الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 73013
تحميل: 4538


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73013 / تحميل: 4538
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ساقه من القصّة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزّة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هدّدته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزّة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجبّ و بيعه من السيّارة ليذلّوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثمّ كادت به بالسجن لصغاره فتسبّب الله بذلك لعزّته.

و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرّيّة الاختلاط و العشرة، قال تعالى:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي رفعنا عنه حرج السجن الّذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشيّة له أن يتبوّأ في أيّ بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصّاه امرأته:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) .

و بهذه المقايسة يظهر أنّ قوله ههنا:( نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ) في معنى قوله هناك:( وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) و أنّ المراد أنّ الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيّته و لا يسع لأيّ مانع مفروض أن يمنع من إصابته. و لو وسع لسبب أن يبطل مشيّة الله في أحد لوسع في يوسف الّذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزّه الله، إن الحكم إلّا لله.

و قوله:( وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى أنّ هذا التمكين أجر اُوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أنّ الله لا يضيع أجرهم.

قوله تعالى: ( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل اُخرويّ لأوليائه تعالى خاصّة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.

و الدليل على أنّه لا يعمّ عامّة المؤمنين الجملة الحاليّة:( وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) الدالّة على أنّ هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى

٢٢١

مستمرّ حقيقيّ و هذا التقوى لا يتحقّق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) يونس: ٦٤.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ: ثمّ إنّ الملك رآى رؤيا فقال لوزرائه إنّي رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و اُخر يابسات و قال(١) أبوعبدالله (عليه السلام) سبع سنابل ثمّ قال: يا أيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك.

فذكر الّذي كان على رأس الملك رؤياه الّتي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله:( وَ قالَ الّذي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) أي بعد حين( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ) فجاء إلى يوسف فقال:( أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ ) .

قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلّا قليلاً ممّا تأكلون أي لا تدوسوه فإنّه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون.

و قال أبوعبدالله (عليه السلام): قرأ رجل على أميرالمؤمنين (عليه السلام)( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ) - على البناء للفاعل - فقال: ويحك أيّ شي‏ء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أميرالمؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنّما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على

____________________

(١) و قرأ خ ل‏

٢٢٢

ذلك قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً ) .

فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربّك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ؟ إنّ ربّي بكيدهنّ عليم.

فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز:( الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب و أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثمّ قالت:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ) .

فقال الملك: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فلمّا نظر إلى يوسف قال:( إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ) فاسأل حاجتك قال:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ) .

أقول: قوله: وقرأ الصادق (عليه السلام)( سبع سنابل) في رواية العيّاشيّ عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنّه قرأ:( سَبْعَ سُنْبُلاتٍ ) (١) و قوله (عليه السلام): إنّما نزل ما قرّبتم لهنّ أي إنّ التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، وقوله (عليه السلام): إنّما نزلت: وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنّه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون‏ الغوث و روى هذا المعنى أيضاً العيّاشيّ في تفسيره عن عليّ بن معمر عن أبيه عن أبي عبدالله (عليه السلام).

و قوله:( أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل) ظاهر في أخذ قوله:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ

____________________

(١) على ما أخرجه في البرهان و أمّا في نسخة العيّاشيّ المطبوعة( سبع سنابل) أيضاً.

٢٢٣

و ابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث اُرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتّى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له اُتي ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنّه أحبّ أن يكون له العذر.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق اُخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العيّاشيّ عن أبان عن محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدّثته حتّى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك(١) حتّى أظهر الله عذره.

أقول: و هذا النبويّ لا يخلو من شي‏ء فإنّ فيه أحد المحذورين إمّا الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصّله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرّد الخروج منه و لا همّ لامرأة العزيز و نسوة مصر إلّا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهنّ و هو القائل:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، و إنّما كان يريد الخروج في جوّ يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.

و لذا أنبأ و هو في السجن أوّلا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامّة و ادّخارها فتوصّل به إلى قول الملك( ائْتُونِي بِهِ ) ثمّ لمّا أمر بإخراجه أبى إلّا أن‏ يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصّل به إلى قوله:( ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ) و هذا أحسن تدبير يتصوّر لما كان يبتغيه من العزّة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض. مضافاً إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الاُمور و تحمّله الأذى في جنب الحقّ و علمه الغزير و حكمه القويم.

و إمّا الطعن في النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و حاشاه أن يقول: إنّه لو كان مكان يوسف

____________________

(١) هي امرأة العزيز دون الملك و لعلّ إطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث. منه.

٢٢٤

طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأنّ الحقّ كان معه في صبره، و هو اعتراف بأنّ من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يأمر الناس بشي‏ء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمّل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتّى أثنى الله عليه بمثل قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلميّ عن أنس قال: إنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قرأ هذه الآية:( ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال: لمّا قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همّك. قال:( وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في عدّة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عبّاس: لمّا قالها يوسف( فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟) و في رواية عن حكيم بن جابر:( فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟) و نحو من ذلك في روايات اُخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحّاك و ابن زيد و السدّيّ و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.

و قد تقدّم في البيان السابق أنّ هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنصّ الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصدّيق (عليه السلام) أن يكذب بقوله:( لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) ثمّ يصلح ما أفسده بغمز من جبريل. قال في الكشّاف: و لقد لفّقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أنّ يوسف حين قال:( أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ) قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكّة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله. انتهى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ ) الآية يعني العزيز.

أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسيّ في كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسن بن عليّ بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلمّا

٢٢٥

مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم و الدنانير حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلّا صار في ملك يوسف.

و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلّا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتّى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتّى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلّا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلّا صار عبداً ليوسف.

فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه [ الله ظ ] من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً و علماً و تدبيراً، ثمّ قال يوسف للملك: ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإنّي لم اُصلحهم لاُفسدهم، و لم اُنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكنّ الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك.

قال يوسف: إنّي اُشهد الله و اُشهدك أيّها الملك إنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي و لا تحكم إلّا بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلّا بسيرتك و لا أحكم إلّا بحكمك و لولاك ما تولّيت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزاً ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له و أنّك رسوله فأقم على [ ما ظ ] ولّيتك فإنّك لدينا مكين أمين.

أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات

٢٢٦

و لذلك تركنا نقلها.

و في تفسير العيّاشيّ، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكّي الرجل نفسه؟ قال: نعم إذا اضطرّ إليه أما سمعت قول يوسف:( اجْعَلْنِي عَلى‏ خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) و قول العبد الصالح: إنّي لكم ناصح أمين؟.

أقول: الظاهر أنّ المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه:( أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ ) الأعراف: ٦٨.

و في العيون، بإسناده عن العيّاشيّ قال حدّثنا محمّد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنّه أنكر ذلك عليه. فقال له أبوالحسن الرضا (عليه السلام): أيّما أفضل النبيّ أو الوصيّ؟ فقال: لا بل النبيّ. قال: فأيّما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم.

قال: فإنّ عزيز(١) مصر كان مشركا و كان يوسف نبيّا، و إنّ المأمون مسلم و أنا وصيّ و يوسف سأل العزيز أن يولّيه حتّى قال: استعملني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله:( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) قال: حافظ على ما في يدي عالم بكلّ لسان.

أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العيّاشيّ في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضاً عن فضل بن أبي قرّة عن الصادق (عليه السلام).

____________________

(١) المراد به ملك مصر و لعلّ إطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. منه.

٢٢٧

( سورة يوسف الآيات ٥٨ - ٦٢)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ( ٥٨) وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُم مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ( ٥٩) فَإِن لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ( ٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنّا لَفَاعِلُونَ( ٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ( ٦٢)

( بيان‏)

فصل آخر مختار من قصّة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجيي‏ء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدّمة لضمّ يوسف (عليه السلام) أخاه من اُمّه - و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ - إليه ثمّ تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.

و إنّما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنّه أراد أن يلحق أخاه من اُمّه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و منّ الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثمّ يشخصهم جميعاً، و الآيات الخمس تتضمّن قصّة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبّلهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ )

٢٢٨

في الكلام حذف كثير و إنّما ترك الاقتصاص له لعدم تعلّق غرض هامّ به، و إنّما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من اُمّه به و إشراكه معه في النعمة و المنّ الإلهيّ ثمّ معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصّته و ما جرى عليه بعد عزّة مصر.

و الّذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من اُمّه فإنّ يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلّي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كلّه ما سيأتي من الآيات.

و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلّده عزّة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنّهم إنّما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلّموه إلى السيّارة يوم اُخرج من الجبّ و هو صبيّ و قد مرّ عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولّى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زيّ عزيز مصر لا يظنّ به أنّه رجل عبريّ من غير القبط، و هذا كلّه صرفهم عن أن يظنّوا به أنّه أخوهم و يعرفوه لكنّه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوّة كما قال تعالى:( وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: الجهاز ما يعدّ من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه. انتهى. فالمعنى و لمّا حملهم ما أعدّ لهم من الجهاز و الطعام الّذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ائْتُونِي إلخ.

و قوله:( أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ - أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتّكاء على قدرتي و عزّتي -وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) اُكرم النازلين بي و اُحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانياً و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أنّ قوله في الآية التالية:( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تقرّبونِ ) تهديد لهم لئلّا

٢٢٩

يعصوا أمره، و كما أنّ قولهم في الآية الآتية:( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).

ثمّ من المعلوم أنّ قوله (عليه السلام) أوان خروجهم:( ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ) مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاماً ابتدائيّاً من غير مقدّمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطّنوا أنّه يوسف أو يتوهّموا فيه ما يريبهم في أمره. و هو ظاهر. و قد أورد المفسّرون في القصّة من مفاوضته لهم و تكليمه إيّاهم أموراً كثيرة لا دليل على شي‏ء منها من كلامه تعالى في سياق القصّة و لا أثر يطمأنّ إليه في أمثال المقام.

و كلامه تعالى خال عن التعرّض لذلك، و إنّما الّذي يستفاد منه أنّه سألهم عن خطبهم فأخبروه و هم عشرة أنّهم إخوة و أنّ لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحبّ العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ ) الكيل بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام. و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدّم.

قوله تعالى: ( قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) المراودة كما تقدّم هي الرجوع في أمر مرّة بعد مرّة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام)( سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ) دليل على أنّهم قصّوا عليه قصّته أنّ أباهم يضنّ به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أيّ غيبة، و في قولهم:( أَباهُ ) و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.

و قولهم:( وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ) أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحملة معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبّل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا

٢٣٠

انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الفتيان جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى:( هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) و قال تعالى:( بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) و الأصل في هذه الكلمة البضع - بفتح الباء - و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع - قال - و فلان بضعة منّي أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منّي - قال - و البضع بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة. انتهى، و الرحال جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب الرجوع.

و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم الّتي قدّموها ثمناً لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم - و فتحوا الأوعية - لعلّهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإنّ ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتّع من الإكرام و الإحسان.

٢٣١

( سورة يوسف الآيات ٦٣ - ٨٢)

فَلَمّا رَجَعُوا إِلَى‏ أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ٦٣) قَالَ هَلْ ءَأَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى‏ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ( ٦٤) وَلَمّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذهِ بِضَاعَتُنَا رُدّتْ إِلَيْنَا وَنَميرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ( ٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى‏ تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي بِهِ إِلّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ( ٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيّ لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مّتَفَرّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلّا للّهِ‏ِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَعَلَيهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُتَوَكّلُونَ( ٦٧) وَلَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِنَ اللّهِ مِن شَيْ‏ءٍ إِلّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلّمْنَاهُ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٦٨) وَلَمّا دَخَلُوا عَلَى‏ يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٦٩) فَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ( ٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مّاذَا تَفْقِدُونَ( ٧١)

٢٣٢

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ( ٧٢) قَالُوا تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنّا سَارِقِينَ( ٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُم كَاذِبِينَ( ٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ( ٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دينِ الْمَلِكِ إِلّا أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نّشَاءُ وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( ٧٦) قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرّ مّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ( ٧٧) قَالُوا يَا أَيّهَا الْعَزِيرُ إِنّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنينَ( ٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنّا إِذاً لَظَالِمُونَ( ٧٩) فَلَمّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُم أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتّى‏ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( ٨٠) ارْجِعُوا إِلَى‏ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ( ٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالْعِيرَ الّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصَادِقُونَ( ٨٢)

٢٣٣

( بيان‏)

الآيات تقتصّ رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من اُمّه للاكتيال ثمّ مجيئهم ثانياً إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى‏ أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الاكتيال أخذ الطعام كيلا إن كان ممّا يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا تولّيت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى:( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الّذينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ- يَسْتَوْفُونَ- وَ إِذا كالُوهُمْ ) .

و قوله:( قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله:( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ) فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصّونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.

و قولهم:( أَخانا ) إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) بما فيه من التأكيد البالغ.

قوله تعالى: ( قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) قال في المجمع: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمنا انتهى فقوله:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، أي هل أطمئنّ إليكم في ابني هذا إلّا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.

و محصّله أنّكم تتوقّعون منّي أن أثق فيه بكم و تطمئنّ نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم:( وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) و قد أمنتكم

٢٣٤

بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عنّي شيئاً و جئتم بقميصه الملطّخ بالدم أنّ الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئاً و لا بيده حفظ ما سلّم إليه و ائتمن له.

و قوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) تفريع على سابق كلامه:( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ) إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لُغيً لا أثر له و لا يغني شيئاً فخير الاطمئنان و الإتّكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردّد الأمر بين التوكّل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعيّن.

و قوله:( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) في موضع التعليل لقوله:( فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً ) أي إنّ غيره تعالى ربّما اُمن في أمر و ائتمن عليه في أمانة سلّم له فلم يرحم المؤتمن و ضيّع الأمانة لكنّه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محلّ الرحمة و يترحّم العاجز الضعيف الّذي فوّض إليه أمرا و توكّل عليه، و من يتوكّل على الله فهو حسبه.

و من هنا يظهر أنّ مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنّه سبب مستقلّ في سببيّته غير مغلوب ألبتّة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى:( وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق: ٣ كيف؟ و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الّذي يتنزّه عنه ساحة الأنبياء، و قد نصّ تعالى على أنّ يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنّه من الأئمّة الهداة المهديّين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله:( إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) أنّه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه ألبتّة. على أنّه أمنهم على أخي يوسف أيضاً بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدلّ عليه الآيات التالية.

بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنّه تعالى متّصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغشّ عباده المتوكّلين عليه المسلّمين

٢٣٥

له اُمورهم فإنّه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنّه أرحم الراحمين على أنّه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيّته، و أمّا الناس إذا أمنوا على أمر و اطمئنّ إليهم في شي‏ء فإنّهم اُسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانيّة ربّما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربّما خانوا و لم يحفظوا. على أنّهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوّة و إرادة.

و بالجملة مراده (عليه السلام) أنّ الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنّه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمئنّ فيه إليه بخلاف الناس فإنّهم ربّما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسّل بهم فخانوه، و لذلك لمّا كلّف بنيه ثانياً أن يؤتوه موثقا من الله قال:( إن تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا اُحيط بهم فإنّه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسؤلين عنه، و إنّما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ في قوله (عليه السلام)( وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنّهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أيّ حال في معنى الردّ لما سألوه.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) إلى آخر الآية. البغي هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشرّ و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع: الميرة الأطعمة الّتي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا. انتهى.

و قوله:( يا أَبانا ما نَبْغِي ) استفهام أي لمّا فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنّه غير قاصد بهم سوءا و قد سلّم إليهم الطعام و ردّ إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و

٢٣٦

درّا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الّذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد اُوفى لنا الكيل و ردّ إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.

فقولهم:( يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنّه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه، و لذلك عقّبوه بقولهم:( وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي سهل.

و ربّما قيل: إنّ( ما ) في قوله:( ما نَبْغِي ) للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردّت إلينا، و كذا قيل: إنّ اليسير بمعنى القليل أي إنّ الّذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.

قوله تعالى: ( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) الموثق بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهيّ و إعطاؤه هو أن يسلّط الإنسان على أمر إلهيّ يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلنّ كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.

و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الّذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكلّ شي‏ء أي مسلّط عليه حافظ له من كلّ جهة لا يخرج و لا شي‏ء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدّت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: اُحيط به أي هلك أو فسد أو انسدّت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى:( وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى‏ ما أَنْفَقَ فِيها ) الكهف: ٤٢، و قال:( وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ

٢٣٧

بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) يونس: ٢٢ و منه قوله في الآية:( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كلّ استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إليّ.

و الوكالة نوع تسلّط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكّل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكّل عليه في الاُمور ليس بعناية أنّه خالق كلّ شي‏ء و مالكه و مدبّره بل بعناية أنّه أذن في نسبة الاُمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملّكها إيّاها بنحو من التمليك و هي فاقدة للأصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقلّ القاهر لكلّ سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمراً و توصّل إليه بالأسباب العاديّة الّتي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقلّ بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب الّتي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكّل عليه سبحانه. فليس التوكّل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الاُمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلّة الّتي إلى نفسه و إلى الأسباب.

و لذلك نرى أنّ يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكّله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسّك بالأسباب العاديّة فكلّم أولا بنيه في أخيهم ثمّ أخذ منهم موثقا من الله ثمّ توكّل على الله و كذا فيما وصّاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرّقة ثمّ توكّله على ربّه تعالى.

فالله سبحانه على كلّ شي‏ء وكيل من جهة الاُمور الّتي لها نسبة إليها كما أنّه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوّة، و أنّه ربّ كلّ شي‏ء من جهة أنّه المالك المدبّر لها.

و معنى الآية:( قالَ ) يعقوب لبنيه:( لَنْ أُرْسِلَهُ ) أي أخاكم من اُمّ يوسف( مَعَكُمْ حتّى تُؤْتُونِ ) و تعطوني( مَوْثِقاً مِنَ الله ) أثق به و أعتمد عليه من عهد أو

٢٣٨

يمين( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ) و اللّام للقسم و لمّا كان إيتاؤهم موثقا من الله إنّما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) و تسلبوا الاستطاعة و القدرة( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ) من الله( قالَ ) يعقوب( اللَّهُ عَلى‏ ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) أي إنّا قاولنا جميعاً فقلت و قلتم و توسّلنا بذلك إلى هذه الأسباب العاديّة للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشي‏ء فليأت به كما التزم و إن تخلّف فليجازه الله و ينتصف منه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهّزوا و استعدّوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصّة أنّه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفّا واحداً لأنّه كان من المعلوم أنّه سيشخصهم إليه فيصطفّون عنده صفّا واحداً و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنّما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرّق به جمعهم من قتل أو أيّ نازلة اُخرى.

و قوله بعده:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّه كان يخاف ذلك جدّاً فكأنّه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحسّ حينما تجهّزوا للسفر و اصطفّوا أمامه للوداع إحساس إلهام أنّ جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرّق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذّرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.

ثمّ رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الّذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلاً مستقلّاً - و لا مؤثّر في الوجود بالحقيقة إلّا الله سبحانه - فقيّد كلامه بما يصلحه فقال مخاطباً لهم:( وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ثمّ علّله بقوله( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لله ) أي لست أرفع حاجتكم إلى الله

٢٣٩

سبحانه بما أمرتكم به من السبب الّذي تتّقون به نزول النازلة و تتوسّلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإنّ هذه الأسباب لا تغني من الله شيئاً و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقاً إلّا لله بل هذه أسباب ظاهريّة إنّما تؤثّر إذا أراد الله لها أن تؤثّر.

و لذلك عقّب كلامه هذا بقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) أي إنّ هذا سبب أمرتكم باتّخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكّلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب الّتي أخذتها في اُموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كلّ رشيد غير غويّ يرى أنّه لا يقوى باستقلاله لإدارة اُموره و لا أنّ الأسباب العاديّة باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجئ في اُموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبّر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الّذي لا يقهره شي‏ء الغالب الّذي لا يغلبه شي‏ء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و قد تبيّن بالآية أوّلاً معنى التوكّل و أنّه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكّل و الموكّل.

و ثانياً: أنّ هذه الأسباب العاديّة لمّا لم تكن مستقلّة في تأثيرها و لا غنيّة في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسّل إليها في مقاصده الحيويّة أن يتوكّل مع التوسّل إليها على سبب وراءها ليتمّ لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب الّتي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنّه من الغيّ و الجهل.

و ثالثاً: أنّ ذاك السبب الّذي يجب التوكّل عليه في الاُمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنّه الله لا إله إلّا هو ربّ كلّ شي‏ء و هذا هو المستفاد من الحصر الّذي يدلّ عليه قوله:( و على الله فليتوكّل المتوكّلون) .

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الله مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) إلى آخر الآية. الّذي يعطيه سياق الآيات

٢٤٠