الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118148
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118148 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كانت أمراً عظيماً، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبّر عنها المتكلّم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أنّ العظماء يتكلّمون عن عظماء الرجال وعظائم الاُمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم، ولذلك اُبهم في الآية كثير من جهات القصّة ممّا لا يتقوّم به أصلها ليدلّ على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضاً اُبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصّة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.

وأمّا التصريح باسم إبراهيمعليه‌السلام فإنّ للقرآن عناية تشريف بهعليه‌السلام ، قال تعالى:( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ) الأنعام - ٨٣، وقال تعالى:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ففي ذكرهعليه‌السلام بالاسم عناية خاصّة.

ولما ذكرناه من النكتة ترى أنّه تعالى يذكر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الروم - ٢٧، وقال تعالى:( قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ - إلى قوله -قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم - ٩.

قوله تعالى: ( قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ ) ، أي أنّى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى:( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) يوسف - ٨٢.

وإنّما قال هذا القول استعظاماً للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدّي إلى الإنكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصّة: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ) يوسف - ٥١، وسيجئ توضيحه قريباً.

على أنّ الرجل نبيّ مكلّم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم

٣٨١

عن الشكّ والارتياب في البعث الّذي هو أحد اُصول الدين.

قوله تعالى: ( فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) ، ظاهره توفّيه بقبض روحه وإبقاؤه على هذا الحال مأة عامّ ثمّ إحياؤه بردّ روحه إليه.

وقد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بالموت هو الحال المسمّى عند الأطبّاء بالسُبات وهو أن يفقد الموجود الحيّ الحسّ والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان، أيّاماً أو شهوراً أو سنين، كما أنّه الظاهر من قصّة أصحاب الكهف ورقودهم ثلثمأة وتسع سنين ثمّ بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصّة تشبه القصّة.

قال: والّذي وجد من موارد اتّفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مأة سنة أمر غير مألوف وخارق للعادة لكنّ القادر على توفّي الإنسان بالسبات زماناً كعدّة سنين قادر على إلقاء السبات مأة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النصّ من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلّا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتجّ الله بهذا السبات ورجوع الحسّ والشعور إليه ثانياً بعد سلبه مأة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم اُلوفاً من السنين، هذا ملخّص ما ذكره.

وليت شعري كيف يصحّ الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصّة أصحاب الكهف من قبيل السبات (على تقدير تسليمه) بمجرّد شباهة ما بين القصّتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الّذي اختلقه للآية؟ وهل هو إلّا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلق الله على رجل سبات مأة سنة مع كونه خرقاً للعادة فليجز له إماتته مأة سنة ثمّ إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلّا أنّ هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالاً من غير دليل يدلّ عليه، وقد تأوّل لذلك أيضاً قوله تعالى في ذيل الآية: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، وسيجئ التعرّض له.

وبالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مأة عام، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: أنّى يحيي هذه الله، وقوله بعده، فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه

٣٨٢

وانظر إلى حمارك، وقوله: وانظر إلى العظام، ممّا لاريب فيه.

قوله تعالى: ( قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ) ، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدلّ على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوماً وانتباهاً، ثمّ شاهد اختلاف وقتيهما فتردّد في تخلّل الليلة بين الوقتين وعدم تخلّلها فقال يوماً (لو تخلّلت الليلة) أو بعض يوم (لو لم تتخلّل) قال: بل لبثت مأة عام.

قوله تعالى: ( فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ - إلى قوله- لَحْمًا ) ، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرّر فيها قوله: انظر ثلاث مرّات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنّه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجئ بقوله: ولنجعلك متخلّلاً في الكلام وكان الظاهر أن يتأخّر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أنّ بيان ما استعظمه هذا المارّ بالقرية - وهو إحياء الموتى بعد طول المدّة وعروض كلّ تغيّر عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانياً بالنظر إلى العظام؟ لكنّ التدبّر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيّات القصّة أيضاحاً ينحلّ به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.

( القصّة)

التدبّر في الآية يعطي أنّ الرجل كان من صالحي عبادالله، عالماً بمقام ربّه، مراقباً لأمره، بل نبيّاً مكلّماً فإنّ ظاهر قوله: أعلم أنّ الله، أنّه بعد تبيّن الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: ثمّ بعثه قال كم لبثت، أنّه كان مأنوساً بالوحي والتكليم، وأنّ هذا لم يكن أوّل وحي يوحى إليه وإلّا كان حقّ الكلام أن يقال: فلمّا بعثه قال الخ أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسىعليه‌السلام :( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) طه - ١١، وقوله تعالى فيه أيضاً:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ) القصص - ٣٠.

٣٨٣

وكيف كان فقد كانعليه‌السلام خرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته الّتي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاماً وشراباً يتغذّى بهما، فلمّا سار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية الّتي ذكر الله تعالى أنّها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصداً نفس القرية، وإنّما مرّ بها مروراً ثمّ وقف معتبراً بما يشاهده من أمر القرية الخربة الّتي كان قد اُبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرئى ومنظر منهعليه‌السلام ، فإنّه يشير إلى الموتى بقوله: أنّى يحيي هذه الله، ولو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإشارة إلى نفس القرية لكان حقّ الكلام أن يقال: أنّى يعمر هذه الله. على أنّ القرية الخربة ليس من المترقّب عمرانها بعد خرابها، ولا أنّ عمرانها بعد الخراب ممّا يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.

ثمّ إنّه تعمّق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدّة مكثها مع ما يصاحبه من تحوّلها من حال إلى حال، وتطوّرها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسياً منسيّاً، وعند ذلك قال: أنّى يحيى هذه الله، وقد كان هذا الكلام ينحلّ إلى جهتين: (أحديهما): استعظام طول المدّة والإحياء مع ذلك، (والثانية): استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيّرات غير المحصورة، فبيّن الله له الأمر من الجهتين جميعاً: أمّا من الجهة الأولى فإماتته ثمّ إحيائه وسؤاله وأمّا من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرئي منه.

فأماته الله مأة عام ثمّ بعثه، وقد كان الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مرّ ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوماً أو بعض يوم نظراً إلى اختلاف الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدّم من النهار وبعثه في الطرف المؤخّر منه ولو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوماً من غير ترديد، فردّ الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مأة عام، فرأى من نفسه أنّه شاهد مأة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.

٣٨٤

ثمّ استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مأة عام بقوله: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك! وذلك: أنّ قوله: لبثت يوماً أو بعض يوم يدلّ على أنّه لم يحسّ بشئ من طول المدّة وقصره، وإنّما استدلّ على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظلّ ونحوهما، فلمّا اُجيب بقوله تعالى: بل لبثت مأة عام كان الجواب في مظنّة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغيّر شئ من هيئة بدنه، والإنسان إذا مات ومضى عليه مأة سنة على طولها تغيّر لا محالة بدنه عمّا هو عليه من النضارة والطراوة وكان تراباً وعظاماً رميمة، فدفع الله تعالى هذا الّذي يمكن وأن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغيّر شئ منهما عمّا كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاماً رميمة، فحال الحمار يدلّ على طول مدّة المكث وحال الطعام والشراب يدلّ على إمكان أن يبقى طول هذه المدّة على حال واحد من غير أن يتغيّر شئ من هيئته عمّا هي عليه.

ومن هنا يظهر أنّ الحمار أيضاً قد اُميت وكان رميماً وكأنّ السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.

وبالجملة تمّ عند ذلك البيان الإلهيّ: أنّ استعظامه طول المدّة قد كان في غير محلّه حيث أخذ الله منه الاعتراف بأنّ مأة سنة - مدّة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبيّن له أنّ تخلّل الزمان بين الإماتة والإحياء بالطول والقصر لا يؤثّر في قدرته الحاكمة على كلّ شئ، فليست قدرة مادّيّة زمانيّة حتّى يتخلّف حالها بعروض تغيّرات أقلّ أو أزيد على المحلّ، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) المعارج - ٧، وقال تعالى:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) النحل - ٧٧.

ثمّ قال تعالى: ولنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدلّ على أنّ هناك غيرها من الغايات، والمعنى أنّا فعلنا بك ما فعلنا لنبيّن لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبيّن أنّ الغرض الإلهيّ لم يكن في ذلك منحصراً في بيان الأمر له نفسه بل هناك

٣٨٥

غاية اُخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: وانظر إلى العظام الخ بيان الأمر له فقط، ومن إماتته وإحيائه بيان الأمر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: ولنجعلك الخ على قوله: وانظر إلى العظام الخ.

وممّا بيّنا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرّات في الآية فلكلّ واحد من الموارد الثلاث غرض خاصّ به لا يشاركه فيه غيره.

وكان في إماتته وإحيائه بيان ذلك له بيان ما يجده الميّت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم - ٥٦.

ثمّ بيّن الله له الجهة الثانية الّتي يشتمل عليه قوله: أنّي يحيى هذه الله وهو: أنّه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كلّ هذه التغيّرات والتحوّلات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: وانظر إلى العظام كيف ننشزها والإنشاز الإنماء، وظاهر الآية أنّ المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: ولنجعلك آية بل شاركه فيه الموتى الّذين أحياهم الله تعالى!

ومن الغريب ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالعظام العظام الّتي في الأبدان الحيّة فإنّها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإنّ الّذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيى الموتى إنّه على كلّ شئ قدير، وقد احتجّ الله على البعث بمثلها وهو الأرض الميتة الّتي يحييها الله بالإنبات، وهذا كما ترى تكلّف من غير موجب.

وقد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: فأماته الله إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرّر لقوله: أنّى يحيى هذه الله.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ، رجوع منه بعد التبيّن إلى علمه الّذي كان معه قبل التبيّن، كأنّهعليه‌السلام لمّا خطر بباله الخاطر الّذي ذكره بقوله: أنّي يحيي هذه الله أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة

٣٨٦

ثمّ لمّا بيّن الله له الأمر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس مالا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلاً، بل علم يليق بالاعتماد عليه.

وهذا أمر كثير النظائر فكثيراً ما يكون للإنسان علم بشئ ثمّ يخطر بباله ويهجس في نفسه خطّر ينافيه، لا للشكّ وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل اُخرى فيقنع نفسه حتّى تنكشف الشبهة ثمّ يعود فيقول أعلم أنّ كذا كذا وليس كذا كذا فيقرّر بذلك علمه ويطيّب نفسه!

وليس معنى الكلام: أنّه لمّا تبيّن له الأمر حصل له العلم وقد كان شاكّاً قبل ذلك فقال أعلم الخ كما مرّت الإشارة إليه لأنّ الرجل كان نبيّاً مكلّماً وساحة الأنبياء منزّه عن الجهل بالله وخاصّة في مثل صفة القدرة الّتي هي من صفات الذاتأولا: ولأنّ حقّ الكلام حينئذ أن يقال: علمت أو ما يؤدّي معناهثانياً: ولأنّ حصول العلم بتعلّق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلّقها بكلّ شئ وقد قال: أعلم أنّ الله بكلّ شئ قدير، نعم ربّما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الاُمور فحكم بأنّ الّذي يحيي الموتى يقدر على كلّ ما يريد أو اُريد منه، لكنّه اعتقاد حدسيّ معلول الروع والاستعظام النفسانيّين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أيّ حال لا يستحقّ التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإلهيّ مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهيّ كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصّة: فلمّا تبيّن له قال: أعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير، على أنّه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياءثالثا .

قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ) ، قد مرّ أنّه معطوف على مقدّر والتقدير: واذكر إذ قال الخ وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: قال أو لم تؤمن، وترتيب الكلام: أو لم تؤمن إذ قال إبراهيم ربّ أرني الخ وليس بشئ.

٣٨٧

وفي قوله: أرني كيف تحيي الموتى، دلالة:

أوّلاً على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل الرؤية دون البيان الاستدلاليّ، فإنّ الأنبياء وخاصّة مثل النبيّ الجليل إبراهيم الخليل أرفع قدراً من أن يعتقد البعث ولا حجّة له عليه، والاعتقاد النظريّ من غير حجّة عليه إمّا اعتقاد تقليديّ أو ناش عن اختلال فكريّ وشئ منهما لا ينطبق على إبراهيمعليه‌السلام ، على أنّهعليه‌السلام إنّما سأل ما سأل بلفظ كيف، وإنّما يستفهم بكيف عن خصوصيّة وجود الشئ لا عن أصل وجوده فإنّك إذا قلت: أرأيت زيداً كان معناه السؤال عن تحقّق أصل الرؤية، وإذا قلت: كيف رأيت زيداً كان أصل الرؤية مفروغاً عنه وإنّما السؤال عن خصوصيّات الرؤية. فظهر أنّهعليه‌السلام إنّما سأل البيان بالإرائة والإشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال.

وثانياً: على أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل أن يشاهد كيفيّة الإحياء لا أصل الإحياء كما أنّه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، وهذا السؤال متصوّر على وجهين:

الوجه الأوّل: أن يكون سؤالاً عن كيفيّة قبول الأجزاء المادّيّة الحياة، وتجمّعها بعد التفرّق والتبدّد، وتصوّرها بصورة الحيّ، ويرجع محصّله إلى تعلّق القدرة بالإحياء بعد الموت والفناء.

الوجه الثاني: أن يكون عن كيفيّة إفاضة الله الحياة على الأموات وفعله بأجزائها الّذي به تلبّس الحياة ويرجع محصّله إلى السؤال عن السبب وكيفيّة تأثيره، وهذا بوجه هو الّذي يسمّيه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عزّ من قائل:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس - ٨٣.

وإنّما سأل إبراهيمعليه‌السلام عن الكيفيّة بالمعنى الثاني دون المعنى الأوّل:أمّا أوّلا: فلأنّه قال: كيف تحيي الموتى، بضمّ التاء من الإحياء فسأل عن كيفيّة الإحياء الّذي هو فعل ناعت لله تعالى وهو سبب حياة الحيّ بأمره، ولم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتّى يكون سؤالاً عن كيفيّة تجمّع الأجزاء وعودها إلى صورتها الأولى وقبولها الحياة ولو كان السؤال عن الكيفيّة بالمعنى الثاني لكان من الواجب

٣٨٨

أن يرد على الصورة الثانية.وأمّا ثانياً: فلأنّه لو كان سؤاله عن كيفيّة قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، ولكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شئ من الحيوان بعد موته،وأمّا ثالثاً: فلأنّه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: وأعلم أنّ الله على كلّ شئ قدير لا بقوله: واعلم أنّ الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإنّ المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزّة والحكمة فإنّ العزّة والحكمة - وهما وجدان الذات كلّ ماتفقده وتستحقّه الأشياء وإحكامه في أمره - إنّما ترتبطان بإفاضة الحياة لااستفاضة المادّة لها فافهم ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ إبراهيمعليه‌السلام إنّما سأل بقوله: ربّ أرني حصول العلم بكيفيّة حصول الإحياء دون مشاهدة كيفيّة الإحياء، وأنّ الّذي اُجيب به في الآية لا يدلّ على أزيد من ذلك، قال: ما محصّله: أنّه ليس في الكلام ما يدلّ على أنّ الله سبحانه أمره بالإحياء، ولا أنّ إبراهيمعليه‌السلام فعل ما أمره به، فما كلّ أمر يقصد به الامتثال، فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن حبراً تريد أنّ هذه كيفيّته، ولا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.

قال: وفي القرآن شئ كثير ممّا ورد فيه الخبر في صورة الأمر، والكلام هيهنا مثل لإحياء الموتى، ومعناه خذ أربعة من الطير فضمّها إليك وآنسها بك حتّى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوان استعداداً لذلك، ثمّ اجعل كلّ واحد منها على جبل ثمّ ادعها فإنّها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرّق أمكنتها وبعدها، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين.

قال: والدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهنّ فإنّ معناه أملهنّ أي أوجد ميلها إاليك وأنسها بك، ويشهد به تعديته بإلى فإنّ صار إذا تعدّى بإلى

٣٨٩

كان بمعنى الإمالة، وما ذكره المفسّرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطّعهنّ أجزائاً بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، وأمّا ما قيل: إنّ قوله: إليك متعلّق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهنّ والمعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطّعهنّ فخلاف ظاهر الكلام.

وثانياً: أنّ الظاهر: أنّ ضمائر فصرهنّ ومنهنّ وادعهنّ ويأتينك جميعاً راجعة إلى الطير، ويلزم على قولهم: أنّ المراد تقطيعها وتفريق أجزائها، ووضع كلّ جزء منها على جبل ثمّ دعوتهنّ أن يفرّق بين الضمائر فيعود الأوّلان إلى الطيور، والثالث والرابع إلى الأجزاء وهو خلاف الظاهر.

وأضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوهاً اُخرى نتبعها بها.

وثالثاً: أنّ إرائه كيفيّة الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفيّة تجمع أجزائها وتغيّر صورها إلى الصورة الاُولى الحيّة فهي ممّا لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء ومزجه إيّاها ووضعه على جبل بعيد، جزئاً منها فكيف يتصوّر على هذا مشاهدة ما يعرض ذرّات الأجزاء من الحركات المختلفة والتغيّرات المتنوّعة، وإن كان المراد إرائة كيفيّة الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين الّتي هي الإرادة الإلهيّة المتعلّقة بوجود الشئ وحقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أنّ هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزّهة عن الكيفيّة.

ورابعاً: أنّ قوله: ثمّ اجعل، يدلّ على التراخي الّذي هو المناسب لمعنى التأنيس وكذلك قوله: فصرهنّ بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح والتقطيع.

وخامساً: أنّه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإنّ العزيز هو الغالب الّذي لا ينال، هذا ما ذكروه.

وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإنّ اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني وقوله: كيف تحيي وإجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مرّ بيانها كلّ ذلك ينافي هذا المعنى، على أنّ الجزء في قوله تعالى:( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.

٣٩٠

وأمّا الوجوه الّتي ذكروها فالجواب عن الأوّل: أنّ معنى صرهنّ قطّعهنّ، وتعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى:( الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ) البقرة - ١٨٧، حيث ضمّن معنى الإفضاء.

وعن الثاني: أنّ جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، والوجه في رجوع ضمير ادعهنّ ويأتينك إليها مع أنّها غير موجودة بأجزائها وصورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلّا بمادّتها في قوله تعالى:( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصّلت - ١٠، وقوله تعالى:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن ) يس - ٨٢، وحقيقة الأمر: أنّ الخطاب اللفظيّ فرع وجود المخاطب قبل الخطاب وأمّا الخطاب التكوينيّ فالأمر فيه بالعكس، والمخاطب فيه فرع الخطاب، فإنّ الخطاب فيه هو الايجاد ومن المعلوم أنّ الوجود فرع الايجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشئ المتفرّع على قوله كن وهو خطاب الأمر.

وعن الثالث: أنّا نختار الشقّ الثاني وأنّ السؤال إنّما هو عن كيفيّة فعل الله سبحانه وإحيائه لا عن كيفيّة قبول المادّة وحياتها، وقوله: إنّ البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهيّة الّتي هي من صفاته كما يدلّ ظاهر القرآن وعليه المسلمون.

قلنا: إنّ الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق والإحياء ونحوهما، والّذي لاسبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه - ١١٠.

فالإرادة منتزعة من الفعل، وهو الإيجاد المتّحد مع وجود الشئ، وهو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، وقد ذكر الله في تالي الآية أنّ هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كلّ شئ إذ قال: فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شئ الآية، وقد ذكر الله تعالى أنّه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال:( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الانعام - ٧٥، ومن الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.

ومنشأ هذه الشبهة ونظائرها من هؤلاء الباحثين أنّهم يظنّون أنّ دعوة إبراهيم

٣٩١

عليه‌السلام للطيور في إحيائها، وقول عيسىعليه‌السلام لميت عند إحيائه: قم بإذن الله وجريان الريح بأمر سليمان وغيرها ممّا يشتمل عليه الكتاب والسنّة إنّما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلّفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيّليّ الّذي تدلّ عليه ألفاظهم نظير النسبة الّتي بين ألفاظنا العاديّة ومعانيها وقد خفي عليهم أنّ ذلك إنّما هو عن اتّصال باطنيّ بقوّة إلهيّة غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثّرة الفاعلة بالحقيقة.

وعن الرابع: أنّ التراخي المدلول عليه بقوله: ثمّ كما يناسب معنى التربية والتأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع وتفريق الأجزاء ووضعها على الجبال كما هو ظاهر.

وعن الخامس: أنّ الإشكال مقلوب عليهم فإنّ الّذي ذكروه هو أنّ الله إنّما بين كيفيّة الإحياء لإبراهيم بالبيان العلميّ النظريّ دون الشهوديّ، فيرد عليهم أنّ المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزّة والحكمة، وقد عرفت ممّا قدّمنا أنّ الأنسب على ما بيّناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.

ويظهر ممّا ذكرنا أيضاً فساد ما ذكره بعض آخر من المفسّرين: أنّ المراد بالسؤال في الآية إنّما هو السؤال عن إشهاد كيفيّة الإحياء بمعنى كيفيّة قبول الأجزاء صورة الحياة.

قال: ما محصّله: أنّ السؤال لم يكن في أمر دينيّ - والعياذ بالله - ولكنّه سؤال عن كيفيّة الإحياء ليحيط علماً بها، وكيفيّة الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيمعليه‌السلام طلب علم لا يتوقّف الإيمان على علمه، ويدلّ على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشكّ أنّه يحكم فيهم، ولكنّه سأل عن كيفيّة حكمه المعلوم ثبوته، ولو كان سائلاً عن ثبوت ذلك لقال: أيحكم زيد في الناس، وإنّما جاء التقرير أعني قوله: أو لم تؤمن، بعده لأنّ تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفيّة كما علمت إلّا أنّها قد تستعمل أيضاً في الاستعجاز كما إذا ادّعى مدّع: أنّه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنّك

٣٩٢

عاجز عن حمله، والله سبحانه لمّا علم برائة إبراهيمعليه‌السلام عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظيّ في العبارة الاُولى لكون إيمانه مخلصاً بعبارة تنصّ عليه بحيث يفهمها كلّ من سمعها فهماً لا يتخالجه فيه شكّ، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيّات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوده، ورؤية الكيفيّة لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئاً، وإنّما أفادت أمراً لا يجب الإيمان به.

ثمّ قال بعد كلام له طويل: إنّ الآية تدلّ على فضل إبراهيمعليه‌السلام حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيراً ما أراه بعد ما أماته مأة عام.

وأنت بالتدبّر في الآية والتأمّل فيما قدّمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإنّ السؤال إنّما وقع عن كيفيّة إحيائه تعالى لا عن كيفيّة قبول الأجزاء الحياة ثانياً فقد قيل: كيف تحيي، بضمّ التاء لا بفتحها، على أنّ إجراء الأمر على يد إبراهيمعليه‌السلام يدلّ على ذلك ولو كان السؤال عن كيفيّة القبول لكفى في ذلك إرائة شئ من الموتى يحييه الله كما في قصّة المارّ على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً، ولم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا هو الّذي أشرنا إليه آنفاً: أنّهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهيّة ومصدريتهم للاُمور الخارقة بنفوسهم العاديّة فينتج ذلك مثلاً: أن لا فرق بين تكوّن الحياة بيد إبراهيم وتكوّنه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، وهذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكنّ هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، وكلّما أمعنوا في البحث زادوا بعداً عن الحقّ. ألا ترى أنّه فسّر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكوّن والأشكال المتصوّرة مع أنّ هذا التردّد الفكريّ من اللغو الّذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيمعليه‌السلام ، مع أنّ الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشئ فإنّ إبراهيمعليه‌السلام قال: كيف

٣٩٣

تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى وهو يريد موتى الإنسان أو الأعمّ منه ومن غيره والله سبحانه ما أراه إلّا تكوّن الحياة في أربعة من الطير:

ثمّ ذكر فضل إبراهيمعليه‌السلام على عزير (يريد به صاحب القصّة في الآية السابقة) بما ذكر فأخذ القصّة في الآيتين من نوع واحد وهو السؤال عن الكيفيّة الّتي فسّرها بما فسّرها والجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعاً، مع أنّ الآيتين جميعاً - على ما فيهما من غرر البيان ودقائق المعاني - أجنبيّتان عن الكيفيّة بالمعنى الّذي ذكره كلّ ذلك واضح بالرجوع إلى ما مرّ فيهما.

على أنّ المناسب لبيان الكيفيّة ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزّة والحكمة كما في قوله تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فصّلت - ٣٩، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفيّة وقد ختمت بصفة القدرة المطلقة، ونظيره قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) الأحقاف - ٣٣، ففيه أيضاً بيان الكيفيّة بإرائة الأمثال ثمّ ختم الكلام بصفة القدرة.

قوله تعالى: ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، بلى كلمة يردّ به النفي ولذلك ينقلب به النفي إثباتاً كقوله تعالى:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ) الأعراف - ١٧٢، ولو قالوا نعم لكان كفراً، والطمأنينة والاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم: اطمأنّت الأرض وأرض مطمئنّة إذا كانت فيه انخفاض يستقرّ فيها الماء إذا سال إليها والحجر إذا هبط إليها.

وقد قال تعالى: أو لم تؤمن، ولم يقل: ألم تؤمن للإشعار بأنّ للسؤال والطلب محلّاً لكنّه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: ولو قيل: ألم تؤمن دلّ على أنّ المتكلّم تلقّى السؤال منبعثاً عن عدم الإيمان، فكان عتاباً وردعاً عن مثل هذا السؤال، وذلك أنّ الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاماً عن أنّ هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاماً عن وجه السؤال حتّى ينتج عتاباً وردعاً

٣٩٤

والإيمان مطلق في كلامه تعالى، وفيه دلالة على أنّ الإيمان بالله سبحانه لا يتحقّق مع الشكّ في أمر الإحياء والبعث، ولا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأنّ المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ ولا تقييد إطلاقه.

وكذا قوله تعالى حكاية عنهعليه‌السلام : ليطمئنّ قلبي، مطلق يدلّ على كون مطلوبهعليه‌السلام من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق وقطع منابت كلّ خطور قلبيّ وأعراقه، فإنّ الوهم في إدراكاتها الجزئيّة وأحكامها لمّا كانت معتكفة على باب الحسّ وكان جلّ أحكامها وتصديقاتها في المدركات الّتي تتلقّاها من طريق الحواسّ فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدّقه العقل، وإن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلّيّة العقليّة الحقّة من الاُمور الخارجة عن المادّة الغائبة عن الحسّ فإنّها تستنكف عن قبولها وإن سلّمت مقدّماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاماً مناقضة لها، ثمّ تثير الأحوال النفسانيّة المناسبة لاستنكافها فتقوّى وتتأيّد بذلك في تأثيرها المخالف، وإن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلاتضرّها إلّا أذى، كما أنّ من بات في دار مظلمة فيها جسد ميّت فإنّه يعلم: أنّ الميّت جماد من غير شعور وإرادة فلا يضرّ شيئاً، لكنّ الوهم تستنكف عن هذه النتيجة وتستدعي من المتخيّلة أن تصوّر للنفس صوراً هائلة موحشة من أمر الميّت ثمّ تهيّج صفة الخوف فتتسلّط على النفس، وربّما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.

فقد ظهر: أنّ وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينيّة لا ينافي الإيمان والتصديق دائماً، غير أنّها تؤذي النفس، وتسلب السكون والقرار منها، ولا يزول وجود هذه الخواطر إلّا بالحسّ أو المشاهدة، ولذلك قيل: إنّ للمعاينة أثراً لا يوجد مع العلم، وقد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتّى إذا جاءهم وشاهد هم وعاين أمرهم غضب وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.

وقد ظهر من هنا وممّا مرّ سابقاً أنّ إبراهيمعليه‌السلام ما كان يسأل المشاهدة بالحسّ الّذي يتعلّق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنّما كان يسأل مشاهدة فعل الله

٣٩٥

سبحانه وأمره في إحياء الموتى، وليس ذلك بمحسوس وإن كان لا ينفكّ عن الأمر المحسوس الّذي هو قبول الأجزاء المادّيّة للحياة بالاجتماع والتصوّر بصورة الحيّ، فهوعليه‌السلام إنّما كان يسأل حقّ اليقين.

قوله تعالى: ( قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) ، صرهنّ بضمّ الصاد على إحدى القرائتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القرائة الاُخرى من صار يصير بأحد المعنيين، وقرائن الكلام يدلّ على إرادة معنى القطع، وتعديته بإلى تدلّ على تضمين معنى الإمالة. فالمعنى: اقطعهنّ مميلاً إليك أو أملهنّ إليك قطعاً إيّاهنّ على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.

وكيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير الخ، جواب عن ما سأله إبراهيمعليه‌السلام بقوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى، ومن المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام وحكمة المتكلّم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتّب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام وخاصّةً القرآن الّذي هو خير كلام ألقاه خير متكلّم إلى خير سامع واع، وليست القصّة على تلك البساطة الّتي تترآئى منها في بادي النظر، ولو كان كذلك لتمّ الجواب بإحياء ميّت ما كيف كان، ولكان الزائد على ذلك لغواً مستغنى عنه وليس كذلك، ولقد اُخذ فيها قيود وخصوصيّات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما اُريد إحيائه أن يكون طيراً، وأن يكون حيّاً، وأن يكون ذا عدد أربعة، وأن يقتل ويخلط ويمزج أجزاؤها، وأن يفرّق الأجزاء المختلطة أبعاضاً ثمّ يوضع كلّ بعض في مكان بعيد من الآخر كقلّة هذا الجبل وذاك الحبل، وأن يكون الإحياء بيد إبراهيمعليه‌السلام (نفس السائل) بدعوته إيّاهنّ، وأن يجتمع الجميع عنده.

فهذه كما ترى خصوصيّات زائدة في القصّة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، وقد ذكروا لها وجوهاً من النكات لا تزيد الباحث إلّا عجباً (يعلم صحّة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصّلات التفاسير).

٣٩٦

وكيف كان فهذه الخصوصيّات لا بدّ أن تكون مرتبطة بالسؤال، والّذي يوجد في السؤال - وهو قوله: ربّ أرني كيف تحيى الموتى - أمران.

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي وهو أنّ المسئول مشاهدة الإحياء من حيث أنّه وصف لله سبحانه لا من حيث أنّه وصف لأجزاء المادّة الحاملة للحياة.

وثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنّه خصوصيّة زائدة.

أمّا الأوّل: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهنّ، ثمّ اجعل، بصيغة الأمر ويقول ثمّ ادعهنّ يأتينك، فإنّه تعالى جعل إتيانهنّ سعياً وهو الحياة مرتبطاً متفرّعاً على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الّذي يفيض عنه حياة ما اُريد إحيائه، ولا إحياء إلّا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إيّاهنّ بأمر الله، قد كانت متّصلة نحو اتّصال بأمر الله الّذي منه تترشّح حياة الإحياء، وعند ذلك شاهده إبراهيم ورأى كيفيّة فيضان الأمر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إيّاهنّ غير متّصلة بأمر الله الّذي هو أن يقول لشئ أرادة: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتّصلة إلّا بالتخيّل كان هو أيضاً كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون، فلا تأثير جزافيّ في الوجود.

وأما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدلّ على أنّ لكثرة الأموات وتعدّدها دخلاً في السؤال، وليس إلّا أنّ الأجساد بموتها وتبدّد أجزائها وتغيّر صورها وتحوّل أحوالها تفقد حالة التميّز والارتباط الّذي بينها فتضلّ في ظلمة الفناء والبوار، وتصير كالأحاديث المنسيّة لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوّة المحيية ولا محاط في الواقع.

وهذا هو الّذي أورده فرعون على موسىعليه‌السلام وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله:( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه - ٥١.

وبالجملة فأجاب الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير (ولعلّ اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقلّ زماناً) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها، ويعرفها معرفة تامّة أوّلاً، ثمّ يقتلها ويخلط أجزائها خلطاً دقيقاً ثمّ يجعل

٣٩٧

ذلك أبعاضاً، وكلّ بعض منها على جبل لتفقد التميّز والتشخّص، وتزول المعرفة، ثمّ يدعوهنّ يأتينه سعياً، فإنّه يشاهد حينئذ أنّ التميّز والتصوّر بصورة الحياة كلّ ذلك تابع للدعوة الّتي تتعلّق بأنفسها، أي إنّ أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس، فإنّ البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظلّ إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظلّ وإلى أيّ حال تحوّل الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظلّ حتّى إذا انعدم تبعه في الانعدام، والله سبحانه إذا أوجد حيّاً من الإحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنّما يتعلّق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أوّلاً ثمّ يتبعه أجزاء المادّة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علماً فيتعيّن الجسد بتعيّن الروح من غير فصل ولا مانع، وبذلك يشعر قوله تعالى: ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً أي مسرعات مستعجلات.

وهذا هو الّذي يستفاد من قوله تعالى:( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة - ١١، وقد مرّ بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرّد النفس، وسيأتي تفصيل الكلام في محلّه إنشاء الله.

فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنّما أمر بذلك ليعرفها فلا يشكّ فيها عند إعادة الحياة إليها ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميّز أوّلاً وزوالهما ثانياً، وقوله: فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً أي اذبحهنّ وبدّد أجزائهن واخلطها ثمّ فرّقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء وهي غير متميّزة، وهذا من الشواهد على أنّ القصّة إنّما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سوريّة فإنّ أرض بابل لا جبل بها، وقوله ثمّ ادعهنّ، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان، ويمكن أن يستفاد ذلك مضافاً إلى دلالة ضمير( هُنَّ ) الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهنّ، فإنّ الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثمّ نادهنّ فإنّها كانت على جبال بعيدة عن موقفهعليه‌السلام واللفظ المستعمل في البعيد خاصّة هوالنداء دون الدعاء، وقوله: يأتينك سعياً، أي يتجسّدن واتّصفن

٣٩٨

بالإتيان والإسراع إليك.

قوله تعالى: ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، أي عزيز لا يفقد شيئاً بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئاً إلّا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح وإيجادها دون العكس.

وفي قوله تعالى: واعلم أنّ الخ، دون أن يقال: إنّ الله الخ، دلالة على أنّ الخطور القلبيّ الّذي كان إبراهيم يسأل ربّه المشاهدة ليطمئنّ قلبه من ناحيته كان راجعاً إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الآية: أخرج الطيالسيّ وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان.

وفي تفسير البرهان: أبو عليّ الطبرسيّ قال: اختلف في وقت هذه المحاجّة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، وقيل بعد إلقائه في النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، عن الصادقعليه‌السلام .

اقول: الآية وإن لم تتعرّض لكونها قبل أو بعد لكنّ الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإنّ قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجّته أباه وقومه وكسره الأصنام تعطي أنّ أوّل ما لاقى إبراهيمعليه‌السلام نمرود وكان حين رفع أمره إليه في قضيّة كسر الأصنام مجرماً عندهم، فحكم عليه بالإحراق، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلاً عن تكليمه في أمر ربّه: أهو الله أو نمرود؟ ولو حاجّه نمرود حينئذ لحاجّه في أمر الله وأمر الأصنام دون أمر الله وأمر نفسه!

وفي عدّة من الروايات الّتي روتها العامّة والخاصّة في قوله تعالى: أو كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها الآية أنّ صاحب القصّة أرميا النبيّ وفي عدّة

٣٩٩

منها: أنّها عزير، إلّا أنّها آحاد غير واجبة القبول، وفي أسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصّة غير مذكورة في التوراة، والّتي في الروايات من القصّة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنّها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانّها.

وفي المعاني عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قالعليه‌السلام : وهذه آية متشابهة، ومعناها أنّه سأل عن الكيفيّة والكيفيّة من فعل الله عزّوجلّ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، ولا عرض في توحيده نقص، الحديث.

اقول: وقد اتّضح معنى الحديث ممّا مرّ.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عليّ بن أسباط: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام سئل عن قول الله: قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي أكان في قلبه شكّ قال لا ولكن أراد من الله الزيادة، الحديث.

اقول: وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالحعليهما‌السلام وقد مرّ بيانه.

وفي تفسير القمّيّ عن أبيه عن ابن أبي أيّوب عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال: إنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكلها سباع البحر، ثمّ يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فتعجّب إبراهيم فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزئاً ثمّ ادعهنّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب، فقال الله عزّوجلّ: فصرهنّ إليك أي قطّعهنّ ثمّ اخلط لحمهنّ، وفرّقهنّ على عشرة جبال، ثمّ دعاهنّ فقال: احيى بإذن الله فكانت تجتمع وتتألّف لحم كلّ واحد وعظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إنّ الله عزيز حكيم.

أقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وروي

٤٠٠