الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 72960
تحميل: 4536


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72960 / تحميل: 4536
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قبل إنّما هو حقّ لو كان هذا بشراً و ليس به و إنّما يذمّ الإنسان و يعاب لو ابتلي بهوى بشر و مراودته و كان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه و يغني عنه، و أمّا الجمال الّذي لا يعادله جمال، و يسلب كلّ حزم و اختيار، فلا لوم على هواه. و لا ذمّ في غرامة.

و لهذا انقلب المجلس دفعة، و انقطعت قيود الاحتشام فانبسطن و تظاهرن بالقول في حسن يوسف و كلّ تتكلّم بما في ضميرها منه، و قالت امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) فأبدت سرّا ما كانت تعترف به قبل ثمّ هدّدت يوسف تجلّدا و حفظا لمقامها عندهنّ و طمعا في مطاوعته و انقياده:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) .

و أمّا يوسف فلم يأخذه شي‏ء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتّانة و لا التفت إلى شي‏ء من لطيف كلامهنّ و نعيم مراودتهنّ أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كلّ جمال، و جلال يذلّ عنده كلّ عزّة و جلال فلم يكلّمهنّ بشي‏ء و لم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، و إنّما رجع إلى ربّه فقال:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

و كلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة:( مَعاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) دلّ بسياقه على أنّ هذا المقام كان أشقّ و أمرّ على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم همّ امرأة العزيز و يعالج كيدها وحدها، و قد توجّهت إليه اليوم همّهنّ و مكايدهنّ جميعاً، و كان ما بالأمس واقعة في خلوة على تسترّ منها، و هي و هنّ اليوم متجاهرات في حبّه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، و جميع الأسباب و المقتضيات اليوم قاضية لهنّ عليه أشدّ ممّا كانت عليه بالأمس.

و لذا تضرّع إلى ربّه سبحانه في دفع كيدهنّ هاهنا، و اكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهنّ إنّه هو السميع العليم.

١٦١

و لنرجع إلى البحث عن الآيات.

فقوله تعالى:( وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها ) إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة و تقييد بقوله: فِي الْمَدِينَةِ تفيد أنّهنّ كنّ من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثّر قولهنّ في شيوع الفضيحة.

و امرأة العزيز هي الّتي كان يوسف في بيتها و قد راودته عن نفسه و العزيز معناه معروف، و قد كان يلقّب به السيّد الّذي اشترى يوسف من السيّارة و كان يلقّب به الرؤساء بمصر كما لقّب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.

و في قوله:( تُراوِدُ ) دلالة على الاستمرار و هو أفحش المراودة، و الفتى الغلام الشابّ و المرأة فتاة، و قد شاع تسمية العبد فتى و كأنّه بهذه العناية اُضيف إلى ضميرها فقيل:( فَتاها ) .

و في المفردات:( شَغَفَها حُبًّا ) أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه. عن الحسن، و قيل: وسطه. عن أبي عليّ، و هما يتقاربان انتهى. و شغاف القلب غلافه المحيط به.

و المعنى: و قال عدّة من نساء المدينة لا يخلو قولهنّ من أثر فيها و في حقّها: امرأة تستمرّ في مراودة عبدها عن نفسه و لا يحري بها ذلك لأنّها مرأة و من القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك - إن كان - من طبع الرجال و إنّها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الّذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها و عزّة زوجها و مكانة نفسها، و إنّ الّذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها و هي عزيزة مصر بعبد عبرانيّ من جملة عبيده، و أنّها أحبّته و تعدّت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتّى ألحّت و استمرّت على مراودته و ذلك أقبح و أشنع و أمعن في الضلال.

و لذلك عقّبن قولهنّ:( امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ ) إلخ بقولهنّ:( إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

قوله تعالى: ( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) قال في المجمع: المكر هو الفتل بالحيلة على ما

١٦٢

يراد من الطلبة. انتهى. و تسمية هذا القول منهنّ مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها و هتك سترها من ناحية رقيباتها حسداً و بغيا، و إنّما أرسلت إليهنّ لتريهنّ يوسف و تبتليهنّ بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها و يعذرنها في حبّه.

و على هذا إنّما سمّي قولهنّ مكراً و نسب السمع إليه لأنّه صدر منهن حسداً و بغيا لغاية فضاحتها بين الناس.

و قيل: إنّما كان قولهنّ مكراً لأنّهنّ جعلناه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنّما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهنّ ليحضرن عندها فتريهنّ إيّاه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتّخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، و الوجه الأوّل أقرب إلى سياق الآيات.

و قوله:( أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ) معناه معلوم و هو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.

و قوله:( وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) الإعتاد الإعداد و التهيئة أي أعدّت و هيّأت، و المتّكأ بضمّ الميم و تشديد التاء اسم المفعول من الإتّكاء، و المراد به ما يتّكؤ عليه من نمرق أو كرسيّ كما كان معمولا في بيوت العظماء. و فسّر المتكأ بالاُترجّ و هو نوع من الفاكهة كما قرئ في الشواذّ( مُتَّكَا ) بالضمّ فالسكون و هو الاُترجّ و قرئ( مُتَّكَا ) بضمّ الميم و تشديد التاء من غير همز.

و قوله:( وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينا ) أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالاُترجّ أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع و قوله:( وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) أي أمرت يوسف أن يخرج عليهنّ و هنّ خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة و قطعها، و في اللفظ دلالة على أنّه (عليه السلام) كان غائبا عنهنّ و كان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الّذي كنّ فيه فإنّها قالت:( اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ) و لو كان في خارج من البيت لقالت:( ادخل عليهنّ ) .

و في السياق دلالة على أنّ هذا التدبير كان مكراً منها تجاه مكرهنّ ليفتضحن

١٦٣

به فيعذرنها فيما عذلنها و قد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فأعتدت لهنّ متكا و آتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا، و أخفت يوسف عن أعينهنّ ثمّ فاجأتهنّ بإظهاره دفعة لهنّ ليغبن عن عقولهنّ، و يندهشن بذاك الجمال البديع و يأتين بما لا يأتي به ذو شعور ألبتّة و هو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة و الثنتين منهنّ بل من الجميع.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لله ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) الإكبار الإعظام و هو كناية عن اندهاشهنّ و غيبتهنّ عن شعورهنّ و إرادتهنّ بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكونيّ العامّ و هو خضوع الصغير للكبير و قهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته و كبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد و الأفكار فأنساها و صار يتخبّط في أعماله.

و لذلك لمّا رأينه قهرت رؤيته شعورهنّ فقطّعن أيديهنّ تقطيعا مكان الفاكهة الّتي كنّ يردن قطعها، و في صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتّل القوم تقتيلا و موّتهم الجدب تمويتا.

و قوله:( وَ قُلْنَ حاشَ لله ) تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف و هذا كقوله تعالى:( ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) النور: ١٦ و هو من أدب الكلام عند الملّيّين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه و تبرئة لأحد يبدأ فينزّه الله سبحانه ثمّ يشتغل بتنزيه من اُريد تنزيهه فهنّ لمّا أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهنّ( ما هذا بَشَرا ) إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثمّ أخذن ينزّهنه.

و قوله:( ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا و إثبات أنّه ملك كريم، و هذا بناء على ما يعتقده الملّيّون و منهم الوثنيّون أنّ الملائكة موجودات شريفة هم مبادئ كلّ خير و سعادة في العالم منهم يترشّح كلّ حياة و علم و حسن و بهاء و سرور و سائر ما يتمنّى و يؤمّل من الاُمور ففيهم كلّ جمال صوريّ و معنويّ، و إذا مثّلوا تخيّلوا في حسن لا يقدّر بقدر، و يتصوّره

١٦٤

أصحاب الأصنام في صور إنسانيّة حسنة بهيّة.

و لعلّ هذا هو السبب في قولهنّ:( إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) حيث لم يصفنه بما يدلّ على حسن الوجه و جمال المنظر مع أنّ الّذي فعل بهنّ ما فعل هو حسن وجهه و اعتدال صورته بل سميّنة ملكاً كريماً لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته و سيرته معا، و جمال خلقه و خلقه و ظاهره و باطنه جميعا. و الله أعلم.

و تقدّم قولهنّ هذا على قول امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) يدلّ على أنّهنّ لم يفهن بهذا الكلام إعذارا لامرأة العزيز في حبّها له و تيمها و غرامها به، و إنّما كان ذلك اضطراراً منهنّ على الثناء عليه و إظهاراً قهريا لانجذاب نفوسهنّ و تولّه قلوبهنّ إليه فقد كان فيه فضاحتهنّ، و لم تقل امرأة العزيز:( فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) إلّا بعد ما فضحتهنّ فعلا و قولا بتقطيع الأيدي و تنزيه الحسن فلم يبق لهنّ إلّا أن يصدّقنها فيما تقول و يعذرنها فيما تفعل.

قوله تعالى: ( قالَتْ فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل كأنّ قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهنّ؟ فقيل:( قالَتْ فَذلِكُنَّ الّذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) .

و قد فرّعت كلامها على ما تقدّمه من قولهنّ و فعلهنّ و أشارت إلى شخص الّذي لمنها فيه و وصفته بأنّه الّذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها و عزّة زوجها و عفّة نفسها في حبّه، و عذراً قبال لومهنّ إيّاها في مراودته، و أقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، و من هذا الباب قوله تعالى:( أَ هذَا الّذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) الأنبياء: ٣٦، و قوله:( رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ) الأعراف: ٣٨.

ثمّ اعترفت بالمراودة و ذكرت لهنّ أنّها راودته لكنّه أخذ بالعفّة و طلب العصمة، و إنّما استرسلت و أظهرت لهنّ ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التولّه فيه فبثّت الشكوى لهنّ و نبّهت يوسف أنّها غير تاركته فليوطّن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، و هذا معنى قولها:( وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) .

١٦٥

ثمّ ذكرت لهنّ ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة و سياسته لو خالفت فقالت:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) و قد أكّدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم و النون و اللّام و نحوها ليدلّ على أنّها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، و عندها ما يجبره على ما أرادته و لو استنكف فليوطّن نفسه على السجن بعد الراحة، و الصغار و الهوان بعد الإكرام و الاحترام، و في الكلام تجلّد و نوع تعزّز و تمنّع بالنسبة إليهنّ و نوع تنبيه و تهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام).

و هذا التهديد الّذي يتضمّنه قولها:( وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ) أشدّ و أهول ممّا سألته زوجها يوم المراودة بقولها:( ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

أمّا أوّلاً فلأنّها ردّدت الجزاء هناك بين السجن و العذاب الأليم و جمع هاهنا بين الجزاءين و هو السجن و الكون من الصاغرين.

و أمّا ثانياً فلأنّها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، و كلامها كلام من لا يتردّد فيما عزم عليه و لا يرجع عمّا جزم به. و قد حقّقت أنّها تملك قلب زوجها و تقدر أن تصرفه ممّا يريده إلى ما تريده، و تقوى على التصرّف في أمره كيفما شاءت؟.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: صبا فلان يصبو صبواً و صبوة إذا نزع و اشتاق و فعل فعل الصبيان، قال تعالى:( أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) انتهى و في المجمع: الصبوة لطافة الهوى. انتهى.

تفاوضت امرأة العزيز و النسوة فقالت و قلن و استرسلن في بثّ ما في ضمائرهنّ و يوسف (عليه السلام) واقف أمامهنّ يدعونه و يراودنه عن نفسه لكنّ يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهنّ و لا كلّمهنّ و لا بكلمة بل رجع إلى ربّه الّذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلّا له و لا شغل له إلّا به، و( قالَ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) إلخ.

١٦٦

و قوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن و أن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، و إنّما هو بيان حال لربّه و أنّه عن تربية إلهيّة يرجّح عذاب السجن في جنب الله على لذّة المعصية و البعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به و راودته عن نفسه:( مَعاذَ الله إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) ففي الكلامين معا تمنّع و تعزّز بالله، و إنّما الفرق أنّه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز و بالآخر ربّه القويّ العزيز و ليس شي‏ء من الكلامين دعاء ألبتّة.

و في قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ) إلخ، نوع توطئة لقوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إلخ، الّذي هو دعاء في صورة بيان الحال.

فمعنى الآية: ربّ إنّي لو خيّرت بين السجن و بين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره و أسألك أن تصرف عنّي كيدهنّ فإنّك إن لا تصرف عنّي كيدهنّ أنتزع و أمل إليهنّ و أكن من الجاهلين فإنّي إنّما أتوقّى شرّهنّ بعلمك الّذي علّمتنيه و تصرف به عنّي كيدهنّ فإن أمسكت عن إفاضته عليّ صرت جاهلا و وقعت في مهلكة الصبوة و الهوى.

و قد ظهر من الآية بمعونة السياق:

أوّلاً: أنّ قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ) إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربّه بالإعراض عنهنّ و الرجوع إليه، و معنى( أَحَبُّ إِلَيَّ ) أنّي أختاره على ما يدعونني إليه لو خيّرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلّا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنسانيّ و النفس الأمّارة.

و أنّ قوله تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ) إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ) إلخ، من معنى الدعاء. و يؤيّده تعقيبه بقوله:( فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) ، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهّمه بعضهم.

١٦٧

و من الدليل عليه قوله بعد في قصّة دخوله السجن:( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ) و لو كان دعاء بالسجن و استجابة الله سبحانه و قدّر له السجن لم يكن التعبير بثمّ و فصل المعنى عمّا تقدّمه بأنسب فافهم.

و ثانياً: أنّ النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أمّا أنّهنّ دعونه إلى أنفسهنّ أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثمّ أسرّت كلّ واحدة منهنّ داعية إيّاه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إذ لو لا دعوة منهنّ إلى أنفسهنّ لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهنّ.

و الّذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ - إلى أن قال -قُلْنَ حاشَ لله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) الآيات: ٥٠- ٥٢ من السورة.

أنّهنّ دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهنّ في القصّة ثمّ قال:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبّر فيه.

و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيّبهنّ عن شعورهنّ و يدهش عقولهنّ و يقطّعن أيديهنّ ثمّ ينسللن انسلالا و لا يتعرّض له أصلا و يذهبن لوجوههنّ بل العادة قاضية أنّهنّ ما فارقن المجلس إلّا و هنّ متيّمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلّا و هو همّهنّ و فيه هواهنّ يفدينه بالنفس و يطمعنه بأيّ زينة في مقدرتهنّ و يعرضن له أنفسهنّ و يتوصّلن إلى ما يردنه منه بكلّ ما يستطعن.

و هو ظاهر ممّا حكاه الله من يوسف في قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) فإنّه لم يعرض عن تكليمهنّ إلى مناجاة ربّه الخبير بحاله السميع لمقاله إلّا لشدّة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهنّ به.

١٦٨

و ثالثاً: أنّ تلك القوّة القدسيّة الّتي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجيّ يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعيّ المفروغ عنه و إلّا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبّر عنه بقوله:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي ) و لم يقل: و إن لم تصرف عنّي و إن كانت الجملة الشرطيّة منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.

و لذلك أيضاً قال تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ) إلخ فنسب دفع الشرّ عنه إلى استجابة و صرف جديد.

و رابعاً: أنّ هذه القوّة القدسيّة من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام)( وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز:( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) أو أكن من الخائنين كما قال للملك:( وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ) و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربّه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنّه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنّه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربّه بحقيقة الأمر و هو أنّ الصبوة إليهنّ من الجهل.

و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين(١) في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهنّ عنه حين قال:( وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ) إنّه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.

( أبحاث حول التقوى الديني و درجاته)

في فصول‏

١- القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد: لا يسعد القانون إلّا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتمّ إلّا بالتوحيد فالتوحيد هو

____________________

(١) أي الأمر الثالث و الرابع.

١٦٩

الأصل الّذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانيّة و تتفرّع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي الّتي تثمر ثمراتها الطيّبة في المجتمع، قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) إبراهيم: ٢٦. فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و اُكل تؤتيه كلّ حين بإذن ربّها و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفّة و المعرفة و الشجاعة و العدالة والرحمة و نظائرها.

و قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر: ١٠ فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيّب و هو الاعتقاد الحقّ و جعل العمل الّذي يصلح له و يناسبه هو الّذي يرفعه و يمدّه في صعوده.

بيان ذلك: أنّ من المعلوم أنّ الإنسان لا يتمّ له كماله النوعيّ و لا يسعد في حياته الّتي لا بغية له أعظم من إسعادها إلّا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوّع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.

و هذا هو الّذي أحوج الإنسان الاجتماعيّ إلى أن يتسنّن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتّى يعمل كلّ منهم ما في وسعه العمل به ثمّ يبادلوا أعمالهم فينال كلّ من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدّره وزنه الاجتماعيّ من غير أن يظلم القويّ المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.

و من المسلّم أنّ هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثّرة إلّا بسنن و قوانين اُخرى جزائيّة تهدّد المتخلّفين عن السنن و القوانين المتعدّين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوّفهم بالسيّئة قبال السيّئة و باُخرى تشوّقهم و ترغّبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوّة الحاكمة الّتي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.

١٧٠

و إنّما تتحقّق هذه الاُمنيّة إذا كانت القوّة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قويّة على المجرم، و أمّا إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحقّقه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشدّ قوّة ضاعت القوانين و فشت التخلّفات و التعدّيات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مرّ مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجرّ النفع إلى نفسه و لو أضرّ غيره.

و يشتدّ هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوّة في القوّة المجرية أو من يتولّى أزمّة جميع الاُمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على ردّه إلى العدل و تقويمه بالحقّ فصار ذا قوّة و شوكة لا يقاوم في قوّته و لا يعارض في إرادته.

و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكّماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.

فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدّتها لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسدّ باب الخلاف و طريق التخلّف إلّا بأخلاق فاضلة إنسانيّة تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتّباع الحقّ و احترام الإنسانيّة و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها.

و لا يغرّنّك ما تشاهده من القوّة و الشوكة في الاُمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على اُسس أخلاقيّة حيث لا ضامن لإجرائها فإنّهم اُمم يفكّرون فكرة اجتماعيّة لا يرى الفرد منهم إلّا نفع الاُمّة و خيرها و لا يدفع إلّا ما يضرّ اُمّته، و لا همّ لاُمّته إلّا استرقاق سائر الاُمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدّم و الرقيّ إلّا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الاُمّة اليوم مقام الفرد بالأمس، و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرّيّة و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلّا الرقّيّة و

١٧١

الخسّة و الظلم و الرذيلة.

و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلّف و الضيعة إلّا إذا تأسّست على أخلاق كريمة إنسانيّة و استظهرت بها.

ثمّ الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلّا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأنّ للعالم - و منه الإنسان - إلهاً واحداً سرمديّا لا يعزب عن علمه شي‏ء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسي‏ء بإساءته ثمّ يخلّدون منعّمين أو معذّبين.

و من المعلوم أنّ الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان همّ إلّا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليّاً له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيويّة إلّا التمتّع بمتاع الدنيا الفانية و التلذّذ بلذائذ الحياة المادّيّة، و أقصى ما يمكنه أن يعدّل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعيّة الحيويّة أن يفكّر في نفسه أنّ من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و أنّ من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيّا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبيّة.

أمّا ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنّما يجري في اُمور هامّة علموا بها أمّا الجزئيّات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرّيّة فلا وقاء يقيها و أمّا الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الاُمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممّن يبتغيه و يذعن به ثمّ لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلّا اعتقاداً خرافيّاً إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت و الفوت حتّى يعود إليه شي‏ء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أيّ عاقل يشتري تمتّع غيره بحرمان نفسه من غير أيّ فائدة عائدة أو يقدّم الحياة لغيره

١٧٢

باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلّا البطلان و الاعتقاد الخرافيّ يزول بأدنى تنبّه و التفات.

فقد تبيّن أنّ شيئاً عن هذه الاُمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صدّ الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصّة إذا كان العمل ممّا من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصّة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفّف الّذي يزعم أنّه كان شرها و بغيا كما تقدّم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتّهام المرأة إيّاه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحريّ أن يمنعه - شي‏ء إلّا العلم بمقام ربّه.

٢- يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة: و إن شئت فقل: إنّه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحبّ، قال تعالى:( فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) الحديد: ٢٠ فعلى المؤمن أن يتنبّه لحقيقة الدنيا و هي أنّها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أنّ له وراءها داراً و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيّئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدّمه لرضى نفسه.

و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين و الّذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الّذي أعدّ لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.

و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلّما فكّر فيما وعده الله الّذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنّة.

١٧٣

و طائفة ثالثة و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنّما يعبدونه لأنّه أهل للعبادة و ذلك لأنّهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنّه ربّهم الّذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كلّ شي‏ء غيرهم، و يدبّر الأمر وحده و ليسوا إلّا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلّا أن يعبد ربّه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شي‏ء من أعمالهم فعلا أو تركا إلّا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوّفهم، و لا إلى ثواب يرجّيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام):( ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) .

و هؤلاء لمّا خصّوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربّهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربّهم تظهر في قلوبهم المحبّة الإلهيّة و ذلك أنّهم يعرفون ربّهم بما عرّفهم به نفسه، و قد سمّى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكلّ صفة جميلة و من خاصّة النفس الإنسانيّة أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى:( ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ ) الأنعام: ١٠٢ ثمّ قال:( الّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: ٧ فأفاد أنّ الخلقة تدور مدار الحسن و أنّهما متلازمان متصادقان ثمّ ذكر سبحانه في آيات كثيرة أنّ ما خلقه من شي‏ء آية تدلّ عليه و أنّ في السماوات و الأرض لآيات لاُولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدلّ عليه تعالى و لا يحكي شيئاً من جماله و جلاله.

فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدلّ على جماله الّذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الّذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدلّ على غناه المطلق و تسبّح و تنزّه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: ٤٤.

فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربّهم و عرفها لهم و هو أنّها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسيّة و الأصالة

١٧٤

و الاستقلال إلّا أنّها كمرائي تجلّى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلّتها و استكانتها ما فوقها من العزّة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزّة و العظمة و يغشى قلبه من المحبّة الإلهيّة ما ينسيه نفسه و كلّ شي‏ء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانيّة عن باطنه، و يبدّل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلّا الله عزّ اسمه قال تعالى:( وَ الّذينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله ) البقرة: ١٦٥.

و لذلك يرى أهل هذا الطريق أنّ الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفاً و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإنّ الّذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسّل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أنّ من يعبده طمعا في ثوابه يتوسّل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدّمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام):( هل الدين إلّا الحبّ) و قوله (عليه السلام) في حديث:( و إنّي أعبده حبّا له و هذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون) الحديث، و إنّما كان أهل الحبّ مطهّرين لتنزّههم عن الأهواء النفسانيّة و الألواث المادّيّة فلا يتمّ الإخلاص في العبادة إلّا من طريق الحبّ.

٣- كيف يورث الحبّ الإخلاص؟ عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنّب المحرّمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنّة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معاً إنّما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لربّ الدين.

و أمّا محبّة الله سبحانه فإنّها تطهّر القلب من التعلّق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتّى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلّق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبيّ أو وليّ و سائر

١٧٥

ما يرجع إليه تعالى بوجه فإنّ حبّ الشي‏ء حبّ لآثاره.

فهذا الإنسان يحبّ من الأعمال ما يحبّه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الّذي يضي‏ء له طريق العمل، قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢. و الروح الّذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و هذا هو السرّ في أنّه لا يقع منه إلّا الجميل و الخير و يتجنّب كلّ مكروه و شرّ.

و أمّا الموجودات الكونيّة و الحوادث الواقعة فإنّه لا يقع بصره على شي‏ء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلّا أحبّه و استحسنه لأنّه لا يرى منها إلّا أنّها آيات محضة تجلّى له ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الّذي لا يتناهى العاري من كلّ شين و مكروه.

و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربّه بسرور لا غمّ معه و لذّة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإنّ هذه العوارض السوء إنّما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقّب للشرّ و المكروه، و من كان لا يرى إلّا الخير و الجميل و لا يجد إلّا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغمّ و الحزن و الخوف و كلّ ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدّره و لا يحيط به إلّا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العاديّة أن تتعقّله و تكتنهه إلّا بنوع من التصوّر الناقص.

و إليه يشير أمثال قوله تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) يونس: ٦٣، و قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام: ٨٢.

و هؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربّهم شي‏ء ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبّسه الشيطان فإنّ كلّ ما يترائى لهم ليس إلّا آية كاشفة عن الحقّ المتعال لا حجابا ساترا فيفيض

١٧٦

عليهم ربّهم علم اليقين، و يكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادّيّة العميّة بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطفّفين: ٢١، و قوله تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: ٦ و قد تقدّم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) المائدة: ١٠٥ في الجزء السادس من الكتاب.

و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكّلون على الله المفوّضون إليه الراضون بقضائه المسلّمون لأمره إذ لا يرون إلّا خيرا و لا يشاهدون إلّا جميلا فيستقرّ في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى:( هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: ٦٥.

٤- و أمّا إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإنّ العبد لا يملك من نفسه شيئاً إلّا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملّكه إيّاه فإخلاصه دينه - و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه - لله هو إخلاصه تعالى إيّاه لنفسه.

نعم هاهنا شي‏ء و هو أنّ الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقّادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوّث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أنّ هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.

و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمّة، و قد نصّ القرآن بأنّ الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأنعام: ٨٧، و قال:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج: ٧٨.

و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب

١٧٧

المعاصي، و تمتنع معه صدور شي‏ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنّهما معا تمنعان من صدور المعصية لكنّ العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.

و قد تقدّم آنفاً أنّ من خاصّة هؤلاء القوم أنّهم يعلمون من ربّهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصّق ذلك بقوله:( سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ الله الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و أنّ المحبّة الإلهيّة تبعثهم على أن لا يريدوا إلّا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرّر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله:( قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣.

و من الدليل على أنّ العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم)( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) النساء: ١١٣ و قد فصّلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.

و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام):( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) يوسف: ٣٣ و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.

و يظهر من ذلك أوّلا: أنّ هذا العلم يخالف سائر العلوم في أنّ أثره العمليّ و هو صرف الإنسان عمّا لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعيّ غير متخلّف دائماً بخلاف سائر العلوم فإنّ الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) : النمل ١٤ و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، و قال:( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) الجاثية: ١٧.

و يدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:( سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ الله

١٧٨

الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: ١٦٠، و ذلك أنّ هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمّة (عليه السلام) قد بيّنوا لنا جمل المعارف المتعلّقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصّلنا العلم به من طريق البرهان أيضاً، و الآية مع ذلك تنزّهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به اُولئك المخلصون فليس إلّا أنّ العلم غير العلم و إن كان متعلّق العلمين واحدا من وجه.

و ثانياً: أنّ هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغيّر الطبيعة الإنسانيّة المختارة في أفعالها الإراديّة و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادئ الاختيار، و مجرّد قوّة العلم لا يوجب إلّا قوّة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مانع مّا سمّاً قاتلاً من حينه فإنّه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنّما يضطرّ الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.

و يشهد على ذلك قوله:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: ٨٨ تفيد الآية أنّهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهيّ مانعاً من ذلك، و قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) المائدة: ٦٧ إلى غير ذلك من الآيات.

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.

و لا ينافي ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرّح به الأخبار أنّ ذلك من الأنبياء و الأئمّة بتسديد من روح القدس فإنّ النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإنّ شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستنداً إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.

١٧٩

نعم هناك قوم زعموا أنّ الله سبحانه إنّما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغيّر مجراها و يحرّفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القويّ الضعيف عمّا يريده من الفعل بحسب طبعه.

و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الّذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنّهم يرون أنّ حاجة الأشياء إلى البارئ الحقّ سبحانه إنّما هي في حدوثها، و أمّا في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلّا أنّه لمّا كان أقدر و أقوى من كلّ شي‏ء كان له أن يتصرّف في الأشياء حال البقاء أيّ تصرّف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.

فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شرّ مثلاً أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغيّر مجرى إرادته مثلاً عن الشرّ إلى الخير أو أراد أن يضلّ عبداً لاستحقاقه ذلك سلّط عليه إبليس فحوّله من الخير إلى الشرّ و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.

و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشرّ مشاهدة عيان أنّه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا الّتي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتّبة عليه قائمين بها فالّذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طوليّ لا عرضيّ و هو ظاهر.

مضافا إلى أنّ المعارف القرآنيّة من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدّم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدّم صدره في البحث الروائيّ السابق:

١٨٠