الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 118177
تحميل: 6040


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 118177 / تحميل: 6040
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثمّ الدالّة على التأخير اعتبار للترتيب الذكريّ، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أنّ أحكام الحجّ هي الّتي ذكرت غير أنّه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربّما قيل: إنّ في الآيتين تقديماً وتأخيراً في التأليف، والترتيب: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.

قوله تعالى: ( فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ - إلى قوله -ذِكْرًا ) ، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشدّ منه لأنّ نعمته في حقّه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى:( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) أعظم من حقّ آبائه عليه، وقد قيل: إنّ العرب كانت في الجاهليّة إذا فرغت من الحجّ مكثت حيناً في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدّله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشدّ من ذكرهم وأو في قوله أو أشدّ ذكراً، للإضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدّة وهو أمر يقبل الشدّة في الكيفيّة كما يقبل الكثرة في الكمّيّة، قال تعالى:( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) الأحزاب - ٤١، وقال تعالى:( وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب - ٣٥، فإنّ الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصوراً في اللّفظ، بل هو أمر يتعلّق بالحضور القلبيّ واللّفظ حاك عنه، فيمكن أن يتّصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ ) آل عمران - ١٩١، وأن يتّصف بالشدّة في مورد من الموارد، ولمّا كان المورد المستفاد من قوله تعالى: فإذا قضيتم مناسككم، مورداً يستوجب التلهّي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الّذي أمر به فيه بالشدّة دون الكثرة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ( فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) الخ تفريع على قوله تعالى: فاذكروا الله كذكركم آبائكم، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعمّ من الكافر الّذي لا يذكر إلّا آبائه أي لا يبتغي إلّا المفاخر الدنيويّة ولا يطلب إلّا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الّذي لا يريد إلّا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئاً لم يرد إلّا ما يرتضيه له ربّه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال

٨١

بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أنّ من الناس من لا يريد إلّا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلّا ما يرتضيه له ربّه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.

ومن هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أنّ من يريد الدنيا لا يقيّده بأن يكون حسناً عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتّع به في الحياة الأرضيّة كلّها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه فإنّ ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيّئة ولا يريد ولا يسأل ربّه إلّا الحسنة دون السيّئة.

والمقابلة بين قوله: وما له في الآخرة من خلاق، وقوله: أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا، تعطي أنّ أعمال الطائفة الاُولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، وقال تعالى:( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا ) الأحقاف - ٢٠، وقال تعالى:( فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) الكهف - ١٠٥.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ، إسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدلّ على شموله للدنيا والآخرة معاً، فالحساب جار، كلّما عمل عبد شيئاً من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاءً وفاقاً.

فالمحصّل من معنى قوله: فمن الناس من يقول إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإنّ الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله ممّا يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله ولا تكونوا ممّن لا خلاق له بتركه ذكر ربّه فتكونوا قانطين آئسين.

قوله تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ) ، الأيّام المعدودات هي أيّام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجّة، والدليل على أنّ هذه الأيّام بعد العشرة من ذي الحجّة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحجّ،

٨٢

والدليل على كونها ثلاثة أيّام قوله تعالى: فمن تعجّل في يومين الخ، فإن التعجّل في يومين إنّما يكون إذا كانت الأيّام ثلاثة، يوم ينفر فيه، ويومان يتعجّل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسّرت في الروايات بذلك أيضاً.

قوله تعالى: ( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ ) ، لا نافية للجنس فقوله: لا إثم عليه في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاجّ ولم يقيّد بشئ أصلاً، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجّل أو في التأخّر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أنّ من أتمّ عمل الحجّ فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجّل في يومين أو تأخّر، ومن هنا يظهر: أنّ الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخّر والتعجّل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أيّ حال.

وأمّا قوله: لمن اتّقى، فليس بياناً للتعجّل والتأخّر وإلّا لكان حقّ الكلام أن يقال: على من اتّقى، بل الظاهر أنّ قوله: لمن اتّقى نظير قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية، والمراد أنّ هذا الحكم لمن اتّقى وأمّا من لم يتّق فليس له، ومن اللازم أن يكون هذه التقوى تقوىً ممّا نهى الله سبحانه عنه في الحجّ واختصّه به فيؤل المعنى أنّ الحكم إنّما هو لمن اتّقى تروك الإحرام أو بعضها أمّا من لم يتّق فيجب أن يقيم بمنى ويذكر الله في أيّام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمّه أهل البيت كما سيجئ إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث فإنّ التقوى لا تتمّ والمعصية لا تجتنب إلّا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص - ٢٦.

وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: أنّكم إليه تحشرون، مع ما في نسك الحجّ من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأنّ الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع والإفاضة يوماً يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحداً.

٨٣

( بحث روائي)

في التهذيب وتفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، قال: هما مفروضان.

وفي تفسير العيّاشيّ عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهمأ السلام) قالوا: سألناهما عن قوله: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، قالا: فإنّ تمام الحجّ أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتّقاء ما يتّقي المحرّم فيهما.

اقول: والروايات غير منافية لما قدّمناه من معنى الأتمام فإنّ فرضهما وأدائهما هو إتمامهما.

وفي الكافي عن الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام قال: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين حجّ حجّة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة وصلّى بها ثمّ قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها وأهلّ بالحجّ وساق مأة بدنة وأحرم الناس كلّهم بالحجّ لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتّى إذا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثمّ صلّى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثمّ قال: أبدء بما بدء الله عزّوجلّ به فأتى الصفا فبدء بها ثمّ طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلمّا قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة، وهو شيئ أمر الله عزّوجلّ به فأحلّ الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع من أجل الهدى الّذي معه، إنّ الله عزّوجلّ يقول: ولا تحلقوا رؤسكم حتّى يبلغ الهدى محلّه، قال سراقة بن جعثم الكنانيّ: علمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الّذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بل للأبد، وإنّ رجلاً قام فقال: يا رسول الله نخرج حجّاجاً ورؤسنا تقطر من نسائنا؟

٨٤

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّك لن تؤمن بها أبداً، قال:عليه‌السلام : وأقبل عليّعليه‌السلام من اليمن حتّى وافى الحجّ فوجد فاطمة قد أحلّت ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستفتياً فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ بأيّ شئ أهللت؟ فقال بما أهلّ به النبيّ، فقال: لا تحلّ أنت فأشركه في الهدى وجعل له سبعاً وثلثين ونحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلثاً وستّين فنحرها بيده ثمّ أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثمّ أمر به فطبخ فأكل منه وحصا من المرق وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أكلنا لأن منه جميعاً والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاجّ المفرد، قال: وسألته: ليلاً أحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نهاراً؟ فقال: نهاراً، فقلت: أيّ ساعة؟ قال: صلاة الظهر.

اقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره.

وفي التهذيب عن الصادقعليه‌السلام قال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامه فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدى فليس لأحد إلّا أن يتمتّع لأنّ الله أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنّة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: فما استيسر من الهدى شاة.

وفي الكافي أيضاً عن الصادقعليه‌السلام في المتمتّع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنّه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة أيّام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جمّاله؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين. قيل: وما الحصبة؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم اليس هو يوم عرفة مسافراً؟ إنّا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ، يقول: في ذي الحجّة.

وروي الشيخ عن الصادقعليه‌السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكّة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس له متعة.

اقول: يعني أنّ ما دون المواقيت فساكنة يصدق عليه أنّه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمّه أهل البيت.

وفي الكافي عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى: الحجّ أشهر معلومات، قال: الحجّ

٨٥

أشهر معلومات شوّال وذو القعدة وذو الحجّة ليس لأحد أن يحجّ فيما سواهنّ.

وفيه عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: فمن فرض فيهنّ الخ، الفرض التّلبية والإشعار والتقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ.

وفي الكافي عنهعليه‌السلام في قوله تعالى: فلا رفث الخ، الرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربّكم الآيه يعني الرزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى فليشتروليبع في الموسم.

اقول: ويقال: إنّهم كانوا يتأثّمون بالتجارة في الحجّ فرفع الله ذلك بالآيه.

وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربّكم، رواه جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام .

اقول: وفيه تمسّك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الأفراد.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس الآيه، قال: إنّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتّى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجل يكنّي أبا سيّار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفة. فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيّار ثمّ أفاضوا فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه.

اقول: وفي هذا المعنى روايات اُخر.

وفي تفسير العيّاشيّ عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، قال: رضوان الله والجنّة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا.

وعنهعليه‌السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنّة.

٨٦

وعن عليّعليه‌السلام في الدنيا المرئه الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرئة السوء.

أقول: والروايات من قبيل عدّ المصداق والآيه مطلقة، ولمّا كان رضوان الله تعالى ممّا يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التامّ في الآخرة صحّ أن يعدّ من حسنات الدنيا كما في الرواية الاُولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.

وفي الكافي عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: وأذكروا الله في أيّام معدودات الآية، قال: وهي أيّام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال: الرجل منهم كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جلّ شأنه: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشدّ ذكراً، قال: والتكبير: الله اكبر، الله اكبر، لا إله إلّا الله والله اكبر ولله الحمد، الله اكبر على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.

وفيه عنهعليه‌السلام قال: والتكبير في أيّام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات.

وفي الفقيه في قوله تعالى: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه الآية، سئل الصادقعليه‌السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفوراً له لا ذنب له.

وفي تفسير العيّاشيّ عنهعليه‌السلام قال يرجع مغفوراً له لا ذنب له لمن اتّقى.

وفي الفقيه عن الصادقعليه‌السلام في قوله تعالى: لمن اتّقى الآية، قال: يتّقي الصيد حتّى ينفر أهل منى.

وعن الباقرعليه‌السلام لمن اتّقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم الله في إحرامه.

وعنه أيضاً: لمن اتّقى الله عزّوجلّ.

وعن الصادقعليه‌السلام لمن اتّقى الكبائر.

أقول: قد عرفت ما يدلّ عليه الآية، ويمكن التمسّك بعموم التّقوى كما في الروايتين الأخيرتين.

٨٧

( بحث روائي آخر)

في الدرّ المنثور أخرج البخاريّ والبيهقيّ عن ابن عبّاس أنّه سئل عن متعة الحجّ فقال: أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكّة، قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلّا من قلّد الهدى فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلّد الهدى فإنّه لا يحلّ حتّى يبلغ الهدى ثمّ أمرنا عشيّة التروية أن نهلّ بالحجّ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصّفا والمروة وقد تمّ حجّنا وعلينا الهدى كما قال الله: فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحجّ والعمرة فإنّ الله أنزله في كتابه وسنّة نبيّه وأباحه للناس غير أهل مكّة، قال الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وأشهر الحجّ الّتي ذكر الله: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، فمن تمتّع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج البخاريّ ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتّع رسول الله في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهلّ بالعمرة ثمّ أهلّ بالحجّ فتمتّع الناس مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعمره إلى الحجّ فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد، فلمّا قدم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ لشئ حرّم منه حتّى يقضى حجّه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلّل ثمّ ليهلّ بالحجّ فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج الحاكم وصحّحه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجّاجاً حتّى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحلّ إلّا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، قلنا أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيّاً؟ فبلغ ذلك رسول

٨٨

الله فقام خطيباً فقال: أبالله تعلمون أيّها الناس؟ فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هدياً ولحللت كما أحلّوا، فمن لم يكن معه هدى فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هدياً فلينحر فكنّا ننحر الجزور عن سبعة. قال عطاء: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن أبي شيبة والبخاريّ ومسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحجّ ولم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء.

أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ اُخرى قريبة المعنى ممّا نقله في الدرّ المنثور.

وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النّسائيّ عن مطرف، قال: بعث إلىّ عمران بن حصين في مرضه الّذي توفّي فيه فقال: إنّي كنت محدّثك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم عليّ وإن متّ فحدّث بها عنّي إنّي قد سلم علىّ وأعلم أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنه نبيّ الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.

وفي صحيح الترمذيّ أيضاً وزاد المعاد لابن القيّم سئل عبدالله بن عمر عن متعة الحجّ، قال: هي حلال فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أأمر أبي تتّبع أم أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الرجل: بل أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لقد صنعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي صحيح الترمذيّ وسنن النسائيّ وسنن البيهقيّ وموطأ مالك وكتاب الاُمّ للشافعيّ عن محمّد بن عبدالله أنّه سمع سعد بن أبى وقّاص والضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ فقال: الضحّاك لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.

وفي الدرّ المنثور أخرج البخاريّ ومسلم والنسائيّ عن أبي موسى، قال: قدمت

٨٩

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بالبطحاء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: هل سقت من هدى؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ حلّ فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثمّ أتيت امرأه من قومي فمشطتني رأسي وغسّلت رأسي فكنت اُفتي الناس في أمارة أبي بكر وأمارة عمر فإنّي لقائم بالموسم إذ جائني رجل فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيّها الناس من كنّا أفتيناه بشئ فليتّئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا فلمّا قدم قلت: ماذا الّذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله قال: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله، وأن نأخذ بسنّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحلّ حتّى نحر الهدى.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهي عنها فذكر ذلك لجابر بن عبدالله فقال: على يدي دار الحديث تمتّعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يحلّ لرسول الله ما شاء ممّا شاء وإنّ القرآن نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم الله وأفصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم.

وفي مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال: هي سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعني المتعة ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً.

وفي جمع الجوامع للسيوطيّ عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ وقال: فعلتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهي عنها وذلك أنّ أحدكم يأتي من اُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهل بالحجّ وخرج إلى منى يلبّي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلّا يوماً والحجّ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم فيمن يطرء عليهم.

وفي سنن البيهقيّ عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إنّ ابن الزبير ينهي عن المتعة وإبن عبّاس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتّعنا مع رسول

٩٠

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع أبي بكر فلمّا ولى عمر خطب النّاس، فقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإنّهما كانتا متعتين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهي عنهما واُعاقب عليهما إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا غيّبته بالحجارة والاُخرى متعة الحجّ.

وفي سنن النسائيّ عن ابن عبّاس قال: سمعت عمر يقول: والله إنّي لأنهاكم عن المتعة وإنّها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعني العمرة في الحجّ.

وفي الدرّ المنثور أخرج مسلم عن عبدالله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان عليّ يأمر بها فقال عثمان لعليّ كلمة فقال عليّعليه‌السلام : لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: ولكنّا كنّا خائفين.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي ذرّ كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج مسلم عن أبي ذرّ قال: لا تصلح المتعتان إلّا لنا خاصّة يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.

اقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جدّاً لكنّا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيريّ عن نهيه. فإنّ هذا النهى ربّما يبحث فيه من جهة كون ناهيه محقّاً أو معذوراً فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلاميّ خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.

وربّما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلّق بالكتاب أو السنّة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنّة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.

فنقول: أمّا الاستدلال على النهي عن التمتّع بأنّه هو الّذي يدلّ عليه قوله تعالى وأتمّوا الحجّ والعمرة لله الآيه وأنّ التمتّع ممّا كان مختصّاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء ممّا شاء وأنّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أنّ قوله تعالى: و

٩١

أتمّوا الحجّ والعمرة لله الآيه لا يدلّ على أزيد من وجوب إتمام الحجّ والعمرة بعد فرضهما. والدليل عليه قوله تعالى: فإنّ اُحصرتم الخ، وأمّا كون الآيه دالّة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحجّ، وأنّ عدم الفصل كان أمراً خاصّاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة، أو به وبمن معه في تلك الحجّة (حجّة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد.

وفيه مع ذلك اعتراف بأنّ التمتّع كان سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في رواية النسائيّ عن ابن عبّاس من قوله: والله إنّي لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ في النهي أخذاً بالكتاب أو السنّة كما في رواية أبي موسى من قوله: أن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله قال: وأتمّوا الحجّ والعمرة لله وأن نأخذ بسنّة نبيّنا لم يحلّ حتّى نحر الهدى انتهى، فقد عرفت أنّ الكتاب يدلّ على خلافه، وأمّا أنّ ترك التمتّع سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه لم يحلّ حتّى نحر الهدى ففيه:

أوّلاً: أنّه مناقض لما نصّ به نفسه على ما يثبته الروايات الاُخر الّتي مرّ بعضها آنفاً.

وثانياً: أنّ الروايات ناصّة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنعها، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلّ بالعمرة وأهلّ ثانياً بالحجّ، وأنّه خطب وقال: أبا لله تعلّمون أيّها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادّعاه ابن تيميّة أنّ حجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حجّ قران وأنّ المتعة كانت تطلق على حجّ القران!

وثالثاً: أنّ مجرّد عدم حلق الرأس حتّى يبلغ الهدى محلّه ليس إحراماً للحجّ ولا يثبت به ذلك، والآيه أيضاً تدلّ على أنّ سائق الهدي الّذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتّع لا محالة.

ورابعاً: هب: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بغير التمتّع لكنّه أمر جميع أصحابه ومن معه بالتمتّع، وكيف يمكن أنّ يعدّ ما شأنه هذا سنّته؟ وهل يمكن أن يتحقّق أمر خصّ به رسول الله نفسه ويأمر اُمّته بغيره وينزل به الكتاب ثمّ يكون بعد سنّة متّبعة بين الناس؟!

٩٢

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ التمتّع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاجّ ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدلّ عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً انتهى. وكما في بعض الروايات قد علمت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعله وأصحابه ولكنّي كرهت أن يعرّسوا بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم انتهى. ففيه أنّه اجتهاد في مقابل النصّ وقد نصّ الله ورسوله على الحكم، والله ورسوله أعلم بأنّ هذا الحكم يمكن أن يؤدّي إلى ما كان يخشاه ويكرهه! ومن أعجب الأمر أنّ الآيه الّتي تشرّع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الّذي أظهر أنّه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فهل التمتّع إلّا استيفاء الحظّ من المتاع والالتذاذ بطيّبات النكاح واللّباس وغيرهما؟ وهو الّذي كان يخشاه ويكرهه!

وأعجب منه: أنّ الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية! وأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمتّع بعين ما جعله سبباً للنهي حين قالوا كما في رواية الدرّ المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منيّاً انتهى فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام خطيباً وردّ عليهم قولهم وأمرهم ثانياً بالتمتّع كما فرضه عليهم أوّلا.

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ التمتّع يوجب تعطّل أسواق مكّة كما في رواية السيوطيّ عن سعيد بن المسيّب من قوله: مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم فيمن يطرء عليهم انتهى.

ففيه أيضاً: أنّه اجتهاد في مقابل النصّ، على أنّ الله سبحانه يردّ عليه في نظير المسأله بقوله:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة - ٢٨.

وأمّا الاستدلال عليه بأنّ تشريع التمتّع لمكان الخوف فلا تمتّع في غير حال الخوف كما في رواية الدرّ المنثور عن مسلم عن عبدالله بن شقيق من قول عثمان لعليّعليه‌السلام ولكنّا كنّا خائفين انتهى. وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدرّ المنثور، قال

٩٣

أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنّه خطب فقال: يا أيّها الناس والله ما التمتّع بالعمرة إلى الحجّ كما تصنعون، إنّما التمتّع أن يهلّ الرجل بالحجّ فيحضره عدوّ أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتّى يذهب أيّام الحجّ فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتّع تحلّة إلى العام المقبل ثمّ يحجّ ويهدي هدياً فهذا التمتّع بالعمرة إلى الحجّ الحديث.

ففيه: أنّ الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت أنّ الجملة الدالّة على تشريع حكم التمتّع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون قوله تعالى: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ الآية.

على أنّ جميع الروايات ناصّة في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بحجّه تمتّعاً، وأنّه أهل بإهلالين للعمرة والحجّ.

وأمّا الاستدلال عليه: بأنّ التمتّع كان مختصّاً بأصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في روايتي الدرّ المنثور عن أبي ذرّ، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد أنّه كان حكماً خاصّاً لأصحاب النبيّ لا يشمل غيرهم، ففيه أنّه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية.

على أنّ إنكار بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وأبي موسى ومعاوية (وروي أنّ منهم أبابكر) ينافي ذلك!

وأمّا الاستدلال عليه بالولاية وأنه إنّما نهى عنه بحقّ ولايته الأمر وقد فرض الله طاعة اُولي الأمر إذ قال( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) الآية النساء - ٥٩، ففيه أنّ الولاية الّتي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.

بيان ذلك: أنّ الآيات قد تكاثرت على وجوب اتّباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى:( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ) الأعراف - ٣، وما بيّنه رسول الله ممّا شرّعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى:( وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) التوبه - ٢٩، وقوله تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر - ٧، فالمراد

٩٤

بالايتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهاكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الأوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى:( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) المائدة - ٤٥، وفي موضع آخر( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) المائدة - ٤٧، وفي موضع آخر( فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) المائدة - ٤٤، وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) الأحزاب - ٣٦، وقال:( وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) القصص - ٦٨ فإنّ المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعمّ ذلك، وقد نصّ القرآن على أنّه كتاب غير منسوخ وأنّ الاحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى:( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصّلت - ٤٢، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرّعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتّباعه على الاُمّة، اُولي الأمر فمن دونهم.

ومن هنا يظهر: أنّ قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) إنّما يجعل لاُولى الأمر حقّ الطاعة في غير الأحكام فهم ومن دونهم من الاُمّة سواء في أنّه يجب عليهم التحفّظ لأحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالّذي يجب فيه طاعة اُولي الأمر إنّما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الاُمّة فيه: من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.

فكما أنّ الواحد من الناس له أن يتغذّى يوم كذا أو لا يتغذّى مع جواز الأكل له من مال نفسه، وله أن يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالاً، وله أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، وله أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كلّ ذلك إذا رآى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له أن يأخذ الربا، ولا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رآى صلاح نفسه في ذلك لأنّ ذلك كلّه يزاحم حكم الله تعالى، هذا كلّه في التصرّف الشخصيّ، كذلك وليّ الأمر له أن يتصرّف في الاُمور العامّة على طبق المصالح الكلّيّة مع حفظ الأحكام الإلهيّة على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حيناً، ويمسك عن ذلك حيناً،

٩٥

على حسب ما يشخّصه من المصالح العامّة، أو يأمر بالتعطيل العموميّ أو الإنفاق العموميّ يوماً إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.

وبالجملة كلّ ما للواحد من المسلمين أن يتصرّف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفّظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قِبَل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتصرّف فيه بحسب الصلاح العامّ العائد إلى حال المسلمين مع التحفّظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.

ولو جاز لوليّ الأمر أن يتصرّف في الحكم التشريعيّ تكليفاً أو وضعاً بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتّة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إنّ حكم التمتّع من طيّبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين أن يقول القائل: إنّ إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرّيّة العامّة فيلزم إهمالها، أو أنّ إجراء الحدود ممّا لا تهضمه الإنسانيّة الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟!

وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدرّ المنثور: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، وأحمد عن الحسن: أنّ عمر بن الخطّاب همّ أن ينهي عن متعة الحجّ فقام إليه اُبيّ بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزل عمر.

٩٦

( سورة البقرة آية ٢٠٤ - ٢٠٧)

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ( ٢٠٤ ) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ( ٢٠٥ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( ٢٠٦ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ( ٢٠٧ )

( بيان)

تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أنّ الآيات السابقة أعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا الخ، تشتمل على تقسيم لهم غير أنّ تلك الآيات تقسّمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسّمهم من حيث النفاق والخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حجّ التمتّع ظاهرة.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الخ، أعجبه الشئ أي راقه وسرّه، وقوله: في الحياة الدنيا، متعلّق بقوله: يعجبك، أي إنّ الإعجاب في الدنيا من جهة أنّ هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلّا على الظاهر، وأمّا الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان وهو متعلّق الحياة بالدنيا إلّا أن يستكشف شيئاً من أمر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: ويشهد الله على ما في قلبه، والمعنى إنّه يتكلّم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحقّ، والعناية بصلاح الخلق، وتقدّم الدين والاُمّة وهو أشدّ الخصماء للحقّ خصومة، وقوله: ألدّ، أفعل التفضيل من لدّ لدوداً إذا اشتدّ خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألدّ الخصام أشدّ خصومة.

٩٧

قوله تعالى: ( وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ) الخ، التولّي هو تملّك الولاية والسلطان، ويؤيّده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزّة بالإثم، الدالّ على أنّ له عزّة مكتسبة بالإثم الّذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو العمل والإسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكّن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل واُوتي سلطاناً وتولّى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، ويمكن أن يكون التولّي بمعنى الإعراض عن المخاطبة والمواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدّل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد والإفساد.

قوله تعالى: ( وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) ، ظاهرة أنّه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها أي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولمّا كان قوام النوع الإنسانيّ من حيث الحياة والبقاء بالتغذّي والتوليد فهما الركنان القويمان الّذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أمّا التوليد فظاهر، وأمّا التغذّيّ فإنّما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى أنّه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان وأبادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ، المراد بالفساد ليس ما هو فساد في الكون والوجود (الفساد التكوينيّ) فإنّ النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلّا بفساد، ولا حياة إلّا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعيّ في النشأة الطبيعيّة، وحاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدّره وقاضيه.

وإنّما هو الفساد المتعلّق بالتشريع فإنّ الله إنّما شرّع ما شرّعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانيّة والجامعة البشريّة، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجئ بيانه في قوله تعالى: كان الناس اُمّة واحدة.

فهذا الّذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنّما يفسد

٩٨

بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عمّا هو عليه، والتصرّف في التعاليم الدينيّة، بما يؤدّي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الإنسانيّة، وفساد الدنيا، وقد صدّق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الاُمّة الإسلاميّة، وتصرّفهم في أمر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين إلّا وبالاً، وللمسلمين إلّا انحطاطاً، وللاُمّة إلّا اختلافاً، فلم يلبث الدين حتّى صار لعبة لكلّ لاعب، ولا الإنسانيّة إلّا خطفة لكلّ خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، وذلك بهلاك الدين أوّلاً، وهلاك الإنسانيّة ثانياً، ولهذا فسّر قوله ويهلك الحرث والنسل في بعض الروايات بهلاك الدين والإنسانيّة كما سيأتي إنشاء الله.

قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ، العزّة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر أنّ قوله: بالإثم متعلّق بالعزّة، والمعنى أنّه إذا اُمر بتقوى الله أخذتة العزّة الظاهرة الّتي اكتسبها بالإثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك أنّ العزّة المطلقة إنّما هي من الله سبحانه كما قال تعالى:( تُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ) آل عمران - ٢٦، وقال تعالى:( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقين - ٨، وقال تعالى:( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء - ١٣٩.

وحاشا أن ينسب تعالى شيئاً إلى نفسه ويختصّه بإعطائه ثمّ يستعقب إثماً أو شرّاً فهذه العزّة إنّما هي عزّة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزّة بحسب ظاهر الحياه الدنيا لا عزّة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.

ومن هنا يظهر أنّ قوله: بالإثم ليس متعلّقاً بقوله: أخذته، بأن يكون الباء للتعدية، والمعنى حملته العزّة على الإثم وردّ الأمر بالتقوى، وتجيبه الآمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببيّة، والمعنى ظهرت فيه العزّة والمناعة بسبب الإثم الّذي اكتسبه، وذلك أنّ إطلاق العزّة على هذه الحالة النفسانيّة وتسميته بالعزّة يستلزم إمضائها والتصديق منه تعالى بأنّها عزّة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سمّيت عزّة بالإثم.

وأمّا قوله تعالى:( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ

٩٩

فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) ص - ٢، فليس من قبيل التسمية والإمضاء لكون العزّة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم أهلكنا من قبلهم الخ فهي هناك عزّة صوريّة غير باقية ولا أصيلة.

قوله تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) الخ، مقابلته مع قوله تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله الخ يفيد أنّ الوصف مقابل الوصف أي كما أنّ المراد من قوله: ومن الناس من يعجبك، بيان أنّ هناك رجلاً معتزّاً بإثمه معجباً بنفسه متظاهراً بالإصلاح مضمراً للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والإنسانيّة إلّا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: ومن الناس من يشري نفسه الخ، بيان أنّ هناك رجلاً آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلّا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلّا بربّه ولا ابتغاء له إلّا لمرضات الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيى به الحقّ، ويطيّب به عيش الإنسانيّة، ويدرّ به ضرع الإسلام، وبذلك يظهر ارتباط الّذيل بالصدر أعني قوله تعالى: والله رؤوف بالعباد، بما قبله، فإنّ وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعبادة إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والافساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقرّ من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكنّ الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحقّ ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) البقرة - ٢٥١، وقال تعالى:( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) الحجّ - ٤٠، وقال تعالى:( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) الانعام - ٨٩، فالفساد الطاري على الدين والدنيا من قبل عدّة ممّن لا هوى له إلّا في نفسه لا يمكن سدّ ثلمته إلّا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممّن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلّا في ربّه، وإصلاح الأرض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ) التوبة - ١١١، إلى غير ذلك من الآيات.

١٠٠