الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٢

الميزان في تفسير القرآن 0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 409

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 409
المشاهدات: 79685
تحميل: 4389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79685 / تحميل: 4389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 12

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المتّقين و بشّرهم بالجنّة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسّر التقوى في الحديث كما تقدّم.

ثمّ إنّ مجرّد صحّة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمّى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصّة في الأوصاف الّتي تحتمل البقاء و الاستمرار إلّا من استقرّ فيه الوصف، و لو صحّ ما ذكره في المتّقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالّين و قد أوعدهم الله النار، و أدّى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إنّ هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرّة و المرّتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتّقي بالمرّة و المرّتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.

ثمّ الّذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إنّ هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ ذلك لا ينفعه شيئاً، و كقوله: إنّ زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنّما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظيّ و قد عرفت أنّ هناك آيات جمّة صالحة للتقييد.

و كقوله: إنّ ذلك خلاف الظاهر. و كأنّه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أنّ ظهور المطلق إنّما هو حجّة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.

فالحقّ أنّ الآية إنّما تشمل الّذين استقرّت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فاُولئك هم المقضيّ عليهم بالسعادة و الجنّة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنّة أنّ أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلّا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنّة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتّقين على ذلك.

قوله تعالى: ( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إلى آخر الآيتين. الغلّ الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد ممّا يبعث

١٨١

الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب هو التعب و العيّ الوارد من خارج.

يصف تعالى في الآيتين حال المتّقين في سعادتهم بدخول الجنّة، اختصّ بالذكر هذه الاُمور من بين نعم الجنّة على كثرتها فإنّ العناية باقتضاء من المقام متعلّقة ببيان أنّهم في سلام و أمن ممّا ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنّهم في أمن من قبل أنفسهم لأنّ الله نزع ما في صدورهم من غلّ فلا يهمّ الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائيّ إن شاء الله تعالى و أنّهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسّهم نصب أصلاً و أنّهم في أمن و سلام من ناحية ربّهم فما هم من الجنّة بمخرجين أبداً فلهم السعادة و الكرامة من كلّ جهة، و لا يغشاهم و لا يمسّهم شقاء و وهن من جهة أصلاً لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربّهم.

( كلام في الأقضية الصادرة في بدء خلقة الإنسان‏)

الأقضية الّتي صدرت عن مصدر العزّة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة:

الأوّل و الثاني قوله لإبليس:( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر: ٣٥ و يمكن إرجاعهما إلى واحد.

الثالث قوله سبحانه له:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) الحجر: ٣٨.

الرابع و الخامس و السادس قوله له:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر: ٤٣.

السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه:( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦.

١٨٢

التاسع و العاشر قوله لهم:( اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٣٩.

و هناك أقضية فرعيّة مترتّبة على هذه الأقضية الأصليّة يعثر عليها المتدبّر الباحث.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الآية قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: خلق خلقاً و خلق روحاً ثمّ أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالّتي نقصت من الله شيئاً هي من قدرته تبارك و تعالى.

و فيه، و في رواية سماعة عنهعليه‌السلام : خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.

أقول: أي هي قدرته الفعليّة منبعثة عن قدرته الذاتيّة صادرة منها كما يدلّ عليه الخبر السابق.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضّله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عمّا يروون: أنّ الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال:( بَيْتِيَ ) ( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) .

أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمّن معارف

١٨٣

جمّة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الاُولى و الثانية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفيّ بحذف الإسناد عن وهب - و اللفظ للثاني - عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن إبليس و قوله:( رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنّه يوم يبعث الله فيه الناس و لكنّ الله عزّوجلّ أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن محمّد بن يونس عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( فَأَنْظِرْنِي - إلى قوله -إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) قال: يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصخرة الّتي في بيت المقدس.

أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار اُخرى من طرق أهل البيتعليهم‌السلام .

و من الممكن أن تكون الرواية الاُولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقيّة، و يمكن أن توجّه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدّم في الكلام على الرجعة في الجزء الأوّل من الكتاب و غيره أنّ الروايات الواردة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير غالب آيات القيامة تفسّرها بظهور المهديّعليه‌السلام تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة اُخرى لكون هذه الأيّام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدّة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: أ رأيت قول الله:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) ؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنّك

١٨٤

لا تملك أن تدخلهم جنّة و لا ناراً.

و في تفسير القمّيّ،: في قوله تعالى:( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ) الآية، قال: قال: يدخل في كلّ باب أهل مذهب، و للجنّة ثمانية أبواب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد في الزهد عن خطّاب بن عبدالله قال: قال عليّ: أ تدرون كيف أبواب جهنّم؟ قلنا: كنحو هذه الأبواب. قال: لا، ولكنّها هكذا و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده.

و فيه، أخرج ابن المبارك و هنّاد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في البعث من طرق عن عليّ قال: أبواب جهنّم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث حتّى يملأ كلّها.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكّوا في الله، و جزء غفلوا عن الله.

أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أنّ الكلام غير مسوق للحصر.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لجهنّم باب لا يدخل منه إلّا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي.

أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.

و فيه، أخرج أحمد و ابن حبّان و الطبريّ و ابن مردويه و البيهقيّ في البعث عن عتبة بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: للجنّة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض.

أقول: و الروايات - كما ترى - تؤيّد من قدّمناه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ) الآية، قال: قال العداوة.

١٨٥

و في تفسير البرهان، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال عليّ بن أبي طالب: يا رسول الله أيّما أنا أحبّ إليك أم فاطمة؟ قال: فاطمة أحبّ إلي منك و أنت أعزّ علي منها، و كأنّي بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إنّ عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنّة إخواناً على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.

و فيه، عن ابن المغازليّ في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّي مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثمّ قال لعليّ: أنت أخي ثمّ تلا هذه الآية:( إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض.

أقول: و رواه أيضاً عن أحمد في مسنده مرفوعاً إلى زيد بن أوفى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الرواية مبسوطة.

و في الروايتين تفسير قوله تعالى:( عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلّاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أنّ التقابل في الآية كناية عن عدم تتبّع أحدهم عورات إخوانه و زلّاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غلّ و هو معنى لطيف.

و ما قرأه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآية إنّما هو من باب الجري و الانطباق لا أنّ الآية نازلة في أهل البيتعليهم‌السلام فسياق الآيات لا يلائمه البتّة.

و نظيرها ما روي عن عليّعليه‌السلام : أنّ الآية نزلت فينا أهل بدر، و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر، و في رواية اُخرى عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : أنّها نزلت في أبي بكر و عمر و علي‏ّ، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و الزبير و طلحة، و في رواية اُخرى: أنّها نزلت في عليّ و عثمان و طلحة و الزبير، و في رواية اُخرى عن ابن عباس: أنّها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ و

١٨٦

طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبدالله بن مسعود.

و الروايات - على ما بها من الاختلاف - تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقصّ ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثمّ قضى ما قضى، و لا تعلّق لذلك بأشخاص بخصوصيّتهم هذا.

١٨٧

( سورة الحجر الآيات ٤٩ - ٨٤)

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٤٩ ) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ( ٥٠ ) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( ٥١ ) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ( ٥٢ ) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ( ٥٣ ) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( ٥٤ ) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ( ٥٥ ) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ( ٥٦ ) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( ٥٧ ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( ٥٨ ) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥٩ ) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا  إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ( ٦٠ ) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ( ٦١ ) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ( ٦٢ ) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ( ٦٣ ) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( ٦٤ ) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ( ٦٥ ) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَٰلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( ٦٦ ) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٦٧ ) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ( ٦٨ ) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ ( ٦٩ ) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ( ٧٠ ) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ( ٧١ ) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ٧٢ ) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( ٧٣ ) فَجَعَلْنَا

١٨٨

عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ( ٧٤) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ( ٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ( ٧٦) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ( ٧٧) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ( ٧٨) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ( ٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ( ٨٠) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ( ٨١) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ( ٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ( ٨٣) فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( ٨٤)

( بيان)

بعد ما تكلّم سبحانه حول استهزائهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما أنزل إليه من الكتاب و اقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة و هم ليسوا بمؤمنين و إن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير و الإنذار و هو ما في قوله:( نَبِّئْ عِبادِي ) إلى آخر الآيتين ثمّ أوضحه و أيّده بقصّة جامعة للجهتين متضمّنة للأمرين معا و هي قصّة ضيف إبراهيم و فيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة و عذاب قوم لوط بأشدّ أنواع العذاب.

ثمّ أيّده تعالى بإشارة إجماليّة إلى تعذيب أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب و أصحاب الحجر و هم ثمود قوم صالحعليهما‌السلام .

قوله تعالى: ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) المراد بقوله:( عِبادِي ) على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم: أنّ المراد بهم المتّقون السابق ذكرهم أو المخلصون.

و تأكيد الجملتين بالإسميّة و إنّ و ضمير الفصل و اللام في الخبر يدلّ على أنّ الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة و الرحمة و ألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدّر بقدر و لا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلّا و يمكن أن يفرض

١٨٩

لها مانع يمنع من إرسالها أو مقدّر يقدّرها و يحدّها، لكنّه سبحانه يحكم لا معقّب لحكمه و لا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته و رحمته شي‏ء و لا يحدّهما أمر إلّا أن يشاء ذلك هو جلّ و عزّ، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه و رحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلّا أن يخافه تعالى نفسه كما قال:( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ رَبِّكُمْ ) الزمر: ٥٤.

و ليس لأحد أن يحقّر عذابه أو يؤمّل عجزه أو يأمن مكره و الله غالب على أمره و لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون.

قوله تعالى: ( وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) الضيف معروف و يطلق على المفرد و الجمع و ربّما يجمع على أضياف و ضيوف و ضيفان لكنّ الأفصح - كما قيل - أن لا يثنّى و لا يجمع لكونه مصدراً في الأصل.

و المراد بالضيف الملائكة المكرمون الّذين اُرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد و لهلاك قوم لوط سمّاهم ضيفا لأنّهم دخلوا عليه في صورة الضيف.

قوله تعالى: ( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ضمير الجمع في( دَخَلُوا ) و( فَقالُوا ) في الموضعين للملائكة فقولهم:( سَلاماً ) تحيّة و تقديره نسلّم عليك سلاما و قول إبراهيمعليه‌السلام :( إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) أي خائفون و الوجل: الخوف.

و إنّما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقرّ بهم المجلس و قدّم إليهم عجلاً حنيذا فلم يأكلوا منه فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصّة مذكورة على نحو التلخيص.

و قولهم:( لا تَوْجَلْ ) تسكين لوجله و تأمين له و تطييب لنفسه بأنّهم رسل ربّه و قد دخلوا عليه ليبشّروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاماً و عليماً، و لعلّ المراد كونه عليماً بتعليم الله و وحيه فيقرب من قوله في موضع آخر:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا ) الصافات: ١١٢.

١٩٠

قوله تعالى: ( قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تلقّى إبراهيمعليه‌السلام البشرى و هو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه و قد أيأسته العادة الجارية عن الولد و إن كان يجلّ أن يقنط من رحمة الله و نفوذ قدرته، و لذا تعجّب من قولهم و استفهمهم كيف يبشّرونه بالولد و حاله هذه الحال؟ و زوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.

فقوله:( أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) الكبر كناية عن الشيخوخة و مسّه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه و إذهاب قواه، و المعنى إنّي لأتعجبّ من بشارتكم إيّاي و الحال أنّي شيخ هرم فني شبابي و فقدت قوى بدني، و العادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.

و قوله:( فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) تفريع على قوله:( مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ) و هو استفهام عمّا بشّروه به كأنّه يشكّ في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الّذي تبشّرون به؟ فإنّ الّذي يدلّ عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، و هذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا اُخبر بما يستبعده أو لا يصدّقه: ما تقول؟ و ما تريد؟ و ما ذا تصنع؟.

قوله تعالى: ( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالحقّ - إلى قوله -إلّا الضَّالُّونَ ) الباء في( بِالحقّ ) للمصاحبة أي إنّ بشارتنا ملازمة للحقّ غير منفكّة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله و هذا، جواب للملائكة و قد قابلهم إبراهيمعليه‌السلام على نحو التكنية فقال:( وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلّا الضَّالُّونَ ) و الاستفهام إنكاريّ أي إنّ القنوط من رحمة الله ممّا يختصّ بالضالّين و لست أنا بضالّ فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.

قوله تعالى: ( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) الخطب الأمر الجليل و الشأن العظيم، و في خطابهم بالمرسلين دلالة على أنّهم ذكروا له ذلك قبلاً، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ - إلى قوله -لَمِنَ الْغابِرِينَ ) قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضيّ من هو معه قال تعالى:( إِلَّا عَجُوزاً فِي

١٩١

الْغابِرِينَ ) يعني فيمن طال أعمارهم، و قيل: فيمن بقي و لم يسر مع لوط، و قيل: فيمن بقي بعد في العذاب، و في آخر:( إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) و في آخر:( قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) - إلى أن قال - و الغبار ما يبقى من التراب المثار و جعل على بناء الدخان و العثار و نحوهما من البقايا. انتهى و لعلّه من هنا ما ربّما يسمّى الماضي و المستقبل معا غابرا أمّا الماضي فبعناية أنّه بقي فيما مضى و لم يتعدّ إلى الزمان الحاضر و أمّا المستقبل فبعناية أنّه باق لم يفن بعد كالماضي.

و الآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم( قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا ) من عند الله سبحانه( إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) نكّروهم و لم يسمّوهم صونا للّسان عن التصريح باسمهم تنفّراً منه و مستقبل الكلام يعيّنهم ثمّ استثنوا و قالوا:( إِلَّا آلَ لُوطٍ ) و هم لوط و خاصّته و ظهر به أنّ القوم قومه( إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ) أي مخلّصوهم من العذاب( أَجْمَعِينَ ) و ظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.

ثمّ استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أنّ النجاة لا تشملها و أنّ العذاب سيأخذها و يهلكها فقالوا( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.

و قد تقدّم تفصيل قول في ضيف إبراهيمعليه‌السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و عقدنا هناك بحثاً مستقلّاً فيه.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) إنّما قال لهم لوطعليه‌السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان و كان يشقّه ما يراه منهم و شأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدّم في سورة هود و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْناكَ بِالحقّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ ) الامتراء من المرية و هو الشكّ، و المراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الّذي كان ينذرهم به لوط و هم يشكّون فيه، و المراد بإتيانهم بالحقّ إتيانهم بقضاء حقّ في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم:( وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هود: ٧٦ و قيل: المراد( و أتيناك بالعذاب الذي لا شكّ فيه)

١٩٢

و ما ذكرناه هو الوجه.

و في آيات القصّة تقديم و تأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخّر في موضع المقدّم و بالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصّة في غير محلّه الّذي يقتضيه الترتيب الطبعيّ و تعيّنه له سنّة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.

و ترتيب القصّة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود و غيرها و الاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله:( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ ) إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثمّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى تمام ستّ آيات. ثمّ قوله:( قالُوا بَلْ جِئْناكَ ) إلى تمام أربع آيات. ثمّ قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) إلى آخر الآيات.

و حقيقة هذا التقديم و التأخير أنّ للقصّة فصولاً أربعة و قد اُخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأوّل و الثاني أعني أنّ قوله:( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) إلى آخره اُخّر في الذكر ليتّصل آخره و هو قوله:( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) بأوّل الفصل الأخير:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) و ذلك ليتمثّل به الغرض في الاستشهاد بالقصّة و ينجلي أوضح الانجلاء و هو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم و أمن منه لا يخطر ببالهم شي‏ء من ذلك و ذلك أبلغ في الدهشة و أوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.

و نظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصّة أصحاب الحجر الآتية من اتّصال قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) بقوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) كلّ ذلك ليجلّي معنى قوله تعالى في صدر المقال:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله:( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) يؤكّده و قطع الليل شطر مقطوع منه، و المراد باتّباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلّف عن السير و يحملهم

١٩٣

على السير الحثيث كما يشعر به قوله:( وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) .

و المعنى: و إذ جئناك بعذاب غير مردود و أمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا و تأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلّفوا عن السير و لا يساهلوا فيه و لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه و امضوا حيث تؤمرون، و فيه دلالة على أنّه كانت أمامهم هداية إلهيّة تهديهم و قائد يقودهم.

قوله تعالى: ( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) القضاء مضمّن معنى الوحي و لذا عدّي بإلى - كما قيل - و المراد بالأمر أمر العذاب كما يفسّره قوله:( أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) و الإشارة إليه بلفظة( ذلِكَ ) للدلالة على عظم خطره و هول أمره.

و المعنى: و قضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط و هو أنّ دابر هؤلاء و أثرهم الّذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل و بناء و عمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ - إلى قوله -إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) يدلّ نسبة المجيي‏ء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدّهم أهل المدينة لكثرتهم.

فالمعنى( وَ جاءَ ) إلى لوط( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) جمع كثير منهم يريدون أضيافه و هم( يَسْتَبْشِرُونَ ) لولعهم بالفحشاء و خاصّة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) بالعمل الشنيع بهم( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ لا تُخْزُونِ قالُوا ) المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم( أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) أن تؤويهم و تشفع فيهم و تدافع عنهم فلمّا يئس لوطعليه‌السلام منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهنّ - كما تقدّم بيانه في سورة هود -( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ - إلى قوله -مِنْ سِجِّيلٍ ) قال في المفردات: العمارة ضدّ الخراب. قال: و العمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة

١٩٤

فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، و إذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإنّ البقاء ضدّ الفناء، و لفضل البقاء على العمر وصف الله به و قلما وصف بالعمر قال: و العمر - بالضمّ - و العمر - بالفتح - واحد لكن خصّ القسم بالعمر - بالفتح- دون العمر - بالضمّ - نحو( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ) ، انتهى.

و الخطاب في( لَعَمْرُكَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو قسم ببقائه و قول بعضهم: إنّه خطاب من الملائكة للوطعليه‌السلام و قسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.

و العمه هو التردّد على حيرة و السجّيل حجارة العذاب و قد تقدّم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

و المعنى اُقسم بحياتك و بقائك يا محمّد إنّهم لفي سكرتهم و هي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء و المنكر يتردّدون متحيّرين( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) و هي الصوت الهائل( مُشْرِقِينَ ) أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها و فوقها تحتها و أمطرنا و أنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجّيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ - إلى قوله -لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية العلامة و المراد بالآيات أوّلاً العلامات الدالّة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار و بالآية ثانياً العلامة الدالّة للمؤمنين على حقّيّة الإنذار و الدعوة الإلهيّة و التوسّم التفرّس و الانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.

و المعنى: أنّ في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط و في بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرّسين و إنّ تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف و لم تنمح بالكلّيّة بعد، إنّ في ذلك لآية للمؤمنين تدلّ على حقّيّة الإنذار و الدعوة و قد تبيّن بذلك وجه إيراد الآيات جمعا و مفردا في الموضعين.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ - إلى -فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) الأيكة واحدة الأيك و هو الشجر الملتفّ بعضه ببعض فقد كانوا - كما قيل - في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.

و هؤلاء - كما ذكروا - هم قوم شعيبعليه‌السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون

١٩٥

الغيضة، و يؤيّده قوله تعالى ذيلاً:( وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) أي مكانا قوم لوط و أصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإنّ الّذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط و قوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم و تكذيبهم لدعوة شعيبعليه‌السلام و قد تقدّمت قصّتهم في سورة هود و قوله:( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) الضمير لأصحاب الأيكة و قيل: لهم و لقوم لوط. و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ - إلى قوله -ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح و الحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها و عدّهم مكذّبين لجميع المرسلين و هم إنّما كذّبوا صالحا المرسل إليهم إنّما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة و المكذّب لواحد منهم مكذّب للجميع.

و قوله:( وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) إن كان المراد بالآيات المعجزات و الخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة و شربها و ما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن اُهلكوا، و قد تقدّمت القصّة في سورة هود، و إن كان المراد بها المعارف الإلهيّة الّتي بلّغها صالحعليه‌السلام و نشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقّة و الآية المعجزة فالأمر واضح.

و قوله:( وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضيّة و السماويّة بزعمهم.

و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) أي صيحة العذاب الّتي كان فيها هلاكهم، و قد تقدّمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات:( وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

و قوله:( فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.

١٩٦

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنّة و اذكروا النار فنزلت:( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

أقول: و في معناه روايات اُخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.

و فيه أخرج أبونعيم في الحلية عن جعفر بن محمّد في قوله:( إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين) قال: هم المتفرّسون.

و فيه، أخرج البخاريّ في تاريخه و الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن السنّي و أبونعيم معا في الطبّ و ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ثمّ قرأ:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال المتفرّسين.

و في اختصاص المفيد، بإسناده عن أبي بكر بن محمّد الحضرميّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال: ما من مخلوق إلّا و بين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب عن الأئمّة من آل محمّد ثمّ ليس يدخل عليهم أحد إلّا عرفوه مؤمناً أو كافراً ثمّ تلا هذه الآية:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) فهم المتوسّمون.

أقول: و الروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، و ليس معناها نزول الآية فيهمعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ مدين و أصحاب الأيكة اُمّتان بعث الله إليهما شعيبا.

أقول: و قد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصّة بشرى إبراهيم و قصص لوط و شعيب و صالحعليهم‌السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و اكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.

١٩٧

( سورة الحجر الآيات ٨٥ - ٩٩)

 وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ  وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ  فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ( ٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ( ٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ( ٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ( ٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ( ٨٩) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ( ٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ( ٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( ٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٩٣) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ( ٩٤) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( ٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( ٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ( ٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ( ٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( ٩٩)

( بيان)

في الآيات تخلّص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإنّ من القضاء الحقّ أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصّة يوم القيامة الّذي لا ريب فيه و هو اليوم الّذي لا يغادر أحداً و لا يدع مثقال ذرّة من الخير و الشرّ إلّا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإنّ الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإنّ الاشتغال بالله سبحانه أهمّ و أوجب.

١٩٨

و لقد كرّر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن اُولئك المستهزءين به - و هم الّذين مرّ ذكرهم في مفتتح السورة - و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنّه كفاه شرّهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالحقّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) الباء في قوله:( بِالحقّ) للمصاحبة أي إنّ خلقها جميعاً لا ينفكّ عن الحقّ و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: ٨ و لو لا ذلك لكان لعباً باطلاً قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحقّ ) الدخان: ٣٩ و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ) ص: ٢٧ و من الدليل على كون المراد بالحقّ ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله:( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالحقّ العدل و الإنصاف و الباء للسببيّة و المعنى ما خلقنا ذلك إلّا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.

و ذلك أن كون الحقّ في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أنّ الّذي ذكره من المعنى إنّما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببيّة.

و كذا ما ذكره بعضهم أنّ الحقّ بمعنى الحكمة و أنّ الجملة الاُولى( وَ ما خَلَقْنَا ) إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيويّ و الثانية( وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) إلى العذاب الاُخرويّ و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا متلبّساً بالحقّ و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعاً لفسادهم و إرشاداً لمن بقي إلى الصلاح، و إنّ الساعة لآتية فينتقم أيضاً فيها من أمثال هؤلاء.

و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كلّ من الفريقين يجرّ نارها إلى قرصته فاستدلّ بها أصحاب الجبر على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله لأنّ أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.

١٩٩

و استدل بها أصحاب التفويض على أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإنّ المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحقّ و الباطل لا يكون مخلوقاً بالحقّ.

و الحقّ أنّ الحجّتين جميعاً من الباطل فإنّ جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيّات عدميّة إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حلّه و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنّما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدميّة، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإنّ ذلك من جهاته العدميّة فليس الفعل بجهته العدميّة ممّا بين السماوات و الأرض حتّى تشمله الآية، و لا بجهته الوجوديّة من الباطل حتّى يكون خلقه خلقاً للباطل بالحقّ.

على أنّ الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أنّ قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقلّ دونه هو ملاك الاتّصاف فالمتّصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الّذي خلقه و يسّر له أن يفعل كذا و كذا كما أنّ المتّصف بالسواد و البياض الجسم الّذي يقوم به هذان اللونان دون الّذي أوجده.

و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) قال في المفردات: صفح الشي‏ء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى:( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ ) ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ) .

و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة الّتي أثبتّ فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفّحت

٢٠٠