الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118198
تحميل: 6041


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118198 / تحميل: 6041
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في تمييز الخير من غيره، وهو قوله تعالى: والله بما تعملون خبير.

قوله تعالى: ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ ما كان يشاهده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمنّ والأذى والتثاقل في إنفاق طيّب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجداً وحزناً فسلّاه الله تعالى بالتنبيه على أنّ أمر هذا الإيمان الموجود فيهم والهدى الّذي لهم إنّما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبيّ لا وجوده ولا بقائه حتّى يكون عليه حفظه، ويشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة.

والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هُداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقّق التلبّس. على أنّ هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبيّ وتطييب قلبه.

فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم ولكنّ الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبيّ بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه صلّى الله عليه وآله، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى:( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه ُ ) الآيات القيامة - ١٧. فلمّا تمّ الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنّن والتغيّظ معاً، فإنّ ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: ولكنّ الله يهدي من يشاء كما لا يخفى. فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أنّ ساحة المتكلّم الداعي منزّهة عن الانتفاع بما يتعقّب هذه الدعوة من المنافع، وإنّما يعود نفعه إلى المدعوّين، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقاً بل في حال لاتنفقون إلّا ابتغاء وجه الله، فقوله: ولا تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب وعامله متعلّق الظرف أعني قوله:

٤٢١

فلأنفسكم.

ولمّا أمكن أن يتوهّم أنّ هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرّد اسم لا مسمّى له في الخارج، وليس حقيقته إلّا تبديل الحقيقة من الوهم عقّب الكلام بقوله: وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون، فبيّن أنّ نفع هذا الإنفاق المندوب وهو ما يترتّب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس أمراً وهميّاً، بل هو أمر حقيقيّ واقعيّ سيوفّيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.

وإبهام الفاعل في قوله: يوفّ إليكم، لما تقدّم أنّ السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنّه كلام لا متكلّم له، فلو كان هناك نفع فلسا معه لا غير.

قوله تعالى: ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية، الحصر هو المنع والحبس، والأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات: والحصر والإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدوّ، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلّا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن اُحصرتم فمحمول على الأمرين وكذلك قوله: للفقراء الّذين اُحصروا في سبيل الله، وقوله عزّوجلّ: أو جائوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى. والتعفّف التلبّس بالعفّة، والسيماء العلامة، والإلحاف هو الإلحاح في السؤال.

وفي الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الّذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك: إمّا عدوّ أخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيّش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.

وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفّف دلالة على أنّهم غير متظاهرين بالفقر إلّا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.

٤٢٢

ومن هنا يظهر: أنّ المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافاً أنّهم لا يسألون الناس أصلاً حتّى ينجرّ إلى الإلحاف والإصرار في السؤال، فإنّ السؤال أوّل مرّة يجوّز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر وتهمّ بالسؤال في كلّ موقف، والإلحاف على كلّ أحد، كذا قيل، ولا يبعد أن يكون المراد نفى الإلحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإنّ مسمّى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربّما صار واجباً، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم.

وفي قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الّذي تستّروا به تعفّفاً من الانهتاك فإنّ كونهم معروفين بالفقر عند كلّ أحد لا يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلّهم. وأمّا معرفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحالهم بتوسّمه من سيماهم، وهو نبيّهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا ذهاب كرامتهم، وهذا - والله أعلم - هو السرّ في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) إلى آخر الآية، السرّ والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرّين ومعلنين، واستيفاء الأزمنة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلّى الله سبحانه منهم فوعدهم وعداً حسناً بلسان الرأفة والتلطّف فقال: لهم أجرهم عند ربّهم الخ.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء الآية، أخرج ابن ماجه عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهليّ و عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وعمران بن حصين كلّهم يحدّث عن رسول الله أنّه قال: ح، وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من

٤٢٣

أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكلّ درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكلّ درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثمّ تلا هذه الآية: والله يضاعف لمن يشاء.

وفي تفسير العيّاشيّ ورواه البرقيّ أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم الّتي تعملونها لثواب الله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن عمر بن مسلم قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم الّتي تعملونها لثواب الله، قلت: وما الإحسان؟ قال: إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوقّ ما فيه فساد صومك، وإذا حججت فتوقّ كلّ ما يحرم عليك في حجّتك وعمرتك، قال: وكلّ عمل تعمله فليكن نقيّاً من الدنس.

وفيه عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: أرأيت المؤمن له فضل على المسلم في شئ من المواريث والقضايا والأحكام حتّى يكون للمؤمن أكثر ممّا يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحداً إذا حكم الإمام عليهما، ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وزعمت أنّهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمن؟ قال: فقال: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة؟ فالمؤمنون هم الّذين يضاعف لهم الحسنات، لكلّ حسنة سبعين ضعفاً، فهذا من فضيلتهم، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحّة إيمانه اضعافاً مضاعفة كثيرةً ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء.

اقول: وفي هذا المعنى اخبار اُخر وهي مبتنية جميعاً على الأخذ بإطلاق قوله تعالى: والله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، والأمر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، ولا يكون المورد مخصّصاً ولا مقيّداً، وإذا كانت

٤٢٤

الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقاً بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره، ويكون المعنى: والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكلّ محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقلّ كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، ولا ينافي هذا ما تقدّم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لأنّ الّذي نفينا هناك إنّما هو تقييده بالمنفقين، والمعنى الّذي تدلّ عليه الرواية نفى التقييد. وقولهعليه‌السلام : أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحداهما: هذه الآية من سوره البقرة، والاُخرى: قوله تعالى:( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة - ٢٤٥، وممّا يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين وترتّب الثواب عليها، وسيجئ البحث عنها في قوله تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ ) الآية النساء - ٩٨.

وفي المجمع قال: والآية عامّة في النفقة في جميع ذلك (يشير إلى الجهاد وغيره من أبواب البرّ) وهو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق في المصنّف عن أيّوب قال: أشرف على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من رأس تلّ، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أو ليس في سبيل الله إلّا من قتل؟ ثمّ قال: من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكف به والديه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكفّ به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكفّ به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان.

وفيه أيضاً أخرج ابن المنذر والحاكم وصحّحه: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل البراء ابن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على اُمّك؟ وكان موسّعاً على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها؟ قال: فإنّ نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك منّاً ولا أذىّ.

أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، وفيها أنّ كلّ عمل

٤٢٥

يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، وكلّ نفقة في سبيل الله فهي صدقة.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية عن الصادقعليه‌السلام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثمّ أذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادقعليه‌السلام : والصفوان هي الصخرة الكبيرة الّتي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنّة بربوة الآية وابل أي مطر، والطلّ ما يقع بالليل على الشجر والنبات، وقال في قوله تعالى: إعصار فيه نار الآية الإعصار الرياح.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات الآية، أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم، قال: من الذهب والفضّة وممّا أخرجنا لكم من الأرض، قال: يعني من الحبّ والتمر وكلّ شئ عليه زكاة.

وفيه أيضاً أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذيّ وصحّحه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصحّحه والبيهقيّ في سننه عن البراء بن عازب في قوله، ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلّته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلّقه في المسجد وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممّن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل الله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) قال: لو أنّ أحدكم اُهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه إلّا عن إغماض وحياء، قال: فكنّا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قول الله: يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان

٤٢٦

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجئ قوم بألوان من التمر وهو من أردئ التمر، يؤدّونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى، وكان بعضهم يجئ بها عن التمر الجيّد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا تجيئوا منها بشئ وفي ذلك نزل: ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه، والإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين، وفي رواية اُخرى عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى: أنفقوا من طيّبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهليّة فلمّا أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها، فأبى الله تبارك وتعالى إلّا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.

اقول: وفي هذا المعنى أخبار كثيرة من طرق الفريقين.

وفي تفسير القمّيّ في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: إنّ الشيطان يقول لا تنفقوا فإنّكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً أي يغفر لكم إن أنفقتم لله وفضلاً يخلف عليكم.

وفي الدرّ المنثور أخرج الترمذيّ وحسّنه والنسائيّ وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبّان والبيهقيّ في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة: فأمّا لمّة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ. وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من الله فليحمد الله، ومن وجد الاُخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ثمّ قرء: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية.

وفي تفسير العيّاشيّ أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى: ومن يؤتى الحكمة فقد اُوتي خيراً كثيراً قال: المعرفة.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام : إنّ الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام : في الآية: قال: طاعة الله ومعرفه الإمام.

اقول: وفي معناه روايات اُخر وهي من قبيل عدّ المصداق.

وفي الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن بعض أصحابنا

٤٢٧

رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قسّم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتّى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول اُمّته، وما يضمر النبيّ في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدّى العبد فرائض الله حتّى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم اُولوا الألباب، قال الله تبارك وتعالى: وما يتذكّر إلّا اُولوا الألباب.

وعن الصادقعليه‌السلام قال: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ولو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت، قال الله عزّوجلّ: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقد اُوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلّا اُولوا الألباب.

اقول: وفي قوله تعالى: وما أنفقتم الآية في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إنشاء الله.

وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق عن ابن عبّاس وابن جبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم: أنّ رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام وأنّ المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفّار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.

اقول: قد مرّ أنّ قوله: هداهم إنّما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفّار فالآية أجنبيّة عمّا في الروايات من قصّة النزول، على أنّ تعيين المورد في قوله: للفقراء الّذين اُحصروا الآية لا يلائمه كثير ملائمة، وأمّا مسألة الإنفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكوة، إنّ الزكاة علانية غير سرّ.

وفيه عنهعليه‌السلام : كلّ ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان تطوّعاً فإسراره أفضل من إعلانه.

٤٢٨

اقول: وفي معنى الحديثين أحاديث اُخرى وقد تقدّم ما يتّضح به معناها.

وفي المجمع في قوله تعالى: للفقراء الّذين اُحصروا في سبيل الله الآية قال قال أبو جعفرعليه‌السلام نزلت الآية في أصحاب الصفّة، قال: وكذلك رواه الكلبيّ عن ابن عبّاس، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا نخرج في كلّ سريّة يبعثها رسول الله، فحثّ الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : إنّ الله يبغض الملحف.

وفي المجمع في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عبّاس نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كانت معه أربعة دراهم، فتصدّق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سرّاً وبواحد علانية فنزل، الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية، قال الطبرسيّ: وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام .

اقول: وروي هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره، والمفيد في الاختصاص، والصدوق في العيون.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبرانيّ وابن عساكر من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عبّاس في قوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية قال: نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً وسرّاً درهماً وعلانية درهماً.

في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب في المناقب عن ابن عبّاس والسديّ ومجاهد والكلبيّ وأبي صالح والواحديّ والطوسيّ والثعلبيّ والطبرسيّ والماورديّ والقشيريّ والثماليّ والنقّاش والفتّال وعبدالله بن الحسين وعليّ بن حرب الطائيّ في تفاسيرهم: أنّه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضّة فتصدّق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سرّاً وبواحد علانية فنزل: الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فسمّى

٤٢٩

كلّ درهم مالاً وبشّره بالقبول.

وفي بعض التفاسير: أنّ الآية نزلت في أبي بكر تصدّق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسرّ وعشرة بالعلانية.

اقول: ذكر الآلوسيّ في تفسيره في ذيل هذا الحديث: أنّ الإمام السيوطيّ تعقّبه بأنّ خبر تصدّقه بأربعين ألف دينار إنّما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة وليس فيه ذكر من نزول الآية، وكأنّ من ادّعى ذلك فهمه ممّا أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق، قال: لمّا قبض أبوبكر واستخلف عمر خطّاب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال: أيّها الناس إنّ بعض الطمع فقر، وإنّ بعض اليأس غنى، وإنّكم تجمعون مالا تأكلون، وتؤمّلون ما لا تدركون، واعلموا أنّ بعض الشحّ شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية؟ وقرء الآية الكريمة وأنت تعلم أنّها لا دلالة فيها على نزولها في حقّه، انتهى.

وفي الدرّ المنثور بعدّة طرق عن أبي أمامة وأبي الدرداء وابن عبّاس وغيرهم أنّ الآية نزلت في أصحاب الخيل.

اقول: والمراد بهم المرابطون الّذين ينفقون على الخيل ليلاً ونهاراً، لكنّ لفظ الآية أعني قوله: سرّاً وعلانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في الإنفاق على الخيل أصلاً.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج المسيّب: الّذين ينفقون الآية كلّها في عبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفّان في نفقتهم في جيش العسرة.

اقول: والإشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الإشكال في سابقه.

٤٣٠

( سورة البقرة آية ٢٧٥ - ٢٨١)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢٧٥ ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( ٢٧٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٢٧٧ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ٢٧٨ ) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( ٢٧٩ ) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٨٠ ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٢٨١ )

( بيان)

الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا والتشديد على المرابين وليست مسوقة للتشريع الابتدائيّ، كيف ولسانها غير لسان التشريع؟ وإنّما الّذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران - ١٣٠، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، وسياق الآية يدلّ على أنّ المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهى السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، وترك ما للغرماء

٤٣١

في ذمّة المدينين من الربا، ومن هنا يظهر معنى قوله: فمن جائه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله الآية على ما سيجئ بيانه.

وقد تقدّم على ما في سورة آل عمران من النهى قوله تعالى في سورة الروم وهي مكّيّة:( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الروم - ٣٩، ومن هنا يظهر أنّ الربا كان أمراً مرغوباً عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتّى تمّ أمر النهى عنه في سورة آل عمران، ثمّ اشتدّ أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع الّتي يدلّ سياقها على تقدّم نزول النهى عليها، ومن هنا يظهر: أنّ هذه الآيات إنّما نزلت بعد سورة آل عمران.

على أنّ حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله:( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) النساء - ١٦١، ويشعر به قوله: - حكاية عنهم -( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران - ٧٥، مع تصديق القرآن لكتابهم وعدم نسخ ظاهر كانت تدلّ على حرمته في الإسلام.

والآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقوله: وأن تصدّقوا خير لكم، وكذا ما وقع من ذكره في سورة الروم وفي سورة آل عمران مقارناً لذكر الإنفاق والصدقة والحثّ عليه والترغيب فيه.

على أنّ الاعتبار أيضاً يساعد الارتباط بينهما بالتضادّ والمقابلة، فإنّ الربا أخذ بلا عوض كما أنّ الصدقة إعطاء بلا عوض، والآثار السيّئة المترتّبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتّبة على الصدقة وتحاذيها على الكلّيّة من غير تخلّف واستثناء، فكلّ مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة والمحبّة، وإقامة أصلاب المساكين والمحتاجين، ونماء المال، وانتظام الأمر واستقرار النظام والأمن في الصدقة وخلاف ذلك في الربا.

وقد شدّد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدّد بمثله في شئ

٤٣٢

من فروع الدين إلّا في تولّي أعداء الدين، فإنّ التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، وأمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدّد القول فيها فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتّى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم، وما هو أعظم منها كقتل النفس الّتي حرم الله والفساد، فجميع ذلك دون الربا وتولّي أعداء الدين.

وليس ذلك إلّا لأنّ تلك المعاصي لا تتعدّى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤمة، ولا تسري إلّا إلى بعض جهات النفوس، ولا تحكم إلّا في الأعمال والأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإنّ لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين ويعفى أثره، ويفسد به نظام حياة النوع، ويضرب الستر على الفطرة الإنسانيّة ويسقط حكمها فيصير نسياً منسيّاً على ما سيتّضح إنشاء الله العزيز بعض الاتّضاح.

وقد صدّق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدّد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة والتولّي والتحابّ والتمائل إلى أعداء الدين الاُمم الإسلاميّة في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم، لا يملكون مالاً ولا عرضاً ولا نفساً، ولا يستحقّون موتاً ولا حياةً، فلا يؤذن لهم فيموتوا، ولا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، وهجرهم الدين، وارتحلت عنهم عامّة الفضائل.

وحيث ساق أكل الربا إلى ادّخار الكنوز وتراكم الثروة والسودد فجّر ذلك إلى الحروب العالميّة العامّة، وانقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد والمعدم الشقيّ، وبان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، ويزلزل الأرض، ويهدّد الإنسانيّة بالانهدام، والدنيا بالخراب، ثمّ كان عاقبة الّذين أسائوا السوآى.

وسيظهر لك إنشاء الله تعالى أنّ ما ذكره الله تعالى من أمر الربا وتولّي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) ، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختلّ جهة مشيه، وللإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنّه لا محالة ذو أفعال

٤٣٣

وحركات في طريق حياته بحسب المحيط الّذي يعيش فيه، وهذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقاديّة عقلائيّة وضعها ونظّمها الإنسان ثمّ طبّق عليها أفعاله الانفراديّة والإجتماعيّة، فهو يقصد الأكل إذا جاع، ويقصد الشرب إذا عطش، والفراش إذا اشتهى النكاح، والاستراحة إذا تعب، والاستظلال إذا أراد السكن وهكذا، وينبسط لاُمور وينقبض عن اُخرى في معاشرته، ويريد كلّ مقدّمة عند إرادة ذيها، وإذا طلب مسبّباً مال إلى جهة سببه.

وهذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متّحدة نحو اتّحاد متلائمة غير متناقضة ومجموعها طريق حياته.

وإنّما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوّة مودوعة فيه هي القوّة المميّزة بين الخير والشرّ والنافع والضارّ والحسن والقبيح وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.

وأمّا الإنسان الممسوس وهو الّذي اختلّت قوّته المميّزة فهو لا يفرّق بين الحسن والقبيح والنافع والضارّ والخير والشرّ، فيجري حكم كلّ مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنّه ناس لمعنى الحسن والقبح وغيرهما فإنّه بالأخرة إنسان ذو إرادة، ومن المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانيّة بل لأنّه يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً والخير والنافع شرّاً وضارّاً وبالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام وتعيين الموارد.

وهو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العاديّ عاديّاً دون العكس فإنّ لازم ذلك أن يكون عنده آراء وأفكار منتظمة ربّما طبّقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختلّ عنده حكم العادة وغيره وصار ما يتخيّله ويريده هو المتّبع عنده، فالعاديّ وغير العاديّ عنده على حدّ سواء كالناقة تخبط وتضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلّا مثل خلاف العادة من غير مزيّة لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.

وهذا حال المرابي في أخذه الربا (إعطاء الشئ وأخذ ما يماثله وزيادة بالأجل)

٤٣٤

فإنّ الّذي تدعو إليه الفطرة ويقوم عليه أساس حياة الإنسان الإجتماعيّة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الّذي يستغنى عنه ممّا عند غيره من المال الّذي يحتاج إليه، وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شئ ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك ينجرّ من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي، فإنّ هذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو بالانتفاص والانفصال من جانب، والزيادة والانضمام إلى جانب آخر.

وينجرّ من جانب المدين المؤدّي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شئ مع تزايد الحاجة وكلّما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه، وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضادّ التوازن والتعادل الاجتماعيّ ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنسانيّ الّذي هدته إليه الفطرة الإلهيّة.

وهذا هو الخبط الّذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإنّ المراباة يضطرّه أن يختلّ عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع أجاب أنّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزيّة، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع، ولذلك استدلّ تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنّما البيع مثل الربا.

ومن هذا البيان يظهر:أولا: أنّ المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقوم إلّا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة والقيام بأمر المعيشة فإنّه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى:( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد - ٢٥، وقال تعالى:( أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) الروم - ٢٥، وقال تعالى:( وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ) النساء - ١٢٧، وأمّا كون المراد به المعنى المقابل للقعود فممّا لا يناسب المورد، ولا يستقيم عليه معنى الآية.

وثانياً: أنّ المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات الّتي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسّرين، فإنّ ذلك

٤٣٥

لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، وهو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع والربا، وبناء عمله عليه، ومحصّله أفعال اختياريّة صادرة عن اعتقاد خابط، وكم من فرق بينهما وبين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة.

وثالثاً: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا، ولم يقل: إنّما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن وسيجئ توضيحه.

ورابعاً: أنّ التشبيه أعني قوله: الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ لا يخلو عن إشعار بجواز تحقّق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإنّ الآية وإن لم تدلّ على أنّ كلّ جنون هو من مسّ الشيطان لكنّها لا تخلو عن إشعار بأنّ من الجنون ما هو بمسّ الشيطان، وكذلك الآية وإن لم تدلّ على أنّ هذا المسّ من فعل إبليس نفسه فإنّ الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس وعلى شرار الجنّ وشرار الإنس، وإبليس من الجنّ، فالمتيقّن من إشعار الآية أنّ للجنّ شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلّهم.

وما ذكره بعض المفسّرين أنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرّف الجنّ في المجانين، ولا ضير في ذلك لأنّه مجرّد تشبيه خال عن الحكم حتّى يكون خطاء غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أنّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مسّ الشيطان فأمر غير ممكن لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.

ففيه: أنّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ولغو القول بأيّ نحو كان من الاستناد إلّا مع بيان بطلانه وردّه على قائله، وقد قال تعالى: في وصف كلامه

٤٣٦

( َكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) فصّلت - ٤٢، وقال تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق - ١٤.

وأمّا أنّ استناد الجنون إلى تصرّف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعيّة، فإنّها أيضاً مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.

على أنّه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إيّاه إشكال لأنّ التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، وإنّما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقليّ عن مجرى الحقّ وسنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحاً وبالعكس، أو يرى الحقّ باطلاً وبالعكس جزافاً بتصرّف من الشيطان، فهذا هو الّذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، وأمّا ذهاب القوّة المميّزة وفساد حكمها تبعاً لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء اُسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.

على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعيّة كاختلال الأعصاب والآفة الدماغيّة أسباب قريبة ورائها الشيطان، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلّل الأسباب الطبيعيّة في البين، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيّوبعليه‌السلام إذ قال:( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) ص - ٤١، وإذ قال:( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) الأنبياء - ٨٣، والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعيّة إلى الشيطان.

وهذا وما يشبهه، من الآراء المادّيّة الّتي دبّت في أذهان عدّة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث أنّ أصحاب المادّة لمّا سمعوا الإلهيّين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أنّ ذلك إبطال للعلل الطبيعيّة وإقامة لماوراء الطبيعة مقامها، ولم يفقهوا أنّ المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مراراً.

٤٣٧

وخامساً: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسّرين: أنّ المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة وأنّهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الّذي يتخبّطه الجنون. ووجه الفساد أنّ ظاهر الآية على ما بيّنا لا يساعد هذا المعنى، والرواية لا تجعل للآية ظهوراً فيما ليست بظاهرة فيه، وإنّما تبيّن حال آكل الربا يوم القيامة.

قال في تفسير المنار: وأمّا قيام آكل الربا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ فقد قال ابن عطيّة في تفسيره: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبّط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جُنّ.

اقول: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه وقالوا: إنّ المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، وأنّ الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنّهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عبّاس وابن مسعود بل روى الطبرانيّ من حديث عوف بن مالك مرفوعاً إيّاك والذنوب الّتي لا تغفر: الغلول فمن غلّ شيئاً اُتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبّط.

ثمّ قال: والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطيّة لأنّه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، ولا قرينة تدلّ على أنّ المراد به البعث، وهذه الروايات لا يسلم منها شئ من قول في سنده، وهي لم تنزل مع القرآن، ولا جاء المرفوع منها مفسّراً للآية، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الّذي قال به ابن عطيّة إلّا من لم يظهر له صحّته في الواقع.

ثمّ قال: وكان الوضّاعون الّذين يختلقون الروايات يتحرّون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسّرونه بها، وقلّما يصحّ في التفسير شئ، انتهى ما ذكره.

ولقد أصاب فيما ذكره من خطائهم لكنّه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أمّا ما قاله ابن عطيّة فهو ظاهر في نفسه فإنّ أولئك الّذين فتنهم المال واستعبدهم حتّى ضربت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصوداً لذاته، وتركوا

٤٣٨

لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعيّ تخرج نفوسهم عن الاعتدال الّذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلّبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم، حتّى يكون خفّة تعقبها حركات غير منتظمة. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبّط الممسوس فإنّ التخبّط من الخبط وهو ضرب غير منتظم وكخبط العشواء، انتهى.

فإنّ ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال والانتظام وإن كان في نفسه صحيحاً لكن لا هو معلول أكل الربا محضاً، ولا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أمّا الأوّل فإنّما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبوديّة وإخلادهم إلى لذائذ المادّة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفّة الدينيّة والوقار النفسانيّ، وتأثّرت نفوسهم عن كلّ لذّة يسيرة مترائية من المادّة، وتعقّب ذلك اضطراب حركاتهم، وهذا مشاهد محسوس من كلّ من حاله الحال الّذي ذكرنا وإن لم يمسّ الربا طول حياته.

وأمّا الثاني فلأنّ الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإنّ الله سبحانه يحتجّ على كونهم خابطين في قيمهم بقوله: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا، ولو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم وفساد النظم في أعمالهم. فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ، قد تقدّم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنّما الربا مثل البيع فإن من استقرّ به الخبط والاختلال كان واقفاً في موقف خارج عن العادة المستقيمة، والمعروف عند العقلاء والمنكر عندهم سيّان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر والرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - أنّ الّذي تأمرني به كالّذي تنهاني عنه لا مزيّة له عليه، ولو قال: إنّ الّذي تنهاني عنه كالّذي تأمرني به كان عاقلاً غير مختلّ الإدراك فإنّ معنى هذا القول: أنّه يسلّم أنّ الّذي يؤمر به أصل ذو مزيّة يجب اتّباعه لكنّه يدّعي أنّ الّذي ينهي عنه

٤٣٩

ذو مزيّة مثله، ولم يكن معنى كلامه إبطال المزيّة وإهماله كما يراه الممسوس، وهذا هو قول المرابي المستقرّ في نفسه الخبط، إنّما البيع مثل الربا، ولو أنّه قال: إنّ الربا مثل البيع لكان رادّاً على الله جاحداً للشريعة لا خابطاً كالممسوس.

والظاهر أنّ قوله تعالى: ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك وإن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، وهذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.

وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بقولهم: إنّما البيع مثل الربا نظمهما في سلك واحد، وإنّما قلبوا التشبيه وجعلوا الربا أصلاً وشبّهوا به البيع للمبالغة كما في قوله:

ومهمّه مغبرّة أرجاؤه

كأنّ لون أرضه سماؤه

وكذا فساد ما ذكره آخرون: أنّه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بنائاً على ما فهموه: أنّ البيع إنّما حلّ لأجل الكسب والفائدة، وذلك في الربا متحقّق وفي غيره موهوم. ووجه الفساد ظاهر ممّا تقدّم.

قوله تعالى: ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، جملة مستأنفة بنائاً على أنّ الجملة الفعليّة المصدّرة بالماضي لو كانت حالاً لوجب تصديرها بقد. يقال: جائني زيد وقد ضرب عمراً، ولا يلائم كونها حالاً ما يفيده أوّل الكلام من المعنى، فإنّ الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحقّقه، فلو كانت حالاً لإفادت: أنّ تخبّطهم لقولهم إنّما البيع مثل الربا إنّما هو في حال أحلّ الله البيع وحرّم الربا عليهم، مع أنّ الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلّيّة والحرمة وقبل تشريعهما، فالجملة ليست حاليّة وإنّما هي مستأنفة.

وهذه المستأنفة غير متضمّنة للتشريع الابتدائيّ على ما تقدّم أنّ الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدلّ عليها آية آل عمران:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) آل عمران - ١٣٠، فالجملة أعني قوله: وأحلّ الله الخ لا تدلّ على إنشاء الحكم، بل على الإخبار

٤٤٠