الميزان في تفسير القرآن الجزء ١١

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 431

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 431
المشاهدات: 72958
تحميل: 4536


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 431 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 72958 / تحميل: 4536
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 11

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و في ذلك دلالة مّا على أنّ لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعيّنها بالاستناد إلى الوحي و كونها عربيّة دخلا في ضبط أسرار الآيات و حقائق المعارف، و لو أنّه اُوحى إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بمعناه و كان اللفظ الحاكي له لفظه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) كما في الأحاديث القدسيّة مثلاً أو ترجم إلى لغة اُخرى خفي بعض أسرار آياته البيّنات عن عقول الناس و لم تنله أيدي تعقّلهم و فهمهم.

و عنايته تعالى فيما أوحى من كتابه باللفظ ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه كيف؟ و قد قسّمه إلى المحكمات و المتشابهات و جعل المحكمات اُمّ الكتاب ترجع إليها المتشابهات قال تعالى:( هُوَ الّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) آل عمران: ٧ و قال تعالى أيضاً:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) النحل ١٠٣.

قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ) قال الراغب في المفردات: القصّ تتّبع الأثر يقال: قصصت أثره، و القصص الأثر قال: فارتدّا على آثارهما قصصا، و قالت لاُخته قصّيه. قال: و القصص الأخبار المتتّبعة قال تعالى:( لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ. فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ، وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) . انتهى فالقصص هو القصّة و أحسن القصص أحسن القصّة و الحديث، و ربّما قيل: إنّه مصدر بمعنى الاقتصاص.

فإن كان اسم مصدر فقصّة يوسف (عليه السلام) أحسن قصّة لأنّها تصف إخلاص التوحيد في العبوديّة، و تمثّل ولاية الله سبحانه لعبده و أنّه يربّيه بسلوكه في صراط الحبّ و رفعه من حضيض الذلّة إلى أوج العزّة، و أخذه من غيابة جبّ الإسارة و مربط الرقيّة و سجن النكال و النقمة إلى عرش العزّة و سرير المملكة. و إن كان مصدرا فالاقتصاص عن قصّته بالطريق الّذي اقتصّ سبحانه به أحسن الاقتصاص لأنّه اقتصاص لقصّة الحبّ و الغرام بأعفّ ما يكون و أستر ما يمكن.

و المعنى - و الله أعلم - نحن نقصّ عليك أحسن القصص بسبب وحينا هذا القرآن إليك و إنّك كنت قبل اقتصاصنا عليك هذه القصّة من الغافلين عنها.

٨١

( سورة يوسف الآيات ٤ - ٦)

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أبَتِ إِنّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ( ٤) قَالَ يَابُنَيّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنّ الشّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوّ مُبِينٌ( ٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى‏ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمّهَا عَلَى‏ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٦)

( بيان‏)

تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف و قصّها على أبيه يعقوب (عليه السلام) فعبّرها أبوه له و نهاه أن يقصّها على إخوته، و هذه الرؤيا بشرى بشّر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادّة روحيّة لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية و القرب من ربّه، و هي بمنزلة المدخل في قصّته (عليه السلام).

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنّى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة و الرأفة و الشفقة كما يدلّ عليه ما في الآية التالية:( قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ ) إلخ.

و قوله:( رَأَيْتُ ) و( رَأَيْتُهُمْ ) من الرؤيا و هي ما يشاهده النائم في نومته أو الّذي خمدت حواسّه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، و يشهد به قوله في الآية التالية:( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ ) و قوله في آخر القصّة:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤيايَ ) .

٨٢

و تكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله( رَأَيْتُ ) و قوله:( لِي ساجِدِينَ ) و من فائدة التكرير الدلالة على أنّه إنّما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى. على أنّ ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب و الشمس و القمر مشاهدة أمر صوريّ و مشاهدة سجدتهم و خضوعهم و تعظيمهم له مشاهدة أمر معنويّ.

و قد عبّر عن الكواكب و النيّرين في قوله:( رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) بما يختصّ باُولى العقل - ضمير الجمع المذكّر و جمع المذكّر السالم - للدلالة على أنّ سجدتهم كانت عن علم و إرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.

و قد افتتح سبحانه قصّته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا الّتي أراها له و هي بشرى له تمثّل له ما سيناله من الولاية الإلهيّة و يخصّ به من اجتباء الله إيّاه و تعليمه تأويل الأحاديث و إتمام نعمته عليه، و من هناك تبتدئ التربية الإلهيّة له لأنّ الّذي بشّر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحوّل من حال إلى حال، و لا ينتقل من شأن إلى شأن، و لا يواجه نائبة، و لا يلقى مصيبة، إلّا و هو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطّن نفسه على الصبر عليها.

و هذه هي الحكمة في أنّ الله سبحانه يخصّ أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب و منزلة الزلفى كما في قوله:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ - إلى أن قال -هُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) يونس: ٦٤.

قوله تعالى: ( قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ذكر في المفردات: أنّ الكيد ضرب من الاحتيال، و قد يكون مذموما و ممدوحا و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر. انتهى. و قد ذكروا أنّ الكيد يتعدّى بنفسه و باللّام.

و الآية تدلّ على أنّ يعقوب لمّا سمع ما قصّة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدلّ عليه أنّ يوسف (عليه السلام) سيتولّى الله أمره و يرفع قدره، يسنده على أريكة

٨٣

الملك و عرش العزّة، و يخصّه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) و خاف من إخوته عليه و هم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - و هي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) و زوجه و أحد عشر من ولده غير يوسف، و ظاهرة الدلالة على أنّهم جميعا سيخضعون و يسجدون ليوسف - حملهم الكبر و الأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيداً ليحولوا بينه و بين ما تبشّره به رؤياه.

و لذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدلّ عليه قوله:( يا بُنَيَّ ) بلفظ التصغير، و نهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبّرها له و ينبّئه بما تدلّ عليه رؤياه من الكرامة الإلهيّة المقضيّة في حقّه، و لم يقدّم النهي على البشارة إلّا لفرط حبّه له و شدّة اهتمامه به و اعتنائه بشأنه، و ما كان يتفرّس من إخوته أنّهم يحسدونه و أنّهم امتلؤوا منه بغضا و حنقا.

و الدليل على بلوغ حسدهم و ظهور حنقهم و بغضهم قوله:( لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى‏ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) فلم يقل: إنّي أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرّع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم و أكّد تحقّق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال:( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) ثمّ أكّد ذلك بقوله ثانياً في مقام التعليل:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي إنّ لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيّد ما عندهم من السبب الّذي هو الحسد و يثيره و يهيّجه ليؤثّر أثره السيّئ و هو الشيطان الّذي هو عدوّ للإنسان مبين لا خلّة بينه و بينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته و تسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة و السعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه و آخرته فيفسد ما بين الوالد و ولده و ينزع بين الشقيق و شقيقه و يفرّق بين الصديق و صديقه ليضلّهم عن الصراط.

فكأنّ المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليه السلام) يا بنيّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنّهم يحسدونك و يغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ و إغراء من الشيطان و قد تمكّن من قلوبهم و لا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين.

٨٤

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية و هي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، و منه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) القصص: ٥٧ ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشي‏ء و حفظها من التفرّق و التشتّت، و فيه سلوك و حركة من الجابي نحو المجبيّ فاجتباه الله سبحانه عبداً من عباده هو أن يقصده برحمته و يخصّه بمزيد كرامته فيجمع شمله و يحفظه من التفرّق في السبل المتفرّقة الشيطانيّة المفرّقة للإنسان و يركّبه صراطه المستقيم و هو أن يتولّى أمره و يخصّه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) الآية ٢٤ من السورة.

و قوله:( وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الّذي تتعقّبه، و هو الحقيقة الّتي تتمثّل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه و مشاعره كما تمثّل سجدة أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و خرورها أمامه ساجدة له، و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.( فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ) الآية: آل عمران: ٧ في الجزء الثالث من الكتاب.

و الأحاديث جمع الحديث و ربّما اُريد به الرؤى لأنّها من حديث النفس فإنّ نفس الإنسان تصوّر له الاُمور في المنام كما يصوّر المحدث لسماعه الاُمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله و منه يظهر ما في قول بعضهم: إنّ الرؤى سمّيت أحاديث باعتبار حكايتها و التحديث بها و هو كما ترى.

و كذا ما قيل: إنّها سمّيت أحاديث لأنّها من حديث الملك إن كانت صادقة و من حديث الشيطان إن كانت كاذبة. انتهى، و فيه أنّها ربّما لم تستند إلى ملك و لا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجيّة عارضة لنائم تأخذه حمّى أو سخونة اتّفاقيّة فتحكيها نفسه في صورة حمّام يستحمّ فيه أو حرّ قيظ و نحوهما

٨٥

أو يتسلّط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء و نزول الثلج و نحوهما.

و ردّه بعضهم بأنّه يخالف الواقع فإنّ رؤيا يوسف ليس فيها حديث و كذا رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر انتهى. و قد اشتبه عليه معنى الحديث و ظنّ أنّ المراد بقولهم: إنّ الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، و ليس كذلك بل المراد أنّ المنام يصوّر له القصّة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أنّ المتكلّم اللّافظ يصوّر ذلك بصورة لفظيّة يستدلّ بها السامع على الأصل المراد و هذا كما يقال لمن يقصد أمرا و يعزم على فعل أو ترك أنّه حدّثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي إنّه يصوّره فأراد فعله أو تركه كأنّ نفسه حدّثته بأنّه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، و بالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنّها من قبيل تصوّر الاُمور للنائم كما يتصوّر الأنباء و القصص بالتحديث اللفظيّ فهي حديث إمّا ملكيّ أو شيطانيّ أو نفسيّ كما تقدّم لكنّ الحقّ أنّها من أحاديث النفس بالمباشرة، و سيجي‏ء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. هذا.

لكنّ الظاهر المتحصّل من قصّته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أنّ الأحاديث الّتي علّمه الله تعالى تأويلها أعمّ من أحاديث الرؤيا، و إنّما هي الأحاديث أعني الحوادث و الوقائع الّتي تتصوّر للإنسان أعمّ من أن تتصوّر له في يقظة أو منام فإنّ بين الحوادث و الاُصول الّتي تنشأ هي منها و الغايات الّتي تنتهي إليها اتّصالاً لا يسع إنكاره، و بذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث و الحقائق الّتي تنتهي هي إليها.

و يؤيّده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، و تأويل يوسف لرؤيا نفسه و رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا عزيز مصر و فيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله:( قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) الآية ٣٧ من

٨٦

السورة، و كذا قوله:( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) الآية ١٥ من السورة و سيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) قال الراغب في المفردات: النعمة (بالكسر فالسكون) الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة الّتي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة (بالفتح فالسكون) التنعّم و بناؤها بناء المرّة من الفعل كالضربة و الشتمة، و النعمة للجنس تقال للقليل و الكثير.

قال: و الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، و لا يقال إلّا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنّه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى:( أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ( وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) و النعماء بإزاء الضرّاء.

قال: و النعيم النعمة الكثيرة قال تعالى:( فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) و قال تعالى:( جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ، و تنعّم تناول ما فيه النعمة و طيب العيش، يقال: نعّمه تنعيما فتنعّم أي لين عيش و خصب قال تعالى:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) و طعام ناعم و جارية ناعمة انتهى.

ففي الكلمة - كما ترى - شي‏ء من معنى اللين و الطيب و الملاءمة فكأنّها مأخوذة من النعومة و هي الأصل في معناها، و قد اختصّ استعمالها بالإنسان لأنّ له عقلا يدرك به النافع من الضارّ فيستطيب النافع و يستلئمه و يتنعّم به بخلاف غيره الّذي لا يميّز ما ينفعه ممّا يضرّه، كما أنّ المال و الأولاد و غيرهما ممّا يعدّ نعمة يكون نعمة لواحد و نقمة لآخر و نعمة للإنسان في حال و نقمة في اُخرى.

و لذا كان القرآن الكريم لا يعدّ هذه العطايا الإلهيّة كالمال و الجاه و الأزواج و الأولاد و غير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلّا إذا وقعت في طريق السعادة و منصبغة بصبغة الولاية الإلهيّة تقرّب الإنسان إلى الله زلفى، و أمّا إذا وقعت في طريق الشقاء و تحت ولاية الشيطان فإنّما هي نقمة و ليست بنعمة، و الآيات في ذلك كثيرة.

٨٧

نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه و فضل و رحمة لأنّه خير يفيض الخير و لا يريد في موهبته شرّا و لا سوءً، و هو رؤف رحيم غفور ودود، قال تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ) إبراهيم: ٣٤ و الخطاب في الآية لعامّة الناس، و قال تعالى:( وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) المزّمّل: ١١، و قال تعالى:( ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الزمر: ٤٩ فهذه و أمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنّها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧.

و بالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب الّتي يتسبّب بها في استبقاء الحياة و التوصّل إلى السعادة نعما إلهيّة بالنسبة إليه، و إن كان في ولاية الشيطان تبدّلت الجميع نقما و هي جميعاً من الله سبحانه نعم و إن كانت مكفوراً بها.

ثمّ إنّ وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن اُوتي مالا و سلب الأمن و السلام فلا يتمكّن من أن يتمتّع به كما يريده و متى و أينما يريده، و إذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصّل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.

فقوله:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) يريد أنّ الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنّه يتمّ ذلك في حقّك و في حقّ آل يعقوب و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.

و قد جعل يوسف (عليه السلام) أصلاً و آل يعقوب معطوفا عليه إذ قال:( عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) كما يدلّ عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجوداً له و رأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجّداً له.

و قد ذكر الله تعالى ممّا أتمّ به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنّه آتاه الحكم و النبوّة و الملك و العزّة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين و علّمه من تأويل الأحاديث، و ممّا أتمّ به النعمة على آل يعقوب أنّه أقرّ عين يعقوب بابنه يوسف

٨٨

(عليهما السلام)، و جاء به و بأهله جميعاً من البدو و رزقهم الحضارة بنزول مصر.

و قوله:( كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) أي نظير ما أتمّ النعمة من قبل على إبراهيم و إسحاق و هما أبواك فإنّه آتاهما خير الدنيا و الآخرة فقوله:( مِنْ قَبْلُ ) متعلّق بقوله:( أَتَمَّها ) و ربّما احتمل كونه ظرفاً مستقرّاً وصفاً لقوله:( أَبَوَيْكَ ) و التقدير كما أتمّها على أبويك الكائنين من قبل.

و( إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) بدل أو عطف بيان لقوله( أَبَوَيْكَ ) و فائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرّة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمّها الله على إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف (عليه السلام) و سائر آل يعقوب.

و معنى الآية: و كما رأيت في رؤياك يخلصك ربّك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، و يعلّمك من تأويل الأحاديث و هو ما يؤل إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة و يتمّ نعمته هذه و هي الولاية الإلهيّة بالنزول في مصر و اجتماع الأهل و الملك و العزّة عليك و على أبويك و إخوتك و إنّما يفعل ربّك بك ذلك لأنّه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقّونه فهو عليم بحالك و ما يستحقّونه من غضبه.

و التدبّر في الآية الكريمة يعطي:

أوّلاً: أنّ يعقوب أيضاً كان من المخلصين و قد علّمه الله من تأويل الأحاديث فإنّه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف و ما كان ليخبر عن خرص و تخمين دون أن يعلّمه الله ذلك.

على أنّ الله بعد ما حكى عنه لبنيه:( يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) إلخ قال في حقّه:( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

على أنّه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنّه قال:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ) فأخبر أنّه من تأويل الحديث و قد علّمه ذلك ربّه ثمّ علّل التعليم بقوله:( إِنِّي

٨٩

تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ فأخبر أنّه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب نقيّ الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا و لذلك علّمه ربّه فيما علّمه تأويل الأحاديث، و الاشتراك في العلّة - كما ترى - يعطي أنّ آباءه الكرام إبراهيم و إسحاق و يعقوب كهو مخلصون لله معلّمون من تأويل الأحاديث.

و يؤيّده قوله تعالى في موضع آخر:( وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص: ٤٦ و يعطي أنّ العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.

و ثانياً: أنّ جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا و هو سجدة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا له و ذلك أنّ سجدتهم له و فيهم يعقوب الّذي هو من المخلصين و لا يسجد إلّا لله وحده تكشف عن أنّهم إنّما سجدوا أمام يوسف لله و لم يأخذوا يوسف إلّا قبلة كالكعبة الّتي يسجد إليها و لا يقصد بذلك إلّا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف و لا له إلّا الله تعالى، و هذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربّه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شي‏ء كما يومئ إليه يوسف بقوله:( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قد تقدّم آنفاً أنّ العلم بتأويل الأحاديث متفرّع على الإخلاص.

و من هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه:( وَ كَذلِكَ - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها -يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ - أي يخلصك لنفسه -وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

و كذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا و هي أجرام سماويّة رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدلّ على أنّهم سترتفع مكانتهم و يعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانيّة السعيدة، و هي الحياة الدينيّة العامرة للدنيا و الآخرة و يمتازون في ذلك من غيرهم.

و من هنا مضى يعقوب في حديثه و قال:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ - أي وحدك

٩٠

متميّزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك -وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ - أي عليّ و على زوجي و ولدي جميعا كما رأيتنا مجتمعين متقاربي الصور-كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

و ثالثاً: أنّ المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة و ضمّ الدنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف (عليه السلام) من بينهم لأنّ النعمة و هي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، و حيث نسبت إلى الجميع يأخذ كلّ منهم نصيبه منها.

على أنّ من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) الجاثية: ١٦ و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوّة مختصّ ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيّبات.

و رابعاً: أنّ يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب و لذلك جعله يعقوب أصلاً في الحديث و عطف عليه غيره حتّى ميّزه من بين آله و أفرده بالذكر حيث قال:( وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ ) .

و لذلك أيضاً نسب هذه العناية و الرحمة إلى ربّه حيث قال مرّة بعد مرّة:( رَبُّكَ ) و لم يقل:( يجتبيك الله ) و لا( إنّ الله عليم حكيم ) فهذا كلّه يشهد بأنّه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، و أمّا أبواه إبراهيم و إسحاق فإنّ التعبير بما يشعر بالتنظير:( كَما أَتَمَّها عَلى‏ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ) يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنّه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و إخوته. فأمّا الشمس فاُمّ

٩١

يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أمّا أحد عشر كوكبا فإخوته، فلمّا دخلوا عليه سجدوا شكراً لله وحده حين نظروا إليه، و كان ذلك السجود لله.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا ) قال: إخوته( و الشمس ) قال: اُمّه( و القمر ) قال: أبوه، و لاُمّه راحيل ثلث الحسن.

أقول: و الروايتان - كما ترى - تفسّران الشمس باُمّه و القمر بأبيه و لا تخلوان من ضعف، و ربّما روي أنّ الّتي دخلت عليه بمصر هي خالته دون اُمّه فقد ماتت اُمّه قبل ذلك، و كذلك وردت في التوراة.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقر (عليه السلام) كان له أحد عشر أخا، و كان له من اُمّه أخ واحد يسمّى بنيامين. قال: فرأى يوسف هذه الرؤيا و له تسع سنين فقصّها على أبيه فقال:( يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ ) الآية.

أقول: و في بعض الروايات أنّه كان يومئذ ابن سبع سنين و في التوراة أنّه كان ابن ستّ عشر سنة. و هو بعيد.

و في قصّة الرؤيا روايات اُخرى سيجي‏ء بعضها في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

٩٢

( سورة يوسف الآيات ٧ - ٢١)

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسّائِلِينَ( ٧) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبّ إلَى‏ أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مّبِينٍ( ٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ( ٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السّيّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ( ١٠) قَالُوا يَا أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنّا عَلَى‏ يُوسُفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ( ١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ( ١٢) قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخَاسِرُونَ( ١٤) فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ وَأَوَحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنّهُم بِأَمْرِهِمْ هذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ( ١٥) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ( ١٦) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ( ١٧) وَجَاءُوا عَلَى‏ قَميِصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى‏ مَا تَصِفُونَ( ١٨) وَجَاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى‏ دَلْوَهُ

٩٣

قَالَ يَابُشْرَى‏ هذَا غُلامٌ وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ( ١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ( ٢٠) وَقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى‏ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتّخِدَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى‏ أَمْرِهِ وَلكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٢١)

( بيان‏)

شروع في القصّة بعد ذكر البشارة الّتي هي كالمقدّمة الملوّحة إلى إجمال الغاية الّتي تنتهي إليها القصّة، و الآيات تتضمّن الفصل الأوّل من فصول القصّة و فيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليه السلام) و خروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، و قد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، و أخرجته السيّارة منها، و باعه إخوته من السيّارة، و هم حملوه إلى مصر و باعوه من العزيز فبقي عنده.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) شروع في القصّة و فيه التنبيه على أنّ القصّة مشتملة على آيات إلهيّة دالّة على توحيد الله سبحانه، و أنّه هو الوليّ يلي اُمور عباده المخلصين حتّى يرفعهم إلى عرش العزّة، و يثبّتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره و يستنتج منها ما يريد لا ما هو اللّائح الظاهر منها.

فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم و كادوه و ألقوه في قعر بئر ثمّ شروه من السيّارة عبداً يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب

٩٤

اللائح منه الهلاك. و أن يذلّلوه فأعزّه الله بعين سبب التذليل، و وضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع و الخفض، و أن يحوّلوا حبّ أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، و ذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطّخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الّذي جاء به إليه البشير و ألقاه على وجهه.

و لم يزل يوسف (عليه السلام) كلّما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه و جعل فيه ظهور كرامته و جمال نفسه، و كلّما سير به في مسير أو ركّب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزيّة هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة و منقبة شريفة ظاهرة، و إلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرّف نفسه لإخوته و يقول:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) الآية ٩١ من السورة، و يقول لأبيه بحضرة من إخوته:( يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي ) ثمّ تأخذه الجذبة الإلهيّة فيقبل بكلّيّة نفسه الوالهة إلى ربّه و يعرض عن غيره فيقول:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) الآية ١٠١ من السورة.

و في قوله تعالى:( لِلسَّائِلِينَ ) دلالة على أنّه كان هناك جماعة سألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن القصّة أو عمّا يرجع بوجه إلى القصّة فاُنزلت في هذه السورة.

قوله تعالى: ( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ذكر في المجمع، أنّ العصبة هي الجماعة الّتي يتعصّب بعضها لبعض، و يقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، و قيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، و لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط و النفر. انتهى.

و قوله:( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا ) القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف و أخاه الّذي ذكروه معه، و كانت عدّتهم عشرة و هم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب و إدارة مواشيه و أمواله كما يدلّ عليه قولهم:

٩٥

( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) .

و قولهم:( لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ ) بنسبته إلى يوسف مع أنّهم جميعا أبناء ليعقوب و إخوة فيما بينهم يشعر بأنّ يوسف و أخاه هذا كانا أخوين لاُمّ واحدة و أخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، الروايات تذكر أنّ اسم أخي يوسف هذا( بنيامين ) ، و السياق يشهد أنّهما كانا صغيرين لا يقومان بشي‏ء من أمر بيت يعقوب و تدبير مواشيه و أمواله.

و قولهم:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوّة بعض، و هو حال عن الجملة السابقة يدلّ على حسدهم و حنقهم لهما و غيظهم على أبيهم يعقوب في حبّه لهما أكثر منهم، و هو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

و قولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) قضاء منهم على أبيهم بالضلال و يعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة و فساد السيرة دون الضلال في الدين:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم أنّهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصّب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيويّة و إصلاح معاشه و دفع كلّ مكروه يواجهه، و يوسف و أخوه طفلان صغيران لا يقويان من اُمور الحياة على شي‏ء، و ليس كلّ منهما إلّا كلّاً عليه و عليهم، و إذا كان كذلك كان توغّل أبيهم في حبّهما و اشتغاله بكلّيّته بهما دونهم و إقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوّجة غير مرضيّة فإنّ حكمة الحياة تستدعي أن يهتمّ الإنسان بكلّ من أسبابه و وسائله على قدر ما له من التأثير، و قصر الإنسان اهتمامه على من هو كلّ عليه و لا يغني عنه طائلا، و الإعراض عمّن بيده مفاتيح حياته و أزمّة معاشه ليس إلّا ضلالاً من صراط الاستقامة و اعوجاجا في التدبير، و أمّا الضلال في الدين فله أسباب اُخر كالكفر بالله و آياته و مخالفة أوامره و نواهيه.

و أمّا ثانياً: فلأنّهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوّة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم:( وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ ) و قولهم أخيراً:( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ

٩٦

لَنا ذُنُوبَنا ) الآية ٩٧ من السورة و قولهم ليوسف أخيراً:( تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا ) و غير ذلك، و لو أرادوا بقولهم:( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.

و هم مع ذلك كانوا يحبّون أباهم و يعظّمونه و يوقرونه، و إنّما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حبّ أبيهم كما قالوا:( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) فهم - كما يدلّ عليه هذا السياق - كانوا يحبّونه و يحبّون أن يخلص لهم حبّه، و لو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدءوا بأبيهم دون أخيهم و أن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتّى يخلو لهم الجوّ و يصفو لهم الأمر ثمّ الشأن في يوسف عليهم أهون.

و لقد جبّهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم:( إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) الآية ٩٥ من السورة، و من المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حبّ يوسف و المبالغة في أمره بما لا ينبغي.

و يظهر من الآية و ما يرتبط بها من الآيات أنّه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو و كان له اثنا عشر ابنا و هم أولاد علّة، و كان عشرة منهم كبارا هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة يدور عليهم رحى حياته و يدبّر بأيديهم اُمور أمواله و مواشيه، و كان اثنان منهم صغيرين أخوين لاُمّ واحدة في حجر أبيهما و هما يوسف و أخوه لاُمّه و أبيه، و كان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبّهما حبّاً شديداً لما يتفرّس في ناصيتهما من آثار الكمال و التقوى لا لهوى نفسانيّ فيهما كيف؟ و هو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى:( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) - ص: ٤٦ و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

فكان هذا الحبّ و الإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما و يؤجّج نائرة الأضغان منهم عليهما و يعقوب (عليه السلام) يتفرّس ذلك و يبالغ في حبّهما و خاصّة في حبّ يوسف و كان يخافهم عليه و لا يرضى بخلوتهم به و لا يأمنهم عليه و ذلك يزيد في حسدهم

٩٧

و غيظهم فصار يتفرّس من وجوههم الشرّ و المكر كما مرّت استفادته من قوله:( فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا ) حتى رأى يوسف الرؤيا و قصّها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه و ازداد حبّه له و وجده فيه، و أوصاه أن يكتم رؤياه و لا يخبر إخوته بها لعلّه يأمن بذلك كيدهم لكنّ التقدير غلب تدبيره.

فاجتمع الكبار من بني يعقوب و تذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم و ما يصنعه بيوسف و أخيه حيث يشتغل بهما عنهم و يؤثرهما عليهم و هما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل و هم عصبة اُولوا قوّة و شدّة أركان حياته و أياديه الفعّالة في دفع كلّ رزيّة عادية و جلب منافع المعيشة و إدارة الأموال و المواشي، و ليس من حسن السيرة و استقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القويّة على قوّتهم فذمّوا سيرة أبيهم و حكموا بأنّه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.

و لم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتّى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعيّة كما توفّرت بذلك شواهد الآيات و قد تقدّمت الإشارة إليها.

و بذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية:

منها: ما ذكره بعضهم أنّ هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل و المساواة جهل مبين و خطأ كبير لعلّ سببه اتّهامهم إيّاه بإفراطه في حبّ اُمّهما من قبل فيكون مثاره الأوّل اختلاف الاُمّهات بتعدّد الزوجات و لا سيّما الإماء منهنّ(١) و هو الّذي أضلّهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم و كانا أصغر أولاده.

____________________

(١) إشارة إلى ما في التوراة أن يعقوب كان له من الأولاد اثنا عشر ولدا ذكرا و هم راوبين و شمعون و لاوى و يهوذا و يساكر و زبولون و هؤلاء من ليئة بنت خاله، و يوسف و بنيامين من راحيل بنت خاله الأخرى. و دان و نفتالى من جارية راحيل، و جاد و أشير من زلفة جارية ليئة.

٩٨

قال: و من فوائد القصّة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد و تربيتهم على المحبّة و العدل، و إنّقاء وقوع التحاسد و التباغض بينهم و منه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعدّه المفضول إهانة له و محاباة لأخيه بالهوى، و قد نهى عنه النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) مطلقا، و منه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضّل الله تعالى بالمواهب الفطريّة كمكارم الأخلاق و التقوى و العلم و الذكاء.

و ما كان يعقوب بالّذي يخفى عليه هذا و ما نهى يوسف عن قصّ رؤياه عليهم إلّا من علمه بما يجب فيه، و لكن ما يفعل الإنسان بغريزته و قلبه و روحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلّا. انتهى.

أمّا قوله: إنّ منشأ حسدهم و بغيهم اختلاف الاُمّهات و خاصّة الإماء منهنّ إلخ ففيه: أنّ استدعاء اختلاف الاُمّهات اختلاف الأولاد و إن كان ممّا لا يسوغ إنكاره، و وجود ذلك في المورد محتمل، لكنّ السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، و لو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به و لم يقنعوا به.

و أمّا قوله:( و هو الّذي أضلّهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم ) و مفاده أنّ محبّة يعقوب ليوسف إنّما كانت رقّة و ترحّما غريزيّاً منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.

ففيه: أنّ هذا النوع من الحبّ المشوب بالرقّة و الترحّم ممّا يسلّمه الكبار للصغار و ينقطعون عن مزاحمتهم و معارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم و ضعفائهم و اعترضوا بأنّ ذلك خلاف التعديل و التسوية فاُجيبوا بأنّهم صغار ضعفاء يجب أن يرقّ لهم و يرحموا و يعانوا حتّى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا و انقطعوا عن الاعتراض و أقنعهم ذلك.

فلو كانت صورة حبّ يعقوب ليوسف و أخيه صورة الرقّة و الرأفة و الرحمة

٩٩

لهما لصغرهما و هي الّتي يعهدها كلّ من العصبة في نفسه و يذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها و لم يذمّوا أباهم عليها و لكان قولهم:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) دليلا عليهم يدلّ على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدلّ على ضلال أبيهم في زيادة حبّه لهما.

على أنّهم قالوا لأبيهم حينما كلّموا أباهم في أمر يوسف:( ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى‏ يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ) و من المعلوم أنّ إكرامه ليوسف و ضمّه إليه و مراقبته له و عدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبّة بالرقة و الرحمة له و لصغره و ضعفه.

و أمّا قوله: و ما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال و معناه أنّ هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأنّ ذلك خلاف العدل و الإنصاف و أنّه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثمّ تعذيره بأنّ مخالفة هوى القلب و علقة الروح ممّا لا يستطيعه الإنسان.

ففيه أنّه إفساد للاُصول المسلّمة العقليّة و النقليّة الّتي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء و العلماء بالله من الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و ما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أنّ الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلّق بها و محق الرذائل النفسانيّة الّتي أصلها و أساسها اتّباع هوى النفس و إيثار مرضاة الله سبحانه على كلّ مرضاة و بغية، و هذا أمر نرجوه من كلّ من ارتاض بالرياضات الخلقيّة من أهل التقوى و الورع فما الظنّ بالأنبياء ثمّ بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم.

و ليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الاُمور فما معنى هذه الأوامر و النواهي الجمّة في الدين المتعلّقة بها؟ و هل هي إلّا مجازفة صريحة.

على أنّ فيما ذكره إزراءً لمقامات أنبياء الله و أوليائه و حطّا لمواقفهم العبوديّة إلى درجة المتوسّطين من الناس اُسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربّهم، و قد عرّف سبحانه الأنبياءه بمثل قوله:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأنعام:

١٠٠