الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118214
تحميل: 6043


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118214 / تحميل: 6043
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن حكم سابق وتوطئة لتفرّع قوله بعدها: فمن جائه موعظة من ربّه الخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.

وقد قيل: إنّ قوله: وأحلّ الله البيع وحرّم الربا مسوق لإبطال قولهم: إنّما البيع مثل الربا، والمعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أنّ الله أحلّ أحدهما وحرّم الآخر.

وفيه أنّه وإن كان استدلالاً صحيحاً في نفسه لكنّه لا ينطبق على لفظ الآية فإنّه معنى كون الجملة، وأحلّ الله الخ، حاليّة وليست بحال.

وأضعف منه ما ذكره آخرون: أنّ معنى قوله: وأحلّ الله الخ أنّه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأنّي أحللت البيع وحرّمت الربا، والأمر أمري، والخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، واستعبدهم بما اُريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي.

وفيه: أنّه أيضاً مبنيّ على أخذ الجملة حاليّة لا مستأنفة، على أنّه مبنيّ على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد ارتباط السببيّة والمسببيّة، وبعبارة اُخرى على نفى العلّيّة والمعلوليّة بين الأشياء وإسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، والضرورة تبطله، على أنّه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه وشرائعه بمصالح خاصّة أو عامّة، على أنّ قوله في ضمن هذه الآيات: وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين الآية، وقوله: لا تظلمون الآية، وقوله: إنّ الّذين يأكلون الربا إلى قوله مثل الربا، تدلّ على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جارياً على سنّة الفطرة والخلقة ولتحريم الربا بكونه خارجاً عن سنن الاستقامة في الحياة، وكونه منافياً غير ملائم للإيمان بالله تعالى، وكونه ظلماً.

قوله تعالى: ( فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ) ، تفريع على قوله: وأحلّ الله البيع الخ، والكلام غير مقيّد بالربا، فهو حكم كلّيّ وضع في مورد جزئيّ للدلالة على كونه مصداقاً من مصاديقه يلحقه حكمه، والمعنى: أنّ ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جائتكم من ربّكم ومن جائه موعظة الخ

٤٤١

فإن انتهيتم فلكم ما سلف وأمركم إلى الله.

ومن هنا يظهر: أنّ المراد من مجئ الموعظة بلوغ الحكم الّذي شرّعه الله تعالى، ومن الانتهاء التوبة وترك الفعل المنهيّ عنه انتهائاً عن نهيه تعالى: ومن كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم وشموله لما قبل زمان بلوغه، ومن قوله: فله ما سلف وأمره إلى الله، أنّه لا يتحتّم عليهم العذاب الخالد الّذي يدلّ عليه قوله: ومن عاد فاُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلّص من هذه المهلكة، ويبقى عليهم: أنّ أمرهم إلى الله فربّما أطلقهم في بعض الأحكام، وربّما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوّتوه.

واعلم: أنّ أمر الآية عجيب، فإنّ قوله: فمن جائه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل والتشديد حكم غير خاصّ بالربا، بل عامّ يشمل جميع الكبائر الموبقة، والقوم قد قصّروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصّة من حيث العفو عمّا سلف منه، ورجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، وخلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيئ الموعظة، هذا كلّه مع ما تراه من العموم في الآية.

إذا علمت هذا ظهر لك: أنّ قوله: فله ما سلف وأمره إلى الله لا يفيد إلّا معنى مبهماً يتعيّن بتعيّن المعصية الّتي جاء فيها الموعظة ويختلف باختلافها، فالمعنى: أنّ من انتهى عن موعظة جائته فالّذي تقدّم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنّه لا يؤاخذ بعينها لكنّه لا يوجب تخلّصه من تبعاته أيضاً كما تخلّص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة والصوم المنقوض وموارد الحدود والتعزيرات وردّ المال المحفوظ المأخوذ غصباً أو رباً وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وإن شاء عفى عن الذنب ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه ومن عصى بنحو شرب الخمر واللهو فيما بينه وبين الله ونحو ذلك، فإنّ قوله: فمن جائه موعظة من ربّه وانتهى، مطلق يشمل الكافرين والمؤمنين في أوّل التشريع وغيرهم من التابعين وأهل

٤٤٢

الأعصار اللاحقة.

وأمّا قوله: ومن عاد فاُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدلّ على أنّ المراد به العود الّذي يجامع عدم الانتهاء، ويلازم ذلك الإصرار على الذنب وعدم القبول للحكم وهذا هو الكفر أو الردّة باطناً ولو لم يتلفّظ في لسانه بما يدلّ على ذلك، فإنّ من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم فهو غير مسلّم للحكم تحقيقاً ولا يفلح أبداً. فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الّذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة وبين الإصرار الّذي لا يخلو غالباً عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.

ومن هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب. فإنّ الآية وإن دلّت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم ولا محذور فيه.

وقد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، وفي قوله: وأمره إلى الله، وقوله: ومن عاد الخ وجوه من المعاني والاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدّم لكنّا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشأ.

قوله تعالى: ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) الخ، المحق نقصان الشئ حالاً بعد حال، ووقوعه في طريق الفناء والزوال تدريجاً، والإرباء الإنماء، والأثيم الحامل للإثم، وقد مرّ معنى الإثم.

وقد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات ومحق الربا، وقد تقدّم أنّ إرباء الصدقات وإنّمائها لا يختصّ بالآخرة بل هي خاصّة لها عامّة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضاً كذلك لا محالة.

فكما أنّ من خاصّة الصدقات أنّها تنمي المال إنمائاً يلزمها ذلك لزوماً قهريّا لا ينفكّ عنها من حيث أنّها تنشر الرحمة وتورث المحبّة وحسن التفاهم وتألّف القلوب وتبسط الأمن والحفظ، وتصرّف القلوب عن أن تهمّ بالغضب والاختلاس والإفساد

٤٤٣

والسرقة، وتدعو إلى الاتّحاد والمساعدة والمعاونة، وتنسدّ بذلك أغلب طرق الفساد والفناء الطارئة على المال، ويعين جميع ذلك على نماء المال ودرّه أضعافاً مضاعفة.

كذلك الربا من خاصّته أنّه يمحق المال ويفنيه تدريجاً من حيث أنّه ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة وسوء الظنّ، ويفسد الأمن والحفظ، ويهيّج النفوس على الانتقام بأيّ وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرةً أو تسبيباً، وتدعو إلى التفرّق والاختلاف، وتنفتح بذلك أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال، وقلّما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بليّة تعمّه.

وكلّ ذلك لأنّ هذين الأمرين أعني الصدقة والربا مربوطان مماسّان بحياة طبقة الفقراء والمعوزين وقد هاجت بسبب الحاجة الضروريّة إحساساتهم الباطنيّة، واستعدّت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلّة، وهمّوا بالمقابلة بالغاً ما بلغت، فإن اُحسن إليهم بالصنيعة والمعروف بلا عوض - والحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان وحسن النيّة وأثّرت الأثر الجميل، وإن اُسئ إليهم بإعمال القسوة والخشونة وإذهاب المال والعرض والنفس قابلوها بالانتقام والنكاية بأيّ وسيلة، وقلّما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كلّ أحد ممّا شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم وخراب بيوتهم وخسران مساعيهم.

ويجب عليك: أن تعلمأوّلا: أنّ العلل والأسباب الّتي تبنى عليها الاُمور والحوادث الإجتماعيّة اُمور أغلبيّة الوجود والتأثير، فإنّا إنّما نريد بأفعالنا غاياتها ونتائجها الّتي يغلب تحقّقها، ونوجد عند إرادتها أسبابها الّتي لا تنفكّ عنها مسبّباتها على الأغلب لا على الدوام، ونلحق الشاذّ النادر بالمعدوم، وأمّا العلل التامّة الّتي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصّة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقيّة الباحثة عن الحقائق الخارجيّة.

والتدبّر في آيات الأحكام الّتي ذكر فيها مصالح الأفعال والأعمال ومفاسدها ممّا يؤدّي إلى السعادة والشقاوة يعطي أنّ القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال

٤٤٤

وبناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك ويضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.

وثانياً: أنّ المجتمع كالفرد والأمر الاجتماعيّ كالأمر الانفراديّ متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلّاً منهما بحسب الوجود، فكما أنً للفرد حياة وعمراً وموتاً مؤجّلاً وأفعالاً وآثاراً فكذلك المجتمع في حياته وموته وعمره وأفعاله وآثاره. وبذلك ينطق القرآن كقوله تعالى:( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) الحجر - ٥.

وعلى هذا فلو تبدّل وصف أمر من الاُمور من الفرديّة إلى الإجتماعيّة تبدّل نحو بقائه وزواله وأثره. فالعفّة والخلاعة الفرديّة حالكونهما فرديّين لهما نوع من التأثير في الحياة فإنّ ركوب الفحشاء مثلاً يوجب نفرة الناس عن الإنسان والاجتناب عن ازدواجه وعن مجالسته وزوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمراً فرديّاً والمجتمع على خلافه، وأمّا إذا صار اجتماعيّاً معروفاً عند العامّة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنّها كانت تبعات الإنكار العموميّ والاستهجان العامّ للفعل وقد أذهبه التداول والشياع لكنّ المفاسد الطبيعيّة كانقطاع النسل والأمراض التناسليّة والمفاسد الاُخر الإجتماعيّة الّتي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب واختلالها وفساد الانشعابات القوميّة والفوائد الإجتماعيّة المترتّبة على ذلك مترتّبة عليه لا محالة. وكذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديّاً مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيّاً من حيث السرعة والبطؤ.

إذا عرفت ذلك علمت: أنّ محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلاً انفراديّاً كالربا القائم بالشخص فإنّه يهلك صاحبه غالباً، وقلّ ما يسلم منه مراب لوجود أسباب وعوامل خاصّة تدفع عن ساحة حياته الفناء والمذلّة، وبين ما كان فعلاً اجتماعيّاً كالربا الدائر اليوم الّذي يعرفه الملل والدول بالرسميّة، ووضعت عليها القوانين، واُسّست عليها البنوج فإنّه يفقد بعض صفاته الفرديّة لرضى الجامعة بما شاع فيها وتعارف بينها وانصراف النفوس عن التفكّر

٤٤٥

في معائبه لكنّ آثاره اللازمة كتجمّع الثروة العموميّة وتراكمها في جانب، وحلول الفقر والحرمان العموميّ في جانب آخر، وظهور الانفصال والبينونة التامّة بين القبيلين: الموسرين والمعسرين ممّا لا ينفكّ عن هذا الربا وسوف يؤثّر أثره السيّئ المشؤم، وهذا النوع من الظهور والبروز وإن كنّا نستبطئه بالنظر الفرديّ، وربّما لم نعتن به لالحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنّه معجّل بالنظر الاجتماعيّ، فإنّ العمر الاجتماعيّ غير العمر الفرديّ، واليوم الاجتماعيّ ربّما عادل دهراً في نظر الفرد. قال تعالى:( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) آل عمران - ١٤٠، وهذا اليوم يراد به العصر الّذي ظهر فيه ناس على ناس، وطائفة على طائفة، وحكومة على حكومة، واُمّة على اُمّة، وظاهر أنّ سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.

والقرآن ليس يتكلّم عن الفرد ولا في الفرد وإن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيّماً على سعاده الإنسان: نوعه وفرده، ومهيمناً على سعادة الدنيا: حاضرها وغابرها.

فقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات يبيّن حال الربا والصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيّين أو فرديّين، والمحق من لوازم الربا لا ينفكّ عنه كما أنّ الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفكّ عنها، فالربا ممحوق وإن سمّي رباً والصدقة رباً رابية وإن لم تسمّ رباً، وإلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، وتوصيف الربا بوصف يضادّ اسمه بحسب المعنى وهو الانمحاق.

وبما مرّ من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أنّ محق الربا ليس بمعنى ابطال السعي وخسران العمل بذهاب المال الربويّ، فإنّ المشاهدة والعيان يكذّبه، وإنّما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإنّ المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذّة اليسر وطيب الحياة وهناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال ووضع درهم على درهم، ومبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوئاً، والهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس وبغض المعوزين

٤٤٦

له، ووجه ضعفه ظاهر.

وكذا ما ذكره آخرون: أنّ المراد به محق الآخرة وثواب الأعمال الّتي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو الّتي يبطلها التصرّف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنّه لا شكّ أنّ ما ذكروه من المحق لكنّه لا دليل على انحصاره في ذلك.

وكذا ضعف ما استدلّ به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: ومن عاد الخ، وقد مرّ ما يظهر به تقرير الاستدلال والدفع جميعاً.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) ، تعليل لمحق الربا بوجه كلّي، والمعنى أنّ آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطريّة في الحياة الإنسانيّة، وهي طرق المعاملات الفطريّة، وكفره بأحكام كثيرة في العبادات والمعاملات المشروعة، فإنّه بصرف مال الربا في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه يبطل كثيراً من عباداته بفقدان شرائط مأخوذه فيها، وباستعماله فيما بيده من المال الربويّ يبطل كثيراً من معاملاته، ويضمن غيره، ويغصب مال غيره في موارد كثيرة، وباستعمال الطمع والحرص في أموال الناس والخشونة والقسوة في استيفاء ما يعدّه لنفسه حقّاً يفسد كثيراً من اُصول الأخلاق والفضائل وفروعها، وهو أثيم مستقرّ في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبّه لأنّ الله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الخ، تعليل يبيّن به ثواب المتصدّقين والمنتهين عمّا نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عامّ ينطبق على المورد انطباقاً.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) خطاب للمؤمنين وأمر لهم بتقوى الله وهو توطئة لما يتعقّبه من الأمر بقوله وذروا ما بقي من الربا، وهو يدلّ على أنّه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، وله بقايا منه في ذمّة الناس من الربا فأمر بتركها، وهدّد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله الآية.

وهذا يؤيّد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائيّ الآتي.

٤٤٧

وفي تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أنّ تركه من لوازم الإيمان، وتأكيد لما تقدّم من قوله: ومن عاد الخ وقوله: إنّ الله لا يحبّ كلّ كفّار الخ.

قوله تعالى: ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) ، الإذن كالعلم وزناً ومعنىً، وقرء فآذنوا بالأمر من الإيذان، والباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين ونحوه، والمعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله ورسوله، وتنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، ونسبة الحرب إلى الله ورسوله لكونه مرتبطاً بالحكم الّذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل والتشريع ولرسوله فيه سهم بالتبليغ، ولو كان لله وحده لكان أمراً تكوينيّاً، وأمّا رسوله فلا يستقلّ في أمر دون الله سبحانه قال تعالى:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) آل عمران - ١٢٨.

والحرب من الله ورسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلّمه هو تحميل الحكم على من ردّه من المسلمين بالقتال كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ) الحجرات - ٩، على أنّ لله تعالى صنعاً آخر في الدفاع عن حكمه وهو محاربته إيّاهم من طريق الفطرة وهو تهييج الفطرة العامّة على خلافهم، وهي الّتي تقطع أنفاسهم، وتخرّب ديارهم، وتعفى آثارهم، قال تعالى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) الاسراء - ١٦.

قوله تعالى: ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) ، كلمة وإن تبتم، تؤيّد ما مرّ أنّ الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممّن كان يأخذ الربا وله بقايا على مدينيه ومعامليه، وقوله: فلكم رؤوس أموالكم أي اُصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا ولا تُظلمون بالتعدّي إلى رؤوس أموالكم، وفي الآية دلالة على إمضاء أصل الملكأوّلا: وعلى كون أخذ الربا ظلماً كما تقدّمثانياً: وعلى إمضاء أصناف المعاملات حيث عبّر بقوله رؤوس أموالكم والمال إنّما يكون رأساً إذا صرّف في وجوه المعاملات وأصناف الكسبثالثاً .

قوله تعالى: ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ) ، لفظة كان تامّة أي إذا

٤٤٨

وجد ذو عسرة، والنظرة المهلة، والميسرة اليسار، والتمكّن مقابل العُسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكّن من أداء دينه الحالّ فأنظروه وأمهلوه حتّى يكون متمكّناً ذا يسار فيؤدّي دينه.

والآية وإن كانت مطلقة غير مقيّدة لكنّها منطبقة على مورد الربا، فإنّهم كانوا إذا حلّ أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدّة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، والآية تنهى عن هذه الزيادة الربويّة ويأمر بالإنظار.

قوله تعالى: ( وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، أي وإن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدّقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنّكم حينئذ قد بدّلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقّاً.

قوله تعالى: ( اتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ) الخ، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم والجزاء بتذكير عامّ بيوم القيامة ببعض أوصافه الّذي يناسب المقام، ويهيّئ ذكره النفوس لتقوى الله تعالى والورع عن محارمه في حقوق الناس الّتي تتّكي عليه الحياة، وهو أنّ أمامكم يوماً ترجعون فيه إلى الله فتوفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.

وأمّا معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، ومعنى هذه التوفية فسيجئ الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إنشاء الله تعالى.

وقد قيل: إنّ هذه الآية: واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيجئ ما يدلّ عليه من الروايات في البحث الروائيّ التالي.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى: الّذين يأكلون الربا الآية، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا اُسري بي إلى السماء رأيت قوماً يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء الّذين يأكلون

٤٤٩

الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، وإذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوّاً وعشّياً، ويقولون ربّنا متى تقوم الساعة.

اقول: وهو مثال برزخيّ وتصديق لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون.

وفي الدرّ المنثور أخرج الإصبهانيّ في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجرّ شقّيه، ثمّ قرأ: لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ.

اقول: وقد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنّة، وفي بعضها أنّه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع اُمّه.

وفي التهذيب بإسناده عن عمر بن يزيد بيّاع السابريّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك إنّ الناس زعموا أنّ الربح على المضطرّ حرام فقال: وهل رأيت أحداً اشترى غنيّاً أو فقيراً إلّا من ضرورة؟ يا عمر قد أحلّ الله البيع وحرّم الربا، فاربح ولا ترب. قلت: وما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، وحنطة بحنطة مثلين بمثل.

وفي الفقيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يكون الربا إلّا فيما يكال أو يوزن.

اقول: وقد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال والّذي هو مذهب أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه إنّما يكون في النقدين وما يكال أو يوزن، والمسألة فقهيّة لا يتعلّق منها غرضنا إلّا بهذا المقدار.

وفي الكافي عن أحدهما وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: فمن جائه موعظة من ربّه فانتهى الآية، قال: الموعظة التوبة.

وفي التهذيب عن محمّد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبداللهعليه‌السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله ثمّ إنّه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شئ حتّى تردّه إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفرعليه‌السلام فقصّ عليه قصّته، فقال أبو جعفرعليه‌السلام مخرجك من كتاب الله عزّوجلّ: فمن جائه موعظة من ربّه فانتهى فله ما

٤٥٠

سلف و أمره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.

وفي الكافي والفقيه عن الصادقعليه‌السلام : كلّ رباً أكله الناس بجهالة ثمّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: وقال لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً وقد عرّف أنّ في ذلك المال رباً ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنّه له حلال فليأكله وإن عرف منه شيئاً معروفاً فليأخذ رأس ماله وليردّ الزيادة.

وفي الفقيه والعيون عن الرضاعليه‌السلام : هي كبيرة بعد البيان. قال: والاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

وفي الكافي: أنّه سئل عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنّه حلال قال: لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّداً، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة الّتي قال الله عزّوجلّ.

وفي الكافي والفقيه عن الصادقعليه‌السلام وقد سأل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا ويربي الصدقات الآية، وقيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأيّ محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر.

اقول: والرواية كما ترى تفسّر المحق بالمحق التشريعيّ أعني: عدم اعتبار الملكيّة والتحريم وتقابله الصدقة في شأنه، وهي لا تنافي ما مرّ من عموم المحق.

وفي المجمع عن عليّعليه‌السلام : أنّه قال: لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الربا خمسة: آكله وموكّله وشاهديه وكاتبه؟

اقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور بطرق عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير العيّاشيّ عن الباقرعليه‌السلام قال: قال الله تعالى: أنا خالق كلّ شئ وكّلت بالأشياء غيري إلّا الصدقة فإنّي أقبضها بيدي حتّى أنّ الرجل والمرأة يتصدّق بشقّ التمرة فاُربّيها له كما يربّي الرجل منكم فصيله وفلوه حتّى أتركه يوم القيامة أعظم من اُحد.

وفيه عن عليّ بن الحسينعليهما‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله ليربّي لأحدكم الصدقة كما يربّي أحدكم ولده حتّى يلقاه يوم القيامة وهو مثل اُحد.

اقول: وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنّة عن عدّة من الصحابة كأبي

٤٥١

هريره و عائشة وابن عمر وأبي برزة الأسلميّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي تفسير القمّيّ: أنّه لما أنزل الله: الّذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف وقد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربا الآية.

اقول: وروي قريباً منه في المجمع عن الباقرعليه‌السلام .

وفي المجمع أيضاً عن السدّيّ وعكرمة قالا: نزلت في بقيّة من الربا كانت للعبّاس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبيّ: ألا إنّ كلّ رباً من ربا الجاهليّة موضوع، وأوّل رباً أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب، وكلّ دم في الجاهليّة موضوع، وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب كان مرضعاً في بني ليث فقتله هذيل.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدّيّ إلّا أنّ فيه ونزلت في العبّاس بن عبد المطّلب ورجل من بني المغيرة.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابو داود والترمذيّ وصحّحه والنسائيّ وابن ماجة وابن أبي حاتم والبيهقيّ في سننه عن عمرو بن الأحوص: أنّه شهد حجّة الوداع مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ألا إنّ كلّ رباً في الجاهليّة موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.

اقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة، والمتحصّل من روايات الخاصّة والعامّة أنّ الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، وكانوا يربونهم في الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية.

وهذا يؤيّد ما قدّمناه في البيان: أنّ الربا كان محرّماً في الإسلام قبل نزول هذه الآيات ومبيّناً للناس، وأنّ هذه إنّما تؤكّد التحريم وتقرّره، فلا يعبأ ببعض ما روي أنّ حرمة الربا إنّما نزلت في آخر عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه قبض ولم يبيّن للناس

٤٥٢

أمر الربا كما في الدرّ المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب: أنّه خطب فقال: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وأنّه قد مات رسول الله ولم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لايريبكم.

على أنّ من مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّ الله تعالى لم يقبض نبيّه حتّى شرّع كلّ ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم وبيّن ذلك للناس نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الدرّ المنثور بطرق عديدة عن ابن عبّاس والسدّيّ وعطيّه العوفيّ وأبي صالح وسعيد بن جبير: أنّ آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى آخر الآية.

وفي المجمع عن الصادقعليه‌السلام : إنّما شدّد في تحريم الربا لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضاً أورفداً.

وفي المجمع أيضاً عن عليّعليه‌السلام إذا أراد الله بقرية هلاكاً ظهر فيهم الربا.

أقول: وقد مرّ في البيان السابق ما يتبيّن به معنى هذه الروايات.

وفيه: في قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: واختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد.

وفيه: أنّه أي إنظار المعسر واجب في كلّ دين عن ابن عبّاس والضحّاك والحسن وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبداللهعليهما‌السلام .

وفيه! قال الباقرعليه‌السلام : إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على أنبيائه ثمّ قال: أيّها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا ومن أنظر معسراً كان له على الله في كلّ يوم صدقة بمثل ماله حتّى يستوفيه، ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنّه معسر فتصدّقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.

٤٥٣

أقول: والرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، وقد مرّ له معنى آخر، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه.

( بحث علمي)

تقدّم مراراً في المباحث السابقة: أن لا همّ للإنسان في حياته إلّا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجوديّة، وبعبارة اُخرى لرفع حوائجه المادّيّة، فهو يعمل عملاً متعلّقاً بالمادّة بوجه، ويرفع به حاجته الحيويّة، فهو مالك لعمله وما عمله (والعمل في هذا الباب أعمّ من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتّب عليه الأثر عند أهل الاجتماع) أي إنّه يخصّ ما عمل فيه من المادّة لنفسه، ويعدّه ملكاً جائز التصرّف لشخصه، والعقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.

لكنّه لمّا كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ وأن ينتفع كلّ بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله، فأدّى ذلك إلى المعاوضة بينهم، واستقرّ ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل ويملك بذلك أشياء ثمّ يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، ويعوّض ما يزيد على حاجته ممّا ليس عنده من مال الغير، وهذا أصل المعاملة والمعاوضة.

غير أنّ التبائن التامّ بين الأموال والأمتعة من حيث النوع، ومن حيث شدّة الحاجة وضعفها، ومن حيث كثرة الوجود وقلّته يولّد الإشكال في المعاوضة، فإنّ الفاكهة لغرض الأكل، والحمار لغرض الحمل، والماء لغرض الشرب، والجوهرة الثمينة للتقلّد والتختّم مثلاً لها أوزان وقيمٌ مختلفة في حاجة الحياة، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض.

فمسّت الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار، وكان الأصل في وضعه: أنّهم جعلوا شيئاً من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلاً أصلاً يرجع إليه بقيّة الأمتعة والسلعات فكان كالواحد التامّ من النوع يجعل مقياساً لبقيّة أفراده

٤٥٤

كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدّر به القيمة العامّة ويقوم به كلّ شئ من الأمتعة فيتعيّن به نسبة كلّ واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض.

ثمّ إنّهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للأشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه، وواحد الحجم وهو الكيل، وواحد الثقل والوزن كالمنّ ونحوه، وعند ذلك تعيّنت النسب وارتفع اللبس، وبان مثلاً أنّ القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير والمنّ من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، وتبيّن بذلك أنّ القيراط من الألماس يعدل أربعين منّاً من دقيق الحنطة مثلاً وعلى هذا القياس.

ثمّ توسّعوا في وضع نقود اُخر من أجناس شتّى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضّة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

ثمّ افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشري بأن تعيّن البعض من الأفراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الّذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدّمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، واستقرّ الأمر بالأخرة على أنّ الحاجة العموميّة كأنّها عكفت على باب الدرهم والدينار، فكان وجه القيمة كأنّه هو المال كلّه، وكأنّه كلّ متاع يحتاج إليه الإنسان لأنّه الّذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكلّ ما يريده ويحتاج إليه ممّا يتمتّع به في الحياة، وربّما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والأمتعة وهو الصرف.

وقد ظهر بما مرّ: أنّ أصل المعاملة والمعاوضة قد استقرّ على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الّذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، وهذا أعني المغايرة هو الأصل الّذي يعتمد عليه حياة المجتمع، وأمّا المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلاً فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلاً فربّما اعتبره العقلاء

٤٥٥

لمسيس الحاجة به وهو ممّا يقيم أود الاجتماع، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتّب عليه، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟

الربا - ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل وأخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل وما أشبه ذلك - إنّما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار والإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه أنّ له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدّل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زماناً طويلاً حتّى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام مايقترضه، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد (٢٠ - ٠ = المال) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.

وأمّا المرابى فيجتمع عنده العشرة الّتي لنفسه والعشرة الّتي للمقترض، وذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال، وليس إلّا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض ماليّ، فالربا يؤدّي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين، ويؤدّي ذلك إلى تأمّر المثرين من المرابين، وتحكّمهم في أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوّسون لما في الإنسان من قريحة التعالي والاستخدام، وإلى دفاع اُولئك المستخدمين المستذلّين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مرّ الحياة بكلّ ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الّذي فيه هلاك الإنسانيّة وفناء المدنيّة.

هذا مع ما يتّفق عليه كثيراً من ذهاب المال الربويّ من رأس فما كلّ مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء وأهل العسرة، وأمّا الّذي بين غيرهم كالربا

٤٥٦

التجاريّ الّذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتّجار به فأقلّ ما فيه أنّه يوجب انجرار المال تدريجاً إلى المال الموضوع للربا من جانب، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجاره واقتدارها أزيد ممّا هي عليها بحسب الواقع، ووقوع التطاول بينها وأكل بعضها بعضاً، وانهضام بعضها في بعض، وفناء كلّ في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلّين، وعاد المحذور الّذي ذكرناه آنفاً.

ولا يشكّ الباحث في مباحث الاقتصاد أنّ السبب الوحيد في شيوع الشيوعيّة وتقدّم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، وتقدّمهمّ البارز في مزايا الحياة، وحرمان آخرين وهم الأكثرون من أوجب واجباتهم، وقد كانت الطبقة المقتدرة غرّوا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنيّة والعدالّة والحرّيّة والتساوي في حقوق الإنسانيّة، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، وكانوا يحسبون أنّها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم، والتحكّم المطلق بما شائوا، وأنّها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنّهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وكان عاقبة الّذين أساؤوا السوآى، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانيّة في مستقبل أيّامها، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، وحبس الاُلوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى، وجلوس قوم على أريكة البطالة والإتراف، وحرمان آخرين من المشروع الّذي تهدي إليه الفطرة وهو اتّكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدّة لإترافهم، ولا يعيش به آخرون لحرمانهم.

٤٥٧

( بحث آخر علمي)

قال الغزاليّ في كتاب الشكر من الإحياء: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطرّ الخلق إليهما من حيث أنّ كلّ إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عمّا يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربّما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بدّ بينهما من معاوضة، ولابدّ في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكلّ مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتّى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخفّ أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدري أنّ الجمل كم يسوّى بالزعفران فتتعذّر المعاملات جدّاً، فافتقرت هذه الأعيان لمتنافرة المتباعدة إلى متوسّط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كلّ واحد رتبته ومنزلته حتّى إذا تقرّرت المراتب، وترتّبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسّطين بين الأموال حتّى تقدّر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوّى مأة، فهما من حيث إنّهما متساويان لشئ واحد متساويان، وإنّما أمكن التعديل بالنقدين إذ لاغرض في أعيانهما، ولو كان في أعيانهما غرض ربّما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حقّ صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حقّ من لاغرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.

ولحكمة اُخرى وهي: التوسّل بهما إلى سائر الأشياء لأنّهما عزيزان في أنفسهما، ولاغرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنّه ملك كلّ شئ، لاكمن ملك ثوباً فإنّه لم يملك إلّا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربّما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأنّ غرضه في دابّة مثلاً، فاحتيج إلى

٤٥٨

شئ آخر هو في صورته كأنّه ليس بشئ وهو في معناه كأنّه كلّ الأشياء، والشئ إنّما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصّة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لالون لها وتحكي كلّ لون فكذلك النقد لاغرض فيه وهو وسيلة إلى كلّ غرض، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية. وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها.

ثمّ قال ما محصّله: أنّهما لمّا كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتّبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.

وفرّع على ذلك حرمة كنزهما فإنّه ظلم وإبطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس وإلقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.

وفرّع عليه حرمة اتّخاذ آنية الذهب والفضّة فإنّ فيه قصدهما بالاستقلال وهما مقصودان لغيرهما، وذلك ظلم كمن اتّخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال الّتي يقوم بها أخسّاء الناس.

وفرّع عليه أيضاً حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنّه كفر بالنعمة وظلم، فإنّهما خلقا لغيرهما لالنفسهما، إذ لاغرض يتعلّق بأعيانهما.

وقد اشتبه عليه الأمر في اعتبار أصلهما والفروع الّتي فرعها على ذلك:

أمّا أوّلا: فإنّه ذكر أن لاغرض يتعلّق بهما في أنفسهما، ولو كان كذلك لم يمكن أن يقدّرا غيرهما من الأمتعة والحوائج، وكيف يجوز أن يقدّر شئ شيئاً بما ليس فيه؟ وهل يمكن أن يقدّر الذراع طول شئ إلّا بالطول الّذي له؟ أو يقدّر المنّ ثقل شئ إلّا بثقله الّذي فيه؟

على أنّ اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم إلّا بكونهما مقصودين لأنفسهما، وكيف يتصوّر عزّة وكرامة من غير مطلوبيّة.

على أنّهما لو لم يكونا إلّا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم أعني الذهب والفضّة في الاعتبار، والواقع يكذّب ذلك، ولكان جميع أنواع

٤٥٩

النقود متساوية القيم، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد والملح وغيرهما.

وأمّا ثانياً: فلأنّ الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصوديّة بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الآية التوبة - ٣٤، من تحريم الفقراء عن الأرتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل والمبادلة دائماً كما سيجئ بيان ذلك في تفسير الآية.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ ما ذكره من الوجه في تحريم اتّخاذ آنية الذهب والفضّة وكونه ظلماً وكفراً موجود في اتّخاذ الحليّ منهما، وكذا في بيع الصرف، ولم يعدّا في الشرع ظلماً وكفراً ولاحراماً.

وأمّا رابعاً: فلأنّ ما ذكر من المفسدة لو كان موجباً لما ذكره من الظلم والكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربويّة بالنسيئة والقرض، ولم يجر في الربا الّذي في المكيل والموزون مع أنّ الحكم واحد، فما ذكره غير تامّ جمعاً ومنعاً.

والّذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدّمناه من أخذ الزيادة من غير عوض. قال تعالى:( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الروم - ٣٩، فجعل الربا رابياً في أموال الناس وذلك أنّه ينمو بضمّ أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أنّ البذر من النبات ينمو بالتغذّي من الأرض وضمّ أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتّى يأتي إلى آخرها، وهذا هو الّذي ذكرناه فيما تقدّم، وبذلك يظهر أنّ المراد بقوله تعالى: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.

٤٦٠