الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 73009
تحميل: 4538


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73009 / تحميل: 4538
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مقصود بالتبع كالمتمّم للنقيصة.

فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: و الّذين يصبرون ابتغاء وجه ربّهم و يقيمون الصلاة و ينفقون ممّا رزقناهم سرّا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيّئة فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعيّة لكن قيل:( وَ الّذينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ) فأخذ جميع الصبر المستقرّ أمراً واحداً مستمرّاً ليدلّ على وقوع كلّ الصبر منهم ثمّ قيل:( وَ يَدْرَؤُنَ ) إلخ ليدلّ على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.

و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) الآية، حيث يدلّ على تفرّع تنزّل الملائكة على تحقّق قولهم:( رَبُّنَا اللَّهُ ) و استقامتهم دون الاستمرار عليه.

و قوله:( أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبتها المحمودة فإنّها هي العاقبة حقيقة لأنّ الشي‏ء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلّا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أمّا العاقبة المذمومة السيّئة ففيها بطلان عاقبة الشي‏ء لخلل واقع فيه، و إنّما تسمّى عاقبة بنحو من التوسّع، و لذلك اُطلق في الآية عقبى الدار و اُريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله:( وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ، و من هنا يظهر أنّ المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.

قوله تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقرّ فيه و منه المعدن لمستقرّ الجواهر الأرضيّة و جنّات عدن أي جنّات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كلّ جهة.

و جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ بدل أو عطف بيان من قوله:( عُقْبَى الدَّارِ ) أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنّات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها

٣٨١

الله عليه إلّا حياة واحدة متّصلة أوّلها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الّذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنّة بقوله:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لله الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) الزمر: ٧٤.

و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله:( يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) و بيان لعاقبة هذا الحقّ الّذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنّهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الاُمّهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله:( آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) لأنّ الاُمّهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرّيّاتهم ففي الآية إيجاز لطيف.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) و هذا عقبى أعمالهم الصالحة الّتي داموا عليها في كلّ باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.

و قوله:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذمّ و سوء أبداً.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله:( وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) بقيّة ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أنّ الأعمال الصالحة هي الّتي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدّي إلى سعادة النوع الإنسانيّ و رشد المجتمع البشريّ، و قد تقدّم بيانه في دليل النبوّة العامّة.

و قد بيّن تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) و اللعن الإبعاد من الرحمة و الطرد من كلّ كرامة، و ليس ذلك إلّا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحقّ النازل من الله، و ليس للباطل إلّا البوار.

قوله تعالى: ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) إلى آخر الآية بيان أنّ

٣٨٢

ما اُوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنّة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الّذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.

و قد بيّن أنّ فعله تعالى يستمرّ على وفق ما جعله من نظام الحقّ و الباطل فالاعتقاد الحقّ و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنّة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.

و قوله:( وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ ) يريد به - على ما يفيده السياق - أنّ الرزق هو رزق الاُخرى لكنّهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطؤوا فإنّها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الّذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتّع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنّما تكون من الحقّ إذا اُخذت مقدّمة لها يكتسب بها رزقها و أمّا إذا اُخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلّا من الباطل الّذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شي‏ء، قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: ٦٤.

( بحث روائي)

في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) - في حديث يذكر فيه أحوال الكفّار - قوله:( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الّذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحلّ و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الّذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الّذي لا يأتيه الباطل- من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره.

أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقيّ من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسّروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعمّ مدلولا كما مرّ.

٣٨٣

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن قتادة: في قوله:( الّذينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ) عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإنّ الله قد نهى عنه و قدّم فيه أشدّ التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدّمة إليكم و حجّة عليكم، و إنّما يعظم الاُمور بما عظّمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل- و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أنّ النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له- و لا دين لمن لا عهد له.

أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أنّ ظاهر السياق خلافه.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال: قرابتك.

و فيه، أيضاً بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام)( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: نزلت في رحم آل محمّد و قد يكون في قرابتك. ثمّ قال: و لا تكوننّ ممّن يقول في الشي‏ء أنّه في شي‏ء واحد.

أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإنّ للقرآن ظهراً و بطناً و قد جعل الله مودّة ذي القربى - و هي من الصلة - أجر الرسالة في قوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) الشورى: ٢٣ و يدلّ على ما ذكرنا الرواية الآتية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ- أَنْ يُوصَلَ ) قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيّانا.

و فيه، عن محمّد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قال هي رحم آل محمّد معلّقة بالعرش تقول: اللّهمّ صلّ من وصلّني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كلّ رحم.

أقول: و في هذه المعاني روايات اُخر، و قد تقدّم معنى تعلّق الرحم بالعرش

٣٨٤

في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: و ممّا فرض الله عزّوجلّ أيضاً في المال من غير الزكاة قوله عزّوجلّ:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حماد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي. قال أبوعبدالله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقّة.

أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمّيّ.

و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله:( وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) قال: الاستقصاء و المداقّة، و قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات.

أقول: و ذيل الحديث مرويّ بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنّما هو لمكان المداقّة و الحصول على وجوه الخلل الخفيّة كما تدلّ عليه الرواية التالية.

و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام) في الآية قال: يحسب عليهم السيّئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.

و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): برّ الوالدين و صلة الرحم يهوّن الحساب ثمّ تلا هذه الآية:( الّذينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ- وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) .

و في الدرّ المنثور: في قوله:( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): جنّة عدن قضيب غرسه الله بيده ثمّ قال له: كن فكان.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليمانيّ يرفع الحديث إلى عليّ (عليه السلام)

٣٨٥

قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.

٣٨٦

( سورة الرعد الآيات ٢٧ - ٣٥)

وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ( ٢٧) الّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ( ٢٨) الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ طُوبَى‏ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ( ٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبّي لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ( ٣٠) وَلَوْ أَنّ قُرآناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْكُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى‏ بِل للّهِ‏ِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيَأْسِ الّذِينَ آمَنوا أَن لَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَي النّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلّ قَرِيباً مِن دَارِهِمْ حَتّى‏ يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلّذِينَ كَفَرُوا ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ( ٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى‏ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للّهِ‏ِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدّوا عَنِ السّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( ٣٣) لّهُمْ

٣٨٧

عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقّ وَمَا لَهُم مِنَ اللّهِ مِن وَاقٍ( ٣٤) مَثَلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ الْمُتّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلّهَا تِلْكَ عُقْبَى الّذِينَ اتّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النّارُ( ٣٥)

( بيان‏)

عود ثان إلى قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأنّ الهدى و الضلال ليس شي‏ء منهما إلى ما ينزل من آية بل إنّ ذلك إليه تعالى يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنّة الإلهيّة على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئنّ إلى ذكره و اُولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار. و إضلال من كفر بآياته الواضحة و اُولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشقّ و ما لهم من دون الله من واق.

و أنّ الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشيّة الله لكانت به لكنّ الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) عود إلى قول الكفّار( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و إنّما أرادوا به أنّه لو اُنزل على النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية من ربّه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدّون القرآن النازل إليه آية.

و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ) إلخ و قوله بعد:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ - إلى قوله -بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً )

٣٨٨

و قوله بعد:( وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ) إلى آخر الآية.

فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمراً نبيّه أن يلقيه إليهم:( قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فأفاد أنّ الأمر ليس إلى الآية حتّى يهتدوا بنزولها و يضلّوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضلّ من يشاء و يهدي من يشاء.

و لمّا لم يؤمن أن يتوهّموا منه أنّ الأمر يدور مدار مشيّة جزافيّة غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) فبيّن أنّ الأمر إلى مشيّة الله تعالى جارية على سنّة دائمة و نظام متقن مستمرّ و ذلك أنّه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضلّ من أعرض و لم ينب فمن تلبّس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحقّ و لم يتقيّد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقّة و من كان دون ذلك ضلّ عن الطريق و إن كان مستقيماً و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ ) إلخ، على تقدير: أنّ الله يضلّ بمشيّته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيّته من أناب إليه.

و يظهر أيضاً أنّ الضمير( إِلَيْهِ ) في( يَهْدِي إِلَيْهِ ) راجع إليه تعالى و أنّ ما ذكره بعضهم أنّه راجع إلى القرآن. و آخرون أنّه راجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) غير وجيه.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الاطمئنان السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشي‏ء السكون إليه.

و ظاهر السياق أنّ صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة:( مَنْ أَنابَ ) فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيّؤ و استعداد يستعقب عطيّة الهداية الإلهيّة كما أنّ الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيّؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ و قال:( فلمّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الصف: ٥.

٣٨٩

و ليس الإيمان بالله تعالى مثلاً مجرّد إدراك أنّه حقّ فإنّ مجرد الإدراك ربّما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ مع أنّ الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشي‏ء مجرّد إدراك أنّه حقّ مثلاً بل مطاوعة و قبول خاصّ من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربّما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنّه لا يكفّ عنه لأنّ نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربّما طاوعته و سلّمت له بعد ما أدركته و كفّت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.

و هذا هو الّذي يظهر من قوله تعالى:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) الأنعام: ١٢٥ فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمراً نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبّر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقرّ هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.

و من ذلك يظهر أنّ قوله:( وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) عطف تفسيري على قوله:( آمَنُوا ) فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.

و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) الأنفال: ٢ فإنّ الوجل المذكور فيه حالة قلبيّة متقدّمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى:( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ الله ذلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) الزمر: ٢٣ و ذلك أنّ النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أمّا النقمة أيّاما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن

٣٩٠

إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيّاً صادراً منه تعالى على ما يفيده قوله:( ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) فاطر: ٢.

و إذا كان الخوف و الخشية إنّما هو من شرّ متوقّع و لا شرّ عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيّئة الّتي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانيّة إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أوّلاً إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثمّ التفتت ثانياً إلى ربّه الّذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنّت بذكره.

و قال في مجمع البيان: و قد وصف الله المؤمن ههنا بأنّه يطمئنّ قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنّه إذا ذكر الله وجل قلبه لأنّ المراد بالأوّل أنّه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه الّتي لا تحصى و أياديه الّتي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنّه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه. انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسّر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سمّاه الله تعالى ذكراً في مواضع كثيرة من كلامه كقوله:( وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ ) الأنبياء: ٥٠ و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) الحجر: ٩ و غير ذلك.

لكنّ الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعمّ من الذكر اللفظيّ و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجّة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فإنّه كضرب القاعدة يشمل كلّ ذكر سواء كان لفظيّاً أو غيره، و سواء كان قرآناً أو غيره.

و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) فيه تنبيه للناس أن يتوجّهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنّه لا همّ للإنسان في حياته إلّا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلّا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الّذي

٣٩١

بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كلّه، و هو القاهر فوق عباده و الفعّال لما يريد و هو وليّ عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيّرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنّى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتّصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحّة و العافية آنا بعد آن.

فكلّ قلب - على ما يفيده الجمع المحلّىّ باللام من العموم - يطمئنّ بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنّما ذلك في القلب الّذي يستحقّ أن يسمّى قلباً و هو القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أمّا المنحرف عن أصله الّذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى:( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحجّ: ٤٦، و قال:( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) الأعراف: ١٧٩ و قال:( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة: ٦٧.

و في لفظ الآية ما يدلّ على الحصر حيث قدم متعلّق الفعل أعني قوله:( بِذِكْرِ الله ) عليه فيفيد أنّ القلوب لا تطمئنّ بشي‏ء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدّمناه من الإيضاح ينوّر هذا الحصر إذ لا همّ لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلّا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلّق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلّا و هو غالب في جهة و مغلوب من اُخرى إلّا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغنيّ ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئنّ القلوب و لا يطمئنّ القلب إلى شي‏ء غيره إلّا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكّر بها أخذته الرعدة و القلق.

و ممّا قيل في الآية الكريمة أعني قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ) إلخ أنّها استئناف، و قوله:( الّذينَ آمَنُوا ) مبتدأ خبره قوله في الآية التالية:( طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) و قوله:( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) بدل من المبتدإ و قوله:( أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) اعتراض بين المبتدإ و خبره،

٣٩٢

و هو تكلّف بعيد من السياق.

قوله تعالى: ( الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) طوبى على وزن فعلى بضمّ الفاء مؤنّث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو - على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أنّ النعمة كائنة ما كانت إنّما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلّا إذا اطمئنّ القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلّا لمن آمن بالله و عمل عملاً صالحاً فهو الّذي يطمئنّ منه القلب و يطيب له العيش فإنّه في أمن من الشرّ و الخسران و سلام ممّا يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقرّ في ولاية الله لا يوجه إليه ربّه إلّا ما فيه سعادته إن اُعطى شيئاً فهو خير له و إن منع فهو خير له.

و قد قال في وصف طيب هذه الحياة:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧ و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله:( وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و لعلّ وصف الحياة أو المعيشة في الآية الّتي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحاً إلى أنّها نعمة لا تخلو من طيب على أيّ حال إلّا أنّها فيمن اطمأنّ قلبه بذكر الله أكثر طيباً لخلوصها من شوائب المنغّصات.

فقوله:( طُوبى‏ لَهُمْ ) في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و( لهم ) خبره و إنّما قدّم المبتدأ المنكر على الظرف لأنّ الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدّم ما به التهنئة استعجالاً بذكر ما يسرّ السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.

و بالجملة في الآية تهنئة الّذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الّذين آمنوا و تطمئنّ قلوبهم بذكر الله اطمئناناً مستمرّاً - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتّصالها بما قبلها فإنّ طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدّم.

٣٩٣

و قال في مج مع البيان:( طُوبى‏ لَهُمْ ) و فيه أقوال:

أحدها: أنّ معناه فرح لهم و قرّة عين. عن ابن عبّاس.

و الثاني: غبطة لهم. عن الضحّاك.

و الثالث: خير لهم و كرامة. عن إبراهيم النخعيّ.

و الرابع: الجنّة لهم. عن مجاهد.

و الخامس: معناه العيش المطيّب لهم. عن الزجّاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباريّ لأنّه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنّة. عن الجبائيّ.

و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.

و السابع: حسنى لهم. عن قتادة.

و الثامن: نعم ما لهم. عن عكرمة.

التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.

العاشر: أنّ طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و في دار كلّ مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدريّ مرفوعا. انتهى موضع الحاجة.

و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ) إلى آخر الآية متاب مصدر ميميّ للتوبة و هي الرجو (عليه السلام)، و الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) إلى ما ذكره تعالى من سنّته الجارية من دعوة الاُمم إلى دين التوحيد ثمّ إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.

و المعنى: و أرسلناك في اُمّة قد خلت من قبلها اُمم إرسالاً يماثل هذه السنّة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الّذي أوحينا إليك و تبلّغهم ما يتضمّنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنّما قيل بالرحمن،

٣٩٤

دون أن يقال:( بنا) على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنّهم في ردّهم هذا الوحي الّذي يتلوه النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) يكفرون برحمة إلهيّة عامّة تضمّن لهم سعادة دنياهم و اُخراهم لو أخذوه و عملوا به.

ثمّ أمر تعالى: أن يصرّح لهم القول في التوحيد فقال:( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) أي هو وحده ربّي من غير شريك كما تقولون و لربوبيّته لي وحده أتّخذه القائم على جميع اُموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أنّ قوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ ) من آثار الربوبيّة المتفرّعة عليها فإنّ الربّ هو المالك المدبّر فمحصّل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.

و قيل: إنّ المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأوّل من لزوم كون( إليه متاب) تأكيداً لقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) و هو خلاف ظاهر.

و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثمّ منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.

و ذكر بعضهم: أنّ المعنى إليه متابي و متابكم. و فيه أنّه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرّد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) المراد بتسيير الجبال قلعها من اُصولها و إذهابها من مكان إلى مكان و بتقطيع الأرض شقّها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عمّا جرى عليهم بعد الموت ليستدلّ على حقّيّة الدار الآخرة فإنّ هذا هو الّذي كانوا يقترحونه.

فهذه اُمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثاراً لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً ) إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإنّ الكلام معقّب بقوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و الآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أنّ أمر الهداية ليس براجع إلى الآية الّتي يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ) بل الأمر

٣٩٥

إلى الله يضلّ من يشاء كما أضلّهم و يهدي إليه من أناب.

و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد:( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) ، و قوله:( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله ) الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.

فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أنّ قرآناً من شأنه أنّه تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلّم ما كان لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله بل الأمر كلّه لله ليس شي‏ء منه لغيره حتّى يتوهّم متوهّم أنّه لو اُنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيّته.

و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى‏ وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) الأنعام: ١١١.

و ما قيل: إنّ جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوّة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفّار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره. و المعنى: أنّ القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلّم به الموتى - أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكنّ الله لم ينزّل قرآناً كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى‏ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله ) الحشر: ٢١.

و فيه أنّ سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده:

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) و كذا قوله بعده:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلّفوا في قوله:

٣٩٦

( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) بما لا يخلو عن تكلّف.

فقيل: إنّ المعنى لو أنّ قرآناً فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأنّ الأمر كلّه له وحده.

و قيل: إنّ حاصل الإضراب أنّه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره ممّا أراده الله فإنّ جميع الأمر له تعالى وحده.

و قيل: إنّ الأحسن أن يكون قوله:( بَلْ لله الْأَمْرُ جَمِيعاً ) . معطوفاً على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شي‏ء بل الأمر لله جميعاً.

و أنت ترى أنّ السياق لا يساعد على شي‏ء من هذه المعاني، و أنّ حقّ المعنى الّذي يساعد عليه السياق أن يكون إضراباً عن نفس الشرطيّة السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلّا أن يشاء الله.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) تفريع على سابقه.

ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حيّ من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحيّ:

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني

أ لم تيأسوا أنـي ابن فارس زهدم

و قول رباح بن عديّ:

ألم ييأس الأقوام أنـي أنا ابنه

و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا

و محصّل التفريع على هذا أنّه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئاً حتّى قرآن سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى و أنّ الأمر لله جميعاً فمن الواجب أن يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هداية الّذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا الّذين آمنوا و الّذين كفروا لكنّه لم يهد الّذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.

و ذكر بعضهم أنّ اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أنّ قوله:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) مضمّن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو

٣٩٧

شاء ذلك لهدى الناس جميعاً و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.

فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الّذين آمنوا أنّ الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثمّ ضمّن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلّق العلم الجملة الشرطيّة فقط أعني قوله:( لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) إيجازاً و إيثاراً للاختصار.

و ذكر بعضهم: أنّ قوله( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ ) على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله:( أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ ) إلخ، متعلّق بقوله:( آمَنُوا ) بتقدير الباء و متعلّق( يَيْأَسِ ) محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الّذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من إيمانهم و ذلك أنّ الّذين آمنوا يرون أنّ الأمر لله جميعاً و يؤمنون بأنّه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعاً و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنّه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفّقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.

و هذه وجوه ثلاثة لعلّ أعدلها أوسطها و الآية على أيّ حال لا تخلو من إشارة إلى أنّ المؤمنين كانوا يودّون أن يؤمن الكفّار و لعلّهم لمودّتهم ذلك لمّا سمعوا قول الكفّار:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية اُخرى غير القرآن فسألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات اُخرى من كلامه مكّيّة و مدنيّة كقوله في سورة يس و هي مكّيّة:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ١٠، و قوله في سورة البقرة و هي مدنيّة:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) آية ٦.

قوله تعالى: ( وَ لا يَزالُ الّذينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حتّى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) سياق الآيات يشهد أنّ المراد بقوله:( بِما صَنَعُوا ) كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقّة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنّها تؤذنه بأشدّ من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعيّ للّذين كفروا بعذاب غير مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم

٣٩٨

مرّة بعد مرّة حتّى يأتيهم العذاب الموعود.

و المعنى: و لا يزال هؤلاء الّذين كفروا بدعوتك الحقّة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحلّ تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتّى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأنّ الله لا يخلف ميعاده و لا يبدّل قوله.

و التأمّل في كون السورة مكّيّة على ما يشهد به مضامين آياتها ثمّ في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكّة يعطي أنّ المراد بالّذين كفروا هم كفّار العرب من أهل مكّة و غيرهم الّذين ردّوا أوّل الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحّوا على الفتنة و الفساد.

و المراد بالّذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شنّ الغارات، و بالّذين تحلّ القارعة قريباً من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرّتها و تنالهم وحشتها و همّها و سائر آثارها السيّئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الّذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.

و اعلم أنّ هذا العذاب الموعود للّذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدّم في سورة يونس في قوله تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ - إلى قوله ثانياً -وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧- ٥٤ فإنّ الّذي في سورة يونس وعيد عامّ للاُمّة، و الّذي في هذه الآيات وعيد خاصّ بالّذين كفروا في أوّل الدعوة النبويّة من قريش و غيرهم، و قد تقدّم في قوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: ٦ في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ المراد بقوله:( الّذينَ كَفَرُوا ) في القرآن إذا اُطلق إطلاقاً المعاندون من مشركي العرب في أوّل الدعوة كما أنّ المراد بالّذين آمنوا إذا اُطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أوّل الدعوة.

و اعلم أيضاً أنّ للمفسّرين في الآية أقوالا شتّى تركنا إيرادها إذ لا طائل

٣٩٩

تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبّر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعيّ ببيان نظائر له تدلّ على إمكان وقوعه أي لا يتوهّمنّ متوهّم أنّ هذا الّذي نهدّدهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا:( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) النمل: ٦٨.

و ذلك أنّه قد استهزئ برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثمّ اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للّذين كفروا ثمّ أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيداً خالياً لا شي‏ء وراءه؟ أم كان أمراً يمكنهم أن يتّقوه أو يدفعوه أو يتحمّلوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.

و من ذلك يظهر أنّ قولهم: إنّ الآية تسلية و تعزية للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في غير محلّه.

و قد بدّل الاستهزاء في الآية ثانياً من الكفر إذ قيل:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) و لم يقل بالّذين استهزؤا للدلالة على أنّ استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أنّ كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزؤن بآيات الله كالّذين كفروا بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لله شُرَكاءَ ) القائم على شي‏ء هو المهيمن المتسلّط عليه و القائم بشي‏ء من الأمر هو الّذي يدبّره نوعاً من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت أمّا قيامه عليها فلأنّه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أمّا قيامه بما كسبت فلأنّه يدبّر أمر أعمالها فيحوّلها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثمّ يحوّلها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنّة و نار.

٤٠٠