الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 73011
تحميل: 4538


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73011 / تحميل: 4538
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فعضو الذكر قد يكون مع عضو الاُنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة اُخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إمّا أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إمّا أن يكون كلّ منهما في زهرة وحده و الثاني كالقرع و الأوّل كشجرة القطن فإنّ عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة. انتهى.

و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلميّة الّتي لا غبار عليها إلّا أنّ ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإنّ ظاهرها أنّ نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنّها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كلّ الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.

نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ) يس: ٣٦ و قوله:( وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) لقمان: ١٠ و قوله:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الذاريات: ٤٩.

و ذكر بعضهم أنّ زوجين اثنين الذكر و الاُنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الاُنثى و كلّ منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفيّ و خلافه. و هو كما ترى.

و قوله:( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ) أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أنّ المراد به إغشاء كلّ من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدلّ على ذلك.

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فإنّ التفكّر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتّصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدّي إلى توجّه المجموع و كلّ جزء من أجزائها إلى غايات تخصّها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقليّ في غاية الإتقان و الإحكام فيدلّ على أنّ لها ربّاً واحداً لا شريك له في ربوبيّته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية

٣٢١

بكلّ شي‏ء و خاصّة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.

قوله تعالى: ( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى:( صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) . انتهى، و قال: و الاُكل لما يؤكل بضمّ الكاف و سكونه قال تعالى:( أُكُلُها دائِمٌ ) و الأكلة للمرّة و الاُكلة كاللقمة. انتهى.

و المعنى أنّ من الدليل على أنّ هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبّر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أنّ في الأرض قطعاً متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنّات من أعناب و العنب من الثمرات الّتي تختلف اختلافاً عظيماً في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرّقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضّل بعضها على بعض بما فيه من المزيّة المطلوبة في شي‏ء من صفاته.

فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصّة بكلّ منها أو العوامل الخارجيّة الّتي تعمل فيها فتتصرّف في إشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تقصّه الأبحاث العلميّة المتعرّضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصّها، و العوامل الّتي تؤثّر في كيفيّة تكوّنها و تتصرّف في صفاتها.

قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخليّة و العوامل فما هي العلّة في اختلافها المؤدّية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادّة المشتركة بين الكلّ المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلّا أنّ هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثمّ أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة اُخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميّز شي‏ء من

٣٢٢

شي‏ء و لا اختلف في شي‏ء هذا.

و من الواجب على الباحث المتدبّر في هذه الآيات أن يتنبّه أنّ استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالاً لقانون العلّة و المعلول كما ربّما يتوهّم فإنّ إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتّى تتغيّر ذاته بتغيّر الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامّة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتّى يوافيك توضيحه في محلّ يناسبه إن شاء الله.

و لمّا كانت الحجّة مبنيّة على مقدّمات عقليّة لا تتمّ بدونها عقّبها بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

و قد ظهر من البيان المتقدّم أنّ نسبة اختلاف الاُكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئيّة و مدّ الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عزّ من سبب.

و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلّم بالغير و هو ما في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لعلّ النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنّه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الاُكل و ليس المفضّل إلّا الله سبحانه ثمّ عرّف المتكلّم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنّه هو السبب الّذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثمّ اُوجز هذا التفضيل فقيل:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلّم مع الغير عن إشعار بأنّ هناك أسباباً إلهيّة دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الآية إنّما سيقت حجّة لتوحيد الربوبيّة لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخّصها أنّ اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتّحدة و انتظامها عن مشيّته و تدبيره فالمدبّر لها هو الله سبحانه و هو ربّها لا ربّ غيره، فما يتراآى من المفسّرين

٣٢٣

أنّ الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محلّه.

على أنّ الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيّين و هم إنّما ينكرون وحدة الربوبيّة و يثبتون أربابا شتّى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحقّ عزّ اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أنّ للعالم صانعا، و قد تنبّه به بعضهم فذكر أنّ الآية احتجاج على دهريّة العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنّه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدلّ على ما ادّعاه.

و ظهر أيضاً أنّ الفرق بين الحجّتين أعني ما في قوله:( وَ هُوَ الّذي مَدَّ الْأَرْضَ ) إلخ و ما في قوله:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ) إلخ أنّ الاُولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتّصال في التدبير المتعلّق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدّي إلى وحدة مدبّرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواصّ في الأشياء الّتي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أنّ المبدء المفيض لهذه الآثار و الخواصّ المختلفة المتفرّقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو ربّ الجميع لا ربّ غيره.

و أمّا الحجّة الاُولى المذكورة قبل الحجّتين أعني ما في قوله تعالى:( اللَّهُ الّذي رَفَعَ السَّماواتِ ) إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنّها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرّقات الاُمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات. و محصّلها أنّ أمر العالم على تشتّته و تفرّقه تحت تدبير واحد فله ربّ واحد هو الله سبحانه، و أنّه تعالى يفصّل الآيات فيميّز كلّ شي‏ء من كلّ شي‏ء فيفصّل السعيد من الشقيّ و الحقّ من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبيّة و المعاد معا إذ قال:( لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن الخطّاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمّد (عليهم السلام) قال:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) يعني هذه الأرض الطيّبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.

٣٢٤

و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشيّ في شرف المصطفى و الثعلبيّ في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي - و اللفظ له - بإسناده عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ (عليه السلام): الناس من شجرة شتّى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثمّ قرأ:( جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ ) بالنبيّ و بك: قال: و رواه النطنزيّ في الخصائص عن سلمان‏، و في رواية: أنا و عليّ من شجرة و الناس من أشجار شتّى.

قال صاحب البرهان: و روي حديث جابر بن عبدالله الطبرسيّ، و عليّ بن عيسى في كشف الغمّة.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول: يا عليّ الناس من شجر شتّى و أنا و أنت يا عليّ من شجرة واحدة ثمّ قرأ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و حسّنه و البزّاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): في قوله تعالى:( وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) قال: الدقل(١) و الفارسيّ و الحلو و الحامض.

____________________

(١) الدقل بفتحتين أردء التمر و كأن الفارسي نوع منه طيب.

٣٢٥

( سورة الرعد الآيات ٥ - ٦)

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنّا تُرَاباً أَءِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلَى‏ ظُلْمِهِمْ وَإِنّ رَبّكَ لَشَديدُ الْعِقَابِ( ٦)

( بيان‏)

عطف على بعض ما كان يتفوّه به المشركون في الردّ على الدعوة و الرسالة كقولهم: أنّى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا اُنزل علينا العذاب الّذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) إلى آخر الآية قال في المجمع: العجب و التعجّب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغلّ طوق تشدّ به اليد إلى العنق انتهى.

أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقّيّة ما أنزله إلى نبيّه من معارف الدين في كتابه ملوّحا إلى أنّ آيات التكوين تهدي إليه و تدلّ عليه و اُصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثمّ فصّل القول في دلالة الآيات التكوينيّة على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبيّة و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقّيّة الرسالة و الكتاب المنزل الّذي هو آيتها، فلمّا اتّضح ذلك و استنار تمهّدت الطريق لذكر شبه الكفّار فيما يرجع إلى الاُصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم

٣٢٦

في البعث و سيتعرّض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية.

و شبهتهم في ذلك قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أورده بعنوان أنّه عجب أحرى به أن يتعجّب منه لظهور بطلانه و فساده ظهوراً لا مسوّغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوّه به إنسان لكان من موارد العجب فقال:( وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ) إلخ.

و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلّق( تَعْجَبْ ) إن تحقّق منك تعجّب - و لا محالة يتحقّق لأنّ الإنسان لا يخلو منه - فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلّق به تعجّبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجّب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لبّ و حجى.

و قولهم:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الّذي هو الهيكل اللّحميّ الخاصّ المركّب من أعضاء خاصّة المجهّز بقوى مادّيّة على زعمهم و كيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديداً؟.

و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كلّ واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادّتها:

فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنساناً سويّاً، و قد اُجيب عنه بأنّ إمكان استحالة الموادّ الأرضيّة منيّا ثمّ المنيّ علقة ثمّ العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سويّ و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنساناً سويّاً قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) الآية: الحجّ: ٥.

و منها: استبعاد إيجاد الشي‏ء بعد عدمه. و اُجيب بأنّه مثل الخلق الأوّل فليجز كما جاز قال تعالى:( وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يس: ٧٩.

و منها: أنّ الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتّى تتلبّس بالخلق الجديد

٣٢٧

و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلّا في تصوّر المتصوّر دون الخارج بنحو.

و قد اُجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أنّ الإنسان ليس هو البدن المركّب من عدّة أعضاء مادّيّة حتّى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله بل حقيقته روح علويّة - و إن شئت قلت: نفس - متعلّق بهذا المركّب المادّيّ تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصيّة و إن تغيّر بدنه و تبدّل بمرور السنين و مضيّ العمر ثمّ الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثمّ البعث هو أن يجدّد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء.

قال تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) الم السجدة: ١١ يقول إنّكم بالموت لا تضلّون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكّل بالموت يأخذ الأمر الّذي تدلّ عليه لفظة( كم ) و( نا ) و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضلّ ثمّ إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم.

فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار اُخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتّع في حياته الثانية إلّا بما يكتسبه في حياته الاُولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يعدّه في يومه لغده من موادّ السعادة فإن اتّبع الحقّ و آمن بآيات الله سعد في اُخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكبّ على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غلّ بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار.

و إذا عرفت هذا الّذي قدّمناه و تأمّلته تأمّلاً كافياً بان لك أنّ قوله تعالى:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إلى آخر الآية ليس بمجرّد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين:( أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) على ما يتخيّل في بادئ النظر بل

٣٢٨

جواب بلازم القول.

و توضيح ذلك أنّ لازم قولهم: إنّ الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانيّة و انعدمت الشخصيّة أن يكون الإنسان صورة مادّيّة قائمة بهذا الهيكل البدنيّ المادّيّ العائش بحياة مادّيّة من غير أن تكون له حياة اُخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الربّ تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده و بعبارة اُخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادّيّة غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبيّ إذ لا معنى لربّ لا معاد إليه.

و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همّه في المقاصد الدنيويّة و الغايات المادّيّة من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الّذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره.

و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنّه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي الّتي أشار تعالى إليه بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا ) إلخ.

فقوله:( أُولئِكَ الّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ) إشارة إلى اللازم الأوّل و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبيّ و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به.

و قوله:( وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ) إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيّد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مرّ في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) الآية: البقرة: ٢٦ في الجزء الأوّل من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنيّة حقائق أو مجازات فراجع إليه.

و قوله:( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء.

٣٢٩

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) إلى آخر الآية. قال في المجمع: الاستعجال طلب التعجيل بالأمر و التعجيل تقديم الأمر قبل وقته، و السيّئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسرّ النفس، و المثلات العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم و ضمّ الثاء، و من قال في الواحد: مثلة بضمّ الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمّتين نحو غرفة و غرفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات - أي بسكون الثاء و فتحها - انتهى.

و قال الراغب في المفردات: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات - أي بضمّ الميم أو فتحها و ضمّ الثاء - و قد قرئ: من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد. انتهى.

و قوله:( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) ضمير الجمع للّذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيّئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله:( وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) - و الجملة في موضع الحال - فإنّ المراد به العقوبات النازلة على الاُمم الماضين القاطعة لدابرهم.

و المعنى: يسألك الّذين كفروا أن تنزّل عليهم العقوبة الإلهيّة قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الاُمم الماضين الّذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب.

و قوله:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمراً عجيباً أي إنّ ربّك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتّى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إنّ ذلك لعجيب.

٣٣٠

و يظهر من هذا المعنى الّذي يعطيه السياق:

أوّلاً: أنّ التعبير عنه تعالى بقوله:( رَبَّكَ ) إنّما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيّين لا يأخذونه تعالى ربّاً بل النبي (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) هو الّذي يأخذه ربّاً من بين قومه.

و ثانياً: أنّ المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعمّ من المغفرة و العقوبة الدنيويّتين فإنّ المشركين إنّما كانوا يستعجلون بالسيّئة و العقوبة الدنيويّتين، و المثلات الّتي يذكر الله تعالى أنّها خلت من قبلهم إنّما هي العقوبات الدنيويّة النازلة عليهم.

على أنّ العفو و المغفرة لا يختصّان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أنّ آثارهما تختصّ بذلك، و قد تقدّم ذلك مراراً فله تعالى أن يبسط مغفرته على كلّ من شاء حتّى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة: ١١٨.

و لهذه النكتة عبّر تعالى عن مورد المغفرة بقوله:( لِلنَّاسِ ) و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أيّ واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أنّ المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

فكان على هؤلاء الّذين كفروا أن يسألوه تعالى - و يستعجلوا به - أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرّع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنّه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتّى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أمّا الظلم حال ما يتلبّس به الظالم فإنّ المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )

٣٣١

الجمعة: ٥.

و ثالثاً: أنّ قوله:( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنّه للتحرّز من أن يدلّ على فعليّة المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنّه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شي‏ء.

و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنّه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتّصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيّراً في بعض ما تقدّم من نكت الآية غير أنّه غير ظاهر من السياق.

و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنّة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشي‏ء إلّا بما في قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية: النساء: ٤٨.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس:( وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى‏ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ‏ ) قال رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلّم): لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لا تّكل كلّ أحد.

٣٣٢

( سورة الرعد الآيات ٧ - ١٦)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ إِنّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ( ٧) اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنثَى‏ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلّ شَى‏ءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ( ٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ( ٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِالّيْلِ وَسَارِبُ بِالنّهَارِ( ١٠) لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى‏ يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ( ١١) هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنشِئُ السّحَابَ الثّقَالَ( ١٢) وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ( ١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَي‏ءٍ إِلّا كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلاَلٍ( ١٤) وَللّهِ‏ِ يَسْجُدُ مَن فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلاَلُهُم بِالْغُدُوّ وَالْآصَالِ( ١٥) قُلْ مَن رّبّ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتّخَذْتُم مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِم نَفْعاً ولاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ

٣٣٣

يَسْتَوِي الْأَعْمَى‏ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظّلُمَاتُ وَالنّورُ أَمْ جَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِم قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ( ١٦)

( بيان‏)

تتعرّض الآيات لقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و تردّه عليهم أنّ الرسول ليس له إلّا أنّه منذر أرسله الله على سنّة الهداية إلى الحقّ ثمّ تسوق الكلام فيما يعقبه.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحقّ و الباطل المهلكة للاُمّة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) بأن يكون تكراراً لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو اُريد ذلك لكان من حقّ الكلام أن يقال: و يقولون لو لا إلخ.

بل المراد أنّهم يقترحون على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية اُخرى غير القرآن تدلّ على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبؤون به و يسألون آية اُخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) تعريض منهم للقرآن.

و أما قوله:( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فإعطاء جواب للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلّغ الجواب إيّاهم تعريض لهم أنّهم لا يستحقّون جواباً لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أنّ اقتراحهم الآية مبنيّ على زعمهم - كما يدلّ عليه كثير ممّا حكى عنهم القرآن

٣٣٤

في هذا الباب - على أنّ من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبيّة مطلقة على كلّ ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما اُريد منه.

و الحال أنّ الرسول ليس إلّا بشراً مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذّرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنّة الإلهيّة الجارية في خلقه أنّه يهدي كلّ شي‏ء إلى كماله المطلوب و يدلّ عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم.

فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً و ليس عليه إلّا تبليغ رسالة ربّه و أمّا الآيات فأمرها إلى الله ينزّلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.

فالمعنى: أنّهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شي‏ء من ذلك و إنّما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنّة الله في عباده أن يبعث في كلّ قوم هاديا يهديهم.

و الآية تدلّ على أنّ الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحقّ إمّا نبيّ منذر و إمّا هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مرّ بعض ما يتعلّق بالمقام في أبحاث النبوّة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) قال في المفردات: غاض الشي‏ء و غاضه غيره نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى:( وَ غِيضَ الْماءُ ) ( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الّذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الّذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى.

و على هذا فالأنسب أن تكون الاُمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله:( ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) و( ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) و( ما تَزْدادُ ) إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيّام الحمل فما تحمله كلّ اُنثى هو الجنين الّذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم الحيض تنصبّ فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و

٣٣٥

ما تزداده هو الدم الّتي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة الّتي تراها أيّام الحمل أحيانا و هو الّذي يظهر من بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) و ربّما ينسب إلى ابن عبّاس.

و أكثر المفسّرين على أنّ المراد بما تغيض الأرحام الوقت الّذي تنقصه الأرحام من مدّة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.

و فيه خلوّة عن شاهد يشهد عليه فإنّ الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة الّتي لا غنى لها عن القرينة.

و يروى عن بعضهم أنّ المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقلّ مدّة الحمل و هي ستّة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدّة الحمل، و عن بعض آخر أنّ الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه.

و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أنّ الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.

و قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) المقدار هو الحدّ الّذي يحدّ به الشي‏ء و يتعيّن و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشي‏ء الموجود عن تعيّن في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجداً ألبتّة.

و هذا المعنى أعني كون كلّ شي‏ء مصاحبا لمقدار و قرينا لحدّ لا يتعدّاه حقيقة قرآنيّة تكرّر ذكرها في كلامه تعالى كقوله:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ) الطلاق: ٣، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و غير ذلك من الآيات.

فإذا كان الشي‏ء محدوداً بحدّ لا يتعدّاه و هو مضروب عليه ذلك الحدّ عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شي‏ء كما قال:( إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) الحجّ: ١٧ و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و قال:( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) السبأ: ٣ فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كلّ اُنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد.

٣٣٦

فذيل الآية أعني قوله:( وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) تعليل لصدرها أعني قوله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ ) إلخ و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أنّ الله يعلم بكلّ شي‏ء و يقدر على كلّ شي‏ء و يجيب الدعوة و يخضع له كلّ شي‏ء فهو أحقّ بالربوبيّة فإليه أمر الآيات لا إليك و إنّما أنت منذر.

قوله تعالى: ( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) الغيب و الشهادة - كما سمعت مرارا - معنيان إضافيّان فالشي‏ء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شي‏ء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أنّ الأشياء - كما تقدّم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفكّ عنها فما كان من الأشياء داخلاً في حدّ الشي‏ء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجاً عن حدّ الشي‏ء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.

و من هنا يظهر أنّ الغيب لا يعلم به إلّا الله سبحانه أمّا أنّه لا يصير معلوماً لشي‏ء فلأنّ العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشي‏ء بما هو خارج عن حدّ وجوده أجنبيّ عن إحاطته، و أمّا أنّه تعالى يعلم الغيب فلأنّه تعالى غير محدود الوجود بحدّ و هو بكلّ شي‏ء محيط فلا يمتنع شي‏ء عنه بحدّه فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنّه غيب بالنسبة إلى غيره.

فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنّه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللّذان يتحقّقان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) أنّ الّذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الّذي لا يخرج عن حدّ وجودهم و الّذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكلّ شي‏ء.

و قوله( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإنّ الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن

٣٣٧

كذلك كان صغيراً ثمّ توسّعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الّذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كلّ كمال لشي‏ء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كلّ ذي كمال و زيادة.

و المتعال صفة من التعالي و هو المبالغة في العلوّ كما يدلّ عليه قوله:( تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) أسرى: ٤٣ فإنّ قوله:( عُلُوًّا كَبِيراً ) مفعول مطلق لقوله:( تَعالى) و موضوع في محلّ قولنا:( تعاليا ) فهو سبحانه عليّ و متعال أمّا أنّه علي فلأنّه علا كلّ شي‏ء و تسلّط عليه و العلوّ هو التسلّط، و أمّا أنّه متعال فلأنّ له غاية العلوّ لأنّ علوّه كبير بالنسبة إلى كلّ علوّ فهو العالي المتسلّط على كلّ عال من كلّ جهة.

و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) بقوله:( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) لأنّ مفاد مجموع الاسمين أنّه سبحانه محيط بكلّ شي‏ء متسلّط عليه و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه شي‏ء من جهة ألبتّة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلّط عليه و لا يغلبه غيب حتّى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلّط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنّه كبير متعال.

قوله تعالى: ( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ ) السرب بفتحتين و السروب الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مرّ مرّاً و مروراً. كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.

و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالماً بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسرّ القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسرّ بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمدّ بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرّز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.

٣٣٨

قوله تعالى: ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) إلخ ظاهر السياق أنّ الضمائر الأربع( لَهُ ) ( يَدَيْهِ ) ( خَلْفِهِ ) ( يَحْفَظُونَهُ ) مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلّا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله:( مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ) إلخ، فهذا الإنسان الّذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الّذي له معقّبات من بين يديه و من خلفه.

و تعقيب الشي‏ء إنّما يكون بالمجي‏ء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقّبات بقوله:( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) إنّما يتصوّر إذا كان سائراً في طريق، ثمّ طاف عليه المعقّبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: ٦ و في معناه سائر الآيات الدالّة على رجوعه إلى ربّه كقوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس: ٨٣( وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) العنكبوت: ٢١ فللإنسان و هو سائر إلى ربّه معقّبات تراقبه من بين يديه و من خلفه.

ثمّ من المعلوم من مشرب القرآن أنّ الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسمانيّ و البدن المادّيّ فحسب بل هو موجود تركّب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشؤون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجّه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة الّتي يتوسّل بها في مقاصدها و مآربها.

و على هذا يتّسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعمّ الاُمور الجسمانيّة و الروحيّة جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيّات الّتي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانيّة الّتي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربّه و الحالات الروحيّة الّتي يعتورها و يتقلّب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادّخر لها من الثواب و العقاب كلّ ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه

٣٣٩

و لهذه المعقّبات الّتي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أنّ لها تعلّقا بالإنسان.

و الإنسان الّذي وصفه الله بأنّه لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و لا نشوراً لا يقدر على حفظ شي‏ء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنّما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى:( اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) الشورى: ٦ و قال:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) السبأ: ٢١ و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) الانفطار: ١٠.

فلو لا حفظه تعالى إيّاها بهذه الوسائط الّتي سمّاها حافظين تارة و معقّبات اُخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنّه كما أنّ حفظها بأمر من الله عزّ شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأنّ الملك لله لا يدبّر أمره و لا يتصرّف فيه إلّا هو سبحانه فهو الّذي يهدي إليه التعليم القرآنيّ، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.

و الملائكة أيضاً إنّما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢، و قال:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧.

و من هنا يظهر أنّ هذه المعقّبات الحفّاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإنّ جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أنّ جانب البقاء و الاستقامة و الصحّة بأمر الله فلا يدوم مركّب جسمانيّ إلّا بأمر الله كما لا ينحلّ تركيبه إلّا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحيّة أو عمل أو أثر عمل إلّا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلّا بأمر من الله فالأمر كلّه لله و إليه يرجع الأمر كلّه.

و على هذا فهذه المعقّبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله في الآية المبحوث عنها:( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ) .

و بما تقدّم يظهر وجه اتّصال قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى

٣٤٠