الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٥

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 461

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 461
المشاهدات: 122343
تحميل: 4548


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 461 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122343 / تحميل: 4548
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 5

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقال النازلي في « خزينة الأسرار » ص ٧٨: وقد رُوي عن الشيخ موسى السدراني من أصحاب الشيخ أبي مدين المغربي: انَّه كان يختم في الليل والنهار سبعين ألف ختمة، ونقل عنه: انَّه ابتدأ بعد تقبيل الحجر، وختم في محاذاة الباب، بحيث انَّه سمعه بعض الأصحاب حرفاً حرفاً كذا ذكره في « الإحياء » وعليّ القاري في « شرح المشكاة »

وفي ص ١٨٠ من « خزينة الأسرار » : انَّ الشيخ أبو مدين المغربي أحد الثلاثة ورئيس الأوتاد الذي كان يختم القرآن كلّ يوم سبعين ألف ختمة.

وأخرج البخاري في صحيحه(١) عن أبي هريرة يرفعه قال: قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خفّف على داود القرآن فكان يأمر بدابته فتسرج فيقرأ القرآن قبل أن تسرج. وقال القسطلاني في شرح هذا الحديث(٢) : وفيه انَّ البركة قد تقع في الزمن اليسير حتَّى يقع فيه العمل الكثير.

وقال: قد دلَّ هذا الحديث على انَّ الله تعالى يطوي الزمان(٣) لمن شاء من عباده كما يطوي المكان لهم.

قال الأميني: إن هي إلّا أساطير الأوَّلين وخزعبلات السَّلف كتبتها يد الأوهام الباطلة، وكلّها نصب عيني إبن تيميّة وقومه لم تسمع من أحدهم فيها رِكزاً ولم ترَ منهم غميزة، وكان حقّاً على هذه السفاسف أن تُكتب في طامور القصّاصين، أو تُوارى في مطامير البراري، أو تُقذف في طمطام البحار، أسفي على تلكم التآليف الفخمة الضخمة تحتوي مثل هذه الخرافات، أسفي على أولئك الأعلام يخضعون عليها ويرونها جديراً بالذِّكر، ولو كان يعلم إبن تيميّة انَّ نظَّارة التنقيب تُعرب عن هذه الخزايات بعد لأى من عمر الدهر لكان يختار لنفسه السكوت، وكفَّ مدَّته عن صلاة أمير المؤمنين وولده الإمام السبط والسيِّد السجَّاد عليهم السَّلام، وما كان يحوم حومة العار إن عقل صالحه.

وَلَوْ أَنّهُمْ قَالوا سَمِعنا وأَطعنا واسْمَعْ وانظُرنا

لَكانَ خَيراً لَهُمْ وَأقوَمْ.

____________________

١ - ج ١ ص ١٠١ في كتاب التفسير في باب قوله تعالى: وآتينا داود زبورا. و ج ٢ ص ١٦٤ في أحاديث الانبياء.

٢ - ارشاد السارى ٨ ص ٣٩٦.

٣ - كان حق المقام أن يقول: يطوى اللسان أو يقول: يبسط الزمان.

٤١

-٣ -

ألمحدَّث فى الاسلام

أصفقت الاُمَّة الإسلاميَّة على أنَّ في هذه الاُمَّة لدة الاُمم السابقة اُناسٌ محدَّثون « على صيغة المفعول » وقد أخبر بذلك النبيُّ الأعظم كما ورد في الصِّحاح والمسانيد من طرق الفريقين: « العامَّة والخاصَّة » والمحدَّث مَن تُكلّمه الملائكة بلا نبوَّةٍ ولا رؤية صورة، أو يُلهم له ويُلقى في روعه شئُ من العلم على وجه الإلهام و المكاشفة من المبدأ الأعلى، أو يُنكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه، فوجود مَن هذا شأنه من رجالات هذه الاُمَّة مُطبقٌ عليه بين فرق الإسلام، بيد أنَّ الخلاف في تشخيصه، فالشيعة ترى عليّاً أمير المؤمنين وأولاده الأئمَّة صلوات الله عليهم من المحدَّثين، وأهل السنَّة يرون منهم عمر بن الخطاب، وإليك نماذج من نصوص الفريقين:

نصوص أهل السنّة

أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج ٢ ص ١٩٤ عن أبي هريرة قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من اُمَّتي منهم أحدٌ فعمر. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: من نبيٍّ ولا محدَّث.

قال القسطلاني(١) : ليس قوله « فإن يكن » للترديد بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديقٌ ففلان. إذ المراد إختصاصه بكمال الصَّداقة لا نفي الأصدقاء، وإذا ثبت انّ هذا وجد في غير الاُمَّة المفضولة فوجوده في هذه الاُمَّة الفاضلة أحرى. وقال في شرح قول إبن عبّاس « من نبيٍّ ولا محدَّث » : قد ثبت قول إبن عبّاس هذا لأبي ذر وسقط لغيره ووصله سفيان بن عيينة في أواخر جامعه وعبد بن حميد بلفظ: كان إبن عبّاس يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث.

____________________

١ - ارشاد السارى شرح صحيح البخارى ٦ ص ٩٩.

٤٢

وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار ج ٢ ص ١٧١ عن أبى هريرة مرفوعاً: انَّه قد كان فيما مضى قبلكم من الاُمم محدَّثون إن كان في اُمّتي هذه منهم فإنَّه عمر بن الخطاب.

قال القسطلاني في شرحه ٥ ص ٤٣١: قال المؤلِّف: يجري على ألسنتهم الصَّواب من غير نبوَّة. وقال الخطابي: يُلقى الشيء في روعه، فكأنَّه قد حُدِّث به يظنُّ فيصيب ويخطر الشيئ بباله فيكون، وهي منزلةٌ رفيعةٌ من منازل الأولياء.

وقال في قوله « إن كان في اُمَّتي » : قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سبيل التوقّع وكأنَّه لم يكن إطلّع(١) على أنَّ ذلك كائنٌ وقد وقع، وقصَّة: يا سارية الجبل(٢) مشهورةٌ مع غيرها.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عايشة عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان في الاُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في اُمَّتي منهم أحدٌ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم. قال إبن وهب: تفسير محدَّثون: ملهمون.

ورواه إبن الجوزي في « صفة الصفوة » ١ ص ١٠٤ وقال: حديثٌ متَّفقٌ عليه وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في « مشكل الآثار » ٢ ص ٢٥٧ بطرق شتَّى عن عايشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عبّاس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدَّث. قال: معنى قوله محدَّثون أي ملهمون، فكان عمر رضي الله عنه ينطق بما كان ينطق ملهماً، ثمَّ عدَّ من ذلك ما قد رُوي عن أنس بن مالك قال قال عمر بن الخطاب: وافقني ربّي أو وافقتُ ربِّي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى. فنزلت: واتَّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى. وقلت: يا رسول الله إنَّ نساءك يدخل عليهنَّ البرُّ والفاجر فلو أمرتهنَّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساؤه في الغيرة فقلت: عسى ربّي إن طلّقكنَّ أن يُبدِّله أزواجاً خيراً منكنَّ، فنزلت كذلك.

قال الأميني: إن كان هذا من القول بإلهام فعلى الاسلام السَّلام، وما أجهل القوم بالمناقب حتّى أتوا بالطامّات الكبرى كهذه وعدّوها فضيلة، وعليهم إن عقلوا

____________________

١ - انظر الى التناقض بين قوله هذا وبين ما مر من أنّ إنْ للتأكيد لا للترديد.

٢ - سيوافيك في مناقب عمر: ان قصة: يا سارية الجبل. موضوعة مكذوبة.

٤٣

صالحهم إنكار مثل هذا القول على عمر، وفيه حطٌّ لمقام النبوَّة، ومسَّةٌ على كرامة صاحب الرَّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنّوا فكأنَّهم حدّثوا بشيىء فظنّوه. وقيل: تُكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون. وقال البخاري: يجري الصَّواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء. وقال الحافظ محب الدين الطبري في « الرِّياض » ١ ص ١٩٩: ومعنى محدَّثون والله أعلم أي يُلهمون الصّواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدَّثهم الملائكة لا بوحي وإنّما بما يُطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلةٌ عظيمةٌ.

وقال القرطبي في تفسيره ج ١٢ ص ٧٩: قال إبن عطيّة: وجاء عن إبن عبّاس إنَّه كان يقرأ: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ ولا محدَّث. ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله ورواه سفيان عن عمرو بن دينار عن إبن عبّاس.

قال مسلمة: فوجدنا المحدَّثين معتصمين بالنبوَّة - على قراءة إبن عبّاس - لأنَّهم تكلّموا باُمور عالية من أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة، فأصابوا فيما تكلّموا، وعصموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قصّة سارية(١) وما تكلّم به من البراهين العالية.

وأخرج الحافظ أبو زرعة حديث أبي هريرة في طرح التثريب في شرح التفريب ١ ص ٨٨ بلفظ: لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال مكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في اُمَّتي أحدٌ فعمر.

وأخرجه البغوي في « المصابيح » ٢ ص ٢٧٠، والسيوطي في « الجامع الصغير » ، وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ٤ ص ٥٠٧: قال القرطبي: « محدَّثون » بفتح الدال اسم مفعول جمعُ محدَّث بالفتح أي مُلهم أو صادق الظنّ، وهو من القي في نفسه شئٌ على وجه الإلهام والمكاشفة من

____________________

١ - هو سارية بن زنيم بن عبد الله وكان من قصته أن عمر رضى الله عنه أمره على جيش وسيره الى فارس سنة ثلاث وعشرين، فوقع في خاطر سيدنا عمر وهو يخطب يوم الجمعة أن الجيش المذكور لاقى العدو وهم في بطن واد وقد هموا بالهزيمة وبالقرب منهم جبل فقال في أثناء خطبته: يا سارية! ألجبل ألجبل. ورفع صوته فالقاه الله في سمع سارية فانحاز بالناس الى الجبل، وقاتلوا العدو من جانب واحد ففتح الله عليهم. كذا في هامش تفسير القرطبى.

٤٤

الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصَّواب على لسانه بلا قصد، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوَّة أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنَّ ظنّاً أصاب كأنَّه حُدِّت به، واُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامةٌ يكرم الله بها من شاء من صالح عباده، وهذه منزلةٌ جليلةٌ من منازل الأولياء.

فإن يكن من اُمَّتي منهم أحدٌ فإنِّه عمر، كأنَّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنَّه نبيّ، فلذلك أتى بلفظ إن بصورة الترديد.

قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والإختصاص قولك: إن كان لي صديقٌ فهو زيد، فإنّ قائله لا يريد به الشكَّ في صداقته بل المبالغة في انَّ الصداقة مختصَّة به لا تتخطّاه إلى غيره.

وقال القرطبي: قوله « فإن يكن » دليلٌ على قلّة وقوعه وندرته، وعلى أنَّه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنّون لأنَّه كثيرٌ في العلماء بل وفي العوام مَن يقوى حدسه فتصحُّ إصابته فترتفع خصوصيَّة الخبر وخصوصيَّة عمر، ومعنى الخبر قد تحقّق ووجد في عمر قطعاً وإن كان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجزم بالوقوع، وقد دلَّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة كقصَّة: الجبل يا سارية! الجبل.

وغيره، وأصحّ ما يدلّ على ذلك شهادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بذلك حيث قال: إنّ الله جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه(١) .

قال ابن حجر: وقد كثر هؤلاء المحدَّثون بعد العصر الأوّل وحكمته زيادة شرف هذه الاُمَّة بوجود أمثالهم فيها ومضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء، فلمّا فات هذه الاُمَّة المحمَّديَّة كثرة الأنبياء لكون نبيّهم خاتم الأنبياء عُوِّضوا تكثير الملهمين.

( تنبيهٌ ) قال الغزالي: قال بعض العارفين سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهد النفس فالتفت إلى شماله وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثمَّ إلى يمينه كذلك، ثمّ أطرق إلى صدره فقال: ما تقول؟ ثمَّ أجاب فسألته عن إلتفاته؟ فقال: لم يكن عندي علمٌ فسألت الملكين فكلُّ قال: لا أدري فسألت قلبي فحدَّثني بما أجبت فإذا هو أعلم منهما.

قال الغزالي: وكأنَّ هذا معنى هذا الحديث.ا ه.

ويجد الباحث في طيِّ كتب التراجم جمعاً ممَّن كلّمتهم الملائكة منهم: عمران بن

____________________

١ - لم يصدّق الخُبر الخَبر، بل: يكذبه التاريخ الصحيح وسيرة عمر المحفوظة في صفحات الكتب والمعاجم.

٤٥

الحصين الخزاعي المتوفّى سنّة ٥٢، أخرج أبو عمر في « الأستيعاب » ٢ ص ٤٥٥: انَّه كان يرى الحفظة وكانت تكلّمه حتى اكتوى. وذكره إبن حجر في الإصابة ٣ ص ٢٦.

وقال إبن كثير في تاريخه ٨ ص ٦٠: قد كانت الملائكة تسلّم عليه فلمّا اكتوي انقطع عنه سلامهم، ثمّ عادوا قبل موته بقليل، فكانوا يسلّمون عليه رضي الله عنه. و في شذرات الذهب ١ ص ٥٨: انَّه كان يسمع تسليم الملائكة عليه، ثمّ اكتوي بالنار فلم يسمعهم عاماً، ثم أكرمه الله بردِّ ذلك.

وذكَر تسليم الملائكة عليه ألحافظ العراقي في « طرح التثريب » ج ١ ص ٩٠، وأبو الحجَّاج المزّي في « تهذيب الكمال » كما في تلخيصه ص ٢٥٠، وقال إبن سعد و إبن الجوزي في « صفة الصفوة » ١ ص ٢٨٣: كانت الملائكة تصافحه. وذكره إبن حجر في « تهذيب التهذيب » ٨ ص ١٢٦.

ومنهم: أبو المعالي الصّالح المتوفّى ٤٢٧، أخرج الحافظان إبنا الجوزي وكثير أنَّ أبا المعالي أصابته فاقةٌ شديدةٌ في شهر رمضان فعزم على الذهاب إلى رجل من ذوي قرابته ليستقرض منه شيئاً قال: فبينما أنا اُريده فنزل طائرٌ فجلس على منكبي وقال: يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني، لا تمضي إليه نحن نأتيك به. قال: فبكر إليّ الرَّجل « صف ٢ ص ٢٨٠، ظم ٩ ص ١٣٦، يه ١٢ ص ١٦٣ »

م - وقال أبو سليمان الخطّابي: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد كان في الاُمم ناسٌ محدَّثون، فإن يكن في اُمَّتي فعمر » وأنا أقول: فإن كان في هذا العصر أحدٌ كان أبو عثمان المغربي « طب ٩: ١١٣ »

ومن هذا القبيل تكلّم الحوراء مع أبي يحيى الناقد، أخرج الخطيب البغدادي وإبن الجوزي عن أبي يحيى زكريّا بن يحيى الناقد المتوفّى ٢٨٥ « أحد أثبات المحدِّثين » قال اشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء وهي تقول: وفيتَ بعهدك فها أنا التي قد اشتريتني(١) .

( هذا ما عند القوم وأمّا نصوص الشيعة )

فأخرج ثقة الإسلام الكليني في كتابه « اُصول الكافي » ص ٨٤ تحت عنوان

____________________

١ - طب ٨ ص ٣٦٢، ظم ٦ ص ٨، صف ٢ ص ٢٣٤، مناقب أحمد لابن الجوزى ص ٥١٠.

٤٦

« باب الفرق بين الرَّسول والنبيّ والمحدَّث » أربعة أحاديث منها باسناده عن بُريد عن الإمامين الباقر والصّادق صلوات الله عليهما في قوله عزَّ وجلَّ [ في سورة الحجِّ ]: وما أرْسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رسولٍ ولَا نبيٍّ ولَا مُحَدَّث. [ قال بُريد ]: قلت: جُعِلتُ فداك ليست هذه قراءتنا(١) فما الرَّسول والنَّبيّ والمحدَّث؟ قال: ألرَّسول الَّذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبيّ هو الذي يرى في منامه، وربَّما اجتمعت النبوَّة والرِّسالة لواحدٍ، والمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصّورة. قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم انَّ الذي رأى في النّوم حقُّ وانَّه من الملك؟ قال: يوفَّق لذلك حتَّى يعرفه، ولقد ختم الله عزَّ وجلَّ بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء.

وحديث آخر أيضاً فصّل بهذا البيان بين النبيِّ والرَّسول والمحدَّث، وحديثان بالتفصيل المذكور غير أنَّ فيهما مكان لفظة المحدَّث، الإمام. أحدهما عن زرارة قال: سألتُ أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: وكان رسولاً نبيّا. ما الرَّسول؟ وما النبيّ؟ قال: ألنبيّ الذي يرى في منامه ويسمع الصّوت ولا يعاين الملك، والرَّسول الذي يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك. قلتُ: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصّوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثمَّ تلا هذه الآية: وما أرسلنا مِن قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدَّث.

والثاني: عن إسماعيل بن مرار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروف إلى الرضاعليه‌السلام : جُعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرَّسول والنبيّ والإمام؟ قال: فكتب أو قال: ألفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام: انَّ الرَّسول الذي ينزل عليه جبرئيلعليه‌السلام فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام والنبيّ ربما يسمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص.

هذا تمام ما في هذا الباب من الكافي وأخرج في ص ١٣٥ تحت عنوان « باب انَّ الأئمَّة عليهم السّلام مُحدَّثون مُفهمون » خمسة أحاديث منها عن حمران بن أعين، قال: قال أبو جعفرعليه‌السلام : إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتكم

____________________

١ - هي قراءة ابن عباس كما مر.

٤٧

بعجيبة: فقالوا: وما هي إلّا؟ فقلت: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: كان عليُّ مُحدَّثاً، فقالوا: ما صنعت شيئاً إلّا سألته: من كان يحدّثه؟ فرجعت إليه فقلت: إنِّي حدَّثت أصحابي بما حدَّثتني فقالوا: ما صنعت شيئاً إلّا سألته: مَن كان يحدّثه؟ فقال لي: يحدِّثه ملَك.

قلت: تقول إنّه نبيُّ؟ قال: فحرَّك يده هكذا، أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أوَ ما بلغكم انّه قال: وفيكم مثله؟

وحديث آخر ما ملخَّصه: انَّ عليّاً [ أمير المؤمنين ] كان يعرف قاتله ويعرف الاُمور العظام التي كان يحدِّث بها النَّاس بقول الله عزَّ ذكره. وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيٍّ ولا محدِّث.

وحديثان آخران أحدهما: انَّ أوصياء محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محدَّثون. والثاني: الأئمَّة علماءٌ صادقونَ مُفهَمونَ مُحدَّثون. والحديث الخامس في معنى المحدَّث وانَّه يسمع الصّوت ولا يرى الشّخص. وليس في هذا الباب من كتاب الكافي غير ما ذكرناه.

وروى شيخ الطائفة في أماليه ص ٢٦٠ بإسناده عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: كان عليّعليه‌السلام محدَّثاً، وكان سلمان محدّثاً قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال: يأتيه ملكٌ فينكت في قلبه كيت كيت.

وبالإسناد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: منّا مَن يُنكت في قلبه، ومنّا من يُقذف في قلبه، ومنّا مَن يُخاطب.

وبإسناده عن الحرث النصري قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : الذي يُسأل عنه الإمام وليس عنده فيه شئٌ من أين يعلمه؟ قال: يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الاُذن نقرا، وقيل لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إذا سُئلَ كيف يُجيب؟ قال: إلهامٌ وسماعٌ وربِّما كانا جمعاً.

وروى الصفّار بإسناده في « بصائر الدرجات » عن حمران بن أعين قال: قلتُ لأبي جعفرعليه‌السلام : ألستَ حدَّثتني إنَّ عليّاً كان مُحدَّثاً؟ قال: بلى. قلتُ: مَنْ يحدّثه؟ قال: ملَكٌ. قلتُ: فأقول: انّه نبيُّ أو رسولٌ؟ قال: لا. بل مَثَله مَثل صاحب سليمان، ومَثَل صاحب موسى، ومثَل ذي القرنين، أما بلغك انَّ عليّاً سُئل عن ذي القرنين؟ فقالوا: كان نبيّاً؟ قال: لا. بل كان عبداً أحبَّ الله فأحبَّه، وناصح الله فناصحه.

_٣_

٤٨

وبإسناده عن حمران قال: قلتُ لأبي جعفرعليه‌السلام ما موضع العلماء؟ قال: مثل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب داود.

وبالإسناد عن بُريد قال: قلتُ لأبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السّلام: ما منزلكم؟ بمن تشبهون ممّن مضى؟ فقال: كصاحب موسى، وذي القرنين، كانا عالمين ولم يكونا نبيَّين.

وبالإسناد عن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : ما منزلتهم؟ أنبياءٌ هم؟ قال: لا.

ولكن هم علماء كمنزلة ذي القرنين في علمه، وكمنزلة صاحب موسى، وكمنزلة صاحب سليمان.

هذه جملةٌ من أخبار الشيعة في الباب وهي كثيرةٌ مبثوثة في كتبهم(١) وهذه رؤوسها، ومؤدَّى هذه الأحاديث هو الرأي العام عند الشيعة سلفاً وخلفاً، وفذلكته: انَّ في هذه الاُمّة اُناس محدَّثون كما كان في الاُمم الماضية، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمّة الطاهرون علماءٌ محدَّثون وليسوا بأنبياء.

وهذا الوصف ليس من خاصّة منصبهم ولا ينحصر بهم، بل: كانت الصدِّيقة كريمة النبيّ الأعظم محدَّثة، وسلمان الفارسي محدِّثاً. نعم: كلّ الأئمَّة من العترة الطاهرة محدَّثون، وليس كلُّ محدَّث بإمام، ومعنى المحدَّث هو العالم بالأشياء بإحدى الطرق الثلاث المفصَّلة في الأحاديث المتلوَّة، هذا ما عند الشيعة ليس إلّا.

هذا منتهى القول عند الفريقين ونصوصهما في المحدَّث وأنت كما ترى لا يوجد أيّ خلاف بينهما، ولم تشذّ الشيعة عن بقيّة المذاهب الإسلاميّة في هذا الموضوع بشئ من الشذوذ إلّا في عدم عدّهم عمر بن الخطّاب من المحدَّثين، وذلك أخذاً بسيرته الثابتة في صفحات التاريخ من ناحية علمه ولسنا في مقام البحث عنه(٢) فهل من المعقول أن يُعدّ هذا القول المتسالم عليه في المحدَّث لاُمَّةٍ من قائليه فضيلةً رابيةً، وعلى الاُخرى منهم ضلالاً ومنقصة؟ لاها الله.

هلمَّ معي نسائل كيذبان الحجاز [ عبد الله القصيمي ] جرثومة النِّفاق، وبذرة الفساد

____________________

١ - جمعها العلامة المجلسي في بحار الانوار.

٢ - سنوقفك على البحث عنه فى الجزء السادس انشاء الله.

٤٩

في المجتمع كيف يرى في كتابه [ الصّراع بين الإسلام والوثنيّة ] ان الأئمّة من آل البيت عند الشيعة أنبياء وانّهم يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي، وانّهم يزعمون لفاطمة وللأئمّة من وُلدِها ما يزعمون للأنبياء؟ ويستند في ذلك كلّه على مكاتبة الحسن بن العبّاس المذكور ص ٤٧ نقلاً عن الكافي، هلّا يعلم هذا المغفَّل؟ إنّ هذه المفتريات والقذائف على اُمّة كبيرة [ أطلَّت آرائها الصالحة على أرجاء الدنيا ] إنْ هي إلّا مآل القول بالمحدَّث الوارد في الكتاب العزيز وتكلّم الملائكة مع الأئمّة من آل البيت واُمّهم فاطمة البتول كما هو مقتضى استدلاله، وأهل الاسلام كلّهم شرعٌ سواء في ذلك. أوَ للشيعيّ عندئذ أن يقول: إنّ عمر بن الخطّاب وغيره من المحدَّثين على زعم العامّة عندهم أنبياء يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي؟ لكنَّ الشيعة علماء حكماء لا يخدشون العواطف بالدجل والتمويه وقول الزور، ولا يُسمع لأحد من حملة روح التشيّع، والنزعة العلويّة الصحيحة، ومقتفى الآداب الجعفريّة أن يتَّهم اُمَّة كبيرة بالطامات، وحاشاها أن تُشوِّه سمعتها بالأكاذيب والأفائك، وتقذف الاُمم بما هي برئية منه، أما كانت بين يدي الرَّجل تلكم النصوص الصريحة للشيعة على أنّ الأئمّة علماء وليسوا بأنبياء؟ أما كان صريح تلك الأحاديث بأنّ الأئمّة مَثَلهم كمثل صاحب موسى، وصاحب سليمان، وذي القرنين؟ أما كان في « الكافي » في الباب الذي قلّبه الرجل على الشيعة قول الإمامين الباقر والصّادق: لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيّكم الأنبياء؟ نعم: هذه كلّها كانت بمرأى من الرَّجل غير أنّ الإناء ينضح بما فيه، ووليد الروح الأمويّة الخبيثة وحامل نزعاتها الباطلة سدكٌ بالقحَّة والسفالة، ولا ينفكُّ عن الخنى والقذيعة، ومن شأن الأمويِّ أن يتفعّى ويمين ويأفك، ويهتك ناموس المسلمين، ويسلقهم بألسنة حداد، ويفتري على آل البيت وشيعتهم اقتداءً بسلفه، وجرياً على شنشنته الموروثة، ونحن نورد نصَّ كلام الرَّجل ليكون الباحث على بصيرةٍ من أمره، ويرى جهده البالغ في تشتيت صفوف الاُمّة، وشقِّ عصا المسلمين بالبهت وقول الزّور، قال في « الصِّراع » ج ١ ص ١:

ألأئمّة يوحى إليهم عند الشيعة، قال في « الكافي » : كتب الحسن بن العبّاس إلى الرِّضا يقول: ما الفرق بين الرَّسول والنبيِّ والإمام؟ فقال: الرَّسول هو الذي ينزل

٥٠

عليه جبرئيل فيراه، ويسمع كلامه، وينزل عليه الوحي، والنبيّ ربما يسمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص. وقال: والأئمَّة لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلونه إلّا بعهد من الله وأمر منه لا يتجاوزونه. وفي الكتاب نصوصٌ اُخرى متعدِّدةٌ في هذا المعنى، فالأئمَّة لدى هؤلاء أنبياء يوحى إليهم، ورُسُلٌ ايضاً لأنَّهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم.

وقال في ج ٢ ص ٣٥: قد قدَّمنا في الجزء الأوَّل: أنَّ القوم يزعمون أنَّ أئمَّة أهل البيت يوحى إليهم، وأنَّ الملائكة تأتيهم بالوحي من الله ومن السَّماء، وتقدَّم قولهم: أنَّ الأئمة لا يفعلون شيئاً ولا يقولونه إلّا بوحي من الله، وتقدّم: انّ الفرق عندهم بين محمَّد رسول الله وبين الأئمَّة من ذرِّيته: انَّ محمَّداً كان يرى الملك النازل عليه بالوحي، وأمَّا الأئمَّة فيسمعون الوحي وصوت الملك وكلامه ولا يرون شخصه، و هذا هو الفرق لديهم بين النبيِّ والإمام، وبين الرُسل والأئمَّة، وهو فرقٌ لا حقيقة له، فالأئمّة من آل البيت عندهم أنبياء ورُسُل بكلِّ ما في كلمة النبيِّ والرَّسول من معنى، لأنَّ النبيَّ الرَّسول هو إنسانٌ أوحى الله إليه رسالة، وكلّف تبليغها ونشرها، سواءٌ أكان وحي الله إليه بواسطة الملك أم بلا واسطة، وسواءٌ رأى شخص تلك الواسطة أم لم يرَه، بل سمع منه وعقل عنه، هذا هو النبيُّ الرَّسول. ورؤية الملك لا دخل له في حقيقة معنى النبيِّ والرَّسول بالإجماع، ولهذا يقولون: ألرَّسول هو إنسانٌ اوحي إليه واُمر بالبلاغ، والنبيُّ هو إنسانُ اوحي إليه ولم يُؤمر بالبلاغ ولم يجعلوا لرؤية الملك دخلا في حقيقة النبيِّ وحقيقة الرَّسول، وهذا لا يُنازع فيه أحدٌ من الناس، فالشيعة يزعمون لفاطمة وللأئمّة من وُلدها ما يزعمون للأنبياء والرُسُل من المعاني والحقايق، فهم يزعمون انَّهم معصومون، وانَّهم يوحى إليهم، وانَّ الملائكة تنزل عليهم بالرِّسالات، وانَّ لهم معجزات أقلّها إحياؤهم الأموات، كما يقولون في أفضل كتبهم. إنتهى.

إِنّمَا يَفتري الكذِبَ الَّذين لا يُؤْمِنونَ بآياتِ اللهِ

وَأُولئك هم الكاذِبون

[ النحل ١٠٥ ]

٥١

٤

علم أئمة الشيعة بالغيب

شاعت القالة حول علم الأئمَّة من آل محمَّد صلوات الله عليه وعليهم ممّن أضمر الحنق على الشيعة وأئمتهم، فعند كلٍّ منهم حوشيٌّ من الكلام، يزخرف الزّلح من القول، ويخبط خبط عشواء، ويثبت البرهنة على جهله، كأنَّ الشيعة تفرَّدت بهذا الرأي عن المذاهب الإسلاميّة، وليس في غيرهم مَن يقول بذلك في إمام من أئمَّة المذاهب، فاستحقّوا بذلك كلَّ سبسبٍ وتحاملٍ ووقيعةٍ، فحسبك ما لفّقه القصيمي في « الصِّراع » من قوله في صحيفة ب تحت عنوان: الأئمة عند الشيعة يعلمون كلَّ شيء، والأئمَّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيّاه، وهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلّا باختيارهم، وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شيءٌ ص ١٢٥ وص ١٢٦ [ من الكافي للكليني ] ثمَّ قال:

وفي الكتاب نصوصٌ اُخرى ايضاً في المعنى، فالأئمَّة يُشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب، وعلم ما كان وما سيكون، وانَّه لا يخفى عليهم شيءٌ، والمسلمون كلّهم يعلمون انَّ الأنبياء والمرسلين لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة، والنصوص في الكتاب والسنَّة وعن الأئمَّة في انَّه لا يعلم الغيب إلّا الله متواترةٌ لا يستطاع حصرها في كتاب. إلخ.

ج - ألعلم بالغيب أعني الوقوف على ما وراء الشهود والعيان من حديث ما غبر أو ما هو آت إنَّما هو أمرٌ سائغٌ ممكنٌ لعامَّة البشر كالعلم بالشهادة يُتصوَّر في كلِّ ما يُنبَّأ الإنسان من عالم غابر، أو عهدٍ قادم لم يَرَه ولم يشهده، مهما أخبره بذلك عالمٌ خبيرٌ، أخذاً من مبدأ الغيب والشهادة، أو علماً بطرق اُخرى معقولة، وليس هناك أيُّ وازعٍ من ذلك، وأمّا المؤمنون خاصَّة فأغلب معلوماتهم إنّما هو الغيب من الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنَّته وناره ولقاءه والحياة بعد الموت

٥٢

والبعث والنشور ونفخ الصور والحساب والحور والقصور والولدان وما يقع في العرض الأكبر، إلى آخر ما آمنَ به المؤمن وصدَّقه، فهذا غيبٌ كلّه، واُطلق عليه الغيب في الكتاب العزيز، وبذلك عرَّف الله المؤمنين في قوله تعالى: ألّذِينَ يُؤْمنون بالغيبِ « البقرة ٣ » وقوله تعالى: ألَّذينَ يَخشونَ ربَّهم بالغيب « الأنبياء ٤٩ » وقوله: إنَّما تُنذر الَّذين يخشون ربَّهم بالغيب « فاطر ١٨ » وقوله: إنَّما تُنذر مَن اتِّبع الذكر وخشيَ الرَّحمن بالغيب « يس ١١ » وقوله: مَنْ خشي الرَّحمن بالغيب « ق ٣٣ » وقوله: إنّ الذين يخشون ربَّهم بالغيب لهم مغفرة « الملك ١٢ » وقوله: جنّات عدنٍ وعدَ الله عباده بالغيب « مريم ٦١ »

ومنصب النبوَّة والرِّسالة يستدعي لمتولِّيه العلم بالغيب من شتّى النواحي مضافاً إلى ما يعلم منه المؤمنون، وإليه يشير قوله تعالى: كلًّا نقصُّ عليك من أنباء الرُّسل ما نثبِّت به فؤادك وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى‏ للمؤمنين « هود ١٢٠ » ومن هنا قصَّ على نبيّه القصص، وقال بعد النبأ عن قصّة مريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك « آل عمران ٤٤ » وقال بعد سرد قصّة نوح: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. « هود ٤٩ » وقال بعد قصّة إخوان يوسف: ذَلِكَ مِنْ أنباءِ الغيب نوحيه إليك « يوسف ١٠٢ »

وهذا العلم بالغيب الخاصّ بالرُّسل دون غيرهم ينصُّ عليه بقوله تعالى: عالم الغيب فلا يُظهر على‏ غيبه أحداً إلّا من ارتضى‏ من رسول. نعم: ولا يُحيطون بشي‏ء من علمه إلّا بما شاء، وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً.

فالأنبياء والأولياء والمؤمنون كلّهم يعلمون الغيب بنصٍّ من الكتاب العزيز، ولكلٍّ منهم جزءٌ مقسوم، غير أنَّ علم هؤلاء كلّهم بلغ ما بلغ محدودٌ لا محالة كمّاً وكيفاً، وعارضٌ ليس بذاتيٍّ، ومسبوقٌ بعدمه ليس بأزليٍّ، وله بدءٌ ونهايةٌ ليس بسرمديٍّ، ومأخوذٌ من الله سبحانه وعنده مفاتح الغيب لايعلمها إلّا هو.

والنبيّ ووارث علمه في اُمّته(١) يحتاجون في العمل والسير على طبق علمهم بالغيب

____________________

١ - أجمعت الأمة الاسلامية على أن وارث رسول الله صلى‌ الله‌ عليه ‌و آله‌ وسلم في علمه هو أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليهما السلام راجع الجزء الثالث من كتابنا ص ٩٥ - ١٠١.

٥٣

من البلايا، والمنايا، والقضايا، وإعلامهم الناس بشئٍ من ذلك، إلى أمر المولى سبحانه ورخصته، وإنَّما العلم، والعمل به، وإعلام الناس بذلك، مراحل ثلاث لا دخل لكلِّ مرحلة بالاُخرى، ولا يستلزم العلم بالشئ وجوب العمل على طبقه، ولا ضرورة ألإعلام به، ولكلٍّ منها جهاتٌ مقتضيةٌ ووجوهٌ مانعةٌ لا بدَّ من رعايتها، وليس كلّما يُعلم يُعمل به، ولا كلّما يُعلم يُقال.

قال الحافظ الاُصولي الكبير الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي المتوفّى ٧٩٠ في كتابه القيِّم [ الموافقات في اُصول الأحكام ] ج ٢ ص ١٨٤: لو حصلت له مكاشفة بأنَّ هذا المعيَّن مغصوبُ أو نجسٌ، أو أنَّ هذا الشاهد كاذبٌ، أو أنَّ المال لزيد، وقد تحصّل [ للحاكم ] بالحجّة لعمرو، أو ما أشبه ذلك، فلا يصحُّ له العمل على وفق ذلك ما لم يتعيّن سببٌ ظاهرُ، فلا يجوز له الإنتقال إلى التيمّم، ولا ترك قبول الشاهد ولا الشهادة بالمال لذي يدٍ على حال، فإنّ الظواهر قد تعيَّن فيها بحكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يتركها إعتماداً على مجرَّد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النوميّة، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: إنَّكم تختصمون إليّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأحكم له على نحو ما أسمع منه. ألحديث. فقيَّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثيرٌ من الأحكام التي تجري على يديه يطّلع على أصلها وما فيها من حقٍّ وباطلٍ، ولكنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يحكم إلّا على وفق ما سمع، لا على وفقً ما علم(١) وهو أصلٌ في منع الحاكم أن يحكم بعلمه، وقد ذهب مالك في القول المشهور عنه: انّ الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم تعمّد الكذب، لأنّه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكماً بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفاداً من العادات التي لا ريبة فيها لا مِن الخوارق التي تداخلها اُمور، والقائل

____________________

١ - قال السيد محمد الخضر الحسين التونسي في تعليق الموافقات: لا يقضي عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عرفه من طريق الباطن كما حكى القرآن عن الخضر عليه ‌السلام حتى يكون للأمة في أخذه بالظاهر أسوة حسنة. الى أن قال: والحكم بالظاهر وإن لم يكن مطابقاً للواقع ليس بخطأ لانه حكم بما أمر الله.

٥٤

بصحّة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق، ولذلك لم يعتبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الحجّة العظمى. إلى أن قال: في ص ١٨٧. إنّ فتح هذا الباب يؤدِّي إلى أن لا يُحفظ ترتيب الظواهر، فإنَّ من وجب عليه القتل بسببٍ ظاهرٍ فالعذر فيه ظاهرٌ واضحٌ، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرَّد أمرٍ غيبيٍّ ربِّما شوَّش الخواطر وران على الظواهر، وقد فُهِمَ من الشرع سَدّ هذا الباب جملة، ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى انَّ البِّينة على المدَّعي واليمين على من أنكر، ولم يُستثن من ذلك أحدٌ حتّى أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتاج إلى البيِّنة في بعض ما اُنكر فيه ممّا كان اشتراه فقال: مَن يشهد لي؟ حتّى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين.

فما ظنّك بآحاد الاُمَّة، فلو ادَّعى أكبر الناس على أصلح الناس لكانت البيِّنة على المدَّعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحدٌ، فالإعتبارات الغيبيَّة مهملةٌ بحسب الأوامر والنواهي الشرعيَّة.

وقال في ص ١٨٩: فصلٌ: إذا تقرّر إعتبار ذلك الشرط فأين يسوغ العمل على وفقها؟ فالقول في ذلك انّ الأمور الجائزات أو المطلوبات التي فيها سعة يجوز العمل فيها بمقتضى ما تقدَّم وذلك على أوجه: أحدها أن يكون في أمرٍ مباحٍ كأن يرى المكاشف انَّ فلاناً يقصده في الوقت الفلاني أو يعرف ما قصد إليه في إتيانه من موافقةٍ أو مخالفةٍ، أو يطَّلع على ما في قلبه من حديث أو اعتقادٍ حقٍّ أو باطلٍ وما أشبه ذلك، فيعمل على التهيئة له حسبما قصد إليه أو يتحفَّظ من مجيئه إن كان قصده بشرٍّ، فهذا من الجائز له كما لو رأى رؤيا تقتضي ذلك، لكن لا يُعامله إلّا بما هو مشروعٌ كما تقدَّم.

ألثاني: أن يكون العمل عليها لفائدةٍ يرجو نجاحها، فإنَّ العاقل لا يدخل على نفسه ما لعلّه يخاف عاقبته فقد يلحقه بسبب الإلتفات إليها أو غيره، والكرامة كما انَّها خصوصيّةٌ كذلك هي فتنةٌ واختبارٌ لينظر كيف تعملون، فإن عرضت حاجةٌ أو كان لذلك سببٌ يقتضيه فلا بأس.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر بالمغيَّبات للحاجة إلى ذلك، ومعلومٌ انَّه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يخبر بكلِّ مغيَّب إطَّلع عليه، بل كان ذلك في بعض الأوقات وعلى مقتضى الحاجات، وقد أخبر عليه الصَّلاة والسَّلام

٥٥

المصلّين خلفه: أنَّه يراهم من وراء ظهره. لما لهم في ذلك من الفائدة المذكورة في الحديث، وكان يمكن أن يأمرهم وينهاهم من غير إخبار بذلك، وهكذا سائر كراماته ومعجزاته، فعمل اُمَّته بمثل ذلك في هذا المكان أولى منه في الوجه الأوَّل، ولكنَّه مع ذلك في حكم الجواز لما تقدَّم من خوف العوارض كالعجب ونحوه.

ألثالث: أن يكون فيه تحذيرٌ أو تبشيرٌ ليستعدَّ لكلٍّ عدَّته فهذا أيضاً جائزٌ كالإخبار عن أمر ينزل إن لم يكن كذا، أو لا يكون إن فعل كذا فيعمل على وفق ذلك... إلخ.

فهلّا كان من الغيب نبأ إبني نوح، وأنباء قوم هو وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وذكرى ذي القرنين، ونبأ من سلف من الأنبياء والمرسلين؟!

وهلّا كان منه ما أسرَّ به النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه فأفشته إلى أبيها فلمّا نبّأها به و قالت من أنبأك هذا قال نبَّأني العليم الخبير؟ « تحريم ٣ »

وهلّا كان منه ما أنبأ موسى صاحبه من تأويل ما لم يستطع عليه صبراً؟ « الكهف » وهلّا كان منه ما كان يقول عيسى لاُمَّته: وأُنبِّئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم؟ « آل عمران ٤٩ »

وهلّا كان منه قول عيسى لبني إسرائيل:يابني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدِّقاً لما بين يديَّ من التوراة ومبشِّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد؟ « الصف ٦ »

وهلّا كان منه ما أوحى الله تعالى إلى يوسف: لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون؟ « يوسف ١٥ »

وهلّا كان ما أنبأ آدم الملائكة من أسمائهم أمراً من الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم؟ « البقرة ٣٣ »

وهلّا كانت منه تلكم البشارات الجمّة المحكيّة عن التوراة والأنجيل والزَّبور وصحف الماضين وزبر الأوَّلين بنبوَّة نبيِّ الإسلام وشمائله وتاريخ حياته وذكر اُمّته؟.

وهلّا كانت منه تلك الأنباء الصحيحة المرويَّة عن الكهنة والرهابين والأقسَّة حول النبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ولادته؟.

ليس هناك أيّ منع وخطر إن علّم الله أحداً ممن خلق بما شاء وأراد من الغيب المكتوم من علم ما كان أو سيكون، من علم السَّماوات والأرضين، من علم الأوَّلين

٥٦

والآخرين، من علم الملائكة والمرسلين. كما لم يُر أيّ وازع إذا حَبا أحداً بعلم ما شاء من الشهادة وأراه ما خلق كما أرى إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض. ولا يُتصوَّر عندئذ قطُّ اشتراك مع المولى سبحانه في صفته العلم بالغيب، ولا العلم بالشهادة ولو بلغ علم العالم أيَّ مرتبة رابية، وشتّان بينهما، إذ القيود الإمكانيّة البشريّة مأخوذةٌ في العلم البشريِّ دائماً لا محالة، سواءٌ تعلّق بالغيب أو تعلّق بالشهادة، وهي تلازمه ولا تفارقه، كما أنَّ العلم الإ~لهي بالغيب أو الشهادة تؤخذ فيه قيود الأحديّة الخاصّة بذات الواجب الأحد الأقدس سبحانه وتعالى.

وكذلك الحال في علم الملائكة، لو أذن الله تعالى إسرافيل مثلاً وقد نصب بين عينيه اللوح المحفوظ الذي فيه تبيان كلّ شئ أن يقرأ ما فيه ويطلّع عليه لم يُشارك الله قطُّ في صفته العلم بالغيب، ولا يلزم منه الشرك.

فلا مقايسة بين العلم الذاتيِّ المطلق وبين العرضيِّ المحدود، ولا بين ما لا يكيَّف بكيف. ولا يؤيَّن بأين وبين المحدود المقيَّد. ولا بين الأزليِّ الأبديِّ وبين الحادث الموقَّت. ولا بين التأصليِّ وبين المكتسب من الغير، كما لا يُقاس العلم النبويُّ بعلم غيره من البشر، لإختلاف طرق علمهما، وتباين الخصوصيّات والقيود المتَّخذة في علم كلٍّ منهما، مع الإ شتراك في إمكان الوجود. بل لا مقايسة بين علم المجتهد وبين علم المقلّد فيما علما من الأحكام الشرعيَّة ولو أحاط المقلّد بجميعها، لتباين المبادئ العلميَّة فيهما.

فالعلم بالغيب على وجه التأصّل والإطلاق من دون قيد بكمٍّ وكيف كالعلم بالشهادة على هذا الوجه إنّما هما من صفات الباري سبحانه، ويخصّان بذاته لا مطلق العلم بالغيب والشهادة، وهذا هو المعنىُّ نفياً وإثباتاً في مثل قوله تعالى: قل لا يعلم مَن في السَّماوات والأرض الغيب إلّا الله « النمل ٦٥ » وقوله تعالى: إنّ الله عالم غيب السَّماوات والأرض إنَّه عليمٌ بذات الصدور « فاطر ٣٨ » وقوله تعالى: إنَّ الله يعلم غيب السَّماوات والأرض و الله بصيرٌ بما تعملون « الحجرات ١٨ » وقوله تعالى: ثمَّ تردّون إلى‏ عالم الغيب والشهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون « الجمعة ٨ » وقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة هو الرَّحمان الرَّحيم « الحشر ٢٢ » وقوله تعالى: ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم « السجدة ٦ » وقوله تعالى: عالم الغيب والشهادة

٥٧

العزيز الحكيم « التغابن ١٨ » وقوله تعالى: حكايةً عن نوح، لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنّي ملك « انعام ٥٠، هود ٣١ » وقوله تعالى حكايةً: لو كنت أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير « الأعراف ١٨٨ »

وبهذا التفصيل في وجوه العلم يُعلم عدم التعارض نفياً وإثباتاً بين أدلَّة المسئلة كتاباً وسُنّة، فكلٌّ من الأدلَّة النافية والمثبتة ناظرٌ إلى ناحيةٍ منها، والموضوع المنفيُّ من علم الغيب في لسان الأدلَّة غير المثبت منه وكذلك بالعكس. وقد يوعز إلى الجهتين في بعض النصوص الواردة عن أهل البيت العصمة عليهم السّلام مثل قول الإمام أبي الحسن موسى الكاظمعليه‌السلام مجيباً يحيى بن عبد الله بن الحسن لَمّا قاله: جعلت فداك انَّهم يزعمون انّك تعلم الغيب؟ فقالعليه‌السلام : سبحان الله ضع يدك على راسي فوالله ما بقيت شعرةٌ فيه ولا في جسدي إلّا قامت، ثمّ قال: لا والله ما هي إلّا وراثة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وكذلك الحال في بقيَّة الصفات الخاصّة بالمولى العزيز سبحانه وتعالى فإنّها تمتاز عن مضاهاة ما عند غيره تعالى من تلكم الصفات بقيودها المخصّصة، فلو كان عيسى على نبيِّنا وآله وعليه‌السلام يُحيي كلَّ الموتى بإذن الله، أو كان خَلق عالماً بشراً من الطين باذن ربِّه بدل ذلك الطير الذي أخبر عنه بقوله: إنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله « آل عمران ٤٩ » لم يكن يُشارك المولى سبحانه في صفته الإحياء والخلق، والله هو الوليّ، وهو محيي الموتى، وهو الخلّاق العليم.

وإنّ الملك المصوِّر في الأرحام مع تصويره ما شاء الله من الصور وخلقه سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها(٢) لم يكن يشارك ربَّه في صفته، والله هو الخالق

____________________

١ - أخرجه شيخنا المفيد في المجلس الثالث من أماليه.

٢ - عن حذيفة مرفوعا: إذا مر بالنطفة اثنتان و اربعون ليلة بعث الله اليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم انثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ذلك شيئا ولا ينقص. أخرجه أبو الحسين مسلم في صحيحه، وذكره ابن الأثير في جامع الأصول. وابن الدبيع في التيسير ٤ ص ٤٠.

وفي حديث آخر ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول ٤ ص ٤٠: إذا بلغت « يعني المضغة » أن تخلق نفساً بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك بتراب بين اصبعيه فيخط في المضغة ثم يعجنه ثم يصورها كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى؟ أشقى أم سعيد؟ وما عمره؟ وما رزقه؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله فيكتب الملك.

٥٨

البارئ المصوِّر، وهو الذي يصوِّر في الأرحام كيف يشاء.

والملك المبعوث إلى الجنين الذي يكتب رزقه وأجله وعمله ومصائبه وما قدّر له من خير وشرٍّ وشقاوته وسعادته ثمّ ينفخ في الروح(١) لا يشارك ربّه، والله هو الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كلِّ شئٍ فقدَّره تقديراً.

وملك الموت مع انّه يتوفَّى الأنفس، وأنزل الله فيه القرآن وقال: قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكِّل بك « السجدة ١١ » صحَّ مع ذلك الحصر في قوله تعالى: ألله يتوفّى الأنفس حين موتها، و الله هو المميت ولا يشاركه ملك الموت في شيء من ذلك، كما صحّت النسبة في قوله تعالى: ألّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم « النحل ٢٨ » وفي قوله تعالى: ألَّذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين « النحل ٣٢ » ولا تعارض في كلِّ ذلك ولا إثم ولا فسوق في إسناد الإماتة إلى غيره تعالى.

والملك لا يغشاه نوم العيون(٢) ولا تأخذه سِنة الراقد بتقديرٍ من العزيز العليم وجعله، ومع ذلك لا يشارك الله فيما مدح نفسه بقوله: لا تأخذه سِنةٌ ولا نومٌ.

ولو أنَّ أحداً مكّنه المولى سبحانه من إحياء موتان الأرض برمّتها لم يشاركه تعالى والله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها.

فهلمَّ معي نسائل القصيمي عن أنَّ قول الشيعة بأنَّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إيَّاه كيف يتفرَّع عليه القول بأنَّ الأئمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب؟ وما وجه الإشتراك بعد فرض كون علمهم بإخبار من الله تعالى وإعلامه؟ وقد ذهب على الجاهل أنَّ الحكم بأنَّ القول بعلم الأئمّة بما كان وما يكون - وليس هو كلّ الغيب ولا جلّه - وعدم خفاء شئ من ذلك عليهم يستلزم الشرك بالله في صفة علمه بالغيب.

تحديدٌ لعلم الله، وقولٌ بالحدِّ في صفاته سبحانه، ومَن حدَّه

____________________

١ - عن ابن مسعود مرفوعاً: ان خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً باربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح.

أخرجه البخاري في باب ذكر الملائكة في صحيحه ومسلم وغيرهما من ائمة الصحاح الا النسائى وأحمد في مسنده ١ ص ٣٧٤، ٤١٤، ٤٣٠، وابو داود في مسنده ٥ ص ٣٨، وذكره ابن الاثير في جامعه، وابن الدبيع في التيسير ٤ ص ٣٩.

٢ - راجع الخطبة الاولى من نهج البلاغة وشروحها.

٥٩

فقد عدَّه، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. والنصوص الموجودة في الكتاب والسنّة على أن لا يعلم الغيب إلّا الله قد خفيت مغزاها على المغفَّل ولم يفهم منها شيئاً، ومِن النّاس من يجادل في الله بغير علم ويتَّبع كلَّ شيطانٍ مريد.

ونسائل الرَّجل: كيف خفي هذا الشرك المزعوم على أئمّة قومه؟ فيما أخرجوه عن حذيفة قال: أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة(١) وما أخرجه أحمد إمام مذهب الرجل في مسنده ج ٥ ص ٣٨٨ عن أبي ادريس قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: والله إنّي لأعلم الناس بكلِّ فتنة هي كائنةٌ فيما بيني وبين السّاعة.

وقد جهل بأنَّ علم المؤمن بموته وإختياره الموت واللقاء مهما خيّر بينه وبين الحياة ليس من المستحيل، ولا بأمرٍ خطير بعيدٍ عن خطر المؤمن فضلاً عن أئمّة المؤمنين من العترة الطاهرة، هلّا يعلم الرجل ما أخرجه قومه في أئمَّتهم من ذلك وعدّوه فضائل لهم؟ ذكروا عن إبن شهاب(٢) قال: كان أبو بكر - ابن أبي قحافة - والحارث بن كلدة يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول الله إنَّ فيها لسمّ سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد فرفع يده فلم يزالا عليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند إنقضاء السنة.

وذكر أحمد في مسنده ١ ص ٤٨ و ٥١، والطبري في رياضه ٢ ص ٧٤ إخبار عمر عن موته بسبب رؤيا رآها، وما كان بين رؤياه وبين يوم طعن فيه إلّا جمعة، وفي الرياض ج ٢ ص ٧٥ عن كعب الأحبار إنّه قال لعمر. يا أمير المؤمنين اعهد بأنَّك ميِّت إلى ثلاثة أيّام فلمَّا قضى ثلاثة أيَّام طعنه أبو لؤلؤة فدخل عليه الناس ودخل كعب في جملتهم فقال: القول ما قال كعب.

وروى إنّ عيينة بن حصن الفزاري قال لعمر: إحترس أو أخرج العجم من المدينة فإنّي لا آمن أن يطعنك رجلٌ منهم في هذا الموضع. ووضع يده في الموضع الذي طعنه فيه أبو لؤلؤة.

وعن جبير بن مطعم قال: إنّا لواقفون مع عمر على الجبل بعرفة إذ سمعت رجلاً

____________________

١ - صحيح مسلم في كتاب الفتن، مسند أحمد ٥ ص ٣٨٦، البيهقى، تاريخ ابن عساكر ٤ ص ٩٤، تيسير الوصول ٤ ص ٢٤١، خلاصة التهذيب ٦٣، الاصابة ١ ص ٢١٨، التقريب ٨٢.

٢ - ك ٣ ص ٦٤، صف ١ ص ١٠، يا ١ ص ١٨٠.

٦٠