهي من الآحاد وظاهر الآية لا يساعد على كون المراد من قوله تعالى: كما كتب على الّذين من قبلكم، الأنبياء خاصّة ولو كان كذلك - والمقام مقام التوطئة والتمهيد والتحريص والترغيب - كان التصريح باسمهم أولى من الكناية وأوقع والله العالم.

وفي الكافي عمّن سأل الصادقعليه‌السلام عن القرآن والفرقان أهما شيئان أو شئ واحد؟ فقال: القرآن جملة الكتاب، والفرقان الحكم الواجب العمل به.

وفي الجوامع عنهعليه‌السلام : الفرقان كلّ آية محكمة في الكتاب.

وفي تفسيري العيّاشيّ والقمّىّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفرقان هو كلّ أمر محكم في القرآن، والكتاب هو جملة القرآن الّذي يصدّق فيه من كان قبله من الأنبياء.

أقول: واللّفظ يساعد على ذلك، وفي بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا ينبغي أن يقال: جاء رمضان وذهب بل شهر رمضان الحديث، وهو واحد غريب في بابه، وقد نقل هذا الكلام عن قتادة أيضاً من المفسّرين.

والأخبار الواردة في عدّ أسمائه تعالى خال عن ذكر رمضان، على أنّ لفظ رمضان من غير تصديره بلفظ شهر وكذا رمضانان بصيغة التثنية كثير الورود في الروايات المنقولة عن النبيّ وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يستبعد جدّاً

٢٤

نسبة التجريد إلى الراوي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصباح بن نباتة قال: قلت: لأبي عبداللهعليه‌السلام إنّ ابن أبي يعفور، أمرني أن أسألك عن مسائل فقال: وما هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان وأنا في منزلي ألي أن اُسافر؟ قال: إنّ الله يقول: فمن شهد منكم الشهر فليصمه فمن دخل عليه شهر رمضان وهو في أهله فليس له أن يسافر إلّا لحجّ أو عمرة أو في طلب مال يخاف تلفه.

أقول: وهو استفادة لطيفة لحكم استحبابيّ بالأخذ بالإطلاق.

وفي الكافي عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: فأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك فقال: قوم يصوم، وقال: آخرون: لا يصوم، وقال: قوم إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ الله عزّوجلّ يقول: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام اُخر.

أقول: ورواه العيّاشيّ أيضاً.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام في قوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه قالعليه‌السلام : ما أبينها لمن عقلها، قال: من شهد رمضان فليصمه ومن سافر فيه فليفطر.

أقول: والأخبار عن أئمّة أهل البيت في تعيّن الإفطار على المريض والمسافر كثيرة ومذهبهم ذلك، وقد عرفت دلالة الآية عليه.

وفي تفسير العيّاشيّ أيضاً عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله، وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قال: الشيخ الكبير الّذي لا يستطيع والمريض.

وفي تفسيره أيضاً عن الباقرعليه‌السلام في الآية، قال: الشيخ الكبير والّذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهمعليهم‌السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيّام السنة غير أيّام شهر رمضان ممّن لا يقدر على عدّة أيّام اُخر فإنّ

٢٥

المريض في قوله تعالى: فمن كان منكم مريضاً، لا يشمله وهو ظاهر، والعطاش مرض العطش.

وفي تفسيره أيضاً عن سعيد عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ في الفطر تكبيراً، قلت: ما التكبير إلّا في يوم النحر، قال: فيه تكبير ولكنّه مسنون في المغرب والعشاء والفجر والظهر والعصر وركعتي العيد.

وفي الكافي عن سعيد النقّاش قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام لي في ليلة الفطر تكبيرة ولكنّه مسنون، قال: قلت: وأين هو؟ قال: في ليلة الفطر في المغرب والعشاء الآخرة وفي صلاة الفجر وفي صلاة العيد ثمّ يقطع، قال: قلت: كيف أقول؟ قال: تقول الله اكبر. الله اكبر. لا إله إلّا الله والله الكبر. الله اكبر على ما هدانا. وهو قول الله ولتكملوا العدّة يعني الصلاة ولتكبّروا الله على ما هداكم والتكبير أن تقول: الله اكبر. لا إله إلّا الله والله اكبر. ولله الحمد، قال: وفي رواية التكبير الآخر أربع مرّات.

أقول: اختلاف الروايتين في إثبات الظهرين وعدمه يمكن أن يحمل على مراتب الاستحباب، وقولهعليه‌السلام : يعني الصلاة لعلّه يريد: أنّ المعنى ولتكملوا العدّة أي عدّة أيّام الصوم بصلاة العيد ولتكبّروا الله مع الصلوات على ما هديكم، وهو غير مناف لما ذكرناه من ظاهر معنى قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، فإنّه استفادة حكم استحبابيّ من مورد الوجوب نظير ما مرّ في قوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه، من استفادة كراهة الخروج إلى السفر في الشهر لمن شهد الليلة الاُولى منه هذا، واختلاف آخر التكبيرات في الموضعين من الرواية الأخيرة يؤيّد ما قيل: إنّ قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم، بتضمين التكبير معنى الحمد ولذلك عديّ بعلي.

وفي تفسير العيّاشيّ عن ابن أبي عمير عن الصادقعليه‌السلام قال: قلت له، جعلت فداك ما يتحدّث به عندنا أنّ النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صام تسعة وعشرين أكثر ممّا صام ثلاثين أحقّ هذا؟ قال ما خلق الله من هذا حرفاً فما صام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ثلاثين لأنّ الله يقول: ولتكملوا العدّة فكان رسول الله ينقصه؟.

أقول: قوله: فكان رسول الله في مقام الاستفهام الإنكاريّ، والرواية تدلّ على

٢٦

ما قدّمناه: أنّ ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.

وفي محاسن البرقيّ عن بعض أصحابنا رفعه في قوله: ولتكبّروا الله على ما هداكم قال: التكبير التعظيم، والهداية الولاية.

أقول: وقوله: والهداية الولاية من باب الجرى وبيان المصداق: ويمكن أن يكون من قبيل ما يسمّى تأويلاً كما ورد في بعض الروايات أنّ اليسر هو الولاية، والعسر الخلاف وولاية أعداء الله.

وفي الكافي عن حفص بن الغياث عن أبي عبدالله، قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: شهر رمضان الّذي اُنزل فيه القرآن، وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره فقال أبوعبدالله: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة، ثمّ قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان واُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان واُنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان واُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان.

أقول: ما رواهعليه‌السلام عن النبيّ رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور بعدّة طرق عن وائلة بن الأسقع عن النبيّ.

وفي الكافي والفقيه عن يعقوب قال سمعت رجلاً يسأل أباعبدالله عن ليلة القدر فقال أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كلّ سنة؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عبّاس، قال: شهر رمضان واللّيلة المباركة وليلة القدر فإنّ ليلة القدر هي اللّيلة المباركة وهي في رمضان نزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور وهو موقع النجوم في السماء الدنيا حيث وقع القرآن ثمّ نزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلاً رسلاً.

أقول: وروي هذا المعنى عن غيره أيضاً كسعيد بن جبير ويظهر من كلامه أنّه إنّما استفاد ذلك من الآيات القرآنيّة كقوله تعالى:( وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) آل عمران - ٥٨، وفي قوله تعالى:( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ )

٢٧

الطور - ٥، وقوله تعالى:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) الواقعة - ٧٩، وقوله تعالى:( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ) حم السجدة - ١٢، وجميع ذلك ظاهر إلّا ما ذكره في مواقع وأنّه السماء الاُولى وموطن القرآن فإنّ فيه خفاءً، والآيات من سورة الواقعة غير واضحة الدلالة على ذلك، وقد ورد من طرق أهل البيت أنّ البيت المعمور في السماء، وسيجئ الكلام فيه في محلّه إنشاء الله تعالى، وممّا يجب أن يعلم أنّ الحديث كمثل القرآن في اشتماله على المحكم والمتشابه، والكلام على الإشارة والرمز شائع فيه، ولا سيّما في أمثال هذه الحقائق: من اللّوح والقلم والحجب والسماء والبيت المعمور والبحر المسجور، فممّا يجب للباحث أن يبذل جهده في الحصول على القرائن.

٢٨

( سورة البقرة آية ١٨٦)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ )

( بيان)

قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرقّ اُسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية، بالأمر، ثمّ قوله: عبادي، ولم يقل: الناس وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإنّي قريب ولم يقل: فقل إنّه قريب، ثمّ التأكيد بإنّ ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل الدالّ على القرب ليدلّ على ثبوت القرب ودوامه، ثمّ الدلالة على تجدّد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدالّ عليهما، ثمّ تقييده الجواب أعني قوله: اُجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيّد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة على أنّ دعوة الداعي مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن - ٦٠، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلّم سبع مرّات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعوّ نحو الداعي، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.

ثمّ إنّ العبوديّة كما مرّ سابقاً هي المملوكيّة ولا كلّ مملوكيّة بل مملوكيّة الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كلّ ذي عقل وشعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.

٢٩

وملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجدّ مع الدعوى والحقيقة مع المجاز فإنّه تعالى يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون دونه في أنفسهم ولا ما يتبع أنفسهم من الصفات والأفعال وساير ما ينسب إليهم من الأزواج والأولاد والمال والجاه وغيرها، فكلّ ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، وبدنه، وسمعه، وبصره، وفعله، وأثره، وهى أقسام الملك بالطبع والحقيقة وقولنا: زوجه وماله وجاهه وحقّه وهي أقسام الملك بالوضع والاعتبار - إنّما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم وبين ما يملكون أيّاًما كان وتمليكه فالله عزّ اسمه، هو الّذي أضاف نفوسهم وأعيانهم إليهم ولو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، وهو الّذي جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وهو الّذي خلق كلّ شئ وقدّره تقديراً.

فهو سبحانه الحائل بين الشئ ونفسه، وهو الحائل بين الشئ وبين كلّ ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حقّ فهو أقرب إلى خلقه من كلّ شئ مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ ) الواقعة - ٨٥، وقال تعالى:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق - ١٦، وقال تعالى:( أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الأنفال - ٢٤، والقلب هو النفس المدركة.

وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقيّاً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كلّ شئ عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كلّ تصرّف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أنّ لله سبحانه أن يجيب أيّ دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرّف حاجته الّتي سأله فيها فإنّ الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيّد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إنّ الله لمّا خلق الأشياء وقدّر التقادير تمّ الأمر، وخرج زمام التصرّف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأنّ الأمر مفروغ عنه. ولا كما يقوله جماعة من هذه الاُمّة: أن لا صنع لله في أفعال عباده وهم القدريّة الّذين سمّاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجوس هذه الاُمّة فيما رواه الفريقان من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدريّة مجوس هذه الاُمّة.

٣٠

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شئ شيئاً إلّا بتمليك منه سبحانه وإذن فما شائه وملكه وأذن في وقوعه، يقع، وما لم يشأ ولم يملّك ولم يأذن فيه لا يقع وإن بذل في طريق وقوعه كلّ جهد وعناية، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) الفاطر - ١٥.

فقد تبيّن: أن قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإنّي قريب اُجيب دعوة الدّاع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكلّ دعاء دعي به فإنّه مجيبه إلّا أنّ ههنا أمراً وهو أنّه تعالى قيّد قوله: اُجيب دعوة الدّاع بقوله إذا دعان، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيّد بشئ يدلّ على اشتراط الحقيقة دون التجوّز والشبه، فإنّ قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالماً يدلّ على لزوم اتّصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الّذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقّق بعلمه وعمل بما علم كان هو الّذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدلّ على أنّ وعد الإجابة المطلقة، إنّما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطريّ والغريزيّ مواطئاً لسانه قلبه، فإنّ حقيقة الدعاء والسؤال هو الّذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الّذي يدور كيفما اُدير صدقاً أو كذباً جدّاً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً، ولذلك ترى أنّه تعالى عدّ ما لا عمل للّسان فيه سؤالاً، قال تعالى:( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم - ٣٤، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطريّاً وجوديّاً، وقال تعالى:( يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن - ٢٩، ودلالته على ما ذكرنا أظهر وأوضح.

فالسؤال الفطريّ من الله سبحانه لا يتخطّى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين وهما الّذان ذكرهما بقوله: دعوة الدّاع إذا دعان.

٣١

فإمّا أن يكون لم يتحقّق هناك دعاء، وإنّما التبس الأمر على الداعي التباساً كأن يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو ويسأل شفاء المريض لا إحياء الميّت، ولو كان استمكنه ودعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لاُعيدت حياته ولكنّه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

وإمّا أنّ السؤال متحقّق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلّق بالأسباب العاديّة أو باُمور وهميّة توهّمها كافية في أمره أو مؤثّرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإنّ الله الّذي يجيب الدعوات هو الّذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخّص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى:( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) الفرقان - ٧٧، وقوله تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٤١، وقوله تعالى:( قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) الأنعام - ٦٤، فالآيات دالّة على أنّ للإنسان دعاء غريزيّا وسؤالاً فطريّاً يسأل به ربّه، غير أنّه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلّقت نفسه بالأسباب فأشركها لربّه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنّه لا يدعو ربّه ولا يسأل عنه، مع أنّه لا يسأل غيره فإنّه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولمّا وقع الشدّة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبيّن له أن لا منجح لحاجته ولا مجيب لمسألته إلّا الله، فعاد إلى توحيده الفطريّ ونسي كلّ سبب من الأسباب، ووجّه وجهه نحو الربّ الكريم فكشف شدّته وقضى حاجته وأظلّه بالرخاء، ثمّ إذا تلبّس به ثانياً عاد إلى ما كان عليه أوّلاً من الشرك والنسيان.

٣٢

وكقوله تعالى:( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن - ٦٠، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمّي الدعآء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث أنّها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنّما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

وبذلك يظهر معنى آيات اُخر من هذا الباب كقوله تعالى:( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن - ١٤، وقوله تعالى:( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف - ٥٦، وقوله تعالى:( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الأنبياء - ٩٠، وقوله تعالى:( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف - ٥٥، وقوله تعالى:( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا - إلى قوله -وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ) مريم - ٤، وقوله تعالى:( وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ) الشورى - ٢٦، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كلّ سبب دون الله والتعلّق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرّع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك ممّا تشتمل عليه الروايات.

قوله تعالى: ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) تفريع على ما يدلّ عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أنّ الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه وبين دعائهم شئ، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه - وصفته هذه الصفة - فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنّه قريب مجيب لعلّهم يرشدون في دعائه.

( بحث روائي)

عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، وفي عدّة الداعي في الحديث القدسيّ: يا موسى سلني كلّ ما تحتاج إليه حتّى علف شاتك وملح عجينك.

٣٣

وفي المكارم عنهعليه‌السلام الدعاء أفضل من قرائة القرآن لأنّ الله عزّوجلّ قال:( قل ما يعبؤ بكم ربّي لو لا دعائكم) وروي ذلك عن الباقر والصادقعليهما‌السلام .

وفي عدّة الداعي في رواية محمّد بن عجلان عن محمّد بن عبيدالله بن عليّ بن الحسين عن ابن عمّه الصادق عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالأياس ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ولأبعدنّه من فرجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلّقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ الحديث.

وفي عدّة الداعي أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السموات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم اُعطه وإن دعاني لم اُجبه، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وإن استغفرني غفرت له.

أقول: وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببيّة الأسباب الوجوديّة الّتي جعلها الله تعالى وسائل متوسّطة بين الأشياء وبين حوائجها الوجوديّة لا عللاً فيّاضة مستقلّة دون الله سبحانه، وللإنسان شعور باطنيّ بذلك فإنّه يشعر بفطرته أنّ لحاجته سبباً معطياً لا يتخلّف عنه فعله، ويشعر أيضاً أنّ كلّ ما يتوجّه إليه من الأسباب الظاهريّة يمكن أن يتخلّف عنه أثره فهو يشعر بأنّ المبدء الّذي يبتدئ عنه كلّ أمر، والركن الّذي يعتمد عليه ويركن إليه كلّ حاجة في تحقّقها ووجودها غير هذه الأسباب ولازم ذلك أن لا يركن الركون التامّ إلى شئ من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقيّ ويعتصم بذلك السبب الظاهريّ، والإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجّه والتفات فإذا سأل أو طلب شيئاً من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنّه سأل ربّه واتّصل حاجته - الّتي شعر بها بشعوره الباطنيّ من طريق الأسباب - إلى ربّه فاستفاض منه، وإذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطريّ باطنيّ وإنّما هو أمر صوّره له تخيّله لعلل اوجبت هذا التخيّل من غير

٣٤

شعور باطنيّ بالحاجة، وهذا من الموارد الّتي يخالف فيها الباطن الظاهر.

ونظير ذلك: أنّ الإنسان كثيراً ما يحبّ شيئاً ويهتمّ به حتّى إذا وقع وجده ضارّاً بما هو أنفع منه وأهمّ وأحبّ فترك الأوّل وأخذ بالثاني، وربّما هرب من شئ حتّى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً ممّا كان يتحفّظ به فأخذ الأوّل وترك الثاني، فالصبيّ المريض إذا عرض عليه الدواء المرّ امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحّة، فهو بشعوره الباطنيّ الفطريّ يسأل الصحّة فيسأل الدواء وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطريّ والشعور الباطنيّ وله نظام آخر بحسب تخيّله والنظام الفطريّ لا يقع فيه خطاء ولا في سيره خبط، وأمّا النظام التخيّليّ فكثيراً ما يقع فيه الخطاء والسهو، فربّما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخياليّة شيئاً، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئاً آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى الأحاديث، وهو اللّائح من قول عليّعليه‌السلام فيما سيأتي: أنّ العطيّة على قدر النيّة الحديث.

وفي عدّة الدّاعي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

وفي الحديث القدسيّ: أنا عند ظنّ عبدي بي، فلا يظنّ بي إلّا خيراً.

أقول: وذلك أنّ الدعاء مع اليأس أو التردّد يكشف عن عدم الؤال في الحقيقة كما مرّ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفي العدّة أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجئوا إليه في ملمّاتكم، وتضرّعوا إليه وادعوه، فإنّ الدعاء مخّ العبادة، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب فإمّا أن يعجّله له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإمّا أن يكفّر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم.

وفي نهج البلاغة: في وصيّة لهعليه‌السلام لابنه الحسينعليه‌السلام : ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شئآبيب رحمته، فلا يقنطنّك إبطاء إجابته، فإنّ العطيّة على قدر النيّة، وربّما اُخرّت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربّما سألت

٣٥

الشئ فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفي عنك وباله، والمال لا يبقى لك ولا تبقي له.

اقول: قوله: فإنّ العطيّة على قدر النيّة يريدعليه‌السلام به: أنّ الاستجابة تطابق الدّعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الّذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللّفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة كما مرّ بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسأله والإجابة.

وقد بيّنعليه‌السلام بها عدّة من الموارد الّتي يترآى فيها تخلّف الاستجابة عن الدعوة ظاهراً كالإبطاء في الإجابة، وتبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شئ آخر أصلح منه بحال السائل، فإنّ السّائل ربّما يسأل النعمة الهنيئة ولو اُوتيها على الفور لم تكن هنيئة وعلى الرغبة فتبطئ إجابتها لأنّ السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطؤ، وكذلك المؤمن المهتمّ بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه وهو لا يعلم بذلك و يزعم أنّ فيه سعادته وإنّما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لادنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

وفي عدّة الداعي عن الباقرعليه‌السلام ما بسط عبد يده إلى الله عزّوجلّ إلّا استحيى الله أن يردّها صفراً حتّى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح بها على رأسه ووجهه، وفي خبر آخر على وجهه وصدره.

اقول: وقد روي في الدرّ المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدّة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبدالله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن أبي مغيث عن النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معلّلاً بأنّه من التجسيم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنّه تعالى فيها - تعالى عن ذلك وتقدّس.

٣٦

وهو قول فاسد، فإنّ حقيقة جميع العبادات البدنيّة هي تنزيل المعنى القلبيّ والتوجّه الباطنيّ إلى موطن الصورة، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادّة في قالب التجسّم، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك وأجزائها وشرائطها، ولو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنيّة، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجّه القلبيّ والمسألة الباطنيّة بمثل السؤال الّذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغنيّ المتعزّز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، ويسأل حاجتة بالذلّة والضراعة، وقد روى الشيخ في المجالس والأخبار مسنداً عن محمّد وزيد ابني عليّ بن الحسين عن أبيهما عن جدّهما الحسينعليه‌السلام عن النبيّ، وفي عدّة الداعي مرسلاً أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.

وفي البحار عن عليّعليه‌السلام أنّه سمع رجلاً يقول: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، قالعليه‌السلام : أراك تتعوّذ من مالك وولدك، يقول الله تعالى:( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ) ولكن قل: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

اقول: وهذاباب آخر في تشخيص معنى اللّفظ وله نظائر في الروايات، وفيها: أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ هو الّذي ورد منه في كلامه، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسيرمعنى الجزء والكثير وغير ذلك.

وفي عدّة الداعي عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه.

اقول: وفي العدة أيضاً عن عليّعليه‌السلام لا يقبل الله دعاء قلب لاه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر، والسرّ فيه عدم تحقّق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللّهو.

وفي دعوات الراونديّ: في التوراة يقول الله عزّوجلّ للعبد: إنّك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنّه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك، وإن شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة.

اقول: وذلك أنّ من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكلّ ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه

٣٧

فهو راض بالانتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره، وإن لم يرض بذلك لم يتحقّق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى:( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ) الإسراء - ١١.

وفي عدّة الداعي: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ: يا أباذرّ ألا اُعلّمك كلمات ينفعك الله عزّوجلّ بهنّ؟ قلت بلى يا رسول الله، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

اقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة: يعني: ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتّى يستجيب دعائك في الشدّة ولا ينساك، وذلك أنّ من نسي ربّه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثمّ إذا دعا ربّه في الشدّة كان معنى عمله أنّه يذعن بالربوبيّة في حال الشدّة وعلى تقديرها، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو ربّ في كلّ حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربّه وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق عن الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام : من تقدّم في الدعاء اُستجيب له إذا نزل البلاء، وقيل: صوت معروف، ولم يحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصوت لا نعرفه الحديث، وهو المستفاد من إطلاق قوله تعالى:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة - ٦٧، ولا ينافي هذا ما ورد أنّ الدعاء لا يردّ مع الانقطاع، فإنّ مطلق الشدّة غير الانقطاع التامّ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلّق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة فإنّ هذه الأسباب العاديّة الّتي بين أيدينا إنّما سببيّتها محدودة على ما قدّر الله لها من الحدّ لا على ما يترآى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلّا الطريقيّة والوساطة في الإيصال، والأمر بيد الله تعالى، فإذن

٣٨

الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب، وإن كان أبي الله أن يجري الاُمور إلّا بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله الّذي أفاض عليها السببيّة لا أنّها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكلّ ذلك أسباب؟

واعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنيّة فيعطي ما يعطي بيده ويرى ما يرى ببصره ويسمع ما يسمع باُذنه فمن يسأل ربّه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئاً من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير اُذن، ومن ركن إلى سبب من دون الله سبحانه وتعالى كان كمن تعلّق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو باُذنه في سمعها وهو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفّل، وليس ذلك تقييداً للقدرة الإلهيّة غير المتناهية ولا سلباً للاختيار الواجبيّ، كما أنّ الانحصار الّذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة والاختيار عنه، لكون التحديد راجعاً بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروريّ أنّ الإنسان قادر على المناولة والرؤية والسمع لكن المناولة لا يكون إلّا باليد، والرؤية والسمع هما الّذان يكونان بالعين والاُذن لا مطلقاً، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أنّ خصوصيّة الفعل يتوقّف على توسّط الأسباب فزيد مثلاً وهو فعل لله هو الإنسان الّذي ولّده فلان وفلانة في زمان كذا ومكان كذا وعند وجود شرائط كذا وارتفاع موانع كذا، لو تخلّف واحد من هذه العلل والشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقّف على تحقّق جميعها، والمتوقّف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: وإذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلّة فهو بيان علّة قوله: وإذا سألت وسببه، والمعنى أنّ الحوادث مكتوبة مقدّرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى، وأمّا هو تعالى: فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيّته نافذة وكلّ يوم هو في شأن، ولذلك عقب الجملة بقوله: و

٣٩

لو أنّ الخلق كلّهم جهدوا الخ.

ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً إنّ الدعاء من القدر.

اقول: وفيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أنّ الحاجة المدعوّ لها إمّا أن تكون مقضيّة مقدّرة أولا، وهي على الأوّل واجبة وعلى الثاني ممتنعة، وعلى أيّ حال لا معني لتأثير الدعاء، والجواب: أنّ فرض تقدير وجود الشئ لا يوجب استغنائه عن أسباب وجوده، والدعاء من أسباب وجود الشئ فمع الدعاء يتحقّق سبب من أسباب الوجود فيتحقّق المسبّب عن سببه، وهذا هو المراد بقولهم: إنّ الدعاء من القدر، وفي هذا المعنى روايات اُخر.

ففي البحار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايردّ القضاء إلّا الدعاء.

وعن الصادقعليه‌السلام : الدعاء يردّ القضاء بعد ما اُبرم إبراماً.

وعن أبي الحسن موسىعليه‌السلام : عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطلب إلى الله عزّوجلّ يردّ البلاء، وقد قدّر وقضى فلم يبق إلّا إمضاؤه فإذا دعي الله وسأل صرف البلاء صرفاً.

وعن الصادقعليه‌السلام إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم وقد اُبرم إبراماً - فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ولا ينال ما عند الله إلّا بالدعاء فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يُفتح لصاحبه.

اقول: وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محقّقات الدعاء، فإنّ كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفائه.

وعن إسماعيل بن همّام عن أبي الحسنعليه‌السلام : دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

اقول: وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنّه أحفظ لإخلاص الطلب.

وفي المكارم عن الصادقعليه‌السلام : لا يزال الدعاء محجوباً حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً، من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا أستجيب له.

وعن الصادقعليه‌السلام أيضاً - وقد قال له رجل من أصحابه إنّي لأجد آيتين في كتاب

٤٠