الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 73005
تحميل: 4538


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73005 / تحميل: 4538
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التمكّن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثمّ تعلّقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهنّ و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثمّ بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرّيّة معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبّب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوّأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع.

و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ ) المؤمن: ٧٤ و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) الرعد: ١٧ أي إنّ إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو اُنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.

و قوله:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) بيان لغاية التمكين المذكور و اللّام للغاية، و هو معطوف على مقدّر و التقدير: مكّنّا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلّمه من تأويل الأحاديث و إنّما حذف المعطوف عليه للدلالة على أنّ هناك غايات اُخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: ٧٥ و نظائره.

و قوله:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق ممّا يتركّب منه نظام التدبير قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) يونس: ٣، و إنّما اُضيف إليه تعالى لأنّه مالك كلّ أمر كما قال تعالى:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) الأعراف: ٥٤.

و المعنى أنّ كلّ شأن من شؤون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣.

١٢١

و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعّالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلّا السمع و الطاعة و لكنّ أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أنّ الأسباب الظاهرة مستقلّة في تأثيرها فعّاله برؤسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحوّلها عن وجهتها شي‏ء و قد أخطاؤا.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: صلّيت مع عليّ بن الحسين (عليه السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلمّا فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمّى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلّا أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كلّ من يسأل مستحقّا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّا فلا نطعمه و نردّه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم.

إنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به و يأكل هو و عياله منه، و إنّ سائلا مؤمنا صوّاما محقّا له عند الله منزلة - و كان مجتازا غريبا - اعترّ على باب يعقوب عشيّة جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقّه و لم يصدّقوا قوله.

فلمّا أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم.

قال: فأوحى الله عزّوجلّ إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلّة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إنّ أحبّ أنبيائي إليّ و أكرمهم عليّ من رحم مساكين عبادي و قرّبهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ.

١٢٢

يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته- القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا اعترّ ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً فاسترجع و استعبر و شكى ما به إليّ، و بات جائعاً و طاوياً حامداً و أصبح لي صائماً و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم.

أو ما علمت يا يعقوب أنّ العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر منّي لأوليائي و استدراج منّي لأعدائي. أما و عزّتي لاُنزلنّ بك بلواي، و لأجعلنّك و ولدك غرضا لمصابي، و لاُؤدّبنّك بعقوبتي فاستعدّوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب.

فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة الّتي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلمّا رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصّها على أبيه يعقوب فاغتمّ يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتمّا فأوحى الله إليه أن استعدّ للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّي أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصّها على إخوته.

قال عليّ بن الحسين (عليه السلام): إنّ أوّل بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لمّا سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدّت رقّة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء إنّما هو في يوسف خاصّة فاشتدّت رقّته عليه من بين ولده.

فلمّا رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إيّاه، و إيثاره إيّاه عليهم اشتدّ ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتؤامروا فيما بينهم و( قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) أي تتوبون.

فعند ذلك( قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) فقال

١٢٣

يعقوب( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ ) فانتزعه مقدّرا حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عزّوجلّ على يعقوب من يوسف خاصّة لموقعه في قلبه و حبّه له.

قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقّع البلوى من الله في يوسف.

فلمّا خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمّه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلمّا أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم:( لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ) و لكن( أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

فانطلقوا به إلى الجبّ فألقوه فيه و هم يظنّون أنّه يغرق فيه فلمّا صار في قعر الجبّ ناداهم: يا ولد رومين أقرؤا يعقوب السلام منّي فلمّا رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتّى تعلموا أنّه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتّى أيسوا (و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب).

فلمّا سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عزّوجلّ إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم:( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا ) و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب- من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة.

قال أبو حمزة: ثمّ انقطع حديث عليّ بن الحسين (عليه السلام) عند هذا.

قال أبو حمزة: فلمّا كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنّك حدّثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده ثمّ قطعته فيما كان من قصّة إخوة يوسف و قصّة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنّهم لمّا أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتّى ننظر ما حال يوسف؟ أمات أم هو حيّ؟.

١٢٤

فلمّا انتهوا إلى الجبّ وجدوا بحضرة الجبّ سيّارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلّق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلمّا أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منّا أمس في هذا الجبّ و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحّوا به ناحية فقالوا له: إمّا أن تقرّ لنا أنّك عبد لن فنبيعك بعض السيّارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا به إلى السيّارة فقالوا: منكم من يشتري منّا هذا العبد؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهم و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الّذي اشتراه من البدو حتّى أدخله مصر فباعه الّذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عزّوجلّ:( وَ قالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) .

قال أبو حمزة: فقلت لعليّ بن الحسين (عليه السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجبّ؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما. الحديث.

أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربّما لم تلائم ظاهر ما تقدّم من بيان الآيات لكنّها ترتفع بأدنى تأمّل.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ عن ابن عمر أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبّؤ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليه السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت (ينكت ظ) في قلبه و يوقر في أذنه.

و فيه، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّما ابتلي يعقوب

١٢٥

بيوسف أنّه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم( بقوم ) محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كلّ صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.

و في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: لا يشعرون أنّك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك.

و فيه، و في رواية أبي الجارود في قول الله:( وَ جاؤُ عَلى‏ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) قال: إنّهم ذبحوا جديا على قميصه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده في قوله عزّوجلّ:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) قال: بلا شكوى.

أقول: و كان الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن حيّان بن جبلة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)، و في المضامين السابقة روايات اُخر.

١٢٦

( سورة يوسف الآيات ٢٢ - ٣٤)

وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( ٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَفْسِهِ وَغَلّقَتِ الْأَبَوْابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ( ٢٣) وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَأى‏ بُرْهَانَ رَبّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( ٢٦) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصّادِقِينَ( ٢٧) فَلَمّا رَأى‏ قَمِيصَهُ قُدّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْدِكُنّ إِنّ كَيْدَكُنّ عَظِيمٌ( ٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ( ٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ظَلالٍ مُبِينٍ( ٣٠) فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً وَآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ وَقُلْنَ حَاشَ للّهِ‏ِ مَا هذَا بَشَراً

١٢٧

إِنْ هذَا إِلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ( ٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنّ الّذِي لُمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتّهُ عَن نّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لّمْ يَفْعَلَ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصّاغِرِينَ( ٣٢) قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلّا تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ( ٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنّ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ( ٣٤)

( بيان‏)

تتضمّن الآيات قصّته (عليه السلام) أيّام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحبّ امرأة العزيز له و مراودتها إيّاه عن نفسه، و مني بتعلّق نساء المدينة به و مراودتهنّ إيّاه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفّة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من تولّهه في محبّة ربّه ما هو أعجب.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ به قوى بدنه و تتقوّى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سنّ الكهولة الّتي عندها يكمل العقل و يتمّ الرشد.

و الظاهر أنّ المراد به الانتهاء إلى أوّل سنّ الشباب دون التوسّط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام):( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْما ) القصص: ١٤ حيث دلّ على التوسّط فيه بقوله:( اسْتَوى) ، و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ

١٢٨

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) الآية: الأحقاف: ١٥ فلو كان بلوغ الأشدّ هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله:( بَلَغَ ) .

فلا مجال لما ذكره بعضهم: أنّ المراد ببلوغ الأشدّ بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون: إنّ المراد به بلوغ الأربعين و هو سنّ الأربعين. على أنّ من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتّى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلّقت به و راودته عن نفسه.

و قوله:( آتَيْناهُ حُكْما ) الحكم هو القول الفصل و إزالة الشكّ و الريب من الاُمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصّل من اللّغة - و لازمه إصابة النظر في عامّة المعارف الإنسانيّة الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانيّة و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشريّ.

و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) الآية ٤٠ من السورة، و قوله بعد:( قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) الآية ٤١ من السورة يعلم أنّ هذا الحكم الّذي اُوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الّذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربّه إذ قال:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) الشعراء: ٨٣.

و قوله:( وَ عِلْما ) و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أيّ مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أنّ الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفسانيّ و لا تسويل شيطانيّ كيف؟ و الّذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) الآية ٢١ من السورة، و قال:( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشكّ، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا ألبتّة.

ثمّ من المعلوم أنّ هذه المواهب الإلهيّة ليست بأعمال جزافيّة و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس الّتي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة

١٢٩

في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدا ) الأعراف: ٥٨ و إلى ذلك الإشارة بقوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) حيث يدلّ على أنّ هذا الحكم و العلم اللّذين آتاهما الله إيّاه لم يكونا موهبتين ابتدائيّتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.

و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أنّ الله تعالى يجزي كلّ محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئاً من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨ و قال تعالى:( أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢.

و هذا العلم المذكور في الآية يتضمّن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنّه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة:( وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن:( ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) قال في المفردات: الرود هو التردّد في طلب الشي‏ء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شي‏ء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى:( هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ) و قال:( تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ ) أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله:( وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) ( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) انتهى.

و في المجمع: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنّه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب

١٣٠

المرعى، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنّما شدّد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.

و هيت لك اسم فعل بمعنى هلمّ، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.

و الآية الكريمة( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) على ما فيها من الإيجاز تنبئ عن إجمال قصّة المراودة غير أنّ التدبّر في القيود المأخوذة فيها و السياق الّذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصّته الموردة في السورة يجلّي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبأ من الأمر.

يوسف:

هو ذا طفل صغير حوّلته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعلّه لم يسأل إلّا عن اسمه، و لم يتكلّم إلّا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلّا أنّه كان قد نشأ بين العبريّين، و لم يسأل عن بيته و نسبه فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقّاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلّم بشي‏ء و كم من حديث بين جوانحه فلم يعرّف نسبه إلّا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن( وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و لا كشف عمّا في سرّه من توحيد العبوديّة لله بين اُولئك الوثنيّين إلّا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) إلخ.

هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكنّ قلبه ملي‏ء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر ممّا بثّه إليه أبوه يعقوب النبيّ من حقيقة التوحيد و معنى العبوديّة ثمّ ما بشّر به من الرؤيا أنّ الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثمّ ما وعده به ربّه في غيابة الجبّ حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنّه تحت الولاية الإلهيّة و التربية الربوبيّة معني بأمره و سينبّؤا إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون.

فكان (عليه السلام) مملوء الحسّ مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربّه الخفيّة يرى

١٣١

نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلّا على خير و لا يواجه إلّا جميلا.

و هذا هو الّذي هوّن عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضلّ الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرّفهم نفسه بقوله:( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية ٩٠ من السورة.

فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربّه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كلّ يوم حبّا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أنّ ربّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و هو على كلّ شي‏ء شهيد حتّى تمكّنت المحبّة الإلهيّة منه و استقرّ الوله و الهيمان في سرّه فكان همّه في ربّه لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبّر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله:( مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي ) و قوله:( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) و قوله:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) و غير ذلك كما سنبيّن إن شاء الله تعالى.

فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلّا محبّة إلهيّة أنسته نفسه و شغلته عن كلّ شي‏ء، و صورة معناها أنّها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.

و لم يظهر للعزيز منه أوّل يوم إذ حلّ في بيته إلّا أنّه غلام صغير عبريّ مملوك له غير أنّ قوله لامرأته:( أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا ) يكشف أنّه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرّس فيه عظمة و كبرياء نفسانيّة أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبنّي على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن.

امرأة العزيز:

امرأة العزيز و هي عزيزة مصر، وصّاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أنّ له فيه إربة و اُمنيّة فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتمّ بأمره لا كما يهتمّ في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة

١٣٢

كبد و تحبّه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلّما مضت الأيّام حبّا إلى حبّ حتّى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذلّ على ما لها من مناعة الملك و العزّة و عصمة العفّة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرّها الآخذ بمجامع قلبها.

و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا تردّ عزيمتها و كانت فيما تزعم سيّدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلّا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزّة أن تحتال لشتّى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإنّ عامّة الأسباب و إن عزّت و امتنعت ميسّرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإنّ حريم الملوك لا تدخلها كلّ شوهاء دميمة و لا تحلّ بها إلّا غوان ذوات حسن فتّانات.

و العادة تحكم أنّ هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرّها كلّ لهيب، و أجّجت كلّ نار حتّى استغرقت في حبّ يوسف و تولّهت في غرامة و اشتغلت به عن كلّ شي‏ء، و قد أحاط بقلبها من كلّ جانب، هو أوّل منطقها إذا تكلّمت و في ضميرها إذا سكتت فلا همّ لها إلّا يوسف و لا بغية لها إلّا فيه( قَدْ شَغَفَها حُبًّا ) و ليوسف الجمال الّذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محبّ واله و أدام النظر إليه مهيّم ذو غرام.

يوسف و امرأة العزيز:

لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنّيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفّع ذلك بما لربّات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، و لعلّ الّذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرّها فيما ترومه و يغريها عليه.

حتّى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلّقت الأبواب فلم يبق فيه إلّا هي و يوسف. و هي لا تشكّ أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أنّ

١٣٣

الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه.

فتى واله في حبّه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أمّا هي فمشغوفة بحبّ يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسّل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزّة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر( هَيْتَ لَكَ ) لتقهره على ما تريده منه.

و أمّا هو فقد استغرق في حبّ ربّه و أخلص و صفّي ذلك نفسه فلم يترك لشي‏ء في قلبه محلّا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربّه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونيّة على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجّح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد.

ترى أنّها تتوسّل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها:( هَيْتَ لَكَ ) و أمّا هو فقد قابلها بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إنّي أخاف العزيز أو لا أخونه أو إنّي من بيت النبوّة و الطهارة أو إنّ عفّتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إنّي أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلّقا بشي‏ء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجاة الشدّة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.

بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربّه و لا تعدّى بصره إيّاه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الّذي هدته إليه المحبّة الإلهيّة و أولهه في ربّه فأنساه الأسباب كلّها حتّى أنساه نفسه فلم يقل: إنّي أعوذ منك بالله أو ما يؤدّي معناه، و إنّما قال:( مَعاذَ اللَّهِ ) و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لمّا تمثّل لها بشرا سويّا:( إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ) : مريم: ١٨.

و أمّا قوله لها ثانياً:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) فإنّه يوضح كلمة التوحيد الّذي أفاده بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) و يجلّيه، يقول: إنّ الّذي اُشاهده أنّ إكرامك مثواي عن قول العزيز لك:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) فعل من ربّي

١٣٤

و إحسان منه إليّ فربّي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الّذي يجب عليّ أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنّما أعوذ به لأنّ إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.

فقد أفاد (عليه السلام) بقوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) أوّلا: أنّه موحّد لا يرى شرك الوثنيّة فليس ممّن يتّخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنيّة يتّخذون مع الله أربابا اُخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأنّ الله هو ربّه لا ربّ سواه.

و ثانياً: أنّه ليس ممّن يوحّد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثّر ما تؤثّر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلاً جميلاً لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنّها هي الّتي أكرمت مثواه عن وصيّة العزيز و أنّها و بعلها ربّان له يتولّيان أمره يرى هو أنّ الله سبحانه هو الّذي أحسن مثواه و أنّه ربّه الّذي يتولّى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.

و ثالثاً: أنّه إنّما تعوّذ بالله ممّا تدعوه إليه لأنّه ظلم لا يفلح المتلبّس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكّن في حضرة الأمن عند ربّه كما قال تعالى حكاية عن جدّه إبراهيم (عليه السلام):( الّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام ٨٢.

و رابعاً: أنّه مربوب - أي مملوك مدبّر - لله سبحانه ليس له من الأمر شي‏ء، و لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً إلّا ما شاء الله له أو أحبّ أن يأتي به و لذلك لم يردّ ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله:( مَعاذَ اللَّهِ ) إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذراً من دعوى الحول و القوّة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللّهمّ إلّا ما في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) حيث أشار فيه إلى نفسه مرّتين و ليس فيه إلّا تثبيت المربوبيّة و تأكيد الذلّة و الحاجة، و لهذه العلّة بعينها بدّل الإكرام إحساناً فأتى حذاء قول العزيز:( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) بقوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) لما في

١٣٥

الإكرام من الإشعار باحترام الشخصيّة و تعظيمها.

و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعاً بين حبّ و هيمان إلهيّ و عشق و غرام حيوانيّ يتشاجران في يوسف كلّ منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهيّة و دافعت عنه المحبّة الإلهيّة و الله غالب على أمره.

فقوله تعالى:( وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ) يدلّ على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أنّ الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أنّ الأمر كان عليه شديداً، و كذا قوله:( وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) حيث عبّر بالتغليق و هو يدلّ على المبالغة و علّق الغلق بالأبواب و هو جمع محلّى باللّام و كذا قوله:( وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ ) حيث عبّر بالأمر المولويّ الدالّ على إعمال المولويّة و السيادة مع إشعاره بأنّها هيّأت له من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلّا مجرّد إقبال من يوسف و لا بين يوسف على ما هيّأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شي‏ء حائل غير أنّ الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزّة جميعا.

و قوله:( قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: أعوذ بالله معاذا ممّا تدعينني إليه لأنّه ربّي الّذي تولّى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغرّبت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته.

و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبوديّة كلّه كما تقدّم و قد أتى أوّلا بلفظة( الجلالة ) ثمّ بصفة الربوبيّة ليدلّ به على أنّه لا يعبد ربّا غير الله ملّة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و احتمل عدّة من المفسّرين أن يكون الضمير في قوله:( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) للشأن، و المراد أنّ ربّي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيّارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك

١٣٦

على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه.

و نظير الوجه قول بعضهم: إنّ الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إنّ و خبرها قوله:( رَبِّي ) ، و قوله:( أَحْسَنَ مَثْوايَ ) ، خبر بعد خبر.

و فيه أنّه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنّه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) الآية ٥٢ من السورة و لم يقل: إنّي لم أظلمه بالغيب.

على أنّه (عليه السلام) لم يكن ليعدّ العزيز ربّا لنفسه، و هو حرّ غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن:( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) الآية ٤٢ من السورة، و قال لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية ٥١ من السورة و لم يعبّر عن الملك بلفظ ربّي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضاً لرسول الملك:( فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ) حيث يأخذ الله سبحانه ربّا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربّا للرسول.

و يؤيّد ما ذكرنا أيضاً قوله في الآية التالية:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) التدبّر البالغ في أطراف القصّة و إمعان النظر فيما تحتفّ به من الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أنّ نجاة يوسف منها لم تكن إلّا أمراً خارقاً للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابّا بالغاً أشدّه و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هني‏ء العيش محبوراً بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوّس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك

١٣٧

و العظماء.

و كانت لا محالة متزيّنة بما يأخذ بمجامع كلّ قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كلّه ممّا يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرّضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرّض أصعب، و قد راودته هذه الفتّانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحّت عليه فجذبته إلى نفسها حتّى قدّت قميصه و الصبر معها أصعب و أشقّ، و كانت عزيزة لا يردّ أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربّته خصّه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة الّتي تبهر العيون و تدعو إلى كلّ عيش هنيي‏ء.

و كانا في خلوة و قد غلّقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشرّ مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنّها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرّة بل كان مفتاحا لعيش هنيي‏ء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسّل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيّها كالملك و العزّة و المال.

فهذه أسباب و اُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها و لم يكن هناك ممّا يتوهّم مانعاً إلّا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز:

أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أمن منه. و لو كان بدأ من ذلك شي‏ء لكان في وسع العزيزة أن تؤوّله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتّى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشي‏ء و قلبت العقوبة ليوسف حتّى سجن.

و أمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا و أشدّ إثما فإنّهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم. شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله و يلقوه في غيابة الجبّ و يبيعوه من السيّارة بيع

١٣٨

العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبيّ (عليه السلام) فبكى حتّى ابيضّت عيناه.

و أمّا قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعيّة و القوانين الاجتماعيّة إنّما تؤثّر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنّما يتمّ فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوّة المجرية و الحكومة العادلة، و أمّا لو أغفلت القوّة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي‏ء من هذه القوانين كما سنتكلّم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القويّة الّتي كانت لها عليه إلّا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله. و إن شئت فقل المحبّة الإلهيّة الّتي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلّا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبّر في القصّة. و لنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) لا ريب أنّ الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أنّ المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه ممّا اُريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أنّ المشار إليه بقوله:( كَذلِكَ ) هو ما يشتمل عليه قوله:( أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) .

فيؤل معنى قوله:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ ) إلى آخر الآية إلى أنّه (عليه السلام) لمّا كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربّه فرؤية برهان ربّه هي السبب الّذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام).

و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدّر لقوله:( لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون( لَوْ لا أَنْ رَأى) إلخ قيداً لقوله:( وَ هَمَّ بِها ) و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمّه بها نظير همّها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همّه بها داخلاً تحت الشرط، و المعنى أنّه لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يرتكب فإنّ( لَوْ لا ) و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدّم جزائها عليها قياسا على إن الشرطيّة إلّا أنّ قوله:

١٣٩

( وَ هَمَّ بِها ) ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنّه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه.

و معنى الآية: و الله لقد همّت به و الله لو لا أن رءا برهان ربّه لهمّ بها و أوشكّ أن يقع في المعصية، و إنّما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأنّ الهمّ - كما قيل - لا يستعمل إلّا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى:( وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) التوبة: ٧٤، و قوله:( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) آل عمران: ١٢٢، و قول صخر:

أهمّ بأمر الحزم لا أستطيعه

و قد حيل بين العير و النزوان

فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهمّ و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله:( لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ ) و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبّر فيه.

و من هنا يظهر أنّ الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهمّ بها و الميل إليها كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لو لا ما أراه الله من البرهان لهمّ و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الّذي يؤيّده ما قدّمناه من الاعتبار و التأمّل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ) اللّام فيه للقسم، و المعنى و اُقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهمّ إلّا بأن تشفع الإرادة بشي‏ء من العمل.

و قوله:( وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى و اُقسم لو لا رؤيته برهان ربّه لهمّ بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه.

و البرهان هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلّطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى:( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ ) القصص:

١٤٠