الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118154
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118154 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بل الظاهر أنّ الفعل أعني يقاتلونكم، للحال والوصف للإشارة، والمراد به الّذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكّة.

فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحجّ - ٤٠، إذنٌ ابتدائيّ للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.

على أنّ الآيات الخمس جميعاً متعرّضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، لأصل الحكم، وقوله تعالى:( لَا تَعْتَدُوا ) الخ، تحديد له من حيث الانتظام، وقوله تعالى:( وَاقْتُلُوهُمْ ) الخ تحديد له من حيث التشديد، وقوله تعالى:( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الخ، تحديد له من حيث المكان، وقوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) الخ تحديد له من حيث الأمد والزمان، وقوله تعالى:( الشَّهْرُ الْحَرَامُ ) الخ، بيان أنّ هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا ) ، إيجاب لمقدّمته الماليّة وهو الإنفاق للتجهيز والتجهّز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضاً كما احتمله بعضهم، ولا أن تكون نازلة في شؤون متفرّقه كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكّة الّذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنّما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنّما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حقّ الإنسانيّة المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبيّنه، فإنّ الدفاع محدود بالذات، والتعدّي خروج عن الحدّ، ولذلك عقّبه بقوله تعالى:( وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَلَا تَعْتَدُوا ) الخ الاعتداء هو الخروج عن الحدّ، يقال عدا واعتدى إذا جاوز حدّه، والنهى عن الاعتداء مطلق يراد به كلّ ما يصدق عليه أنّه اعتداء كالقتال

٦١

قبل أن يدعى إلى الحقّ، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدوّ، وغير ذلك ممّا بيّنه السنّة النبوّية.

قوله تعالى: ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ - إلى قوله -مِنَ الْقَتْلِ ) ، يقال ثقف ثقافة أي وجد وأدرك فمعنى الآية معنى قوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥، والفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشئ، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالباً وهو الشدّة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكّة بالمؤمنين بعد هجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبلها.

فالمعنى شدّدوا على المشركين بمكّة كلّ التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتّى ينجرّ ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشدّ فإنّ ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشدّ من القتل لأنّ في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.

قوله تعالى: ( وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ) الخ، فيه نهى عن القتال عند المسجد الحرام حفظاً لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.

قوله تعالى: ( فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، الانتهاء الامتناع والكفّ، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الإسلام فإنّ ذلك هو المراد بقوله ثانياً: فان انتهوا فلا عدوان، وأمّا هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: ولا تقاتلوهم عند المسجد، وعلى هذا فكلّ من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فإنّ الله، وقوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتّصل به من الكلام من غير تكرار.

وفي قوله تعالى: فإنّ الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبّب إعطاء لعلّة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ) ، تحديد لأمد

٦٢

القتال كما مرّ ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتّخاذ الأصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكّة، ويدلّ عليه قوله تعالى: ويكون الدين لله. والآية نظيرة لقوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الي قوله -وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال - ٤٠، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وإن ردّت فلا ولاية إلّا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أنّ القتال إنّما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلّا عن دعوة إلى الدين الحقّ وهو الدين الذى يستقرّ على التوحيد.

ويظهر من هذا الّذي ذكرناه أنّ هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة - ٢٩، بناء على أنّ دينهم لله سبحانه. وذلك أنّ الآية أعني قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة خاصّة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الأصنام ويقرّ بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرّون به، وإن كان ذلك كفراً منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنّهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ، لكنّ الإسلام قنع منهم بمجرّد التوحيد، وإنّما أمر بقتالهم حتّى يعطوا الجزيه لإعلاء كلمة الحقّ على كلمتهم وإظهار الإسلام على الدين كلّه.

قوله تعالى: ( فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلّا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبّب كما مرّ نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى:( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) التوبة - ١١.

قوله تعالى: ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ) ، الحرمات جمع حرمة وهي ما يحرم هتكه ويجب تعظيمه ورعاية جانبه، والحرمات: حرمة الشهر

٦٣

الحرام وحرمة الحرم وحرمة المسجد الحرام، والمعنى أنّهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، وقد هتكوا حين صدّوا النّبيّ وأصحابه عن الحجّ عام الحديبيّة ورموهم بالسهام والحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه وليس بهتك، فإنّما يجاهدون في سبيل الله ويمتثلون أمره في إعلاء كلمته ولو هتكوا حرمة الحرم والمسجد الحرام بالقتال فيه وعنده جاز للمؤمنين معا ملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاصّ عقّب ببيان عامّ يشمل جميع الحرمات وأعمّ من هذا البيان العامّ قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أنّ الله سبحانه إنّما شرّع القصاص في الشهر الحرام لأنّه شرّع القصاص في جميع الحرمات وإنّما شرع القصاص في الحرمات لأنّه شرّع جواز الاعتداء بالمثل.

ثمّ ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأنّ فيه استعمالاً للشدّة والبأس والسطوة وسائر القوى الداعية إلى الطغيان والانحراف عن جادّة الاعتدال والله سبحانه وتعالى لا يحبّ المعتدين، وهم أحوج إلى محبّة الله تعالى وولايته ونصره فقال تعالى: واتّقوا الله واعلموا أنّ الله مع المتّقين.

وأمّا أمره تعالى بالاعتداء مع أنّه لا يحبّ المعتدين فإنّ الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء وأمّا إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلّا تعالياً عن ذلّ الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم، كالتكبّر مع المتكبّر، والجهر بالسوء لمن ظلم.

قوله تعالى: ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله والكلام في تقييد الإنفاق هيهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أوّل الآيات بكونه في سبيل الله، كما مرّ، والباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، والمعنى: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوّة والاستطاعة والقدرة فإنّ اليد مظهر لذلك، وربّما يقال: إنّ الباء للسببيّة ومفعول لا تلقوا محذوف، والمعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدى أنفسكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد وهو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، وهو على وزن تفعّلة بضمّ العين ليس

٦٤

في اللّغة مصدر على هذا الوزن غيره.

والكلام مطلق اُريد به النهي عن كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط وتفريط كما أنّ البخل والإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوّة وذهاب القدرة، وفيه هلاك العدّة بظهور العدوّ عليهم، وكما أنّ التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر والمسكنة المؤدّيين إلى انحطاط الحياة وبطلان المروّة.

ثمّ ختم سبحانه وتعالى الكلام بالإحسان فقال: وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين، وليس المراد بالإحسان الكفّ عن القتال أو الرّأفه في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، والكفّ في مورد الكفّ، والشدّة في مورد الشدّة، والعفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقّه إحسان على الإنسانيّة باستيفاء حقّها المشروع لها، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أنّ الكفّ عن التجاوز في استيفاء الحقّ المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبّة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين، وهو الواجب على كلّ متديّن بالدين أن يجلبها من ربّه بالاتّباع. قال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) آل عمران - ٣١، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء وأنّ الله لا يحبّ المعتدين وختمت بالأمر بالإحسان وأنّ الله يحبّ المحسنين، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.

الجهاد الذى يأمر به القرآن:

كان القرآن يامر المسلمين بالكفّ عن القتال والصبر على كلّ أذى في سبيل الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - إلى قوله -لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) الكافرون - ٦، وقال تعالى:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ ) المزمّل - ١٠، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ) النساء - ٧٧، كأنّ هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاة ) البقرة - ١٠٩.

٦٥

ثمّ نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكّة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحجّ - ٤٠، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الّذي أمر به في بدر وغيرها، وكذا قوله:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال - ٤٠، وكذا قوله تعالى:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) البقرة - ١٩٠.

ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) التوبة - ٢٩.

ومنها آيات القتال مع المشركين عامّة، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٥، وكقوله تعالى:( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) التوبة - ٣٦.

ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفّار كقوله تعالى:( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) التوبة - ١٢٣.

وجملة الأمر أنّ القرآن يذكر أنّ الإسلام ودين التوحيد مبنيّ على أساس الفطرة وهو القيّم على إصلاح الإنسانيّة في حياتها كما قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم - ٣٠، فإقامته والتحفّظ عليه أهمّ حقوق الإنسانيّة المشروعة كما قال تعالى:( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى - ١٣، ثمّ يذكر أنّ الدفاع عن هذا الحقّ الفطريّ المشروع حقّ آخر فطريّ، قال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ

٦٦

كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحجّ - ٤٠، فبيّن أنّ قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع. ونظيره قوله تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) البقرة - ٢٥١، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال:( ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)) الأنفال - ٨، ثمّ قال تعالى: بعد عدّة آيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) الأنفال - ٢٤، فسمّى الجهاد والقتال الّذي يدعى له المؤمنون محيياً لهم، ومعناه أنّ القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالاً ابتدائيّاً كلّ ذلك بالحقيقة دفاع عن حقّ الإنسانيّة في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانيّة وموت الفطرة، وفي القتال وهو دفاع عن حقّها إعادة لحياتها وإحياؤها بعد الموت.

ومن هناك يستشعر الفطن اللّبيب: أنّه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعيّ في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى فإنّ هذا القتال الّذى تذكره الآيات المذكورة إنّما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنيّة، أو لإعلاء كلمة الحقّ على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية. مع أنّ آية القتال معهم تتضمّن أنّهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ فهم وإن كانوا على التوحيد لكنّهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، والدفاع عن حقّ الإنسانيّة الفطريّ يوجب حملهم على الدين الحقّ.

والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنّه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتمّ أمره إلّا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال وهوالقتال لإقامة الإخلاص في التوحيد، قال تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) الصف - ٩، وأظهرمنه قوله تعالى:( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء - ١٠٥، وأصرح منه قوله تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) ، النور - ٥٥، فقوله تعالى: يعبدونني

٦٧

يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئاً، مع أنّه تعالى يعدّ بعض الإيمان شركاً، قال تعالى:( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف - ١٠٦، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقّاً.

وربّما يتوهّم المتوهّم: أنّ ذلك وعد بنصر إلهيّ بمصلح غيبّي من غير توسّل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنّهم في الأرض، فإنّ الاستخلاف إنّما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.

على أنّ قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) المائدة - ٥٤، - على ما سيجئ في محلّه - يشير إلى دعوة حقّة، ونهضة دينيّة ستقع عن أمر إلهيّ ويؤيّد أنّ هذه الواقعة الموعودة إنّما تقع عن دعوة جهاد.

وبما مرّ من البيان يظهر الجواب عما ربّما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنّه خروج عن طور النهضات الدينيّة المأثورة عن الأنبياء السالفين فإنّ دينهم إنّما كان يعتمد في سيره وتقدّمه على الدعوة والهداية، دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات، ولذلك ربّما سمّاه بعضهم كالمبلّغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الإجبار والإكراه.

وذلك أنّ القرآن يبيّن أنّ الإسلام مبنيّ على قضاء الفطرة الإنسانيّة الّتي لا ينبغي أن يرتاب أنّ كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه، وهي تقضى بأنّ التوحيد هو الأساس الّذي يجب بناء القوانين الفرديّة والإجتماعيّة عليه، وأنّ الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حقّ مشروع للإنسانيّة يجب استيفاؤه بأىّ وسيلة ممكنة. وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجرّدة والصبر على الأذى في جنب الله، ثمّ الدفاع عن بيضة الإسلام ونفوس

٦٨

المسلمين وأعراضهم وأموالهم، ثمّ القتال الابتدائيّ الّذي هو دفاع عن حقّ الإنسانيّة وكلمة التوحيد ولم يبدء بشئ من القتال إلّا بعد إتمام الحجّة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنّة النبويّة، قال تعالى:( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل - ١٢٥، والآية مطلقة، وقال تعالى:( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الأنفال - ٤٢.

وأمّا ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقّف إحياء الإنسانيّة على تحميل الحقّ المشروع على عدّة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجّة البالغة عليهم، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فإنّ المتمرّد المتخلّف عن القوانين المدنيّة يدعى إلى تبعيّتها ثمّ يحمّل عليه بأيّ وسيلة أمكنت ولو انجرّ إلى القتال حتّى يطيع وينقاد طوعاً أو كرهاً.

على أنّ الكره إنّما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل، ثمّ التعليم والتربية الدينيّان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطريّ وكلمة التوحيد طوعاً.

وأمّا ما ذكروه: أنّ سائر الأنبياء جروا على مجرّد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدلّ على عدم اتّساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال: كنوح وهود وصالحعليهم‌السلام فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كلّ جانب، وكذلك كان عيسىعليه‌السلام أيّام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنّما انتشرت دعوته وقبلت حجّته في زمان طروّ النسخ على شريعته وكان ذلك أيّام طلوع الإسلام.

على أنّ جمعاً من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصّه التوراة، والقرآن يذكر طرفاً منه، قال تعالى:( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) آل عمران - ١٤٧، وقال تعالى - يقصّ دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -:( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ - إلى أن قال -يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ - إلى أن قال تعالى -قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا

٦٩

فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) المائدة - ٢٤، وقال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ٢٤٦، إلى آخر قصّة طالوت وجالوت.

وقال تعالى في قصّة سليمان وملكة سبا:( أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ - إلى أن قال تعالى -ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ) النمل - ٣٧، ولم يكن هذا الّذي كان يهدّدهم بها بقوله: فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها (إلخ) إلّا قتالاً ابتدائيّاً عن دعوة ابتدائيّة.

( بحث اجتماعي)

لاريب أنّ الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان وسائر الاجتماعات المختلفة النّوعيّة الّتي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنّما هو مبنيّ على أساس الاحتياج الفطريّ الموجود فيها الّذي يراد به حفظ الوجود والبقاء.

وكما أنّ الفطرة والجبلّة أعطتها حقّ التصرّف في كلّ ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود والبقاء كالإنسان يتصرّف في الجماد والنبات والحيوان حتّى في الإنسان بأيّ وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقّاً في ذلك وإن زاحم حقوق غيره من الحيوان وكمال غيره من النبات والجماد، وكأنواع الحيوان في تصرّفاتها في غيرها وإذعانها بأنّ لها حقّاً في ذلك كذلك أعطتها حقّ الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتمّ حقّ التصرّف بدون حقّ الدفاع فالدار دار التزاحم، والناموس ناموس التنازع في البقاء، فكلّ نوع يحفظ وجوده وبقاؤه بالشعور والحركة يرى لنفسه حقّ الدفاع عن حقوقه بالفطرة ويذعن بأنّ ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرّفه المذكور، ويدلّ على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنّها تتوسّل عند التنازع بأدواتها البدنيّة الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون والأنياب والمخالب والأظلاف والشوك والمنقار وغير ذلك، وبعضها الّذي لم يتسلّح بشئ من هذه الأسلحة الطبيعيّة القويّة تستريح إلى الفرار إو الاستتار أوالخمود كبعض الصيد والسلحفاة وبعض الحشرات،

٧٠

وبعضها الّذي يقدر على إعمال الحيل والمكائد ربّما أخذ بها في الدفاع كالقرد والدبّ والثعلب وأمثالها.

والإنسان من بين الحيوان مسلّح بالشعور الفكريّ الّذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرّف للانتفاع، وله فطرة كسائر الأنواع، ولفطرته قضاوة وحكم، ومن حكمها أنّ للإنسان حقّاً في التصرّف، وحقّاً في الدفاع عن حقّه الفطريّ، وهذا الحقّ الّذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الّذي يبعثه نحو المقاتلة والمقارعة في جميع الموارد الّتي يهمّ بها فيها في الاجتماع الإنسانيّ دون حكم الاستخدام الّذي يحكم به حكماً أوّليّاً فطريّاً فيستخدم به كلّ ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيويّة فإنّ هذا الحكم معدّل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحسّ بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثمّ علم بأنّ سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطرّ إلى المصالحة والموافقة على التمدّن والعدل الاجتماعيّ بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه ويعدّله الاجتماع بتعديله.

ومن هنا يعلم: أنّ الإنسان لا يستند في شئ من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام والاستعباد المطلق الّذي يذعن به في أوّل أمره فإنّ هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أوّل وروده في الاجتماع واعترف بأنّه لا ينبغي أن يتصرّف في منافع غيره إلّا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنّما يستند في ذلك إلى حقّ الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقّا ثمّ يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.

فكلّ قتال دفاع في الحقيقة حتّى أنّ الفاتحين من الملوك والمتغلّبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعاً من الحقّ كحقّ الحاكميّة ولياقة التأمّر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس وسفك الدماء وفساد الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

فقد تبيّن: أنّ الدفاع عن حقوق الإنسانيّة حقّ مشروع فطريّ مباح الاستيفاء للإنسان نعم لمّا كان هذا حقّاً مطلوباً لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهميّة فلا يقدم على الدفاع إلّا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحقّ

٧١

الضائع المستنقذ في الأهميّة الحيويّة، وقد أثبت القرآن أنّ أهمّ حقوق الإنسانيّة هو التوحيد والقوانين الدينيّة المبنيّة عليه كما أنّ عقلاء الاجتماع الإنسانيّ على أنّ أهمّ حقوقها هو حقّ الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنسانيّ الّتي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.

( بحث روائي)

في المجمع عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبيّة وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج هو وأصحابه في العام الّذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبيّة فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبيّة ثمّ صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه ويعود العام القابل ويخلو له مكّة ثلاثة أيّام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلمّا كان العام المقبل تجهّز النبيّ وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدّوهم عن البيت الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.

أقول: وروي هذا المعنى في الدرّ المنثور بطرق عن ابن عبّاس وغيره.

وفي المجمع أيضاً عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أوّل آية نزلت في القتال فلمّا نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ويكفّ عمّن كفّ عنه حتّى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.

أقول: وهذا اجتهاد منهما وقد عرفت أنّ الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.

وفي المجمع في قوله تعالى: واقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلاً من الكفّار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن الله سبحانه: أنّ الفتنة في الدين - وهو الشرك - أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان غير جائز.

٧٢

اقول: وقد عرفت: أنّ ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة أنّها نزلت دفعة واحدة.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة الآية، بطرق عن قتادة، قال: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة أي شرك ويكون الدين لله. قال: حتّى يقال: لا إله إلّا الله، عليها قاتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليها دعا، وذكر لنا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: إنّ الله أمرني ان اُقاتل الناس حتّى: يقولوا: لا إله إلّا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظالمين، قال: وإنّ الظالم الّذي أبى أن يقول لا إله إلّا الله يقاتل حتّى يقول: لا إله إلّا الله.

اقول: قوله: وإنّ الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبيّ وهي استفادة حسنة، وروي نظير ذلك عن عكرمة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج البخاريّ وأبوالشيخ وابن مردويه عن ابن عمر: إنّه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إنّ الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني: إنّ الله حرّم دم أخي: قالا: ألم يقل الله: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة؟ قال: قاتلنا حتّى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتّى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

اقول: وقد أخطاء في معنى الفتنة و أخطاء السائلان، وقد مرّ بيانه، وإنّما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي ولا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.

وفي المجمع في قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: وهو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

وفي تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام، عن العلاء بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين أيبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال: إذا كان المشركون ابتداؤهم باستحلاهم، رأى المسلمون بما أنّهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص.

وفي الدرّ المنثور أخرج أحمد وابن جرير والنحّاس في ناسخه عن جابر بن عبدالله قال: لم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغزو في الشهر الحرام حتّى يغزى، ويغزو

٧٣

فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ.

وفي الكافي عن معاوية بن عمّار قال: سألت أباعبدالله عن رجل قتل رجلاً في الحلّ ثمّ دخل الحرم فقالعليه‌السلام لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتّى يخرج من الحرم فيقام عليه الحدّ. قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقام عليه الحدّ في الحرم لأنّه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله: عزّوجلّ: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلّا على الظالمين.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: لوأنّ رجلاً أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن ولا وُفّق. أليس الله يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين، يعني المقتصدين؟

وروى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، ودخل في نهيه يقول الله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.

وفي الدرّ المنثور بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران، قال: كنّا بالقسطنطينيّة، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صفّ عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتّى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيّوب، صاحب رسول الله فقال: يا أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنّما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله إنّ أموالنا قد ضاعت وإنّ الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيّه - يردّ علينا ما قلنا -: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو.

اقول: واختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيّد ما ذكرناه: أنّ الآية مطلقة تشمل جانبي الإفراط والتفريط في الإنفاق جميعاً بل تعمّ الإنفاق وغيره.

٧٤

( سورة البقرة آية ١٩٦ - ٢٠٣)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٩٦ ) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ( ١٩٧ ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ( ١٩٨ ) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٩٩ ) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ( ٢٠٠ ) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( ٢٠١ ) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( ٢٠٢ ) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٠٣ )

( بيان)

نزلت الآيات في حجّة الوداع، آخر حجّة حجّها رسول الله، وفيها تشريع حجّ التمتّع.

قوله تعالى: ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ، تمام الشئ هو الجزء الّذي بانضمامه

٧٥

إلى سائر أجزاء الشئ يكون الشئ هو هو، ويترتّب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضمّ تمام الشئ إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشئ ترتّب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتّب عليه لولا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنساناً عالماً أو شجاعاً أو عفيفاً كماله، وربّما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشئ داخلاً فيه اهتماماً بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحجّ والعمرة هو المعنى الأوّل الحقيقيّ والدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن اُحصرتم فما استيسر من الهدى، فإنّ ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمّه إلى أجزائه المأتيّ بها بعد الشروع ولا معنى يصحّح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال وهو ظاهر.

والحجّ هو العمل المعروف بين المسلمين الّذي شرّعه إبراهيم الخليلعليه‌السلام وكان بعده بين العرب ثمّ أمضاه الله سبحانه لهذه الاُمّة شريعة باقية إلى يوم القيامة.

ويبتدي هذا العمل بالإحرام والوقوف في العرفات ثمّ المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمى الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة وفيها اُمور مفروضة اُخر، وهو على ثلاثة أقسام: حجّ الأفراد، وحجّ القران، وحجّ التمتّع الّذي شرّعه الله في آخر عهد رسول الله.

والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما أعنى الحجّ: والعمرة عبادتان لايتمّان إلّا لوجه الله ويدلّ عليه قوله تعالى: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله الآية.

قوله تعالى:( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) الخ، الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعيّة عن الإتمام بسبب مرض أو عدوّ بعد الشروع بالإحرام والاستيسار صيرورة الشئ يسيراً غير عسير كأنّه يجلب اليُسر لنفسه، والهدى هو ما يقدّمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محلّ للتقرّب به، وأصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية الّتي هي السوق إلى المقصود، والهدى والهدية كالتمر والتمرة. والمراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجّه من النعم.

٧٦

قوله تعالى: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ) الخ، الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدلّ على أنّ المراد بالمرض هو خصوص المرض الّذي يتضرّر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والإتيان بقوله: أو أذى من رأسه بلفطة أو الترديد يدلّ على أنّ المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوامّ فهو كناية عن التأذّي من الهوامّ كالقمّل على الرأس فهذان الأمران يجوّزان الحلق مع الفدية بشئ من الخصال الثلاث: الّتي هي الصيام، والصدقة، والنسك.

وقد وردت السنّة أنّ الصيام ثلاثة أيّام، وأنّ الصدقة إطعام ستّة مساكين، وأنّ النسك شاة.

قوله تعالى: ( فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) ، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدوّ أو غير ذلك فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، أي تمتّع بسبب العمرة من حيث ختمها والإحلال إلى زمان الإهلال بالحجّ فما استيسر من الهدى، فالباء للسّببيّة، وسببيّة العمرة للتمتّع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالإحلال.

قوله تعالى: ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ، ظاهر الآية أنّ ذلك نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحجّ من الميقات فإنّ ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

فإن قيل: إنّ ترتّب قوله: فما استيسر من الهدى، على قوله: فمن تمتّع ترتّب الجزاء على الشرط مع أنّ اشتمال الشرط على لفظ التمتّع مشعر بأنّ الهدى واقع بإزاء التمتّع الّذي هو نوع تسهيل شرّع له تخفيفاً فهو جبران لذلك.

قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فإنّ ذلك يناسب التجويز للتمتّع في أثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الإهلال بالحجّ بعد، على أنّ هذا الاستشعار لو صحّ فإنّما يتمّ به كون تشريع الهدى من أجل تشريع التمتّع بالعمرة إلى الحجّ لا كون الهدى جبراناً لما فاته من الإهلال بالحجّ من الميقات دون مكّة، وظاهر الآية كون قوله: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدى

٧٧

إخباراً عن تشريع التمتّع لا إنشاء للتشريع فإنّه يجعل التمتّع مفروغاً عنه ثمّ يبني عليه تشريع الهدى، ففرق بين قولنا: من تمتّع فعليه هدى وقولنا تمتّعوا وسوقوا الهدى، وأمّا إنشاء تشريع التمتّع فإنّما يتضمّنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

قوله تعالى: ( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ) ، جعل الحجّ ظرفاً للصيام باعتبار اتّحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الّذي يعدّ زماناً للحجّ، وهو من زمان إحرام الحجّ إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيّام، ولذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ وقت الصيام قبل يوم الاضحى أو بعد أيّام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلّا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنّما هو بعد الرجوع فإنّ ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، ولم يقل حين الرجوع على أنّ الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.

قوله تعالى: ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ) ، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكمّلة للعشرة لا متمّة دلالة على أنّ لكلّ من الثلاثة والسبعة حكماً مستقلّاً آخر على ما مرّ من معنى التمام والكمال في أوّل الآية فالثلاثة عمل تامّ في نفسه، وإنّما تتوقّف على السبعة في كمالها لا تمامها.

قوله تعالى: ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، أي الحكم المتقدّم ذكره وهو التمتّع بالعمرة إلى الحجّ لغير الحاضر، وهو الّذي بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً على ما فسّرته السنّة، وأهل الرجل خاصّته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإنّ المسافر من البلاد النائية للحجّ - وهو عمل لا يخلو من الكدّ ومقاساة التعب ووعثاء الطريق - لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة والإنسان إنّما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدّله الله سبحانه من التمتّع بالعمرة إلى الحجّ والإهلال بالحجّ من المسجد الحرام من غير ان يسير ثانياً إلى الميقات.

٧٨

وقد عرفت: أنّ الجملة الدالّة على تشريع المتعة إنّما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن الخ، دون قوله: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، هو كلام مطلق غير مقيّد بوقت دون وقت ولاشخص دون شخص ولاحال دون حال.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، التشديد البالغ في هذا التذييل مع أنّ صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحجّ ينبئ عن أنّ لمخاطبين كان المترقّب من حالهم إنكار الحكم أو التوقّف في قبوله وكذلك كان الأمر فإنّ الحجّ خاصّة من بين الأحكام المشرّعة في الدين كان موجوداً بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفاً عندهم معمولاً به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الإسلام على ماكان تقريباً إلى آخر عهد النبيّ فلم يكن تغيير وضعه أمراً هيّناً سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالإنكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يخطبهم فيبيّن لهم أنّ الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنّه حكم عامّ لا يستثنى فيه أحد من نبيّ أو اُمّة فهذا هو الموجب للتشديد الّذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.

قوله تعالى: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ - ألى قوله -فِي الْحَجِّ ) ، أي زمان الحجّ أشهر معلومات عند القوم وقد بيّنته السنّة وهي: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة.

وكون زمان الحجّ من ذي الحجّة بعض هذا الشهر دون كلّه لا ينافي عدّه شهراً للحجّ فإنّه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أنّ المجئ إنّما هو في بعضه دون جميعه.

وفي تكرارلفظ الحجّ ثلاث مرّات في الآية على أنّه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإنّ المراد بالحجّ الأوّل زمان الحجّ وبالحجّ الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولو لا الإظهار لم يكن بدّ من إطناب غير لازم كما قيل.

وفرض الحجّ جعله فرضاً على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: وأتمّوا الحجّ

٧٩

والعمرة لله الآية، والرفث كما مرّ مطلق التصريح بما يكنّى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكنّ السنّة فسّرت الرفث بالجماع، والفسوق، بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) ، تذكرة بأنّ الأعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلّا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبيّن اُصول المعارف ويقصّ القصص ويذكر الشرائع ويشفّع البيان في جميعها بالعظة والوصيّة لئلّا يفارق العلم العمل فإنّ العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: واتّقوني يا اُولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلّم الّذي يدلّ على كمال الاهتمام والاقتراب والتعيّن.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ) ، هو نظير قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ - إلى أن قال -فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ) الجمعة - ١٠ فبدّل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسّرت السنّة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلّت الآية على إباحة البيع أثناء الحجّ.

قوله تعالى: ( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) ، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدلّ على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) الخ أي واذكروه ذكراً يماثل هدايته إيّاكم وأنّكم كنتم من قبل هدايته إيّاكم لمن الضالّين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) ، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أنّ قريشاً وحلفائها وهم الحُمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو عرفات.

٨٠