الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 72975
تحميل: 4536


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72975 / تحميل: 4536
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أنا المنذر و عليّ الهادي. يا با محمّد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتّى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمّد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنّه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.

أقول: و الرواية تشهد على ما قدّمناه أنّ شمول الآية لعليّ (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمّة، و هذا الجري هو المراد ممّا ورد أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا.( وَ ما تَزْدادُ ) قال: الذكر و الاُنثى جميعا.

أقول: و قوله: الذكر و الاُنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.

و فيه، عن محمّد بن مسلم و غيره عنهما (عليهما السلام) قال:( ما تَحْمِلُ ) كلّ من اُنثى أو ذكر( وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) قال: ما لم يكن حملا( وَ ما تَزْدادُ ) عن اُنثى أو ذكر.

و في الكافي، بإسناده عن حريز عمّن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله عزّوجلّ:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ ) قال: الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر( وَ ما تَزْدادُ ) كلّ شي‏ء تزداد على تسعة أشهر فكلّما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنّها تزداد بعدد الأيّام الّتي رأت في حملها من الدم.

أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسّرين:

و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

٣٦١

أقول: ليس المراد من( ما لم يكن) المعدوم الّذي ليس بشي‏ء بل الأمر الّذي بالقوّة ما لم يدخل في ظرف الفعليّة، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عبّاس: أنّ أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنّة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): لا. فلمّا قفى من عنده قال: لأملأنّها عليك خيلاً و رجالاً، قال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): يمنعك الله.

فلمّا خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إنّي ساُلهي محمّداً عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإنّ الناس إذا قتلت محمّداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمّد قم معي اُكلّمك فقام منه فخلّيا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلّمه و سلّ أربد السيف فلمّا وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سلّ سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست.

فلمّا خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) حتّى إذا كانا بحرّة رقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ و اُسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوّي الله لعنكما الله و وقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا اُسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي.

حتّى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتّى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله:( اللَّهُ يَعْلَمُ ما

٣٦٢

تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى‏ - إلى قوله -لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) قال: المعقّبات من أمر الله يحفظون محمّداً (صلّي الله و عليه وآله وسلّم). ثمّ ذكر أربد و ما قتله فقال:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ - إلى قوله -وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

أقول: و روي ما في معناه عن الطبريّ و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه:

أخشـى علـى أربد الحتـوف ولا

أرهب نوء السماء و الأسد

فجعني الرعد و الصواعق بالفارس

يـوم الكـريـهة النـجد

و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصّة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكّيّة بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضاً على ما مرّ من معناها.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) قال: ليس من عبد إلّا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردّى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلّوا بينه و بين القدر.

أقول: و روي أيضاً ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه. و روي ما في معناه عن الصادقين (عليهما السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام): قال حدّثنا هذه الآية:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ ) الآية قال: من المقدّمات المؤخّرات المعقّبات الباقيات الصالحات.

أقول: ظاهره أنّ الباقيات الصالحات من مصاديق المعقّبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلّا بالملائكة الموكّلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدّمناه في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدّمات المؤخّرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدّمناه ظاهر.

و فيه، عن أبي عمرو المدائنيّ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ أبي كان يقول:

٣٦٣

إنّ الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إيّاه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، عن أحمد بن محمّد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ) فصار الأمر إلى الله تعالى.

أقول: إشارة إلى ما قدّمناه من معنى الآية.

و في المعاني، بإسناده عن عبدالله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابليّ يقول: سمعت زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: الذنوب الّتي تغيّر النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) .

و فيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله:( هُوَ الّذي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) قال: خوفاً للمسافر و طمعاً للمقيم.

و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن عليّ (عليه السلام): في قوله تعالى:( وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) يريد المكر.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أنّ رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بعث رجلاً إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عزّوجلّ فقال للرسول: أخبرني عن هذا الّذي تدعوني إليه أ من فضّة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) فأخبره بقوله فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبيّ الله إنّه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلّمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جلّ ثناؤه( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ‏ ) .

أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مرّ من قصّة عامر و أربد و

٣٦٤

يزيد هذا الخبر أنّ قوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ ) إلخ بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول.

و في التفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية: أمّا من يسجد من أهل السماوات طوعاً فالملائكة يسجدون لله طوعاً، و أمّا من يسجد من أهل الأرض ممّن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعاً، و أمّا من يسجد له كرهاً فمن جبر على الإسلام و أمّا من لم يسجد فظلّه يسجد له بالغدوّ و الآصال.

أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإنّ الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوّه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبئ عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أنّ السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامّة موجودة إمّا فيهم و إمّا في ظلالهم فإنّ سجدوا حقيقة طوعاً أو كرهاً فهي و إلّا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.

على أنّه لا يوافق العموم المتراآى من قوله:( وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ) و أوضح منه العموم الّذي في قوله:( اَوَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) النحل: ٤٩.

٣٦٥

( سورة الرعد الآيات ١٧ - ٢٦)

أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثَالَ( ١٧) لِلّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهمُ الْحُسْنَى‏ وَالّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنّ لَهُم مّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( ١٨) أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ( ١٩) الّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ( ٢٠) وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ( ٢١) وَالّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدّارِ( ٢٢) جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِن كُلّ بَابٍ( ٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ( ٢٤) وَالّذِينَ يَنقُضُونَ

٣٦٦

عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ( ٢٥) اللّهُ يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلّا مَتَاعٌ( ٢٦)

( بيان)

لمّا أتمّ الحجّة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثمّ أبان لهم الفرق الجليّ بين الحقّ و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ ) أخذ في البيان التفصيليّ للفرق بين الطريقين طريق الحقّ الّذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الّذي هو الشرك و العمل السيّئ و أهلهما الّذين هم المؤمنون و المشركون، و أنّ للأوّلين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كلّه بمثل يبيّن به حال الحقّ و الباطل و أثر كلّ منهما الخاصّ به ثمّ بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.

قوله تعالى: ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) إلى آخر الآية قال في مجمع البيان: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الّذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنّه جمع المال العظيم الّذي يؤدّى عن القتيل، و القدر اقتران الشي‏ء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.

قال: و الاحتمال رفع الشي‏ء على الظهر بقوّة الحامل له، و يقال: علا صوته

٣٦٧

على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.

و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفرّاء: كلّ شي‏ء ينضمّ بعضه إلى بعض فإنّه يجي‏ء على فُعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.

و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتّقدت و توقّدت، و المتاع ما تمتّعت به، و المكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث - بفتح الكاف و ضمّها - و تمكّث أي تلبّث. انتهى.

و قال الراغب: الباطل نقيض الحقّ و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عزّوجلّ:( وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) و قال:( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) . انتهى موضع الحاجة.

فبطلان الشي‏ء هو أن يقدّر للشي‏ء نوع من الوجود ثمّ إذا طبّق على الخارج لم يثبت على ما قدّر و لم يطابقه الخارج و الحقّ بخلافه فالحقّ و الباطل يتّصف بهما أوّلا الاعتقاد ثمّ غيره بعناية مّا.

فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقّاً لمطابقة الواقع إيّاه إذا فحص عنه و طبّق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدّر له من الثبات، و الفعل يكون حقّاً إذا وقع على ما قدّر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحّة مثلاً إذا أثّر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلاً إذا لم يقع على ما قدّر عليه من الغاية أو الأمر و الشي‏ء الموجود في الخارج حقّ من جهة أنّه موجود كما اعتقد كوجود الحقّ تعالى، و الشي‏ء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان

٣٦٨

موجوداً لكن قدّر له من خواصّ الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدّر له و إن كان حقّاً من جهة أصل الوجود قال:

ألا كلّ شي‏ء ما خلا الله باطل

و كلّ نعيم لا محالة زائل

و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنيّة تبحث عن طبيعة الحقّ و الباطل فتصف بدء تكوّنهما و كيفيّة ظهورهما و الآثار الخاصّة بكلّ منهما و سنّة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنّة الله تحويلاً و لن تجد لسنّة الله تبديلاً.

بيّن تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنّما هو مثل واحد ينحلّ إلى أمثال فقال تعالى:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) و قوله:( أَنْزَلَ ) فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير( ماءِ ) للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشي‏ء أو يشوبه تغيّر، و تنكير( أَوْدِيَةٌ ) للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازيّة نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كلّه بدلالة السياق، و إنّما مثل بالسيل لأنّ احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.

و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محلّ الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كلّ بقدره الخاصّ به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كلّ واحد من الأودية المختلفة زبداً طافياً عالياً هو الظاهر على الحسّ يستر الماء سترا.

ثمّ قال تعالى:( وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) من نشويّة و ما يوقدون عليه أنواع الفلزّات و المواد الأرضيّة القابلة للإذابة المصوغة

٣٦٩

منها آلات الزينة و أمتعة الحياة الّتي يتمتّع بها و المعنى و يخرج من الفلزّات و الموادّ الأرضيّة الّتي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضّة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتّخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الّذي يربو السيل يطفو على المادّة المذابة و يعلوه.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ ) أي يثبت الله الحقّ و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.

فالمراد بالضرب - والله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلّة و المسكنة أي اُوقعت و اُثبتت و ضرب بينهم بسور أي اُوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبّت و إلى هذا المعنى أيضاً يعود ضرب المثل لأنّه تثبيت و نصب لما يماثل الممثّل حتّى يتبيّن به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإنّ الضرب و هو إيقاع شي‏ء على شي‏ء بقوّة و عنف لا ينفكّ عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد اُطلق الضرب و هو الملزوم و اُريد التثبيت و هو الأمر اللازم.

و من هنا يظهر أنّ قول المفسّرين إنّ في الجملة حذفاً أو مجازاً و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحقّ و الباطل أو مثل الحقّ و مثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محلّه فإنّه تكلّف من غير موجب و لا دليل يدلّ عليه.

على أنّه لو اُريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و هو يغني عنه.

على أنّ ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإنّ كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحقّ و الباطل يوجب كون ثبوت الحقّ نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.

ثمّ قال تعالى:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي

٣٧٠

الْأَرْضِ ) جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرّقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصّة و هو أنّه يذهب جفاء، و لذا قدّمنا آنفاً أنّ الآية تتضمّن مثلاً واحداً و إن انحلّ إلى غير واحد من الأمثال.

و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله:( وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ ) للدلالة على خاصّة يختصّ بها الحقّ و هو أنّ الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.

و المعنى: فأمّا الزبد الّذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج ممّا يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلاً متلاشياً، و أمّا الماء الخالص أو العين الأرضيّة المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمّتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.

ثمّ قال تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) و ختم به القول أي إنّ الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنّها تميّز الحقّ من الباطل و تبيّن للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.

و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد الموادّ الأرضيّة و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجيّة و التكوّنات العينيّة لا القول فيدلّ على أنّ هذه الوقائع الكونيّة و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي اُولي النهي و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أنّ ما في عالم الشهادة آيات دالّة على ما في عالم الغيب على ما تكرّر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالاً مضروبة أو آيات دالّة و هو ظاهر.

و قد تبيّن بهذا المثل المضروب في الآية اُمور هي من كلّيّات المعارف الإلهيّة:

أحدها: أنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الّذي هو بمنزلة الرحمة السماويّة و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الّذي يحتمل

٣٧١

من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنّما تنال الأشياء من العطيّة الإلهيّة بقدر قابليّتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.

و هذا أصل عظيم يدلّ عليه أو يلوّح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦ و من الدليل عليه جميع آيات القدر.

ثمّ إنّ هذه الاُمور المسمّاة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماويّة مقدّرة لها لكنّها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى،( إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) هود: ١٢٣، و قال:( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) الآية: ٣١ من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدقّ معنى و أوسع مصداقا.

و ثانيها: أنّ تفرّق هذه الرحمة السماويّة في أودية العالم و تقدّرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفكّ عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنّها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدّرة بالأقدار فإنّها باقية ثابتة أي حقّة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حقّ و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.

و الحقّ من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ فهذه الموجودات يشتمل كلّ منها على جزء حقّ ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣ و قال:( وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) يونس: ٨٢ و قال:( إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) أسرى: ٨١ و قال:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) الأنبياء: ١٨.

٣٧٢

و ثالثها: أنّ من حكم الحقّ أنّه لا يعارض حقّاً غيره و لا يزاحمه بل يمدّه و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدلّ على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحقّ الّذي ينفع الناس.

و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنّما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلّا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثمّ الحيوان يأكل بعضه بعضاً ثمّ الأرض يأكل الجميع بل المراد أنّ هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهيّة و يتسبّب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعيّة فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنّهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجّار في صنعة الباب مثلاً، و مثل كفّتي الميزان فإنّهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنّه يعارض الغرض الحقّ و يخيّب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضرّ من غير نفع.

و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله:( وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) : الجاثية: ١٣ فكلّ شي‏ء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنّه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.

و هذه الاُصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبّرت في الآيات القرآنيّة الّتي تذكر الحقّ و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.

و اعلم أنّ هذه الاُصول كما تجري في الاُمور العينيّة و الحقائق الخارجيّة كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحقّ في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الّذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى:( يُثَبِّتُ

٣٧٣

اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ ) : إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى‏ وَ الّذينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ ) إلى آخر الآية المهاد الفراش الّذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهّد الموطّأ و سمّيت جهنّم مهاداً لأنّها مهّدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيّئة.

و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرّعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدّمت الإشارة إليه - يبيّن الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحقّ و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإنّ الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أنّ العاقبة المحمودة الّتي للإيمان لا يقوم مقامها شي‏ء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.

و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أنّ المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنّة و إن كان حقّاً بحسب المآل فإنّ عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهيّة الحسنى و هي الجنّة لكن المثوبة أو الجنّة غير مقصودة في المقام بما أنّها مثوبة أو جنّة بل بما أنّها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.

و يؤيّده بل يدلّ عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصّة بهم:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ) الآية.

و على هذا أيضاً فقوله:( لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ) موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشرّ و الشقوة بما لا يذكر.

و المعنى: و الّذين لم يستجيبوا لربهم يحلّ بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى - من صفته أنّه لو أنّ لهم ما في الأرض من نعمة تلتذّ بها النفس الإنسانيّة و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمنّاه ثمّ اُضيف إليه

٣٧٤

مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخّصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الّذي يملكونه فرضا عمّا يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه:( غير موصوف ما نزل بهم) .

ثمّ أخبر تعالى عن هذا الّذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ‏ ) و سوء الحساب الحساب الّذي يسوؤهم و لا يسرّهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثمّ ذمّ تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله:( وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) أي بئس المهاد مهادهم الّذي مهّد لهم و يستقرّون فيه، و مجموع قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ ) إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الّذي من صفته كذا و كذا.

و معنى الآية - والله أعلم- للّذين استجابوا لدعوة ربّهم الحقّة العاقبة الحسنى و الّذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلّص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنّوه لأنّ الّذي يحلّ بهم من العاقبة السيّئة يتضمّن أو يقارن سوء الحساب و القرار في جهنّم و بئس المهاد مهادهم.

و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كلّ بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) استفهام إنكاريّ و هو في موضع التعليل لما تتضمّنه الآية السابقة، و بيان تفصيليّ لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحقّ و عدمها.

و ملخّص البيان: أنّ الحقّ يستقرّ في قلوب هؤلاء الّذين استجابوا لربّهم فتصير قلوبهم ألباباً و قلوباً حقيقيّة لها آثارها و بركاتها و هو التذكّر و التبصّر، و من خواصّ هذه القلوب الّتي يعرف بها صاحبوها أنّ اُولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربّهم، و يثبتون على احترام

٣٧٥

ما وصلهم الله به و هي الرحم الّتي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجّه إلى ربّهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيّئات بالحسنات.

فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنّة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرّيّاتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحقّ.

و قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى‏ ) الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدّم - و فيه نفي التساوي بين من استقرّ في قلبه العلم بالحقّ و من جهل الحقّ و في توصيف الجاهل بالحقّ بالأعمى إيماء إلى أنّ العالم به يصير و قد سمّاهما بالأعمى و البصير في قوله آنفاً:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ ) الآية، فالعلم بالحقّ بصيرة و الجهل به عمى و التبصّر يفيد التذكّر و لذا عدّه من خواصّ اُولي العلم بقوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ ) .

و قوله:( إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله:( أَ فَمَنْ يَعْلَمُ ) إلخ، أي إنّهما لا يستويان لأنّ لاُولي العلم تذكّراً ليس لاُولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع اُولي العلم اُولوا الألباب فدلّ على دعوى اُخرى تفيد فائدة التعليل كأنّه قيل: لا يستويان لأنّ لأحد الفريقين تذكّراً ليس للآخر، و إنّما اختصّ التذكّر بهم لأنّ لهم ألباباً و قلوباً و ليس ذلك لغيرهم.

قوله تعالى: ( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) ظاهر السياق أنّ الجملة الثانية عطف تفسيريّ على الجملة الاُولى فالمراد بالميثاق الّذي لا ينقضونه هو عهد الله الّذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكّرهم هو ما عاهدوا به ربّهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحّدوه و

٣٧٦

يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإنّ الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.

و أمّا العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكلّ ذلك من فروع الميثاق الفطريّ فإنّ الدين فطريّ.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بالأمر هو الأمر التشريعيّ النازل بشهادة ذيل الآية( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فإنّ الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهراً و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإنّ المستضعف الّذي لم يبلغه الحكم الإلهيّ و لم يقصّر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ الحجّة لا تتمّ على الإنسان بمجرّد الإدراك الفطريّ لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى:( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) : النساء: ١٦٥.

و الآية مطلقة فالمراد به كلّ صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم الّتي أمر الله بها و أكّد القول في وجوبها، قال تعالى:( وَ اتَّقُوا اللَّهَ الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) : النساء: ١.

و قد أكّد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله:( وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) فأشار إلى أنّ في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملاً سيّئاً مكتوباً في صحيفة العمل محفوظاً على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيّئ.

و الظاهر أنّ الفرق بين الخشية و الخوف أنّ الخشية تأثّر القلب من إقبال الشرّ أو ما في حكمه، و الخوف هو التأثّر عملاً بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتّقى به المحذور و إن لم يتأثّر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه:( وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ) : الأحزاب: ٣٩. فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله:( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏ ) : طه: ٦٧ و قوله:( وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) : الأنفال: ٥٨.

٣٧٧

و لعلّه إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أنّ الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم. و لذا خصّ العلماء بها في قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) و كذا قول بعضهم: إنّ الخشية أشدّ الخوف لأنّها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة أي يابسة. و كذا قول بعضهم: إنّ الخوف يتعلّق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنّها تتعلّق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.

و لو لا رجوعها إلى ما قدّمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أنّ الفرق أغلبيّ لا كلّيّ، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلاً و هو مردود بما قدّمناه من الآيات.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا ) إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدلّ على اتّصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنّه مع ذلك مقيّد بقوله:( ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) أي طلباً لوجه ربّهم فصفتهم الّتي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأنّ الكلام في صفاتهم الّتي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربّهم و علمهم بحقّيّة ما أنزل إليهم من ربّهم لا كلّ صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديّتهم و إيمانهم بربّهم كالصبر عند الكريهة تمنّعاً و عجباً بالنفس أو طلباً لجميل الثناء و نحوه كما قيل:

و قولي كلّما جشأت و جاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

و المراد بوجه الربّ تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة الّتي عليها يظهر و يستقرّ العمل عنده تعالى أعني المثوبة الّتي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى:( وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ) : آل عمران: ١٩٥، و قال:( وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) : النحل: ٩٦ و قال:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) : القصص: ٨٨.

و قوله:( وَ أَقامُوا الصَّلاةَ ) أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها

٣٧٨

و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاصّ على العامّ اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره- كما قيل-.

و قوله:( وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) المراد به مطلق الإنفاق أعمّ من الواجب و غيره، و الآية مكّيّة لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله:( سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) للدلالة على استيفائهم حقّه فإنّ من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحقّ أن يستوفي من كلّ حقّه فيسرّ بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنّة الرّياء أو السمعة أو إهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البرّ و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.

و قوله:( وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيّئة جاؤا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيّئة، و هذا أعمّ من أن يكون ذلك في سيّئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاؤا بها فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات أو دفعوها بتوبة إلى ربّهم فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيّئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا: سلاما أو اُتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا بها.

فذلك كلّه من درء السيّئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدلّ على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتّة.

و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لاُولي الألباب:( الّذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرؤن) فأتي في بعضها - و هي ستّة - بلفظ المضارع، و في بعضها - و هي ثلاثة - بلفظ الماضي.

و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أنّ التعبير في قوله:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدّم بلفظ

٣٧٩

المضارع على سبيل التفنّن في الفصاحة لأنّ هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني( الّذينَ ) و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطيّة، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطيّة نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.

و لذا قال النحويّون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامّة احتمل أن يراد به المضيّ و أن يراد به الاستقبال فمن الأوّل( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ) و من الثاني( إِلَّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) .

و فيه أنّ إلغاء خصوصيّة زمان الفعل من المضيّ و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقّق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإنّ في الماضي مثلا عناية بالتحقّق و إن كان ملغى الزمان فصحّة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محلّه بعد.

و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أنّ المراد بالأوصاف المتقدّمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكنّ الصبر لمّا كان ممّا يتوقّف على تحقّقه التلبّس بتلك الأوصاف اعتنى بشأنه فعبّر بلفظ الماضي الدالّ على التحقّق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.

و فيه أنّ بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمّيّة عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الّذي اُريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبّر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.

و الّذي أحسب - والله أعلم - أنّ مجموع قوله تعالى:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرّمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيّئة بالحسنة الّذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل

٣٨٠